الوصائل إلى الرسائل - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-00-7
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٣٧٢

ولذا يحكم العقل بقبح الكذب وضرب اليتيم إذا انضمّ اليهما ما يصرفهما إلى المصلحة إذا جهل الفاعل بذلك.

ثم إنّه ذكر هذا القائل في بعض كلماته : «أنّ التجرّي

______________________________________________________

فنقول : ان «ترك قتل المؤمن» اذا لم يكن حسنا في نفسه ، فكيف يؤثّر في دفع قبح التجري؟.

علما بأن رفع القبح لا يكون إلّا بشيء حسن في ضمن ذلك القبيح ، والمفروض انه لا شيء حسن في ضمن هذا القبيح الذي هو التجري.

(ولذا) اي لأجل ان ما لا حسن له ، لا يرفع القبح (يحكم العقل بقبح الكذب و) قبح (ضرب اليتيم اذا انضم اليهما) اي الى الكذب والضرب (ما يصرفهما الى المصلحة اذا جهل الفاعل) للكذب والضرب (بذلك) الانضمام.

فاذا ضرب اليتيم ـ مثلا ـ تشفيا وصادف انه كان تأديبا ، او كذب تشهيا وصادف كونه اصلاحا لذات بين ، لم ترفع الضميمة قبحهما ، اذ الحسن يلاحظ اذا قصد الجهة المحسنة ، لا مطلقا ، فهو كما اذا كان زيد واجب القتل ، لانه سبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يعلم بذلك عمرو ، فقتله لانه عدوه ، فهل قتله للسابّ هذا يكون بلا إثم؟.

وهكذا حال ما اذا كان زيد قاتل ابي عمرو ، فقتله بكر ، فهل قتل بكر له ، يتركه بلا اثم ، والحال انه لم يكن له حق القتل ، اذ حق القتل لابن المقتول ، لا لأي انسان؟.

والحاصل : ان الجهة والفاعل وغيرهما مثل كيفية القتل ، لها مدخلية في الجواز والحرمة.

(ثم انه ذكر هذا القائل) وهو الفصول (في بعض كلماته : ان التجرّي

١٠١

اذا صادف المعصية الواقعية تداخل عقابهما».

ولم يعلم معنى محصّل لهذا الكلام ، إذ مع كون التجرّي عنوانا مستقلا في استحقاق العقاب لا وجه للتداخل ، إن اريد به وحدة العقاب ، فانّه ترجيح بلا مرجّح.

وسيجيء في الرواية أنّ على الراضي إثما وعلى الداخل إثمان ؛

______________________________________________________

اذا صادف المعصية الواقعية) بان تجرّى وشرب الخمر ، وكان في الواقع خمرا ، لا ماء (تداخل عقابهما) عقاب للتجري ، وعقاب لانه شرب الخمر ، (ولم يعلم معنى محصل لهذا الكلام) لان التجرّي اذا كان حراما كان عقابان مستقلان وان لم يكن حراما لم يكن الا عقاب واحد (اذ مع كون التجرّي عنوانا مستقلا) في الشريعة (في استحقاق العقاب) كما قاله الفصول القائل بحرمة التجرّي (لا وجه للتداخل ، ان اريد به وحدة العقاب) اي عقاب واحد لمعصيتين (فانه) اي التداخل (ترجيح بلا مرجح).

فهل يدخل عقاب التجرّي في عقاب المعصية ، او يدخل عقاب المعصية في عقاب التجرّي ، والمفروض انهما محرّمان ولكل محرّم عقاب؟.

(وسيجيء) ما يكون للأمرين عقابان ف (في الرواية : ان على الراضي) بعصيان الغير (اثما) واحدا لمكان الرضا (وعلى الداخل) كعاقر الناقة : (اثمان) : اثم الرضا ، وإثم العمل (١) ، فلم تذكر الرواية التداخل.

والحاصل : ان كلام الفصول مخالف للعقل ، بالترجيح بلا مرجح ، وللشرع ايضا.

__________________

(١) ـ انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٨ ص ٣٦٢ ب ١٤٨ (بالمعنى).

١٠٢

وإن اريد به عقاب زائد على عقاب محض التجرّي ، فهذا ليس تداخلا ، لان كل فعل اجتمع فيه عنوانان من القبح يزيد عقابه على ما كان فيه أحدهما.

والتحقيق : أنّه لا فرق في قبح التجرّي بين موارده وأنّ المتجرّي لا إشكال في استحقاقه الذمّ من جهة انكشاف خبث باطنه وسوء سريرته وجرأته.

______________________________________________________

(وان اريد به) اي بالتداخل (عقاب زائد على عقاب محض التجرّي) فلمن شرب الماء بزعم انه خمر ، قيراط خفيف من العقاب ، ولمن صادف شربه الخمر الواقعي ، قيراط شديد من العقاب (فهذا ليس تداخلا) بل هو اجتماع عقابين ، اذ الشديد ضعف الخفيف ، كشدّة النور التي هي ضعف النور الخفيف.

وانما كان عقابين (لأنّ كل فعل اجتمع فيه عنوانان من القبح) كالغصب النجس فيما اذا شرب النجس المغصوب ، حيث للنجاسة عقاب وللغصب عقاب ، فانه (يزيد عقابه) اي عقاب ذلك الفعل الجامع للعنوانين (على ما كان) الفعل (فيه احدهما) اي احد العنوانين بان كان مغصوبا طاهرا ، او غير مغصوب نجس.

(و) حيث ذكرنا قول المفصّل في حرمة التجرّي ، القائل تارة يحرّم ، وتارة لا يحرّم ، نقول : (التحقيق : انه لا فرق في قبح التجري بين موارده) صادف الوجوب ام لا (وان المتجري لا اشكال في استحقاقه الذم من جهة انكشاف خبث باطنه و) الذم في الحقيقة للباطن المتمرد ، ولا مدخلية للانكشاف بما هو انكشاف ، ولذا لا فرق عند العقلاء ، بين ان ينكشف باطن انسان بانه يريد السرقة ليلا او ينكشف بانه ذهب الى السرقة ، فلم يحصل على شيء حتى يسرقه ، فان (سوء سريرته وجرأته) على خلاف العقل أو الشرع موجب لذمه وتقبيح قصده.

١٠٣

وأمّا استحقاقه للذمّ من حيث الفعل المتجرّى في ضمنه ، ففيه أشكال ، كما اعترف به الشهيد قدس‌سره ، فيما يأتي من كلامه.

نعم ، لو كان التجرّي على المعصية بالقصد إلى المعصية ، فالمصرّح به في الأخبار الكثيرة العفو عنه ، وإن كان يظهر من أخبار أخر العقاب على القصد أيضا :

______________________________________________________

(واما استحقاقه للذم) والعقاب (من حيث الفعل المتجرّى) به ـ بصيغة اسم المفعول ـ (في ضمنه) اي في ضمن التجرّي ، كشرب الماء بزعم انه خمر (ففيه اشكال) بل قد تقدّم المنع عنه (كما اعترف به) اي بالاشكال : (الشهيد) الاول (قدس‌سره فيما يأتي من كلامه).

نعم ، لا ينبغي الاشكال ايضا في حصول الكسر والانكسار في مصادفة التجرّي لواجب او مستحب او مكروه او مباح.

وحيث انتهى المصنّف قدس‌سره من هذا البحث شرع في بحث آخر ، وهو : ان ما ذكرناه من اطلاق قولنا : «فيه اشكال» انما هو فيما اذا تعدّى التجرّي القصد ووصل الى العمل ، والّا اذا كان التجرّي بالقصد فقط ، ففيه طائفتان من الاخبار ، ولذا قال : (نعم ، لو كان التجري على المعصية ، بالقصد) فقط (الى المعصية) ، كما اذا قصد شرب الخمر ولم يشرب ، او الزنا ولم يزن ، او ما اشبه ذلك (فالمصرح به في الاخبار الكثيرة : العفو عنه) فانه وان كان مستحقا للعقاب ، لكن الله بكرمه يعفو عنه (وان كان يظهر من اخبار أخر العقاب على القصد) المجرد (أيضا).

وربما يستشكل على قول المصنّف «نعم» : بانه ليس هذا استثناء عن عدم حرمة التجرّي ، اذ لو كان القصد معاقبا عليه ، كان مع الفعل اولى بالعقاب ، وانما

١٠٤

مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نيّة الكافر شرّ من عمله» ، وقوله : «إنّما يحشر النّاس على نيّاتهم».

______________________________________________________

يصح كونه استثناء عند من يرى حرمة التجرّي ، فيقول : التجرّي حرام اذا كان مقترنا مع المظهر ، اما بدونه ، ففيه طائفتان.

اما انتم القائلون بعدم حرمة التجرّي ، فلا معنى لاستثنائكم هذا ، لانه يكون بمنزلة ان تقولوا : التجرّي مع الفعل ليس بحرام ؛ نعم ، في القصد المجرد طائفتان ، وانما لا يصح الاستثناء ، لانه اذا كان القصد غير المقترن بالفعل محرما ، فالقصد مع الفعل اولى بالتحريم.

اما الاخبار فهي (مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نيّة الكافر شرّ من عمله) (١) بناء على ان ظاهره : أفعل التفضيل ، اي ان نيّته اكثر شرّا من عمله ، فاذا قام بالسرقة عوقب بسوط مثلا ، واذا نوى السرقة عوقب بسوطين.

ولكن ربما يقال : ان هذا المعنى خلاف الضرورة ، فللحديث معنى آخر ، فانه ربما فسر الحديث : بان «من» للتبعيض ، فالمعنى : ان نية الكافر تعدّ بعض اعماله الشرّيرة وجزء منها ، فالنية : عمل القلب ، والفعل : عمل الجوارح ، فالحديث من قبيل اخذت من الدراهم ، الى غير ذلك من المعاني المتعددة المذكورة لهذا الحديث.

وكذا تأتي كل تلك المحتملات في الفقرة الثانية من الرواية وهي : قوله عليه‌السلام : «نيّة المؤمن خير من عمله».

(وقوله : إنّما يحشر الناس على نيّاتهم) (٢) فالنيات توجب الثواب كما توجب العقاب.

__________________

(١) ـ المحاسن : ص ٢٦٠ ح ٣١٥ (وفيه الفاجر) ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٥٠ ب ٦ ح ٩٥.

(٢) ـ المحاسن : ص ٢٦٢ ح ٣٢٥ (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٤٨ ب ٥ ح ٨٧.

١٠٥

وما ورد من تعليل خلود أهل النار في النار وخلود أهل الجنّة في الجنّة بعزم كلّ من الطائفتين على الثّبات على ما كان عليه من المعصية والطاعة لو خلّدوا في الدنيا.

______________________________________________________

لكن ربما يقال : ان المراد بالحديث : انه يظهر بواطنهم لا انهم يعاقبون على نية السوء ، كما قال سبحانه : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ)(١).

(وما ورد من تعليل خلود اهل النار في النّار وخلود اهل الجنّة في الجنّة) مع انهم لم يعصوا ولم يطيعوا إلّا سنين معدودة فقط ، فاللازم ان يكون العقاب والثواب بقدر تلك السنين لا ازيد ، وانما الزائد (ب) سبب (عزم كل من الطائفتين على الثبات على ما كان عليه من المعصية والطاعة ، لو خلدوا في الدنيا) (٢) فالخلود في الآخرة للنية لا للعمل.

لكن ربما يقال : ان خلود اهل الجنّة فضل ، ولا اشكال عقلا في اعطاء الفضل بسبب النيّة ، اما النار فهي بمقتضى العدل والعدل لا يكون اكثر من استحقاق الذنب.

وعليه : فاللازم عند العقلاء ان يكون العقاب بقدر المعصية.

وقد ايّده الشرع بقوله سبحانه : (جَزاءً وِفاقاً)(٣) الى غيرها من الآيات والروايات ، فالخلود انما يكون مع العناد حتى في النار ، كما في دعاء الكميل «وأن تخلّد فيها المعاندين» (٤) فاذا رفع المعاند يده عن عناده ، اخرج من النار.

لكن الذي يمكن ان يقال : هو انه لا اشكال في الخلود ، بل ادعى

__________________

(١) ـ سورة الطارق : الآية ٩.

(٢) ـ المحاسن : ص ٣٣١ ح ٩٤.

(٣) ـ سورة النبأ : الآية ٢٦.

(٤) ـ مفاتيح الجنان : ص ٨٨.

١٠٦

وما ورد من : «أنّه إذا التقى المسلمان بسيفهما ، فالقاتل والمقتول في النّار.

قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل ، فما بال المقتول ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأنّه أراد قتل صاحبه».

______________________________________________________

المجلسي قدس‌سره الضرورة عليه ، كما لا اشكال في انه موافق للعدل ايضا ، بل هو من الضروريات.

اما كيف يكون الخلود بما لا ينافي العدل؟ فانه من احوال الآخرة ، التي لا نفهم منها الا بقدر مداركنا القاصرة ، كما لا يفهم الجنين من الدنيا ـ لو فرض فهمه شيئا منها ـ الا بقدر مداركه القاصرة ، بل نرى ان الطفل لا يدرك من لذة الكبار للعلم وللزواج الا بقدر دركه القاصر ، فيقال له ـ مثلا ـ : لذة الجنس أو العلم كلذة الحلاوة والعسل.

واما قول بعض الحكماء بانتهاء العقاب ، فهو خلاف النص والاجماع ، بل خلاف الضرورة ، على ما عرفت.

(وما ورد من انه اذا التقى المسلمان) لاجل قتل كل منها الآخر (بسيفهما ، فالقاتل والمقتول) كلاهما (في النّار) اي ان مصيرهما الى النّار ، مثل قوله سبحانه : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً)(١) (قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل) يستحق النار لانه قتل المسلم (فما بال المقتول) يذهب الى النّار؟ (قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأنّه أراد قتل صاحبه) (٢) فقد ثبت بهذا الحديث : ان القصد يوجب النّار.

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ١٠.

(٢) ـ تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ١٧٤ ب ٢٢ ح ٢٥ ، وسائل الشيعة : ج ١٥ ص ١٤٨ ب ٦٧ ح ٢٠١٨٤ (بالمعنى).

١٠٧

وما ورد في العقاب على فعل بعض المقدمات بقصد ترتّب الحرام ، كغارس الخمر والماشي لسعاية المؤمن.

وفحوى ما دلّ على أنّ الرضا بفعل كفعله ،

______________________________________________________

لكن لا يخفى : ان هذا الحديث ليس من احاديث الباب ، لان الكلام في القصد المجرد ، لا القصد مع المظهر ، والالتقاء بالسيف : قصد مع المظهر.

وكيف كان : يمكن ان يكون الوجه في ذلك : ان القتل لعظمه عند الله سبحانه : يجازي عليه بالنار حتى لمن نواه اذا كان له مظهر ، فلا يدل على حرمة التجرّي مطلقا.

وعلى أيّ حال : فذلك العقاب فيما اذا لم يرد المقتول الدفاع عن نفسه ـ بل قصد القتل ـ وإلّا فالدفاع عن النفس واجب كما دل على ذلك النص والاجماع.

(وما ورد في العقاب على فعل بعض المقدمات بقصد ترتّب الحرام) فان ذلك فيما اذا ترتب عليه الحرام كما يظهر من النص ، فلا يمكن سحبه الى ما لم يترتب عليه ، فهذا الحديث دليل على حرمة مقدمة الحرام مطلقا ، او في هذا المورد الخاص ، ولا يكون دليلا على حرمة القصد المجرد ـ كما هو عنوان كلام المصنّف قدس‌سره.

(كغارس) العنب بقصد عمل (الخمر (١) ، والماشي لسعاية المؤمن) (٢) عند الظالم ليأخذه فيؤذيه.

(وفحوى) اي الملاك الاولوي (ما دل على ان الرضا بفعل ، كفعله) فان الرضا بصدور المعصية عن شخص ، اذا كان يعدّ معصية مع ان الراضي لم يفعل

__________________

(١) ـ انظر وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٢٢٤ ب ٥٦ ح ٢٢٣٨٦.

(٢) ـ انظر وسائل الشيعة : ج ١٦ ص ١٤٠ ب ٥ ح ٢١١٨٣.

١٠٨

مثل ما عن امير المؤمنين عليه‌السلام : «ان الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، وعلى الدّاخل إثمان إثم الرضا وإثم الدخول» ، ويؤيّده قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ،

______________________________________________________

ولم يقصد العصيان ، كان قصد المعصية اولى بأن يكون معصية.

(مثل ما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ الراضي بفعل قوم كالداخل فيه) اي في ذلك الفعل (معهم) اي مع القوم (وعلى الداخل إثمان : إثم الرّضا ، وإثم الدخول) (١) لكن لعل ذلك من باب التعاون ، وإلّا فالمعصية الواحدة لها عقوبة واحدة.

(و) كيف كان : ف (يؤيده) اي العقاب بالقصد المجرد الى المعصية (قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) بأن يظهر العيب ويفشوه ، والمراد بالفاحشة : المعصية المتجاوزة عن الحدّ ، فان منها ما لا تسمى بذلك ، كاغتياب انسان ـ مثلا ـ فانه لا يسمى فاحشة ، بينما الزنا يسمى فاحشة.

قال علي عليه‌السلام : «وفحش تقلّب الدّهر» (٢) اي ان تقلّب الدهر فاحش وكبير ، وهو غير السّب وغير اللّعن وغير القذف ، الى غير ذلك ، كما يظهر الفرق بينهما من كتب فروق اللغات.

(فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٣) يؤلمهم ، ووجه التأييد : ان العذاب على حب الشيء يدل ولو بالملاك على العذاب على قصده.

وهذا وان لم يكن دليلا ، لان الملاك ضعيف ، فان الحب فوق القصد ،

__________________

(١) ـ نهج البلاغة : قصار الحكم ص ١٥٤ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٨ ص ٣٦٢ ب ١٤٨ (بالمعنى).

(٢) ـ بحار الانوار : ج ٧٧ ص ٢٠٢ ب ٨ ح ١ وفيه (تقلّب الليالي والأيام) ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٦ ص ٦٢ ب ٣١.

(٣) ـ سورة النور : الآية ١٩.

١٠٩

وقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ).

وما ورد من أنّ : «من رضي بفعل فقد لزمه

______________________________________________________

ولذا يقال : اقصد لقاء فلان ولكن لا احب لقائه الّا انه ربما يقال في ردّ هذا التأييد : ان المراد بالحب نفس الاشاعة ، فهو مثل قوله سبحانه : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ)(١)(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى)(٢) وما اشبه ، فهو من باب المبالغة في التحذّر عن الاشاعة ، كالتحذّر عن مال اليتيم والزنا.

(و) يؤيده أيضا (قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ)) أي تظهروه بان تعملوا به ((أَوْ تُخْفُوهُ)) بان لم تعملوا به ، سواء في الخير او الشر ، مثل قصد بناء المسجد او المخمر ، بدون اخراجهما الى عالم الوجود او مع اخراجهما الى عالم الوجود (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(٣) اي بكل من الابداء والاخفاء ، ورجوع الضمير «به» باعتبار كل واحد منهما مثل : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ)(٤) أي كل واحد منها ، والّا لزم القول : «لم يتسنّهما».

وعلى ايّ حال : فالآية تدل على ان القصد بدون المظهر يوجب الحساب ، وهو من مسألة التجرّي وكان هذا مؤيّدا لا دليلا ، لانه لم يقل : انه حرام او فيه عقاب ، فهو من قبيل : «في حلالها حساب» (٥) ولكن لما كان نفس الحساب صعبا كان من المؤيدات.

(و) يؤيده ايضا (ما ورد : من إنّ من رضي بفعل) خيرا او شرا (فقد لزمه)

__________________

(١) ـ سورة الأنعام : الآية ١٥٢.

(٢) ـ سورة الاسراء : الآية ٣٢.

(٣) ـ سورة البقرة : الآية ٢٨٤.

(٤) ـ سورة البقرة : الآية ٢٥٩.

(٥) ـ الكافي (أصول) : ج ٢ ص ٤٥٩ ح ٢٣ ، كفاية الأثر : ص ٢٢٧ ، بحار الانوار : ج ٤٤ ص ١٣٩ ب ٢٢ ح ٦.

١١٠

وإن لم يفعل».

وما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) من أنّ نسبة القتل الى المخاطبين مع تأخّرهم عن القاتلين بكثير ، رضاهم بقتلهم.

ويؤيّده قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ)

______________________________________________________

ذلك الفعل (وإن لم يفعل) (١) ومعنى لزمه ، اي كأنه عمله ، وقد عرفت وجه التأييد.

(و) يؤيده ايضا (ما ورد في تفسير قوله تعالى) في سورة آل عمران بأن يا رسول الله ، قل لهولاء اليهود المدّعين للايمان : (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) وطلبتم منهم ، لكنكم بقيتم على عنادكم ولم تؤمنوا بهم (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) اي قتلتم اولئك الانبياء (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)) (٢) في ادعائكم بأنكم اذا علمتم نبوّتي تؤمنون بي؟.

وجه التأييد : (من) جهة (أن) توجيه (نسبة القتل الى المخاطبين) في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مع تأخرهم عن القاتلين ب) زمان (كثير ، رضاهم) اي رضا هؤلاء (بقتلهم) اليهود اي مقتل آبائهم لاولئك الانبياء مما ينتج : ان الرضا من هؤلاء الاحفاد بفعل اجدادهم اشركهم في نسبة القتل اليهم ، لكن قد عرفت : ان هذا ليس بدليل ، لأنّ الرضا شيء ، والقصد شيء آخر ، فأحدهما لا يكون دليلا على الآخر بعدم الملازمة.

(ويؤيده) ايضا (قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ)

__________________

(١) ـ تفسير القمي : ج ١ ص ١٥٧ في تفسير سورة النساء.

(٢) ـ سورة آل عمران : الآية ١٨٣.

١١١

(عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً.)

ويمكن حمل الأخبار الأول

______________________________________________________

(عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً)(١)) حيث جعلت الآية ارادة العلو بالباطل والفساد سببا للحرمان من الدار الآخرة ، لكن لا تكون هذه الآية دليلا أيضا لاحتمال ارادة : «نفس العلو والفساد» لا مجرد الارادة ، مثل قوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٢).

حيث المراد بالارادة : نفس الاذهاب ، والمراد بالاذهاب : «عدم جعل الرّجس فيهم» لا انه كان فاذهبه الله ، فهو من باب الدفع لا الرفع.

قال الادباء : قد تكون الارادة بمعنى : «الفعل» ـ كما في الآيتين ـ وقد يكون «الفعل» بمعنى الارادة ، كما في قوله تعالى : و (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ...)(٣) اي اردتم القيام ، وفي آية التطهير وآية القيام بحث طويل لا يليق بالشرح.

(ويمكن حمل الاخبار الأول) الدالة على العفو مثل : ما رواه جميل بن دراج عن الصادق عليه‌السلام انه قال : «إذا همّ العبد بالسيئة ، لم تكتب عليه» (٤).

وما رواه زرارة عن احدهما عليهم‌السلام قال : «ان الله تعالى جعل لآدم في ذريّته : إنّ من همّ بحسنة ولم يعملها كتب له مثلها ، ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له بها عشرة ، ومن همّ بسيّئة ولم يعملها لم تكتب عليه ، ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيّئة» (٥).

وروي عن الباقر عليه‌السلام انه قال : «لو كانت النيات من أهل الفسق يؤخذ بها

__________________

(١) ـ سورة القصص : الآية ٨٣.

(٢) ـ سورة الاحزاب : الآية ٣٣.

(٣) ـ سورة المائدة : الآية ٦.

(٤) ـ وسائل الشيعة : ج ١ ص ٥٢ ب ٦ ح ١٠٢ ، الزهد : ص ٢٧ باب التوبة والاستغفار.

(٥) ـ الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٤٢٨ ح ١.

١١٢

على من ارتدع عن قصده بنفسه ، وحمل الأخبار الأخيرة على من بقي على قصده حتّى عجز عن الفعل لا باختياره.

او يحمل الأول على من اكتفى بمجرّد القصد ، والثانية على من اشتغل بعد القصد ببعض المقدّمات ، كما يشهد له حرمة الاعانة على المحرّم ، حيث عمّمه

______________________________________________________

أهلها ، إذن لاخذ كلّ من نوى الزّنا بالزّنا ، وكل من نوى السرقة بالسرقة ، وكلّ من نوى القتل بالقتل ، ولكنّ الله عدل كريم ليس الجور من شأنه ، ولكنّه يثيب على نيّات الخير أهلها واضمارهم عليها ولا يؤاخذ أهل الفسق حتّى يفعلوا» (١) وغيرها ، حملها (على من ارتدع عن قصده بنفسه ، وحمل الاخبار الاخيرة) الدالة على حصول المعصية بقصد المعصية (على من بقي على قصده) بالعصيان (حتى عجز عن الفعل لا باختياره).

لكن لا يخفى : ان هذا الجمع تبرعي ، لانه لا شاهد في آية من الطائفتين عليه.

نعم ، هو اولى من التضارب بين الطائفتين (أو) يجمع بين الطائفتين ، بوجه ثان وهو : ان (يحمل الاول) الدال على العفو ، (على من اكتفى بمجرد القصد) دون ان يأتي بشيء آخر (والثانية) الدالّة على العقاب ، (على من اشتغل بعد القصد ببعض المقدمات) فاذا أحدّ القاصد سيفه للقتل كان معاقبا وان لم يقتل ، اما اذا قصد القتل فقط ، ولم يفعل شيئا لم يعاقب عليه.

(كما يشهد له) اي لهذا الجمع (حرمة الاعانة على المحرم) مع ان المعين غالبا لا يفعل محرم ، كما لو علّق السوط بين يدي الجائر ، او أتى باحجار المخمر ليبني مخمرا ، او ما اشبه ذلك (حيث عممه) أي عمم معنى الاعانة على الاثم

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ج ١ ص ٥٥ ب ٦ ح ١١٣.

١١٣

بعض الأساطين لاعانة نفسه على الحرام ، ولعلّه لتنقيح المناط ، لا للدلالة اللفظيّة.

______________________________________________________

(بعض الاساطين) وهو الشيخ جعفر كاشف الغطاء قدس‌سره (لاعانة نفسه على الحرام) فالمحرم : اعانة الغير وكذا اعانة النفس على المقدمات ، لان الادلة عامة والملاك واحد ، فاذا عصر الخمر ليشربها بنفسه ، كان العصر من الاعانة على الاثم ، وهكذا اذا أكل ما يتقوّى به على الزنا الى غير ذلك.

(ولعله) اي وجه تعميمه (لتنقيح المناط) حيث الاعانة ، اعانة سواء للنفس او للغير (لا للدلالة اللفظية) في آية او رواية ، وذلك لان المتبادر من الاعانة : اعانة الغير كما في الآية الكريمة : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)(١) بباب التفاعل الدالّ على وجود الاثنين او اكثر.

والبرّ : عمل الانسان المتعدي كبناء المسجد.

والتقوى : عمله غير المتعدي كصلاته وصومه.

والاثم : غير المتعدي كشربه الخمر.

والعدوان : ما يتعدّى الى الغير كقتله الناس.

لكن لا يخفى : ان هذا الجمع ايضا اقرب الى التبرع.

وربما كان هناك جمع ثالث وهو : ان ما كان من شأن القلب يكون معاقبا به ومثابا عليه اذا كان من الدّين ، ولذا ورد : ان الرضا بعقر ناقة صالح سبب هلاك الراضين به ، وجاء في زيارة الامام الحسين عليه‌السلام : «ولعن الله أمّة سمعت بذلك فرضيت به» (٢) وهكذا امثال ذلك.

اما اذا لم يكن من اصول الدّين ، لم يكن معاقبا الا على عمل المعصية ، وهذا

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٢.

(٢) ـ مفاتيح الجنان : ص ٥٦٦.

١١٤

ثم انّ التجرّي على أقسام يجمعها عدم المبالاة بالمعصية أو قلّتها.

أحدها مجرّد القصد إلى المعصية ، والثاني القصد مع الاشتغال بمقدّماته ،

______________________________________________________

وان كان بحاجة الى توجيه لكن لعله أوفق بروايات نفي الاثم ، بل لعله هو المركوز في اذهان المتشرعة.

(ثم ان التجري على) ستة (اقسام : يجمعها عدم المبالاة بالمعصية) فعلا : كعدم المبالاة بشرب الخمر. او تركا : كعدم المبالاة بترك الصلاة.

(او قلتها) اي قلّة المبالاة بالمعصية.

والاقسام خمسة ، الاول : من عدم المبالاة ، والقسم السادس : من قلّة المبالاة. ثم ان القلّة قد تكون من حيث الكم ، وقد تكون من حيث الكيف ، وعلى اي حال : فهي قلة.

(احدها : مجرد القصد الى المعصية) قصدا جادّا لا الخلجان في الذهن بانه هل يعصي اولا؟ وهذا تجرّ قلبي ، لان التجري يطلق على القلب وعلى الجوارح ، اذا اقترن العمل الجوارحي بقصد العصيان ونيته.

(والثاني : القصد مع الاشتغال بمقدماته) من غير فرق بين المقدمات القريبة او البعيدة ، كمن يقصد قتل مؤمن مثلا ، فيبدأ في الصداقة معه ، حتى اذا وجد فرصة مناسبة قتله ، فان الصداقة من المقدمات البعيدة ، اما مثل حمل السلاح والذهاب الى داره لقتله ، فهي من المقدمات القريبة.

كما انه لا فرق في ان ما نواه كان معصية واقعا ، كما اذا اراد قتل مؤمن ، او معصية وهمية كما اذا اراد قتل زيد زاعما انه مؤمن وهو ليس بمؤمن واقعا ، بل كافر محارب.

١١٥

والثالث القصد مع التلبّس بما يعتقد كونه معصية ، والرابع التّلبّس بما يحتمل كونه معصية رجاء لتحقق المعصية ، والخامس التّلبّس به لعدم المبالاة بمصادفة الحرام ، والسادس التلبّس برجاء أن لا يكون معصية وخوف كونها معصية.

______________________________________________________

(والثالث : القصد مع التلبس بما يعتقد كونه معصية) من غير فرق بين كون اعتقاده عن علم ، او عن ظن معتبر ، كشهادة البيّنة ، وذلك كشرب ما يعتقد انه خمر مع انه ليس بخمر في الواقع.

(والرابع : التلبس بما يحتمل كونه معصية) احتمالا مظنونا أو مشكوكا أو موهوما (رجاء لتحقق المعصية) لكن ذلك فيما اذا كان اللازم عليه عقلا او شرعا الاجتناب عنه كما اذا كان هناك اناءان ، يتردد الخمرية بين احدهما : الاناء الابيض مظنون الخمرية والاحمر موهومه ، وكلاهما متساويان في الاحتمال فيشرب أحدهما فقط ، فانه أن شرب الاحمر كان موهوم الخمرية ، وأن شرب الابيض كان مظنون الخمرية.

هذا فيما اذا كان هناك ظن ووهم ، واما اذا كان شك فيكون شرب اي منهما مشكوكا ، والعلم الاجمالي منجّز ، من غير فرق بين ان يكون علما او ما يقوم مقامه ، كما اذا قامت البيّنة على أنّ احدهما خمر.

(والخامس : التلبس به) اي بما ذكر في الرابع (لعدم المبالاة بمصادفة الحرام) وهذا أخف من الرابع ، كمن شرب احد الإناءين من دون رجاء او خوف.

(والسادس : التلبس) به اي بما ذكر في الرابع (برجاء ان لا يكون معصية ، وخوف كونها معصية) كشرب أحد الإناءين برجاء ان يكون ماء ، وكوطي احد المرأتين برجاء كونها زوجته فيما اذا اشتبه هل هند زوجته او دعد؟.

١١٦

ويشترط في صدق التجرّي في الثلاثة الأخيرة عدم كون الجهل عذرا عقليّا او شرعيّا ، كما في الشبهة المحصورة الوجوبيّة

______________________________________________________

هذا ، ويمكن ان يعدّ من التجرّي سابع : وهو إراءة مقدمات المعصية بدون قصدها ، كمن يذهب وراء غلام موهما له انه يريد الفاحشة ، ولكن لا يقصد ذلك ، انما قصده في نفسه مجرد الإراءة.

وثامن : إراءة مستتبعات المعصية من دون ان يكون قد ارتكبها ، كمن يتصرّف كما يتصرّف الخمارون ، يريد إراءة انه شرب الخمر من دون ان يكون قد شربها.

وتاسع : ان يتظاهر بما يزعم الناس انه عصيان ، وهو يعلم انه ليس بعصيان كمن يملأ قنينة الخمر ماء ثم يشربها ، مما يتوهم للناس انه خمر وليس خمر.

وعاشر : ترك ما يزعم الناس انه ترك واجب ، كمن يزعمه الناس انه مستطيع ، لكنه لا يحج لعدم كونه مستطيعا واقعا وان كان يريهم نفسه انه غير مبال للحج ، او تترك المرأة الحائض الصوم حيث يزعم الناس انها طاهرة ، تريهم بالترك انها غير مبالية بالصوم ، الى غير ذلك من الأمثلة.

ومما تقدّم يعلم : انه من التجري فعل المقدمات بدون القصد وهو يوهم للناس انه قاصد ، كمن يجعل أمامه إناء خمر بحيث يزعم الناس انه يريد شربها ، او ترك أمامه ولده الجميل حيث لا يعلم الناس انه ولده ، فيزعمون انه يريد به الفاحشة.

(و) كيف كان : ف (يشترط في صدق التجرّي في الثلاثة الاخيرة) من الستة التي ذكرها المصنّف قدس‌سره (عدم كون الجهل عذرا عقليا او شرعيا) بحيث يباح له الفعل فانه اذا كان جهله عذرا ، لم يكن من التجرّي (كما في الشبهة المحصورة الوجوبية) بأن يشك في ان أيّ ثوبيه نجس ، فان الواجب عليه : ان يصلي صلاتين

١١٧

او التحريميّة ،

______________________________________________________

في هذا وفي ذاك ، فاذا ترك احدهما كان من التجرّي في الشبهة الوجوبية.

(او التحريمية) كأن يشك في ان هذا الاناء خمر أو ذاك الاناء؟ فيشرب احدهما فانه يتحقق بذلك التجرّي.

وهناك قسم ثالث ، وهو الشك بين الوجوب في هذا والتحريم في ذلك فيترك الاول او يأتي بالثاني ، كما اذا شك في انه هل نذر ان يشرب الشاي ، او نذر ان يترك الدخان في يوم الجمعة؟ فانّ الواجب عليه ان يشرب الشاي ويترك الدخان ، فاذا لم يشرب الشاي او دخن فانه من التجرّي.

ثم لا يخفى : ان العذر كلّما كان عقليا كان شرعيا ايضا ، لوضوح ان الشارع لا يحكم بخلاف العقل ، لكن ليس كلّما يكون شرعيا يكون عقليا.

فالعذر العقلي يكون شرعيا ايضا كما اذا اضطر الى شرب احد الإناءين بعد العلم الاجمالي بان احدهما خمر ، فانه معذور عقلا في شرب احدهما والشارع ايضا يعذره ، قال سبحانه : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)(١) وقال عليه‌السلام : «ليس شيء ممّا حرّم الله ، إلّا وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه» (٢).

والعذر الشرعي بدون ان يكون عذرا عقليا : كما اذا اضطر الى احد الإناءين قبل العلم الاجمالي بكون احدهما خمرا ، فجمع من الاصوليّين ذهبوا الى جواز ارتكاب غير المضطر اليه ايضا لعدم تنجز العلم الاجمالي ، كما اذا كان احد الإناءين احمر والآخر ابيض ، واضطر الى الابيض ثم علم بان احدهما خمر ، فان العذر العقلي في شرب الابيض للاضطرار ، اما شرب الاحمر فلا اضطرار ، لكنهم

__________________

(١) ـ سورة الانعام : الآية ١١٩.

(٢) ـ وسائل الشيعة : ج ٤ ص ٣٧٣ ب ١٢ ح ٥٤٢٨ ، نوادر القمي : ص ٧٥ باب كفارة على المحرم.

١١٨

والّا لم يتحقق احتمال المعصية وان تحقق احتمال المخالفة للحكم الواقعيّ ، كما في موارد أصالة البراءة واستصحابها.

ثم إنّ الأقسام الستّة كلّها مشتركة في استحقاق الفاعل للمذمة

______________________________________________________

اجازوا شربه ايضا ، لانه لم ينجز العمل في حقه.

(والّا) بان كان الجهل عذرا (لم يتحقق) التجري اصلا لعدم (احتمال المعصية) في الارتكاب (وان تحقق احتمال المخالفة للحكم الواقعي) فان الانسان مكلف بما امره الشارع ، لا بأن لا يخالف الواقع.

(كما في) الموارد التي لا علم اجمالي منجز له ، ولا استصحاب للتكليف ، ولا يكون من موارد وجوب الفحص ، مثل : (موارد اصالة البراءة) : كالشك في حرمة التتن ، حيث تجري اصالة البراءة عن الحرمة ، او الشك في وجوب الجمعة في عصر الغيبة ، حيث تجري أصالة البراءة عن الوجوب شرعا وعقلا ـ كما يأتي في بحث البراءة إن شاء الله تعالى.

(واستصحابها) أي استصحاب البراءة ، سواء كان الاستصحاب في الموضوع كاستصحاب كونه خلا بعد ان شك في انه هل تحول الى الخمر أم لا؟ او الاستصحاب في الحكم ، كما لو شك في انه هل حرمت المتعة بعد ان كانت حلالا ـ كما يدعيه العامة ـ ام لا؟.

(ثم ان الاقسام الستة) المتقدمة للتجرّي (كلها مشتركة في استحقاق الفاعل للمذمة) من العقل ، والعقلاء ، والشارع.

لا يقال : ان الشيء عند الشارع اما حلال فلا يذم عليه ، او حرام فيعاقب عليه ، اما الحلال ذو الذم فلا وجود له عنده.

١١٩

من حيث خبث ذاته وجرأته وسوء سريرته ، وإنّما الكلام في تحقّق العصيان بالفعل المتحقق في ضمنه التجرّي.

______________________________________________________

لانه يقال : يثبت ذلك بقاعدة الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل في سلسلة العلل ، والمقام منها.

مضافا الى ان ادلة التجرّي المتقدمة ، تصلح للدلالة على ذلك بعد دفع الحرمة والعقاب بأدلة عدم الحرمة.

بالاضافة الى وجود بعض الروايات المؤيدة مثل : ما رواه عبد الله بن موسى بن جعفر عن ابيه عليه‌السلام قال : «سألته عن الملكين هل يعلمان بالذّنب إذا أراد العبد أن يفعله أو الحسنة؟.

فقال عليه‌السلام : ريح الكنيف وريح الطيّب سواء؟.

قلت : لا.

قال : إنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نفسه طيّب الريح ، فقال ، صاحب اليمين لصاحب الشمال : قم فانّه قد همّ بالحسنة ، فاذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده فاثبتها له وإذا همّ بالسيئة خرج نفسه منتن الريح ، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين : قف فانّه قد همّ بالسيّئة ، فاذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده واثبتها عليه» (١).

وقد تقدّم : ان الاستحقاق بالتجرّي (من حيث خبث ذاته ، وجرأته ، وسوء سريرته) اي قصده والّا فالذات بما هي ذات لا تستحق مدحا ولا قدحا (وانّما الكلام) في التجرّي (في تحقق العصيان) والعقاب (بالفعل المتحقق في ضمنه التجرّي) مما هو حلال ذاتا ، وانما توهمه المتجري حراما كشرب الماء فيمن

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ٢ ص ٤٢٩ ح ٣.

١٢٠