الوصائل إلى الرسائل - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-00-7
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٣٧٢

١
٢

٣

٤

مقدمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسّلام على أشرف الانبياء والمرسلين وعلى آله المعصومين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين الى قيام يوم الدين.

وبعد :

فانّ الاصول هو جمع أصل ، وأصل الشيء في اللغة أساسه القائم عليه ، وهذا المعنى بالذات هو المراد بأصول الفقه ، لأن الفقه قائم عليه.

إذن : فلا نقل ولا مجاز في كلمة الاصول هنا.

وقالوا في تعريف علم الأصول : إنه علم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الاحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، فالأمر ـ مثلا ـ يدل على الوجوب هو : قاعدة أصولية ، فإذا تعلّق بالصلاة ـ مثلا ـ جعلنا الامر بالصلاة صغرى في الدليل ، والقاعدة الأصولية كبرى ، وقلنا : أقيموا الصلاة أمر بالصلاة ، وكل أمر يقتضي الوجوب ، ينتج أن الصلاة واجبة.

وبالتالي نستخلص من هذا التعريف ان كل مسألة لا تبني حكم شرعي فرعي مباشرة وبلا واسطة فهي دخيلة على علم الأصول ، وغريبة عنه.

٥

وقد وضح مما قدمناه أن الغاية من علم الأصول استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها ، والأحكام الشرعية على نوعين :

منها تكليفية ، وهي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة ، ومنها وضعية مثل الصحة والفساد.

وليس من شك أن من تمكن من علم الأصول وتضلّع فيه ، فهو كامل العدة والآلة لاستخراج الحكم الشرعي من دليله ، ويستطيع الدفاع عن رأيه بمنطق الدليل والبرهان ، وهذا هو عين الاجتهاد ، وبذلك تبيّن أنه لا مجتهد بلا علم بأصول الفقه ، ولا عالم بأصول الفقه بلا ملكة الاستنباط ، وأيضا تبيّن أن معرفة الفروع دون الأصول ليست من علم الفقه في شيء حيث اتفق العلماء على أنّ الفقه هو العلم بالاحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية ، ومعنى هذا أن كل فقيه مجتهد ، وكل مجتهد فقيه ولو بالملكة ، وان غير المجتهد ليس بفقيه (١).

والكتاب الذي بين يديك هو لواحد من أعلام الفقه والاصول وهو آية الله العظمى الشيخ مرتضى الانصارى قدس‌سره ، والذي ولد في مدينة دزفول الايرانية ، وهاجر الى العراق وهو في عمر العشرين عاما ، وكانت كربلاء المقدّسة أول محطة له ، حيث تلقى دروسه عند السيد محمد المجاهد ، وعند شريف العلماء ، وكان والده مردّدا بين العودة الى ايران والبقاء في العراق ، فتدخل السيد محمد المجاهد في اقناع أبيه على البقاء في كربلاء المقدّسة ، فبقى ملتزما درس السيد محمد المجاهد ، حتى وقعت حوادث سنة «١٢٤١ ه‍» في كربلاء المقدّسة ، حيث تم محاصرتها من قبل الوالي العثماني «داود باشا» فاضطرّ عدد كبير من طلبة العلوم الدينية ترك كربلاء الى الكاظمية والنّجف الشريفتين ، وكان الشيخ مرتضى ممن هاجر الى الكاظمية ثم عاد الى كربلاء بعد انتهاء الحصار ، فأخذ يحضر درس الشيخ شريف العلماء المازندراني ، ثم عاد الى ايران ومكث في نراق من قرى

__________________

(١) ـ علم اصول الفقه : ص ١١ ـ ١٥.

٦

كاشان ، وفي دزفول فترة من الزمن ، ثم عاد الى العراق سنة «١٢٤٩ ه‍» أيام رئاسة الشيخ علي كاشف الغطاء ، فحضر درسه في النجف الأشرف ، ثم درس عند صاحب الجواهر فترة من الزمن.

وامتاز الشيخ قدس‌سره بمكانة علمية رفيعة حيث يعتبر الواضع لعلم الاصول الحديث عند الشيعة (١) ، فقد أدخل نتائج أبحاث سبعة من الأعلام كالوحيد البهبهاني ، والسيد محمد المجاهد في لباس جديد ، إذ كان أغلب ما كتبه الوحيد في الأصول هو في معرض مناقشاته مع الاخباريين لاثبات صحة نظرية الاصوليين.

وهكذا وعلى يد الشيخ الانصاري بلغ علم الاصول مرحلة التكامل ، فأصبحت كتبه مادّة دراسية في علم الاصول.

يقول عنه السيد الأمين : وانتشر تلاميذه ، وذاعت آثاره في الآفاق وكان من الحفّاظ ، جمع بين قوة الذاكرة وقوة الفكر والذهن وجودة الرأي ، حاضر الجواب ، لا يعيبه حلّ مشكلة ولا جواب مسألة (٢).

ثم يقول أيضا : كتب في الاصول والفقه لا يسع الواقف عليها وعلى ما فيها من الدقائق العجيبة ، والتحقيقات الغريبة ، مع لزوم الجادّة المستقيمة ، والسليقة المعتدلة ، الّا الالتزام لما يرى بالموافقة ، والتسليم حتى يرى المجتهد الناظر في ذلك نفسه كالمقلد ، وذلك أقل شيء يقال في حقه ، فقد اشتهر أمره في الآفاق ، وذكره على المنابر ، على وضع لم يتفق قبله لغيره ، وكان مرجعا للشيعة قاطبة في دينهم ودنياهم (٣).

وقال عنه الشيخ عباس القمي قدس‌سره : خاتم الفقهاء والمجتهدين واكمل الربانيين من العلماء (٤).

__________________

(١) ـ انظر أعيان الشيعة : ج ١٠ ص ١١٨.

(٢) ـ أعيان الشيعة : ج ١٠ ص ١١٨.

(٣) ـ الفوائد الرضوية : ص ٦٦٤.

(٤) ـ أعيان الشيعة : ج ١٠ ص ١١٨.

٧

أمّا أخلاقه وزهده : فقد عرف الشيخ مرتضى الانصاري بكثرة الصلاة والصلات وحسن الأخلاق (١) ، وعرف بالزهد والتقوى أيضا ، فكانت تأتيه الاموال الكثيرة فيهرب منها.

أما الحقوق الشرعية التي كانت تصل اليه ، فكانت في حدود «٢٠٠ ألف تومان» كان الشيخ يأخذ منها بمقدار ما يأخذ طالب العلم العادي ، ثم يصرف بقية الأموال على طلبة الحوزة العلمية.

ويذكر أنّه اذا سافر للزيارة يعادله في المحمل خادم الشيخ «رحمة الله» وتحت كلّ منهما لحاف وبطانية من الكرباس الأخضر بلا ظهارة ، ومعهما قدر صغير موضوع في وسط المحمل لطبخ غذائهما (٢).

ويقول عنه التنكابني في قصص العلماء : كان في غاية الزهد والورع ، العابد الدقيق في العبادة ، وقد عاصرته وحضرت مجلسه ، كان ملتزما بالنوافل اليومية ، ومواظبا على زيارة عاشوراء ، وصلاة جعفر الطيار ، وصلت اليه الرئاسة الدينية بعد صاحب الجواهر لكنه لم يدن نفسه الى الى المخاصمات ولم يعط اجازة اجتهاد الى أحد (٣).

الشيخ الاعظم وعلم الاصول

لا شك أن المدرسة الأصولية في عهد الشيخ الانصاري بلغت ذروتها ، وفي زمانه تطورت الدراسات الأصولية حتى بلغت مرتبة عالية من البحث العلمي والاستدلال العميق ، لكن في عهده لم يكن للاخبارية وجود ظاهري ، فلم يكن في قبال الشيخ الانصاري أحد من الأخباريين ، لكنه عاصر هذا الصراع في عهوده الأخيرة واستفاد كثيرا من الحوارات والنقاشات التي كانت تجري بين الطرفين.

__________________

(١) ـ أعيان الشيعة : ج ١٠ ص ١١٨.

(٢) ـ أعيان الشيعة : ج ١٠ ص ١١٨.

(٣) ـ قصص العلماء : ص ١٠٦.

٨

ومن زاوية هادئة كان الشيخ الانصاري يرصد مؤاخذات كل طرف على الآخر ثم يتبحر في مناقشة أدلة كل طرف حتى توصل الى وضع الادلّة والأجوبة القانعة والردود المحكمة ، فاكتمل علم الأصول في رسائله التي كتبها : رسالة حجّية القطع والظن ، رسالة أصالة البراءة ، والاستصحاب ، والتعادل والتراجيح ، ورسالة الاجماع ، التي جمعت في مجموعة واحدة سميت بفرائد الأصول.

وكان الشيخ الانصاري يقول : لو كان الاسترابادي (١) حاضرا في زمانه لا تبع مدرسة الأصوليين.

روايته

يروي عن استاذه النراقي ، وأبيه ملّا مهدي ، عن الشيخ يوسف البحراني ، عن المولى محمد رفيع الجيلاني ، عن المجلسي ، عن مشايخه.

تلاميذه

كان يحضر درسه في الجامع الهندي زهاء أربعمائة من العلماء ، وقد تخرج على يده أكثر الفحول من بعده ، مثل الميرزا الشيرازي ، والميرزا حبيب الله الرشتي ، والسيد حسين الترك ، والشرابياني ، والمامقاني ، والميرزا ابو القاسم الكلانتري صاحب الهداية وغيرهم.

تصانيفه

كان لا يحب اخراج شيء من الكتب إلّا بعد التنقيح واعادة النظر مرارا ، هذا مضافا الى ضعف بصره مما جعل كثيرا من آثاره في الفقه غير مرتبة.

صنّف المكاسب ، وهو أحسن ما صنّف في هذا الباب.

__________________

(١) ـ والاسترابادي هو محمد امين واضع المدرسة الاخبارية ، ورفض الأخذ بآراء الأصوليين ، وكان يرى أن الكتب الأربعة قطعية الورود والدلالة وهي تكفي للفقهاء ، عارض الاجتهاد والمجتهدين وقال بعدم ضرورة الادلة العقلية في الفقه.

٩

وكتاب الطهارة ويعرف بطهارة الشيخ.

وكتاب الصوم والزكاة والخمس.

اضافة الى رسائله الخمسة التي ذكرناها آنفا فقد كتب : رسالة في الرضاع ، ورسالة في التقية ، ورسالة في العدالة ، ورسالة في القضاء عن الميت ، ورسالة في المواسعة والمضايقة ، ورسالة في قاعدة من ملك شيئا ملك الاقرار به ، ورسالة في نفي الضرر والضرار.

وانّ أكثر كتبه قد طبعت.

أما كتبه الخطية ، فكتابان : كتاب الغصب وكتاب في الرجال ، موجودان في مكتبة الآستانة في مشهد المقدسة.

هذا عن مؤلف المتن ، وأما عن مؤلف الشرع فهو آية الله العظمى الامام السيد محمد الشيرازي «دام ظله» والذي ولد سنة ١٣٤٧ ه‍ في النجف الأشرف بالعراق من أسرة عرفت على مدى عدة اجيال بالعلم والاجتهاد ، انجبت خيرة القادة والعلماء العظام من أمثال المجدد الشيرازي الذي أفتى بتحريم التنباك في عهد ناصر الدين شاه أحد ملوك القاجار ، والميرزا محمد تقي الشيرازي الذي أشعلت فتواه بتحريم التعامل مع الانجليز نار الثورة سنة ١٣٣٨ ه‍ ، تلك الفتوى التي اجبرت سلطات الاحتلال البريطاني الى الاستسلام لإرادة الشعب العراقي ومنحه الاستقلال السياسي.

فمن هذه الأسرة الطيبة ولد الامام الشيرازي وكان والده الميرزا مهدي الشيرازي آية في الأخلاق الحميدة وعنوان عريض للعلم والتقوى والزهد ، أصبح يضرب به المثل في تقواه وزهده.

هاجر الامام الشيرازي من النجف الأشرف بصحبة والده وهو في نعومة أظفاره حيث لم يبلغ من العمر إلّا تسع سنين ، ثم هاجر منها الى الكويت على أثر الضغوطات التي مارستها بحقه الحكومة البعثية في العراق ، ومكث قرابة عقد من الزمان في الكويت استطاع خلاله أن يوجد حوزة علمية وأن يحوّل النويات الاسلامية الى تيار إسلامي.

١٠

شيوخه وتلاميذه

درس الامام الشيرازي عند والده المعظم ، وكان يتلقى الدروس الفقهية والاصولية عند آية الله العظمى السيد هادي الميلاني أيضا.

ودرس الفلسفة الاسلامية عند الفيلسوف الاسلامي الشيخ محمد رضا الاصفهاني.

أما في علوم اللغة والنحو ، فقد تتلمذ على يد شيخ النحاة واستاذ العلماء الشيخ جعفر الرشتي.

هذا وقد تتلمذ على يده جمع من العلماء الأفاضل.

مكانته العلمية

برع الامام الشيرازي في تدريس الفقه والأصول ابتداء من كربلاء وحتى اقامته أخيرا في ايران ، ولم يكتف بالتدريس وحده ، فقد قام بتدوين أبواب الفقه بصورة شاملة وكاملة حتى أصبحت موسوعته الفقهية بمثابة مدونة فقهية قلّ نظيرها من حيث الوسعة والعمق وهي تحكي عن مكانته العلمية التي أخذت تظهر منذ أوائل حياته الاجتماعية ، فعند ما بلغ من العمر ثلاثة وثلاثين سنة أوكل اليه كبار المراجع في ذلك اليوم من أمثال الامام الحكيم وآية الله العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي وآية الله العظمى السيد احمد الخوانساري ، بادارة الحوزة العلمية في مدينة كربلاء المقدسة ، وقد أشار المحقق الكبير آغا بزرك الطهراني الى نبوغه العلمي بمناسبة ذكر التقاريض الواردة اليه وذلك في المجلد العاشر من كتاب الغدير.

مكانته الجهادية

خاض الإمام الشيرازي جهادا متواصلا في مدينة كربلاء المقدسة حيث كان الطغاة يحكمون تلك البلاد بالحديد والنار ، وقد مارسوا بحقه شتى وسائل الضغط والظلم والتعسّف ، وأصدروا عليه حكم الاعدام مما اضطر الى مغادرة العراق قاصدا الكويت.

١١

لقد آمن الامام الشيرازي بمبادئ الحرية والمسئولية الاجتماعية ودعى الى نبذ الاستعمار والى وحدة الكلمة والى إيجاد الأمة الواحدة عبر تحسين روابط الأخوة الصالحة.

وكان يرى في الصدع بهذه الافكار مسئولية دينية ، وتكليفا شرعيا ، لذا وجدنا الطغاة وأذناب الاستعمار وكل اللذين لا يريدون للأمة التقدم يصطدمون بالامام الشيرازي ويحاولون اخماد صوته ، لكنه واصل مسئوليته على رغم المصاعب والمتاعب حتى تمكن من أن يوجد تيارا سياسيا يدافع عن الاسلام والمسلمين في أرجاء العالم الاسلامي.

بين يدي الكتاب

يرى الإمام الشيرازي أن لعالم الدين مسئوليّة كبرى ، وأنّ من مسئولية الحوزات العلمية انجاب العلماء الواعين الخيّرين ، لذا صبّ اهتمامه في تطوير الحوزات العلمية التي أشرف على تأسيسها في كربلاء المقدّسة والكويت وقم المشرّفة.

وكان يرى ان التجديد والأصالة معا كفيلان بتطوير الحوزة العلمية ، فلا يجوز أن يأتي التجديد على حساب الاصالة أو العكس.

من هنا جاءت مساعي الامام الشيرازي بتطوير المناهج الدرسية في الحوزة العلمية لتأتي مناسبة ومنسجمة مع روح العصر ، فبعد شرحه للمكاسب للشيخ الانصاري قام بشرح كتاب الرسائل بصورة موسّعة ، فجاء شرحه في خمسة عشر جزءا ، وهو بهذا العمل أسدى خدمة كبيرة للحوزة العلمية.

عسى أن ينتفع المؤمنون من هذا الكتاب ويستفيدوا من العلوم التي اشتمل عليها أجزاءه الخمسة عشر.

والله من وراء القصد

مؤسسة الوعي الاسلامي بيروت ـ لبنان ص. ب : ٥٠٨٣ / ١٣

البريد الالكتروني : alwaie @shiacenter.com

١٢

مقدمة الشارح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلقه سيّدنا محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

لقد طالعت كثيرا من الكتب الحقوقية التي هي مبنى الحضارات المعاصرة وان كانت الحضارة المعاصرة كثيرا ما تنكّبت عن مبنى الحقوق الموضوعة ، مثلها مثل من يقرر الديمقراطية في برامج عمله ، ثم لا يعمل بها في حياته السلطوية ، فرأيت انها مبنيّة على الدّقة الشديدة في استخراج الحقوق وفهم العرف والعادة.

دقة من جهة اصل الفهم.

ودقة من جهة فهم المقدّم من المتعارضين.

ودقة من جهة علاج المجمل ، واستخراج المهمل من القواعد الاوليّة.

اذ الشيء على ثلاثة اقسام :

١ ـ مقنّن صريح.

١٣

٢ ـ مقنّن مجمل.

٣ ـ مهمل في اصل التقنين.

والاول : قد يكون بدون المعارض ، وقد يكون مع المعارض ، والذي مع المعارض يحتاج الى العلاج من الترجيح ، او الابطال ، او قاعدة العدل ، او التخيير.

اذ قد يلزم الترجيح في مثل ان الزوجة لأي واحد من المتنازعين ، وقد لا يصل القاضي الى احدهما مما يجبر بابطال نكاحهما ، او ما يشبه الابطال ، كجبرهما على الاطلاق ثم تزويجها لأحدهما ، او ما اشبه ذلك.

وقد يكون مال متنازع فيه ، فيعمل بقاعدة العدل.

وقد يكون تخيير في الامر ، كما اذا نذر ذبح شاة في النجف الاشرف او كربلاء المقدسة ، فيكون مخيرا.

وكل هذه الدّقة المحتاج اليها بناء الحكم ابتداء واستمرارا في كل الابعاد السياسية ، والاقتصادية ، والقضائية ، والاجتماعية ، والثقافية ، والعمرانية ، وغيرها بحاجة الى ارفع مستويات التدقيق والتحقيق.

والفرق بين التحقيق والتدقيق : ان الاول : كشف الحقّ ، بينما الثاني : الدّقة في الادلة.

فما هو الدليل : «الكبرى»؟ وما هو مصداق هذا الدليل : «الصغرى»؟.

ولا يخفى : ان التدقيق مقدمة التحقيق الذي هو كشف الحقّ ، والمراد بالحقّ :

أعم مما له مطابق في الخارج ماضيا او حالا او مستقبلا ، او ليس له مطابق وانما هو اعتبار بيد المعتبر بحيث يوجب درك المصلحة ودرء المفسدة.

وليس في كتبنا الفقهية والاصولية ما يفي بغرض الدّقة اللازمة في بناء الحكم

١٤

او استمراره ، بمثل المكاسب والرسائل للشيخ الاعظم قدس‌سره ، فهذان الكتابان هما الوحيدان اللذان سبقا جامعات العالم الحقوقية ، في بيان المنهج ، وكيفية الاستنباط لكل ابعاد الحياة.

ولهذا فانّا نحتاج الى فهم الكتابين لا في استنباط الاحكام الشرعية فحسب ، بل في التفوّق الحضاري على العالم ، حسب «الاسلام يعلو ولا يعلى عليه» (١) فان في فهمهما واستيعابهما كاملين ، الدليل الملموس لتفوق المسلمين على العالم في بناء الحضارة الحديثة.

ولو اتيح للمسلمين ترجمة هذين الكتابين باللغات الحيّة ، لاخذا مكانهما في ارقى مرحلة من المراحل الدراسية في الجامعات العالمية.

وبهذا تبيّن : ان احتمال الغنى عن بعض مباحث الكتابين كبحث الانسداد وبحث العدالة ، او ان الطالب لا وقت له لدراسة الكتابين ، ولكيلا يزاحم سائر مهامه التبليغيّة ، والاجتماعية ، وما اشبه ، فاللازم التبعيض فيهما ، او التلخيص لهما ، فانه غير وارد اطلاقا ، فان الانسداد يبقى منهاج الدقّة فيه ، وان لم يقل شخص بالانسداد.

هذا ، وليس الكلام : ان كل الطلاب يحتاجون اليهما حتى يستشكل بالمزاحمة ، وانما الكلام : فيمن يريد الوصول الى آخر تطورات الفكر البشري في التحقيق والتدقيق ، الذين هما مبنى الحضارة الحديثة بل كل الحضارات الراقية.

فهل يا ترى من الصحيح : الاشكال على من يطلب العلم عشرات السنين للاختصاص في أغوار النفس ، او خصوصيات الجسم ، او اجواء الفضاء ، للحصول

__________________

(١) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ٢٤٣ ح ٢ ، غوالي اللئالي : ج ١ ص ٢٢٦ ح ١١٨ ، نهج الحق : ص ٥١٥ الفصل الحادي عشر ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٣٧٦ ب ١ ح ١١.

١٥

على دقائق النفس ، او الجسد او الفلك : بان جملة من تدقيقاته وتحقيقاته لا اثر علمي لها ، أو ان الوقت لا يسمح للانسان بالجمع بين هكذا تحصيل ، وبين مهامه الاقتصادية والاجتماعية ونحوهما؟.

ومن الله سبحانه استمد العون ، وارجو منه الثواب ، واسأله ان ينفع بهذا الشرح كما نفع بشرح المكاسب ، وهو الموفق المستعان.

محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي

قم المقدسة

٢٥ / جمادى الثانية / ١٤٠٩ ه‍. ق

١٦

المدخل

بسم الله الرحمن الرحيم

فاعلم انّ المكلّف ، إذا التفت

______________________________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله على اعدائهم أجمعين.

وبعد .. فهذا شرح توضيحي على الرسائل لآية الله العظمى في العلم والفضيلة والزهد والاخلاق ، الشيخ مرتضى الانصاري قدس‌سره كتبته لتسهيل الامر على المبتدئين ، والله سبحانه أسأل التوفيق للاتمام ، والنفع به والثواب ، انه ولي ذلك ، وهو المستعان.

قال طيب الله تربته : (فاعلم) الفاء : لتوهم تقدير اما ، وهو نوع زينة في الكلام ، ولم يكن الامر بحاجة الى «اعلم» وانما ذكر مزيدا للتنبيه ، ويمكن ان يشبه بكلمة : «قل» في اوائل السور ، ونحوها ، فانه نوع تأكيد لكونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المخاطب ، وذلك مما يزيده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجلالا (انّ المكلّف) اما يراد به : المجتهد ، او الاعم ، حيث ان الاصول الاربعة أحيانا تكون تكليف المقلد ايضا.

وحيث كان المراد بالمكلّف : المكلّف شأنا قريبا لا شأنا بعيدا ، كالطفل ونحوه وهو البالغ العاقل القادر ، الذي لا محذور له في أداء التكليف ، اذا كان مقلدا ، او بيانه ، اذا كان مجتهدا ، قال رحمه‌الله تعالى : (اذا التفت) فلا يقال : ان القيد

١٧

إلى حكم شرعيّ ، فامّا أن يحصل له الشكّ فيه او القطع او الظنّ.

______________________________________________________

مستدرك ، لان غير الملتفت غير مكلّف ، والمراد به : الالتفات الاجمالي الى ان الشيء الفلاني له حكم في الجملة من الاحكام الخمسة ، فان الاباحة ايضا حكم ، حيث ان الاباحة الشرعية غير الاباحة العقلية ، واثر التشريع : الثواب على الاطاعة ، فاذا شرب الانسان الماء ، لان الله سبحانه أباحه ، اعطاه الله الثواب (الى حكم شرعي).

وكان ينبغي اضافة : أو الموضوع المستنبط ، أو الحكم الوضعي ، لان كل الثلاثة ، مورد للقطع والظن والشك ، اللهم ان يرجع الموضوع والوضع ، الى الحكم بتكلّف.

(فاما ان يحصل له الشك فيه) وهو : تساوي الطرفين دقيا (او القطع او الظن) وهو ما يرجح احدهما على الآخر ولو بواحد في المائة ، وفي قباله : الوهم وان كان واحدا في المائة ، وحيث انه كلما حصل الظن في طرف حصل الوهم في طرفه الآخر ، اكتفى بذكر الظن عن الآخر ، وانما ذكره دون الوهم ، وان كان لو ذكر الوهم ، كان كذلك متلازما ايضا ، لان الظن له حكم دون الوهم.

ولا يخفى ان كلا من الظن والوهم والشك ، يطلق على الآخر توسعا ؛ ولا يخفى اني لم اجد لفظ القطع مستعملا في آية او رواية ، وانما الوارد فيهما : «اليقين» لكن حيث اراد الفقهاء والاصوليون : المانع من النقيض طابق الواقع اولا ، ذكروه دون اليقين ، ولعل السر في ذكر المصنف قدس‌سره الشك اولا ، لانه لا شيء في جانبه ، وهو : الاصل.

ثم ذكر القطع ، لانه كل شيء في طرفي النقيض فيقابل الشك.

ثم ذكر الظن ، لانه ليس ذاك ولا هذا.

١٨

فان حصل له الشكّ فالمرجع فيه هي القواعد الشرعيّة الثابتة للشاكّ في مقام العمل ، وتسمّى بالاصول العمليّة.

وهي منحصرة في أربعة ،

______________________________________________________

وعلى اي حال : (فان حصل له) القطع ، كان هو المرجع ، وان حصل له الظن فان كان ظنا حجة ، كان مرجعا ايضا ، وان كان غير حجة ، كان المرجع فيه هو المرجع في الشك ، وان حصل له (الشك ، فالمرجع فيه هي القواعد الشرعية) ولذا فقد تكون تلك القواعد عقليّة أولا ، ثم شرعية ، وقد تكون شرعيّة محضة سمي الجميع بالشرعية ، وليس لنا قاعدة عقلية بحتة ، يعمل على طبقها.

ان قلت : فلما ذا ذكر الفقهاء العقل من جملة الادلة الاربعة؟.

قلت : من جهة ارادتهم بيان : إنّ الاحكام الشرعيّة عقليّة ايضا في جملة منها ، مقابل الاشاعرة والظاهرية والحشوية ، الذين عطّلوا دور العقل (الثابتة للشّاك في مقام العمل) والمراد بها : القواعد التي تأتي من اول الفقه الى آخره ، لا مثل قاعدة الفراغ والطهارة والحلية وما اشبه ، المختصة ببعض الابواب (وتسمّى) تلك القواعد (بالاصول العلميّة) «اصل» : لتفرع الفروع عليه كأصل الشجرة ، و «العلميّة» : لكونها في قبال الاصول العقائدية.

(وهي منحصرة في اربعة) : الاستصحاب والبراءة والتخيير والاحتياط ، اما سائر الاصول فهي اما راجعة الى احداها ، مثل : اصالة عدم الاكثر ، في الشك بين الاقل وبينه ، الراجعة الى البراءة ، واصالة العدم ، الراجعة الى الاستصحاب ، فانهما فردان من افراد الاصلين المذكورين واما هي مختصة ببعض مباحث الفقه كما تقدم ، من مثل : اصالتي الطهارة والحل ، واما اصول لفظية ، مثل : اصالة عدم التقييد ، واصالة عدم التخصيص ، وهي عبارة اخرى عن طريقة العقلاء

١٩

لأنّ الشكّ أمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة ام لا ، وعلى الثاني ، فامّا أن يمكن الاحتياط

______________________________________________________

في المحاورة ، الى غير ذلك.

ثم ان الحصر في الاربعة وان قيل انه عقلي ، لكنه الى الشرعي اقرب ، اذ أحد أركانه الشرع ، والنتيجة تابعة لاضعف المقدمتين ، فانه لو دلّ الشرع على اصل خامس ، لم يكن خلاف العقل ، وانما الامر العقلي هو : الدائر بين النفي والاثبات بدون امكان ان يكون هناك شيء خارج عن الحصر ، مثل العدد اما زوج أو فرد (لان الشكّ اما ان يلاحظ فيه الحالة السابقة ام لا).

والمراد : ان تكون هناك حالة سابقة وتكون ملحوظة شرعا ، اذ لو لم تكن الحالة السابقة ، كان من السالبة بانتفاء الموضوع ، او كانت ، لكن الشارع لم يلاحظها ، كان مجرى لاصل آخر ، لا الاستصحاب كما اختاره الشيخ قدس‌سره في الشك في المقتضي : بانه ليس مجرى للاستصحاب.

(وعلى الثاني) الذي لا يلاحظ فيه الحالة السابقة (فامّا ان يمكن الاحتياط) بأن يجمع المكلف بين الاطراف ، كأن يأتي بصلاتي الظهر والجمعة يوم الجمعة ، وكذلك يمكن ان يجتنب عن الدخان والترياق اذا نذر ترك احدهما ، ثم نسي ان نذره تعلق بايهما؟ حيث يلزم عليه فعلهما في الاول ، وتركهما في الثاني ، وكذلك يمكن ان يكون قد نذر إما صوم الخميس ، او ترك صوم يوم الجمعة ـ فيما كان لهما رجحان حتى يصلحا لتعلق النذر بهما ـ فانه يجمع بين فعل الاول وترك الثاني.

ولا يخفى انه لا ينحصر الاحتياط بين امرين ، بل يمكن ان يكون بين امور ، ثم ان الاحتياط قد لا يمكن ، وقد يخل بالنظام ويوجب الهرج والمرج ، وقد يعسر

٢٠