آية الله السيد محمد الشيرازي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-00-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٧٢
في اصول الدين وفي الفروع الفقهيّة.
قلت : إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة عقليّة باطلة بالمقدّمة النقليّة الظنيّة او القطعيّة.
ومن الموضحات لما ذكرناه ـ من أنّه ليس في المنطق قانون يعصم من الخطأ في مادّة الفكر ـ أنّ المشّائيّين
______________________________________________________
والاختلاف بين اهل الشرع ليس في فروع الدّين فحسب بل جاء (في اصول الدين) أيضا اذ يرى احدهم عدم سهو النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويرى غيره سهوه (و) الى غير ذلك ، كما ان الاختلاف (في الفروع الفقهية) كثيرة حدّث عنها ولا حرج.
(قلت : انما نشأ ذلك) الاختلاف في الشرعيات (من ضمّ مقدمة عقلية باطلة بالمقدمة النقلية الظنية) ظنا معتبرا كالخبر الواحد (او القطعية) كالخبر المتواتر ، فالذنب يعود أيضا الى إدخال العقل في الشرع.
مثلا : قال بعضهم : بانه كسرت رباعية الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في بعض الحروب ، وانكر آخر ذلك ، بضم انه يجب براءة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من العيوب الخلقية والخلقية ، فهذه المقدمة العقلية : «يجب» سببت الاختلاف.
(ومن الموضحات لما ذكرناه : من انه ليس في المنطق قانون يعصم من الخطأ في مادة الفكر : ان المشائيين) وهم جماعة من الحكماء ، ورئيسهم ارسطاطاليس ، وانما سموا بالمشائيين لانه كان يعلّمهم الحكمة في حالة المشي ، او لأنهم يمشون بالدليل ، لان المشي يطلق على مثل ذلك تشبيها للمعقول بالمحسوس ، كما قال سبحانه :
(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا)(١) ، اي امشوا في طريقتكم ولا تعتقدوا
__________________
(١) ـ سورة ص : الآية ٦.
ادّعوا البداهة في أنّ تفرق ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخصه وإحداث لشخصين آخرين.
______________________________________________________
بما جاء به النبي.
وفي قبال المشائيين : الاشراقيون ، ورئيسهم استاذ ارسطاطاليس وهو افلاطون ، وانما سموا بهذا الاسم من جهة انهم كانوا يعتقدون ان بالدليل وحده لا يمكن الوصول الى الحقائق ، وانما اللازم تصفية الباطن ليشرق عليه نور الهداية ، ولا يخفى ان هذا الكلام في نفسه صحيح كما اشير اليه في الحديث الشريف :
«ليس العلم بكثرة التعلّم ، وإنّما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء» (١).
فان من الواضح ان العلم هو : عبارة عن فهم الكون خالقا ، ومخلوقا ، وماضيا ، ومستقبلا ، وحالا ـ بقدر الطاقة البشرية ـ وليس خاصا ببعض المعلومات ، كالطب ، والهندسة ، وما اشبه ، أو بدون الاعتقاد بالله واليوم الآخر ، وما يلزمهما من الاعتراف بالانبياء والاوصياء ، فانه لا يكون هناك علم ، وهذا العلم الشامل يقذفه الله في قلب المؤمنين ، وهم الذين يجتهدون في الامر ، كما قال سبحانه : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(٢).
وعلى اي حال : فالاختلاف كبير بين الطائفتين في كثير من مسائل الفلسفة كما لا يخفى على من راجع كتب الحكمة.
مثلا : (ادعوا البداهة في ان تفرق ماء كوز الى كوزين اعدام لشخصه) اي الجسم المائي الواحد ، فانه بالتفرق خرج عن شخصية الواحد (وإحداث لشخصين آخرين) وانما كان إحداثا ، لانه في حال الوحدة لم يكن هناك اثنان ،
__________________
(١) ـ منية المريد : ص ٦٩ ، مصباح الشريعة : ص ١٦ (بالمعنى) ، بحار الانوار : ج ٧٠ ص ١٤٠ ب ٥٢ ح ٥.
(٢) ـ سورة العنكبوت : الآية ٦٩.
وعلى هذه المقدّمة بنوا إثبات الهيولى ، والاشراقيّين ادّعوا البداهة في أنّه ليس إعداما للشخص الأوّل ، وإنّما انعدمت صفة من صفاته وهو الاتصال».
ثمّ قال : «إذا عرفت ما مهّدناه من المقدّمة الدقيقة الشريفة ، فنقول : إن تمسّكنا بكلامهم عليهمالسلام فقد عصمنا من الخطأ ، وإن تمسّكنا بغيرهم ،
______________________________________________________
فاعدم الواحد وصار اثنين.
ومن الواضح : انه لا يراد اعدام الماء ، واحداث الماء ، وانما الوحدة والاثنينية ، والواحد شخص غير الاثنين ، كما ان الاثنين شخص جديد في هذا وفي ذاك ، وليس شخصا واحدا.
(وعلى هذه المقدمة بنوا إثبات الهيولى) ـ مثلا ـ الشمع له ذات ، وله صورة فاذا ربّع ، او ثلث ، او خمس ، او غير ذلك ، كان الشمع واحدا بالذات ، وانما الاختلاف بالصور ، والذات يسمى بالهيولى ، وتسمى كل صورة صورة منها ب «الصورة».
(والاشراقيين ادعوا البداهة في انه) اي التفريق في كوزين (ليس اعداما للشخص الاول) الذي كان في الكوز الواحد (وانما انعدمت صفة من صفاته وهو الاتصال) اما الذات ، فهي ذات في كلتا الحالتين ، فلا اعدام ولا ايجاد.
اقول : البحث في ذلك طويل وعميق ، وانما اكتفينا بشيء من التوضيح للتقريب الى الذهن فقط.
(ثم قال) الاسترابادي قدسسره (اذا عرفت ما مهّدناه من المقدمة الدقيقة الشريفة فنقول : إن تمسكنا بكلامهم عليهمالسلام فقد عصمنا) وحفظنا ـ على صيغة المجهول ـ والفاعل هو الله سبحانه (من الخطأ ، وان تمسكنا بغيرهم ،
لم نعصم عنه» ، انتهى كلامه.
والمستفاد من كلامه ، عدم حجّيّة إدراكات العقل في غير المحسوسات وما تكون مباديه قريبة من الاحساس إذا لم يتوافق عليه العقول.
______________________________________________________
لم نعصم عنه (١) ، انتهى كلامه).
أقول : التمسك بكلامهم عليهمالسلام ليس معناه : عدم فهم سائر الاشياء ، فهل يمكن فهم دليل التمانع ، وساير الآيات القرآنية المرتبطة بدقائق المبدا والمعاد ، أو فهم مواضع من كلام الرسول ، وعلي ، والائمة الطاهرين صلوات الله عليهم اجمعين بدون دراسات طويلة؟.
ام هل يمكن فهم قول علي عليهالسلام : «من وصف الله فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله» (٢).
أو قوله عليهالسلام : «لا يؤيّن بأين ولا يكيّف بكيف ، ومن قال : فيم ، فقد ضمّنه» (٣) الى غيرها.
ومن الواضح وجود الاحتياج في المباحثات مع غير المسلمين او المسلمين المنحرفين الى كل تلك العلوم.
(و) على اي حال ف (المستفاد من كلامه ، عدم حجية ادراكات العقل في غير المحسوسات و) في غير (ما تكون مباديه قريبة من الاحساس) كما مثلنا له سابقا (اذا لم تتوافق عليه العقول) بأن كان محل الاختلاف ، اما اذا توافقت العقول عليه ، فذلك حجة وان لم يكن من المحسوسات ، ولا من الامور القريبة من الاحساس.
__________________
(١) ـ الفوائد المدنيّة : ص ١٢٩ ـ ١٣١.
(٢) ـ بحار الانوار : ج ٤ ص ٢٤٧ ب ٤ ح ٥ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١ ص ٧٥.
(٣) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ١٤٠ ح ٥ وح ٦ ، التوحيد للصدوق : ص ١٢٥ ب ٩ ح ٣ (بالمعنى).
وقد استحسن ما ذكره غير واحد ممّن تأخّر عنه ، منهم السّيد المحدّث الجزائري قدسسره ، في أوائل شرح التهذيب ، على ما حكي عنه.
قال بعد ذكر كلام المحدّث المتقدّم بطوله : «وتحقيق المقام يقتضي ما ذهب إليه.
فان قلت : قد عزلت العقل عن الحكم في
______________________________________________________
(وقد استحسن ما ذكره) المحدّث الاسترابادي قدسسره (غير واحد ممن تأخر عنه ، منهم السيد المحدّث) السيد نعمة الله (الجزائري قدسسره في اوائل شرح التهذيب).
وهنا مطلب خارج عن محل البحث لا بأس بالاشارة اليه وهو : ان جماعة من المطّلعين ذكروا : ان كتاب «زهر الربيع» قد حرّف ، لما ذكر فيه مما لا يليق بمقام السيد ، وهذا ليس ببعيد ، فان كتب جماعة من علمائنا قد حرّفت من بعدهم مثل كتاب : «المخلاة» و «الكشكول» للشيخ البهائي قدسسره وكتاب «مكارم الاخلاق» للطبرسي قدسسره طبع مصر ، بل سمعت من بعض الثقاة : ان الحاج النوري قدسسره الف كتابا باسم «فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب» وان النسخة المخطوطة عنده كانت هكذا ، وانّما الغى منها بعض المرتبطين بالغربيين الردود ، واثبت فيها التحريفات ، كما اسقط كلمة «عدم» من الاسم ، وهو أيضا غير بعيد ، فان احد مسيحي لبنان جمع الاشكالات من كتب بعض علمائنا على الاسلام وحذف الاجوبة ، وطبعها كتابا مستقلا ، وعليه : فان الامر بحاجة الى التثبت.
وكيف كان فان الجزائري قدسسره (على ما حكي عنه ، قال بعد ذكر كلام المحدّث) الاسترابادي قدسسره (المتقدم بطوله : وتحقيق المقام يقتضي ما ذهب اليه) وظاهره :
انه معترف بكل ما قاله الاسترابادي قدسسره.
ثم قال : (فان قلت : قد عزلت) بتصديقك لكلامه (العقل عن الحكم في
الاصول والفروع ، فهل يبقى له حكم في مسألة من المسائل؟.
قلت : أمّا البديهيّات فهي له وحده ، وهو الحاكم فيها.
وأمّا النظريّات فان وافقه النقل وحكم بحكمه قدّم حكمه على النقل وحده.
وأمّا لو تعارض هو والنقليّ ،
______________________________________________________
الاصول والفروع ، فهل يبقى له) أي العقل (حكم في مسألة من المسائل)؟.
(قلت) نعم ، يبقى له.
(أما البديهيات فهي له وحده وهو الحاكم فيها) وهي موجودة في الاصول والفروع ، كما تقدّم الالماع اليه.
(واما النظريات) فالقريبة من الحس أيضا للعقل حكم فيها ، كما سبق ، واما غير القريبة ، (فان وافقه) اي وافق العقل (النقل) مثل : قبح قصد المعصية قبحا فاعليا ، ومثل : حسن الاحسان في بعض موارد الاحسان الى الاعداء الذين يريدون قتل الانسان ، كما احسن رسول الله وعلي والحسين عليهمالسلام باعطاء الماء لأهل بدر (١) ، ولأهل صفين (٢) ولاصحاب الحرّ (٣) (وحكم بحكمه ، قدم حكمه) أي حكم العقل (على النقل وحده) اذ مع العقل لا مجال إلّا لكون النقل مؤيدا له ، ولذا قال : «وحده» اي المحكّم ، العقل وحده.
(واما لو تعارض هو) اي العقلي (والنقلي) تعارضا ليس على نحو بديهيات العقل ، اما التعارض مع بديهيات العقل ، فمؤوّل.
__________________
(١) ـ انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٤ ص ١٢٢.
(٢) ـ انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٣ ص ٣١٩.
(٣) ـ مقتل الحسين للمقرم : ص ١٨٢ ، تاريخ الطبري : ج ٦ ص ٢٢٦.
فلا شكّ عندنا في ترجيح النقل وعدم الالتفات إلى ما حكم به العقل.
قال : ـ وهذا أصل يبتنى عليه مسائل كثيرة. ثم ذكر جملة من المسائل المتفرّعة».
______________________________________________________
مثل : ما دل على ان الرحمن على العرش ، وان له يدا ، وانه يأتي ، الى غير ذلك ، لان في بديهي العقل كون تلك الامور ـ على ظاهرها ـ محال عليه سبحانه ، ولذا نؤوّله بما لا يخالف العقل. واما التعارض مع غير البديهيات ، مثل : الادلة العقلية على العقول العشرة ، او على استحالة الخرق والالتيام في الافلاك ، والمعراج الجسماني ، الى غير ذلك (فلا شك عندنا في ترجيح النقل وعدم الالتفات الى ما حكم به العقل) وحده.
والمراد بالعقل : المقدمات الظنية التي تنتهي الى هذه النتائج ، وإلّا فمن الواضح : ان ما ذكروه دليلا على تلك الامور ليست الّا من قبيل الخطابيات ، كما لا يخفى على من راجع كتب الكلام ، كشرح التجريد ، وكفاية الموحدين ، وغيرهما.
(قال) السيد الجزائري قدسسره : (وهذا) الذي ذكرناه من تقديم النقل على العقل المبني على غير الضروريات (اصل يبتنى عليه مسائل كثيرة ، ثم ذكر جملة من المسائل المتفرعة) (١) على تقديم النقل على العقل ، مثل :
مسألة الاحباط ، ومسألة الانساء في النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومسألة ارادة الباري ، ومسألة ان اول الواجبات هل هي معرفة الباري ، او النظر والفكر في معرفته؟.
هذه هي بعض المسائل المنسوبة في بعض الحواشي الى السيد الجزائري قدسسره.
__________________
(١) ـ شرح تهذيب الاحكام ، مخطوط.
أقول : لا يحضرني شرح التهذيب حتّى الاحظ ما فرّع على ذلك ، فليت شعري إذا فرض حكم العقل على وجه القطع بشيء كيف يجوز حصول القطع او الظنّ من الدليل النقليّ على خلافه.
وكذا لو فرض حصول القطع من الدليل النقلي كيف يجوز حكم العقل بخلافه على وجه القطع؟.
______________________________________________________
(اقول : لا يحضرني شرح التهذيب ، حتى الاحظ ما فرّع على ذلك) وقد عرفت بعضها ، لكن كل تلك المسائل لا تصادم فيها بين العقل والنقل ، كما ان اختلاف العلماء فيها ليس من جهة التصادم ، بل من جهة اختلاف الاستفادة من الادلة على ما عرفت الكلام فيه سابقا.
(فليت شعري) هل يصادم النقل العقل؟.
وهل يصادم القطع الظن؟ كما يستفاد من كلامه فانه (اذا فرض حكم العقل على وجه القطع بشيء) كامتناع الجسمية ولوازمها للباري تعالى (كيف يجوز حصول القطع او الظن من الدليل النقلي على خلافه؟).
فما دل من النقلي على الجسمية ـ مثلا ـ لا بد من تأويله ، اذ ليس بذلك قطع ولا ظن ، بل ولا وهم ، اذ القطع معناه : المنع عن النقيض ، والوهم : احتمال ولو واحد في الالف ، ولا يعقل جمعها.
(وكذا) العكس ، اي (لو فرض حصول القطع من الدليل النقلي) كما لو قطع بما قام عليه التواتر فانه (كيف يجوز حكم العقل بخلافه على وجه القطع) بان يدل العقل على خلاف قطعه الحاصل من النقل.
وعلى ايّ حال : فان تعارض القطعين غير معقول ، بل لا يعقل تعارض القطع والظن ، ولا القطع والشك ، ولا القطع والوهم ، بل ولا الظن والشك ، بل ولا الوهم
وممّن وافقهما على ذلك في الجملة المحدّث البحرانيّ في مقدّمات الحدائق ، حيث نقل كلاما للسيّد المتقدّم في هذا المقام واستحسنه ، إلّا أنّه صرّح بحجيّة العقلي الفطريّ الصحيح وحكم بمطابقته للشرع ومطابقة الشرع له.
______________________________________________________
والشك ، كما هو واضح.
(وممّن وافقهما) اي الاسترابادي والجزائري قدسسرهما (على ذلك) من اسقاط دور العقل (في الجملة) وليس في كل ما ذكراه هو : (المحدّث البحراني قدسسره في مقدمات الحدائق ، حيث نقل كلاما للسيد المتقدّم) اي الجزائري قدسسره (في هذا المقام واستحسنه) مما يدل موافقته له.
(إلّا انه) وافقهما في الجملة لانه (صرح بحجية) الدليل (العقلي الفطري الصحيح) وهو يشعر بالحجية المطلقة للعقل ، فيما اذا كان غير مشوب بملابسات ، وباقيا على فطرة سليمة التي فطره الله عليها ، بينما الاسترابادي والجزائري يرون عدم حجيّة العقل الّا في بعض الموارد ، وعلى كل : فالمحدث البحراني قال بحجية العقل.
(وحكم بمطابقته للشرع ، ومطابقة الشرع له) لأنهما من قبل الله سبحانه ، ولهذا يكونان متطابقين على ما ذكروا : من «ان ما حكم به العقل حكم به الشرع» ، لان العقل لا يرى الّا الصلاح ، والشرع موضوع على المصالح والمفاسد ـ ايجابا وسلبا ـ وان ما حكم به الشرع حكم به العقل ، لان العقل يرى : ان الشرع لا يحكم الّا وفق المصلحة ، فكلما حكم به الشرع ، عرف العقل ان فيه المصلحة ، كما ان الطبيب الحاذق المخلص يحكم العقل فيه بانه كلما وصف من الدواء شيئا كان فيه مصلحة ، وان لم يعرف العقل خصوصيات الادوية كمّا وكيفا.
ثم قال : «لا مدخل للعقل في شيء من الأحكام الفقهيّة من عبادات وغيرها ، ولا سبيل إليها الّا السماع عن المعصوم عليهالسلام ، لقصور العقل المذكور عن الاطّلاع عليها».
ثمّ قال : «نعم ، يبقى الكلام بالنسبة الى ما لا يتوقف
______________________________________________________
(ثم قال) الحدائق : انه (لا مدخل للعقل في شيء من الاحكام الفقهية ، من عبادات وغيرها) فمثلا : لما ذا عدد الركعات كذا؟ والجهر والاخفات كذا؟ وتقديم السعي على التقصير؟ والطواف على الصلاة؟ وان الصيام من الفجر الى المغرب؟ الى غير ذلك.
نعم ، كليات الاحكام يعرفها العقل ، فالصلاة : لأجل الصلة بالله سبحانه ، والحج : لمنافع الناس ، والصوم : لكف النفس وترويضها ، وهكذا ، وقد ذكرنا جملة منها في كتاب «عبادات الاسلام» (١).
(ولا سبيل اليها) اي الى تلك الاحكام الفقهية (الا السماع عن المعصوم عليهالسلام) لان الخصوصيات لا تعرف الا من قبله ، فحال الكليات والجزئيات في الاحكام حال كليات الطب ، وجزئياته ، حيث ان المرجع فيها للجاهل بالطب هو الطبيب ، وهنا هو المعصوم عليهالسلام وذلك (لقصور العقل المذكور) وهو العقل الفطري (عن الاطلاع عليها) اي على تلك المسائل الفقهية.
وكلامه هذا لا ينافي كلامه السابق : من التطابق بين العقل والنقل ، اذ ذاك بمعنى : انهما يحكمان على طبق المصلحة ، وهذا بالنسبة الى الخصوصيات والمزايا.
(ثم قال : نعم ، يبقى الكلام بالنسبة الى ما) اي الشيء الذي (لا يتوقف
__________________
(١) ـ وهو كتاب من الحجم المتوسط طبع في لبنان والكويت وايران وترجم الى الفارسية باسم «فروع دين».
على التوقيف ، فنقول : إن كان الدليل العقليّ القطعي المتعلّق بذلك بديهيّا ظاهر البداهة ، مثل الواحد نصف الاثنين ، فلا ريب في صحّة العمل به. وإلّا فان لم يعارضه دليل عقليّ ولا نقلي فكذلك ، وإن عارضه دليل عقليّ آخر ، فانّ تأيّد احدهما بنقليّ كان الترجيح للمتأيّد بالدليل النقليّ ،
______________________________________________________
على التوقيف) بأن لا يحتاج فيه الى الشرع ، مثل : الاعتقادات الاصولية ، من الالوهية والرسالة والمعاد ، وهكذا مسائل اصول الفقه ، مثل : كون الامر ظاهرا في الوجوب ، والنهي في التحريم ، ووجوب المقدمة ـ مثلا ـ.
(فنقول : ان كان الدليل العقلي القطعي المتعلق بذلك بديهيا ظاهر البداهة) مثل : وجوب شكر المنعم ، وقبح تكليف ما لا يمكن عقلا : كاجتماع النقيضين ، او عادة : كالطيران بدون الوسيلة ، مما هو من (مثل : الواحد نصف الاثنين) في البداهية (فلا ريب في صحة العمل به) لانه من البديهيات ، والبديهي لا يتوقف على شيء آخر ، فحاله حال الواحد نصف الاثنين ، سواء عارضه دليل آخر نقلي ام لا ، اذ لا يعقل معارضة الدليل العقلي الفطري له.
(والّا) بأن لم يكن بديهيا ظاهر البداهة (فان لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك) يلزم العمل به ، لان العقل قد حكم ، ولا معارضة له.
(وان عارضه دليل عقلي آخر) فهما دليلان عقليان متعارضان ، مثل : «العالم متغير ، وكل متغير محتاج الى المؤثر ، فالعالم محتاج الى المؤثر» وفي قباله قول الملاحدة : «العالم قديم ، وكل قديم مستغن عن المؤثر ، فالعالم مستغن عن المؤثر).
(فان تأيد احدهما بنقلي) كتأيد البرهان الاول به ، من مثل : كان الله ولم يكن معه شيء (كان الترجيح للمتأيد بالدليل النقلي) اذ في طرف : عقل ونقل ،
وإلّا فاشكال.
فانّ عارضه دليل نقليّ ، فان تأيّد ذلك العقليّ بدليل نقليّ كان الترجيح للعقليّ ، إلّا أنّ هذا في الحقيقة تعارض في النقليّات ، وإلّا فالترجيح للنقليّ
______________________________________________________
وفي طرف : عقل فقط.
(والّا) بان لم يكن أحد الدليلين العقليين مؤيد بنقل (فاشكال) : بأنه هل يقدّم هذا الدليل العقلي ، او ذاك؟.
هذا تمام الكلام في تعارض العقليين مع تأيد احدهما بنقلي ، او بدون التأيد.
اما اذا كان هناك دليل عقلي كقبح التجرّي (فان عارضه دليل نقلي ، فان تأيد ذلك العقلي بدليل نقلي) كما في : حكم العقل بقبح التجرّي في الجملة ، المؤيد بالنقل الدال على حرمة التجرّي ـ على ما تقدّم ـ ، فان كان الدليل العقلي معارضا بدليل نقلي آخر يدل على عدم العقاب على قصد المعصية ، وانّما العقاب على فعل العصيان (كان الترجيح للعقلي) لان في جانب : العقل والنقل ، وفي جانب : النقل فقط ، والاولان اقوى من الثاني.
(إلّا ان هذا) القسم (في الحقيقة) وبالنظر الدقيق (تعارض في النقليات) لان في كلا الجانبين نقل ، وانّما العقل في احد الجانبين فقط ، وهو يصلح مؤيدا لاحد جانبي النقل.
(والّا) بان لم يؤيد العقل بدليل نقلي ، مثل : انكار بعضهم الخرق والالتيام المنافي للمعراج ـ عقلا ـ فان انكارهم هذا لم يؤيد بدليل نقلي ، بل الدليل النقلي معارض له ، لانه يدل عليه المعراج الجسماني المستلزم لخرق الافلاك كلا (فالترجيح للنقلي) لانه لا شأن للعقلي المبني على المقدمات غير البرهانية في رفع النقل.
وفاقا للسيّد المحدّث المتقدّم ذكره وخلافا للأكثر.
هذا بالنسبة إلى العقليّ بقول مطلق.
أمّا لو اريد المعنى الأخصّ ، وهو الفطريّ الخالي عن شوائب الأوهام الذي هو حجّة
______________________________________________________
فتحصّل : ان الحدائق قسم الامر الى ستة اقسام :
١ ـ العقل البديهي.
٢ ـ غير البديهي الذي لا يعارضه دليل عقلي ولا نقلي.
٣ ـ غير البديهي الذي عارضه دليل عقلي آخر وتأيد احدهما بالنقلي.
٤ ـ الصورة الثالثة مع انه لم يؤيد بدليل نقلي.
٥ ـ غير البديهي الذي عارضه دليل نقلي وتأيد أيضا بدليل نقلي.
٦ ـ غير البديهي الذي عارضه دليل نقلي ، ولم يؤيد بدليل نقلي.
وقد قال في السادس : انه يعمل بالنقلي.
وفي الرابع : ان فيه اشكالا ، وفي بقية الصور يعمل بالعقلي.
ثم انه رجح في السادس النقلي (وفاقا للسيد المحدّث) الجزائري قدسسره (المتقدّم ذكره ، وخلافا للاكثر) الذين يقدمون في السادس ، العقلي ، وهو المشهور.
ثم قال الحدائق : و (هذا) الذي ذكرناه : من عدم حجية العقل في الفقه ، والتفصيل في غير الفقه ، إنّما هو (بالنسبة الى العقلي بقول مطلق) اي العقلي المشوب بالأوهام.
(اما لو اريد) بالعقلي (المعنى الاخص ، وهو الفطري الخالي عن شوائب الاوهام) ممّا لا يوجد الّا في الانبياء والأوصياء وصفوتهم (الذي هو حجة
من حجج الملك العلّام ـ وإن شذّ وجوده في الأنام ـ ففي ترجيح النقليّ عليه اشكال» ، انتهى.
ولا أدري كيف جعل الدليل النقلي في الأحكام النظريّة مقدّما على ما هو في البداهة من قبيل «الواحد نصف الاثنين» ، مع أنّ ضروريّات الدين والمذهب
______________________________________________________
من حجج الملك العلّام) كما في الروايات : من انه العقل حجة باطنة ، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حجة ظاهرة (١) (وان شذ وجوده في الانام) لكثرة الخلط والخبط (ففي ترجيح النقلي عليه اشكال) (٢) كما يأتي وجهه.
(انتهى) كلام المحدث البحراني قدسسره ، ولكن في كلامه موارد للنظر : الاول : انه كيف قدم النقلي على العقلي الضروري ، مثل : الواحد نصف الاثنين؟ (ولا ادري كيف جعل الدليل النقلي في الاحكام النظرية) الواردة فيها الاحاديث اي الدليل النقلي (مقدما على ما) اي على الدليل العقلي الذي (هو في البداهة من قبيل : الواحد نصف الاثنين)؟.
مثلا : اذا حكم العقل حكما بديهيا ببطلان وضوء الجبيرة ، الموجب لوصول الماء الى الكسر ونحوه ـ مما يكون ضررا اكيدا ـ كيف يقدم النقل عليه؟ حيث قد ورد في بعض الروايات : بوجوب ايصال الماء الى العضو.
هذا (مع ان ضروريات الدّين والمذهب) حالها حال الضروريات العقلية ، اذ قد يكون الشيء ضروري الاسلام : كالصلاة والصيام يقبله عامة المسلمين ، وقد يكون ضروري الايمان عند الشيعة فقط ، مثل : صحة المتعة.
__________________
(١) ـ الكافي (أصول) : ج ١ ص ١٦ ح ١٢ ، بحار الانوار : ج ١ ص ١٣٧ ب ٤ ح ٣.
(٢) ـ الحدائق الناضرة : ج ١ ص ١٣٢.
لم يزد في البداهة على ذلك.
______________________________________________________
وهناك قسم ثالث من الضروريات تسمّى بضروريات الاديان ، كوجود الجنة والنار.
وقسم رابع : هو ضروريات الفقه ، كضرورية عدم الفاصلة بين الرضعات في نشر الحرمة بشيء آخر غير اللبن من المرضعة.
فانه (لم يزد في البداهة على ذلك) فكما ان البديهيات الدينية والمذهبية لا تحتاج الى شيء آخر ، كذلك حال البديهيات العقلية.
هذا هو الاشكال من الشيخ قدسسره على الحدائق.
لكن ربما يقال : ان الحدائق استثنى البديهيات اولا ، ثم جعل كلامه في غير البديهيات ، ولعل الشيخ قدسسره اطلع على ما لم نطلع نحن عليه.
وعلى أيّ حال : فانه ينبغي ان يقال : ان تقسيم العقل الى الفطري وغير الفطري محل تأمل ، فان هناك اقسام من الناس :
الاول : المعاند ، ولا كلام فيه ، فان عقله كسائر العقول ، وانّما يعاند ، كما قال سبحانه : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)(١).
الثاني : الجاهل قاصرا ومقصرا ، ولا كلام فيه أيضا.
الثالث : المستقيم ، ولا كلام فيه أيضا.
الرابع : الذي اشتبه في الدليل العقلي ، ولا شك انه اذا لم يكن معاندا ، ولم يكن تلقّيه مختلفا ـ كما تقدّم من مثال الاواني الثلاث ـ يرجع الى الواقع بالبحث والاستدلال ، فأية فائدة لهذا التقسيم بالفطري وغير الفطري؟.
فان كل واحد من اساطين العلم ، كأصحاب الحدائق والجواهر والمستند
__________________
(١) ـ سورة النمل : الآية ١٤.
والعجب ممّا ذكره في الترجيح عند تعارض العقل والنقل ، كيف يتصوّر الترجيح في القطعي ، وأيّ دليل على الترجيح المذكور.
وأعجب من ذلك الاستشكال في تعارض العقليّين من دون ترجيح ،
______________________________________________________
والرسائل والكفاية ـ مع اختلافاتهم الكثيرة في الاصول والفروع واستدلالاتهم العقلية والنقلية بمختلف المسائل ـ هل يمكن ان يقول بعضهم لبعض انه مأخوذ من العقل غير الفطري؟.
وحاصل كلامنا : ان جعل هذا المحور موجبا للرد والايراد بين أعلام الدّين غير خال عن المناقشة.
نعم ، لا شك ان الاهواء دخلت في اديان الكفّار والمنحرفين ، لكن اذا ألفتوا كانوا من مصاديق (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ..)(١).
الثاني : من موارد النظر على كلام البحراني قدسسره ما ذكره بقوله : (والعجب مما ذكره في الترجيح عند تعارض العقل والنقل) بترجيح النقل على العقل ، فانه (كيف يتصور الترجيح في القطعي) المرتبط بالعقل؟ فاذا قطع الانسان بان الآن نهار ، وجاء نقل بانه ليل ، فهل يمكن ترك القطع الى النقل (وأي دليل) في مقام الاثبات (على الترجيح المذكور)؟.
لكن ربما يقال : ان مراد البحراني؟؟؟ ليس العقلي القطعي ، بل ما يسمونه بالادلة العقلية المبنية على مقدمات غير مقطوعة ، ولذا نرى ان بعضهم يدّعي دلالة العقل على وجوب مقدمة الواجب ، وبعضهم يدّعي دلالته على عدم الوجوب ، وهكذا.
(و) الثالث : من موارد النظر وهو (اعجب من ذلك : الاستشكال) من البحراني قدسسره (في تعارض العقليين من دون ترجيح) فهل يمكن تعارض دليلين
__________________
(١) ـ سورة النمل : الآية ١٤.
مع أنّه لا اشكال في تساقطهما ، وفي تقديم النقلي على العقليّ الفطريّ الخالي عن شوائب الأوهام.
مع أنّ العلم بوجود الصانع جلّ ذكره إمّا أن يحصل من هذا العقل الفطريّ او ممّا دونه من العقليّات البديهيّة ، بل النظريّات المنتهية إلى البداهة.
______________________________________________________
عقليين كل واحد الى حدّ القطع؟ : بل قد عرفت سابقا : ان القطع بطرف لا يجتمع حتى مع الوهم في الطرف الآخر (مع انه) لو فرض فرضا محالا وجودهما وتعارضهما بدون ترجيح فانه (لا اشكال في تساقطهما) حالهما حال النقليين.
لكن يمكن الذب عن البحراني قدسسره بانه ليس كلامه فيما ذكره الشيخ قدسسره من العقل القطعي ، بل هو فيما ذكرناه.
(و) الرابع من موارد النظر : (في) حكمه قدسسره ب (تقديم النقلي على العقلي الفطري ، الخالي عن شوائب الاوهام مع ان) النقل لا يمكن ان يصل الى مرتبة العقل ، كما هو واضح ، فان اساس النقل : العقل ، فاذا سقط دور العقل سقط النقل تلقائيا.
ومما يوضح ذلك ، هذا المثال : وهو أن (العلم بوجود الصانع جل ذكره) وسائر اصول الدّين (إما ان يحصل من هذا العقل الفطري أو مما) هو (دونه) في القوة ، اذ للعلم مراتب ، كسائر الصفات النفسية وكالنور يزداد وينقص ، ولهذا فانه يحصل أيضا (من العقليات البديهية) مثل استدلال تلك العجوز على وجود الله تعالى ، حيث رفعت يدها عن المغزل ، وقول ذلك الاعرابي : البعرة تدل على البعير ، الى غير ذلك.
(بل) يحصل من (النظريات المنتهية الى البداهة) كالأدلة النظرية التي تنتهي
والذي يقتضيه النظر ، وفاقا لأكثر أهل النظر ، أنّه كلّما حصل القطع من دليل عقليّ ، فلا يجوز أن يعارضه دليل نقليّ.
وإن وجد ما ظاهره المعارضة ، فلا بدّ من تأويله إن لم يمكن طرحه.
______________________________________________________
الى المقدمات البديهية ، كما هو الشأن في غالب الاستدلالات على الاصول والفروع ، حيث انها نظرية لكنها تنتهي الى القضايا البديهية ، فان ما بالغير لا بد وان ينتهي الى ما بالذات كما ذكروا.
(و) حيث قد عرفت الاشكال في كلمات المحدثين الثلاثة نقول : (الذي يقتضيه النظر) في الادلة (وفاقا لأكثر اهل النظر) والفكر (انه كلّما حصل القطع من دليل عقلي) سواء سمّي بالعقل الفطري ، او غيره ، أو كان من الادلة البديهية ، او النظرية (فلا يجوز) اي لا يمكن (ان يعارضه دليل نقلي) اذ العقل : الاصل ، والنقل مستند اليه في حجيته ، ولا يمكن ان يعارض الفرع الاصل.
(وان وجد) من الأدلة النقلية (ما ظاهره المعارضة فلا بد من تأويله) وأصل «التأويل» من الأول بمعنى : الانتهاء ، من آل يؤول ، اي لا بد ان نقول : ان الكلام لا يقف عند ظاهره ، بل ينتهي الى شيء غير الظاهر.
هذا (ان لم يمكن طرحه) من حيث السند ، او من حيث جهة الصدور امكانا حسب الصناعة ، والّا فان كان سنده غير نقي ، او كان سنده نقيا لكنه موافق للعامة ، فليس ذلك بحجة ، فلا حاجة الى تأويله بما يوافق العقل بالنتيجة.
مثلا ، العقل القطعي يدل على ان الله سبحانه ليس بجسم ، وانه غير قابل للرؤية ، فاذا كان في القرآن الحكيم : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)(١).
أو : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ)(٢).
__________________
(١) ـ سورة طه : الآية ٥.
(٢) ـ سورة القيامة : الآيات ٢٢ ـ ٢٣.
وكلّما حصل القطع من دليل نقليّ ، مثل القطع الحاصل من إجماع جميع الشرائع على حدوث العالم زمانا ، فلا يجوز أن يحصل القطع على خلافه من دليل عقليّ ، مثل استحالة تخلّف الأثر عن المؤثّر.
______________________________________________________
كان تأويل الآية الاولى : بان المراد هو الاستيلاء والاحاطة لا الجلوس ، وتأويل الآية الثانية : بانها ناظرة : الى نعيم ربها ، فهو كما يقال : اني انظر الى المهدي عليهالسلام وقد خرج الى الكوفة ، اي اعلم انه سيخرج ، الى غير ذلك.
(وكلّما حصل القطع من دليل نقلي ، مثل : القطع الحاصل من اجماع جميع الشرائع) الالهية ، فانه لو لا اجماعهم لما حصل القطع ـ (على حدوث العالم زمانا).
اذ ربما يقال ان : العالم حادث ، لكنه حدث بعد حدوث الزمان ، وهذا يسمّى بالحادث الزماني ، اي كان في زمان معدوما ثم وجد في زمان ثان.
وربما يقال : ان العالم حادث ، لكنه حدث قبل حدوث الزمان ، فهو قديم زماني ، حادث ذاتي ، وقسم من الفلاسفة وان قال بالثاني ، الّا ان الشرائع قالت بالاول.
(فلا يجوز) اي لا يمكن (ان يحصل القطع على خلافه من دليل عقلي) اذ لا يعقل ان يحصل قطعان متخالفان : قطع مستند الى النقل ، وقطع مستند الى العقل ، بل قد تقدّم ان الاحتمال على طرف ، لا يمكن ان يجتمع مع القطع على طرف آخر.
ثم ان المصنّف مثّل للدليل العقلي على خلاف الدليل النقلي المقطوع به بقوله : («مثل : استحالة تخلف الاثر عن المؤثر») فان الفلاسفة الذين قالوا بالحدوث الذاتي للعالم لا الحدوث الزماني ، استدلوا على ذلك بما جعلوه دليلا
ولو حصل منه صورة برهان كانت شبهة في مقابلة البديهة ، لكن هذا لا يتأتى في العقل البديهيّ من قبيل «الواحد نصف الاثنين» ولا في العقل الفطريّ الخالي عن شوائب الأوهام ،
______________________________________________________
عقليا ، فقالوا : العالم اثر القديم ، واثر القديم قديم.
اما الصغرى : فلوضوح ان العالم لم يوجد بنفسه ، فاللازم ان يكون هناك قديم ـ وهو الله سبحانه ـ حتى يكون العالم اثره.
واما الكبرى : فلان الاثر معلول ، والمعلول لا ينفك عن علته ، الذي هو الله ، فالعالم حادث ذاتا لاستناده الى الغير ، وليس بحادث زمانا ، لانه قبل الزمان.
لكن هذا القياس غير صحيح (ولو حصل منه صورة برهان) اذ الكبرى غير تامة ، فان الاثر لا ينفك عن المؤثر المجبور ، كالحرارة من النار ، والرطوبة من الماء ، اما المؤثر المختار فينفك الاثر منه.
مثل افعالنا نحن البشر ، حيث انها منفكة منا ، فان الانسان يكون ، وليس بصانع بابا او كاتب كتابا ، ثم يصنع الباب ويكتب الكتاب ، الى غير ذلك من الامثلة ، فاذا حصل صورة برهان في قبال القطع النقلي (كانت شبهة في مقابلة البديهة) لا برهانا يفيد الواقع.
(لكن هذا) الذي ذكرناه : من انه شبهة في مقابل البديهية ، وان امكن ان يأتي في النقلي القطعي ، لكنه (لا يتأتّى في العقل البديهي من قبيل «الواحد نصف الاثنين») فان في قبال العقل البديهي لا يمكن ان يكون نقل قطعي.
مثلا : لا يعقل ان يقوم دليل نقلي على جواز تكليف ما لا يطاق.
(ولا في العقل الفطري الخالي عن شوائب الاوهام) كحسن الاحسان وقبح الظلم.