دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

فلا يكون المكلّف قادرا على الامتثال.

وهذا ظاهر في الاستحالة الغيريّة ؛ إذ من المعلوم أنّ التكليف بغير المقدور ـ مثل تحقّق المعلول بدون العلّة ـ مستحيل بالغير.

ثمّ قال في مقام إثبات هذه الدعوى ودليل عدم قدرة المكلّف على الامتثال ، وتوهّم إمكان تعلّق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر ، وإمكان الإتيان بها بهذا الداعي ؛ ضرورة إمكان تصوّر الآمر لها مقيّدة والتمكّن من إتيانها كذلك بعد تعلّق الأمر بها ، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحّة الأمر إنّما هو في حال الامتثال لا حال الأمر واضح الفساد ؛ ضرورة أنّه وإن كان تصوّرها كذلك بمكان من الإمكان إلّا أنّه لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها ؛ لعدم الأمر بها ـ أي الأمر بالصلاة مجرّدة ـ فإنّ الأمر حسب الفرض تعلّق بها مقيّدة بداعي الأمر ، ولا يكاد يدعو الأمر إلّا إلى ما تعلّق به لا إلى غيره.

إن قلت : نعم ، ولكنّ نفس الصلاة أيضا صارت مأمورا بها بالأمر بها مقيّدة.

قلت : كلّا ؛ لأنّ الذات المقيّدة لا تكون مأمورا بها ، فإنّ الجزء التحليلي العقلي لا يتّصف بالوجوب أصلا ، فإنّها ليست إلّا وجودا واحدا وواجبا بالوجوب النفسي ، كما ربّما يأتي في باب المقدّمة ، أي الصلاة جزء تحليلي ، وتقيّد بقصد الأمر جزء تحليلي آخر ، وهذا الشيء الواحد تعلّق به الأمر.

إن قلت : نعم ، لكنّه إذا اخذ قصد الامتثال شرطا ، وأمّا إذا اخذ شطرا فلا محالة نفس الفعل الذي تعلّق الوجوب به مع هذا القصد يكون متعلّقا للوجوب ؛ إذ المركّب ليس إلّا نفس الأجزاء بالأسر ، ويكون تعلّقه بكلّ جزء بعين تعلّقه بالكلّ ، ويصحّ أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب ؛ ضرورة صحّة

٥٤١

الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه.

قلت : مع امتناع اعتباره كذلك ـ أي امتناع اعتبار قصد الامتثال كذلك ؛ إذ القصد يكون بمعنى الإرادة ، وهي ليست باختياريّة ـ فإنّه يوجب تعلّق الوجوب بأمر غير اختياري ، فإنّ الفعل وإن كان بالإرادة اختياريّا إلّا أنّ إرادته حيث لا تكون بإرادة اخرى ، وإلّا لتسلسلت ليست باختياريّة كما لا يخفى ، إنّما يصحّ الإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي ، ولا يكاد يمكن الإتيان بالمركّب من قصد الامتثال بداعي امتثال أمره ، وإلّا لزم اتّحاد المحرّك والمحرّك إليه ، ولا يعقل إتيان داعي الأمر بداعي الآمر ، فلا يمكن إتيان متعلّق الأمر ، أي المجموع المركّب من الأجزاء والشرائط وقصد الأمر بقصد الآمر ، وأمّا الصلاة المجرّدة عنه فلا تكون مأمورا بها.

والحاصل : أنّ قصد الأمر إن اخذ في الصلاة بنحو الشرطيّة فلا يكون المكلّف قادرا على إتيان الصلاة بداعي الأمر المتعلّق بها ؛ إذ الصلاة المجرّدة ـ أي ذات المقيّدة ـ ليست متعلّقا للأمر ، وإن اخذ قصد الأمر بنحو الجزئيّة ، فكما أنّ الأمر يكون داعيا إلى الصلاة كذلك يكون داعيا إلى الجزء الآخر منها ، والمفروض أنّه عبارة عن نفس داعي الأمر ، ويلزم من ذلك أن يكون داعي الأمر محرّكا ومحرّكا إليه في آن واحد.

وأجاب عنه أعاظم أهل الفن بأجوبة متعدّدة :

منها : ما قال به المرحوم البروجردي (١) والإمام قدس‌سرهما (٢) وهو الحقّ عندنا ، ويتوقّف على بيان مقدّمات :

__________________

(١) نهاية الاصول ١ : ١١٥ ـ ١٢٣.

(٢) تهذيب الاصول ١ : ١٥٣ ـ ١٦٣.

٥٤٢

الاولى : أنّ متعلّق الأمر والوجوب أو الموضوع في قضيّة «الصلاة واجبة» يحتمل أن تكون عبارة عن نفس ماهيّة الصلاة من دون التقيّد بوجودها الذهني أو الخارجي.

ويحتمل أن تكون عبارة عن ماهيّة الصلاة مقيّدة بوجودها الذهني ، يعني الصلاة الموجودة في ذهن المولى بما أنّها موجودة في ذهنه تكون معروضة للوجوب.

ويحتمل أن تكون عبارة عن ماهيّة الصلاة مقيّدة بوجودها الخارجي ، يعني الصلاة المتّصفة بالوجود الخارجي معروضة للوجوب ، مع أنّ التعبير بكلمة «معروضة عنها» تسامح ، ولكن بعد الدقّة نتوجّه إلى أنّ الماهيّة المقيّدة بوجودها الخارجي لا يعقل أن تكون متعلّقة للصلاة ، فإنّ غرض المولى يحصل بعد تحقّق الصلاة في الخارج ويسقط التكليف ، ولذا قالوا : الخارج ظرف سقوط التكليف لا ظرف ثبوته.

وهكذا لا يمكن أن يكون متعلّق الأمر عبارة عن الماهيّة المقيّدة بوجودها الذهني ، فإنّها ليست قابلة للامتثال.

ولو قلنا بحصول الامتثال بإيجادها في ذهن العبد فهو مخدوش : أوّلا بأنّ ما اوجد في ذهن العبد مباين لما كان متعلّقا للأمر ـ أي الصلاة المقيّدة بوجود ذهن المولى ـ إذ ما تصوّره المولى غير ما تصوّره العبد.

وثانيا : أنّ الامتثال الواقعي يحتاج إلى إيجاد المكلّف به في الخارج ، وإذا كان كذلك لا شبهة في أنّ وجود خارجي الصلاة ووجودها الذهني نوعان من الوجود كالإنسان والبقر ، ولا يمكن أن يكون فرد من نوع فردا من نوع آخر ، فالموجود في الذهن بما أنّه موجود في الذهن لا يعقل أن يتحقّق في الخارج ،

٥٤٣

وهكذا عكسه.

ويمكن أن يتوهّم أنّ الموجود الخارجي بسبب التصوّر يصير موجودا ذهنيّا ، وبهذا يتّحد الوجودان.

وجوابه : أنّ الموجود الخارجي بوصف الخارجيّة لا يعقل أن يتحقّق في الذهن ، وما يتحقّق في الذهن عبارة عن الصورة الحاصلة من الخارج في الذهن ، كما مرّ نظيره في مسألة العلم والمعلوم.

وبالنتيجة بعد بطلان الاحتمالين المذكورين يتعيّن الاحتمال الأوّل ، يعني ماهيّة الصلاة مع قطع النظر عن التقيّد بشيء من الوجودين الذهني والخارجي تكون معروضة للوجوب.

ولا يخفى أنّ جميع المقدّمات يدور مدار جملتين عند صاحب الكفاية : الاولى منها قوله : «الأمر يكون داعيا إلى متعلّقه» ، الثانية منها قوله : «ولا يكاد يكون داعيا إلى غير متعلّقه» ، وجعلنا البحث في المقدّمة الاولى حول المتعلّق وقلنا فيها : إنّ المتعلّق عبارة عن ماهيّة المأمور بها بلا دخل للوجود الذهني والخارجي فيها.

المقدّمة الثانية : في المراد من قوله : الأمر يكون داعيا إلى متعلّقه؟ فإن كان مراده البعث والتحريك للمكلّف إلى تحقّق المتعلّق بالبعث التكويني والحقيقي فهو ليس بصحيح ، فإنّا نرى عدم الانبعاث في العصاة والكفّار ، مع أنّ البعث الحقيقي لا ينفكّ عن الانبعاث. وإن كان مراده أنّ الأمر يكون محقّقا لموضوع الطاعة والانبعاث ـ كما هو الحقّ على ما سنبيّنه ـ فهو مخالف لظاهر العبارة.

فالداعي عبارة عن الأمر القلبي الراسخ في نفس العبد ، ويختلف بحسب تفاوت درجات العباد واختلاف حالاتهم وملكاتهم ، فمنهم من وجد في قلبه

٥٤٤

ملكة الخوف من عقاب المولى أو ملكة الشوق إلى ثوابه ورضوانه ، ومنهم من وجد في قلبه ملكة الشكر وصار بحسب ذاته عبدا شكورا ، وباعتبار هذه الملكات يصدر عنه إطاعة أوامر المولى ، ومنهم من رسخ في قلبه عظمة المولى وجلاله وكبريائه فصار مقهورا في جنب عظمته ، وباعتبار هذه الملكة صار مطيعا لأوامره.

وأعلى مرتبة العبادة ما نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في دعائه وهو قوله عليه‌السلام : «ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنّتك ، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» (١) ، فكان خوفا من النار وطعما في الجنّة وشكرا للمنعم ووجدان المعبود أهلا للعبادة من الدواعي إلى المتعلّق ، كما أنّ كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام صريح بأنّ المحرّك والداعي عبارة عن وجدانه عليه‌السلام إياه أهلا للعبادة.

وأمّا الأمر فليس من شأنه إلّا تعيين موضوع الطاعة ، فيصير بمنزلة الصغرى لتلك الكبريات ، فما اشتهر من أنّ الأمر يكون داعيا إلى متعلّقه ليس بتامّ.

المقدّمة الثالثة : حول قوله : «الأمر لا يكاد يكون داعيا إلى غير متعلّقه» ، ومعناه على مبنى صاحب الكفاية قدس‌سره أنّ ما كان خارجا عن دائرة المتعلّق فهو خارج عن تحت داعويّة الأمر ، وعلى هذا فالشرائط بما أنّها خارجة عن دائرة المتعلّق لا يكاد يكون الأمر داعيا إليها ، وهكذا في نفس الأجزاء فإنّها تغاير المتعلّق ـ أي المركّب من جميع الأجزاء ـ بتغاير اعتباري ، وإن اتّحدا خارجا ، فإنّ المتعلّق عبارة عن نفس الماهيّة ، فإن تغاير معها شيء بتغاير اعتباري فهو خارج عن الماهيّة ، فالأجزاء أيضا لا تكون متعلّقا للأمر ، ولذا قال بعض

__________________

(١) البحار ٤١ : ١٤ ، الحديث ٤.

٥٤٥

بتبعّض الأمر حسب تعدّد الأجزاء فرارا عن الإشكال ، وقال بعض آخر بأنّ الأجزاء محكومة بالوجوب الغيري بعنوان المقدّمة.

وأمّا إن كان الداعي بالمعنى الذي ذكرناه فلا إشكال في تعلّق الأمر بالأجزاء والشرائط ، فإنّ المحرّك والداعي الإلهي إذا وجد في النفس كما يدعو إلى المتعلّق يدعو إلى جميع ما يتوقّف عليه المتعلّق أيضا ، بلا فرق بين كون الداعي خوفا من العقاب أو طعما في الجنّة أو وجدان الله تعالى أهلا للعبادة ؛ إذ المكلّف يرى أنّ خوفا من العقاب كما يدعو إلى أصل الصلاة كذلك يدعو إلى كلّ ما له دخل في تحقّقها ، وكما أنّ ترك أصل الصلاة موجب لترتّب العقاب كذلك ترك تحصيل الطهارة موجب لترتّب العقاب ، وأنّ شكر المنعم والعبادة لا يتحقّق بدون الشرائط وجميع الأجزاء ، وهكذا.

إذا عرفت هذه المقدّمات فنقول : ما هو الحقّ في الإجابة عمّا ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره؟ ومحصّل كلامه : أنّ قصد الأمر إن اخذ في المتعلّق بعنوان الشرطيّة لا يكون المكلّف قادرا على إتيان المأمور به بداعي الأمر المتعلّق به ، فإنّ المأمور به بدون قيد الداعي لا يكون متعلّقا للأمر ، وإن اخذ بعنوان الجزئيّة فمعناه أنّ الأمر كما يكون داعيا إلى أصل المأمور به كذلك يكون داعيا إلى أجزائه ، ومن الأجزاء نفس داعي الأمر ، ويلزم من ذلك أن يكون داعي الأمر محرّكا ومحرّكا إليه. وكلا الفرضين مستحيل ؛ إذ لو كان الأمر داعيا لا ينفكّ عن الامتثال الخارجي ، فإنّ الداعي بمنزلة العلّة ، والعلّة لا تنفكّ عن المعلول.

والجواب عن فرضه الأوّل : أنّه سلّمنا أنّ قصد القربة إن كان بالمعنى الذي ذكرته فليس المكلّف قادرا على الامتثال ، وأمّا إن كان قصد القربة والداعويّة

٥٤٦

بالمعنى الذي ذكرناه فلا إشكال في البين بوجه ، ولا مانع من قول الشارع بأنّ الصلاة تجب عليكم ، أو أقيموا الصلاة بشرط أن يكون الإتيان بها بإحدى الدواعي الإلهيّة المذكورة ، والمكلّف أيضا قادر في مقام الامتثال على إتيانها كذلك.

وأمّا الجواب عن فرضه الثاني فإنّ الأمر متعلّق بجزءين أحدهما : عبارة عن الصلاة ، والآخر : عبارة عن إحدى الدواعي الإلهيّة المذكورة ، وإن كان كذلك فكيف يلزم أن يكون الداعي داعيا إلى نفسه بعد أن لا يكون الأمر داعيا أصلا؟! فلا استحالة في كلا الفرضين.

وأمّا قوله بأنّ القصد يكون بمعنى الإرادة وهي ليست من الامور الاختياريّة ، فلذا لا يمكن أخذ قصد الامتثال في المتعلّق ، فجوابه : أنّه لا شكّ في أنّ الإرادة ـ كما مرّ وسيأتي أيضا في المباحث الآتية ـ أنّها تكون من الامور الاختياريّة ، وأنّ نفس الإنسان بواسطة عناية الرحمن كانت مظهرة لخلّاقيّة الله تعالى بالنسبة إلى الإرادة ، وإن شككنا في اختياريّة الإرادة فلا بدّ من التشكيك في الأفعال أيضا.

وأجاب المحقّق الحائري قدس‌سره (١) صاحب الكفاية بجوابين ، ومحصّل جوابه الأوّل أنّه ذكر في الابتداء بعنوان المقدّمة : أنّ متعلّق الحكم سواء كان حكما تكليفيّا أو وضعيّا على قسمين : أحدهما : ما ليس للقصد دخل في تحقّقه أصلا ، بل لو صدر عن الغافل لصدق عليه عنوانه ، مثل عنوان الإتلاف في قاعدة «من أتلف مال الغير فهو له ضامن».

وثانيهما : ما يكون قوامه في الخارج بالقصد كالتعظيم والإهانة وأمثالهما.

__________________

(١) درر الفوائد ١ : ٩٥ ـ ٩٧.

٥٤٧

ثمّ قال : إذا تمهّد هذا فنقول : لا إشكال في أنّ ذوات الأفعال والأقوال الصلاتيّة ـ مثلا ـ من دون إضافة قصد إليها ليست محبوبة ولا مجزية قطعا ، فإنّها كانت من قبيل القسم الثاني ، فحقيقة العبادة عبارة عن التعظيم والخضوع والخشوع لله تعالى ، إلّا أنّ الإنسان قد يدرك عباديّة بعض الأعمال ـ كالسجود لله تعالى ـ فإنّها عند العرف والعقلاء أعلى درجة التعظيم والخضوع والخشوع لله سبحانه. ولا يدرك عباديّة البعض الآخر ؛ لقصور إدراكه كالصوم ، بناء على كونه عبارة عن التروك والإمساك ، وكالهيئة المركّبة من الأفعال والأقوال باسم الصلاة ، ويكون إدراكه والتفاته في هذه المواد موقوفا على إعلام الشارع ، فلا بدّ من إعلامه أوّلا بما يتحقّق به تعظيمه ثمّ يأمره به ، وحينئذ لا مانع من قوله تعالى : أيّها الناس يجب عليكم إقامة الصلاة المقرونة بقصد عنوانها الذي هو عنوان التعظيم والخضوع والخشوع ؛ إذ من الممكن كون صدور الصلاة المقرونة بقصد العنوان من العبد كان محبوبا للمولى ومحقّقا للعباديّة ، سواء اخذ قصد العنوان في المتعلّق بعنوان الشرطيّة أو الشطريّة ، وليس هذا المعنى ممّا يتوقّف تحقّقه على قصد الأمر حتّى يلزم محذور الدور.

واستشكل عليه المرحوم البروجردي قدس‌سره (١) بأنّ هذا ينافي لما اعتبره الفقهاء في مسألة النيّة في كتاب الصلاة من أنّ المعتبر في النيّة أمران : أحدهما : قصد عنوان الصلاة ، وثانيهما : قصد القربة ، فملاك العباديّة قصد القربة لا قصد العنوان.

ولكنّه قابل للجواب وهو مبتن على مقدّمة استفدناها منه قدس‌سره وكتبناها في

__________________

(١) نهاية التقرير ١ : ٣٠١ ـ ٣٠٢.

٥٤٨

كتاب نهاية التقرير على ما ببالي ، وهي : أنّ قصد القربة مع كونه ملاكا لعباديّة العبادات لم يذكر اعتباره في الآية والرواية ، إنّما ذكر في الروايات ما هو مضادّ لقصد القربة ، وحكم ببطلان ما اقترن مع أحد الأضداد كالرياء ـ مثلا ـ كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: «أنا خير شريك ، من أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلّا ما كان لي خالصا» (١).

وإذا كان الأمر كذلك فنقول : إنّه لا شكّ في عدم تفاوت الصلاة المقرونة بالرياء مع الصلاة المقرونة بقصد القربة من حيث صورة العمل ، والفرق بينهما في الأمر القلبي الذي عبّرنا عنه بالداعي.

وبالنتيجة إن كان إتيان الصلاة بقصد عنوان العباديّة فلا محالة تقع بقصد القربة ، وإن كان فاقدا لقصد العنوان فلا محالة تقع رياء ، فيكون بين قصد القربة وقصد العنوان ملازمة من حيث الوجود ، وإن كان الظاهر من اعتبار الأمرين في كلام الفقهاء عدم الملازمة ، ولكن نحن نرى تحقّق الملازمة بينهما خارجا بالوجدان.

ولكن نشكل على كلام المحقّق الحائري قدس‌سره من جهة اخرى ، وهي : أنّ هذا ليس جوابا عمّا ذهب إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره ، فإنّه بعد القول بالاستحالة بالغير يبتنى كلامه على أمرين : أحدهما : أنّ قوام العباديّة وامتياز الواجب التعبّدي عن التوصّلي بسبب قصد القربة ، كما قال به المشهور. وثانيهما : أن يكون قصد القربة بمعنى قصد الأمر وداعويّة الأمر.

وصرّح في ذيل كلامه بأنّه إن كان قصد القربة بمعنى إتيان العمل بداعي المحبوبيّة أو بداعي كونه ذا مصلحة أو بداعي كونه حسنا فلا مانع من كونه

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٩٥ ، الحديث ٩.

٥٤٩

داخلا في المتعلّق.

وأمّا المحقّق الحائري قدس‌سره فقد أنكر مبناه الأوّل وقال : إنّ الملاك في العباديّة عبارة عن الخصوصيّة الموجودة في نفس العمل ـ أي التعظيم والخضوع والخشوع لله ـ وذلك قد يستفاد من ذات العمل كالسجود ، وقد يحتاج إلى هداية الشارع ، ولذا إن قصد هذا العنوان تتحقّق العباديّة ، ومن البديهي أنّ هذا لا يكون جوابا عنه بل هو تغيير للمبنى.

ويمكن أن يتوهّم أنّ هذا الإشكال بعينه يرد على ما اخترناه تبعا للإمام والمرحوم البروجردي قدس‌سرهما ، إلّا أنّا ننكر مبناه الثاني ، وقلنا : إنّ الداعي عبارة عن إحدى الامور الإلهيّة وأنكرنا الداعويّة للأمر ، فالإشكال مشترك الورود.

وجوابه : أنّ داعويّة الأمر عندنا غير معقولة ومستحيلة ، وأمّا المحقّق الحائري فقد استظهر أن يكون الملاك في العباديّة عبارة عن الخصوصيّة المذكورة ، ومعلوم أنّ الاختلاف في الصورة الثانية مبنائي بخلاف الاولى.

وأمّا الجواب الثاني الذي ذكره المحقّق الحائري قدس‌سره على كلام صاحب الكفاية قدس‌سره في المقام فهو أيضا متوقّف على مقدّمة ، وهي : أنّ الواجب على قسمين : الأوّل : الواجب الغيري ، وهو ما يتعلّق الوجوب ابتداء بغيره ثمّ يسري إليه ، ولا يترتّب على تركه استحقاق العقوبة ، مثل وجوب المقدّمة.

الثاني : الواجب النفسي وهو أيضا على قسمين : الواجب النفسي للنفس ، وهو ما يكون الوجوب متعلّقا به لنفسه ويترتّب على تركه استحقاق العقوبة ، والواجب النفسي للغير وهو ما يترتّب على تركه استحقاق العقوبة ، مع أنّه لا موضوعيّة له ، بل إنّما يكون لمراعاة حصول الغير في زمانه ، مثل وجوب التعلّم للعمل بالأحكام الشرعيّة ، فإنّه واجب نفسي للغير ، ومثل وجوب الغسل قبل

٥٥٠

الفجر في شهر رمضان ، فإنّ وجوبه نفسي لا مقدّمي ؛ إذ الأمر به متعلّق قبل الأمر بالصوم، ومعلوم أنّه لا معنى لوجوب المقدّمة قبل وجوب ذي المقدّمة.

إذا عرفت هذا فنقول : الفعل المأمور به مركّب من ثلاثة أجزاء : الصلاة وعدم الدواعي النفسانيّة ووجود الداعي الإلهي ، أو أنّ المأمور به مشروط بالشرط المركّب من جزءين ـ أعني : عدم الدواعي النفسانيّة وثبوت الداعي الإلهي ـ ومن البديهي أنّ وجود الداعي الإلهي ملازم لعدم الدواعي النفسانيّة وبالعكس ، ولا يمكن عدمهما ولا اجتماعهما ، فالأمر متعلّق بالجزءين أو بالمشروط والجزء الأوّل من الشرط ـ أي الصلاة وعدم الدواعي النفسانيّة ـ وكان تعلّق الأمر بهما للغير ـ يعني لتحقّق الداعي الإلهي ـ وهو يتحقّق بالملازمة ، والمفروض أنّ القدرة على التكليف تعتبر في ظرف الامتثال وإن حصلت بنفس الأمر ، فالصلاة المقيّدة بعدم صدورها عن الدواعي النفسانيّة متعلّقة للأمر من دون ضمّ قيد داعي الأمر ، والداعي الإلهي إليها ، فلا مانع منه ولا يلزم الدور. هذا محصّل كلام المحقّق الحائري قدس‌سره (١).

ويرد عليه : أوّلا : بأنّ هذا بعيد عن الواقعيّة ، فإنّ ازدياد جزء في المأمور به أو نقصه عنه ليس في اختيارنا حتّى يستفاد من هذا الطريق لحلّ العقدة هاهنا ، مع أنّا لا نرى في كلمات فقيه من الفقهاء احتمال كون وجوب الصلاة للغير ، فضلا عن القائل به ، فهذا الكلام أشبه بالتخيّل ولا يناسب الفقه.

وثانيا : ذكرنا فيما تقدّم أنّ كون قصد القربة بمعنى داعي الأمر من أساسه أمر غير معقول ، وأنّ الداعي أمر من الامور النفسانيّة المذكورة التي تتفاوت بحسب درجات العبوديّة.

__________________

(١) درر الفوائد ١ : ٩٥ ـ ٩٧.

٥٥١

وثالثا : على فرض تسليم إتيان الصلاة بداعي الأمر المتعلّق بها لا ضرورة لإتيان الدواعي غير الإلهيّة بداعي الأمر ، فإن لم يمكن إتيان داعي الأمر بداعويّة نفسه ففي ناحية عدم الدواعي النفسانيّة على فرض الإمكان لا ضرورة تقتضي إتيانه بداعي الأمر ، فهذا الجواب أيضا ليس بتامّ.

وآخر ما تعرّضنا له من الأجوبة على كلام صاحب الكفاية قدس‌سره ما قال به صاحب المحاضرات (١) وهو مبتن على مقدّمتين :

الاولى : أنّ تصوير الواجب التعبّدي على أنحاء : الأوّل : أن يكون تعبّديّا بكافّة أجزائه وشرائطه. الثاني : أن يكون تعبّديّا بأجزائه مع بعض شرائطه.

الثالث : أن يكون تعبّديّا ببعض أجزائه دون بعضها الآخر.

أمّا النحو الأوّل فالظاهر أنّه لا مصداق له خارجا ، ولا يتعدّى عن مرحلة التصوّر إلى الواقع الموضوعي.

وأمّا النحو الثاني فهو واقع كثيرا في الخارج ، حيث إنّ أغلب العبادات الواقعة في الشريعة المقدّسة الإسلاميّة من هذا النحو ، منها الصلاة ـ مثلا ـ فإنّ أجزاءها بأجمعها أجزاء عباديّة ، وأمّا شرائطها فجملة كثيرة منها غير عباديّة ، وذلك كطهارة البدن والثياب واستقبال القبلة وما شاكل ذلك فإنّها رغم كونها شرائط للصلاة تكون توصّليّة وتسقط عن المكلّف بدون قصد التقرّب.

نعم ، الطهارات الثلاث خاصّة تعبّديّة ، فلا تصحّ بدونه ، وأضف إلى ذلك أنّ تقييد الصلاة بتلك القيود أيضا لا يكون عباديّا ، فلو صلّى المكلّف غافلا عن طهارة ثوبه أو بدنه ثمّ انكشف كونه طاهرا صحّت صلاته ، مع أنّ المكلّف غير قاصد للتقييد ، فضلا عن قصد التقرّب به ، فلو كان أمرا عباديّا لوقع فاسدا ؛

__________________

(١) محاضرات في الفقه ٢ : ١٦٢ ـ ١٦٨.

٥٥٢

لانتفاء القربة به ، بل الأمر في التقيّد بالطهارات الثلاث أيضا كذلك ، ومن هنا لو صلّى غافلا عن الطهارة الحدثيّة ، ثمّ بان أنّه كان واجدا لها صحّت صلاته ، مع أنّه غير قاصد لتقيّدها بها ، فضلا عن إتيانه بقصد القربة ، وهذا ظاهر.

وأمّا النحو الثالث ـ وهو ما يكون بعض أجزائه تعبّديّا وبعضها الآخر توصّليّا ـ فهو أمر ممكن في نفسه ولا مانع منه ، إلّا أنّا لم نجد لذلك مصداقا في الواجبات التعبّديّة الأوّلية ، كالصلاة والصوم وما شاكلها حيث إنّها واجبات تعبّديّة بكافّة أجزائها ، ولكن يمكن فرض وجوده في الواجبات العرضيّة ، وذلك كما إذا افترضنا أنّ واحدا ـ مثلا ـ نذر بصيغة شرعيّة الصلاة مع إعطاء درهم لفقير على نحو العموم المجموعي ، بحيث يكون المجموع بما هو مجموع واجبا ، وكان كلّ منهما جزء الواجب ، فعندئذ بطبيعة الحال يكون مثل هذا الواجب مركّبا من جزءين أحدهما : تعبّدي وهو الصلاة ، وثانيهما : توصّلي وهو إعطاء الدرهم ، وكذلك يمكن وجوب مثل هذا المركّب بعهد أو يمين أو شرط في ضمن عقد أو نحو ذلك.

المقدّمة الثانية : أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب من عدّة امور ينحلّ بحسب التحليل إلى الأمر بأجزائه وينبسط على المجموع ، فيكون كلّ جزء منه متعلّقا لأمر ضمني ومأمورا به بذلك الأمر الضمني ، فينحلّ الأمر الاستقلالي إلى عدّة أوامر ضمنيّة حسب تعدّد الأجزاء.

ولكنّ هذا الأمر الضمني الثابت للأجزاء لم يثبت لها على نحو الإطلاق ، مثلا : الأمر الضمني المتعلّق بالقراءة لم يتعلّق بها على نحو الإطلاق ، بل تعلّق بحصّة خاصّة منها ، وهي ما كانت مسبوقة بالتكبيرة وملحوقة بالركوع ، وكذلك الحال في الركوع والسجود ونحوهما ، ولذا لا يتمكّن المكلّف من

٥٥٣

الإتيان بالركوع ـ مثلا ـ بقصد أمرها بدون قصد الإتيان بالأجزاء الباقية. هذا إذا كان الواجب مركّبا من جزءين أو أزيد وكان كلّ جزء أجنبيّا عن غيره وجودا وفي عرض الآخر.

وأمّا إذا كان الواجب مركّبا من الفعل الخارجي وقصد أمره الضمني فالأمر المتعلّق بالمركّب ينحلّ إلى الأمر بكلّ جزء جزء منه ، وعليه فكلّ من الجزء الخارجي والجزء الذهني متعلّق للأمر الضمني ، غايته أنّ الأمر الضمني المتعلّق بالجزء الخارجي تعبّدي فيحتاج سقوطه إلى قصد امتثاله ، والأمر الضمني المتعلّق بالجزء الذهني توصّلي ، فلا يحتاج سقوطه إلى قصد امتثاله ، وقد سبق أنّه لا محذور في أن يكون الواجب مركّبا من جزء تعبّدي وجزء توصّلي.

إذا عرفت هاتين المقدّمتين فنقول : إنّه لا مانع من أن يكون مثل الصلاة وما شاكلها مركّبة من هذه الأجزاء الخارجيّة مع قصد أمرها الضمني أو مقيّدا بقصد أمرها الضمني ، وعليه فبطبيعة الحال أنّ الأمر المتعلّق بها ينحلّ إلى الأمر بتلك الأجزاء وبقصد أمرها كذلك ، فيكون كلّ منها متعلّقا لأمر ضمني ، وعندئذ إذا أتى المكلّف بها بقصد أمرها الضمني فقد تحقّق الواجب وسقط ، وقد عرفت أنّ الأمر الضمني المتعلّق بقصد الأمر توصّلي ، فلا يتوقّف سقوطه على الإتيان به بقصد امتثال أمره. هذا تمام كلامه بتصرّف.

ولا يخفى أنّ هذا الجواب مبتن على أمرين ، فإن كان كلاهما أو أحدهما مخدوشا فلا يكون الجواب في محلّه :

أحدهما : عبارة عن الانحلال المذكور ، وسيأتي تفصيل الكلام في مبحث مقدّمة الواجب بأنّ أجزاء المركّب هل تكون من مقدّماته أو عينه؟ وأنّ الأمر المتعلّق بالمركّب ينحلّ إلى الأوامر المتعدّد حسب تعدّد الأجزاء؟ أو أنّ الأمر

٥٥٤

يلاحظ في عالم الاعتبار المركّب من الأجزاء المختلفة الحقائق شيئا واحدا ثمّ يجعله متعلّقا للأمر؟ وما نقول هاهنا : إنّ هذا الأمر ليس من الامور المسلّمة ، بل يكون قابلا للبحث والمناقشة.

وثانيهما : عبارة عن كون قصد القربة بمعنى داعي الأمر كما قال به صاحب الكفايةقدس‌سره وقد ذكرنا فيما تقدّم أنّ هذا أمر غير معقول ؛ إذ لو كان الأمر داعيا إلى المتعلّق فلا ينفكّ عن الامتثال ، بل الداعي عبارة عن إحدى الدواعي الإلهيّة المذكورة والأمر محقّق الموضوع فقط.

على أنّ هذا الجواب ليس من ابتكاراته ، بل استفاده من ذيل كلام صاحب الكفاية ، وما نبحثه الآن ويرتبط بعنوان المسألة ، هو أنّه هل يمكن للشارع أخذ قصد القربة في المتعلّق بعنوان الجزئيّة أو الشرطيّة أم لا؟

قال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : إنّه «لا يمكن أخذ قصد القربة بمعنى داعي الأمر في المتعلّق والمأمور به ، لا بعنوان الجزئيّة ولا بعنوان الشرطيّة».

ثمّ قال : إن قلت : نعم ، هذا كلّه إذا كان اعتباره في المأمور به بأمر واحد ، وأمّا إذا كان بأمرين تعلّق أحدهما بذات الفعل وثانيهما بإتيانه بداعي أمره ـ أي قال الشارع : أيّها الناس ، يجب عليكم إتيان الصلاة المأمور بها بالأمر الأوّل بداعي الأمر ، ومن المعلوم أنّ الأمر المتعلّق بذات الفعل أمر تعبّدي ، والأمر الثاني المتعلّق بإتيانه بداعي أمره أمر توصّلي ، يعني لا يلزم أن يكون مقرونا بقصد القربة ـ فللآمر أن يتوسّل بتعدّد الأمر في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده بلا منعة.

وأمّا في مقام الجواب عن هذا فأجاب بجوابين : الأوّل : أنّه ليس لنا في

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١١٠ ـ ١١١.

٥٥٥

الشريعة المقدّسة عبادة تعلّق بها أمران : أحدهما : بذات العبادة ، والآخر : بقصد القربة ، فهذا لا ينطبق مع الواقعيّة. الثاني : أنّ الأمر المتعلّق بالصلاة ـ مثلا ـ إمّا تعبّدي وإمّا توصّلي وإمّا مشكوك التعبّديّة والتوصّليّة ، فإن كان تعبّديّا فمعناه عدم حصول الغرض والامتثال بدون قصد القربة ، فلا نحتاج إلى الأمر الثاني ، وإن كان توصّليّا فمعناه حصول الامتثال والغرض بدون قصد القربة فلا نحتاج أيضا إلى الأمر الثاني ، مع أنّ هذا خلاف الفرض ، وإن كان مشكوك التعبّديّة والتوصّليّة فالعقل يحكم برعاية قصد القربة في مقام الامتثال من باب الاحتياط وحصول الغرض يقينا ، فلا نحتاج إلى الأمر الثاني أيضا. هذا تمام كلامه في مقام الجواب بتوضيح منّا.

ولكنّ هذا الجواب من أوّله إلى آخره مخدوش ، فإنّ جوابه الأوّل خرج عن محلّ البحث ـ يعني مقام الثبوت إلى مقام الإثبات والوقوع الخارجي ـ إذ البحث في أنّه هل يجوز للشارع أن يأخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر أو يستحيل مع أنّ تحقّق الأمرين المتعلّقين أحدهما بذات العبادة والآخر بقصد القربة لا يكون قابلا للإنكار ؛ إذ سلّمنا أنّه ليس في رديف الأمر بالصلاة ـ مثلا ـ الأمر بقصد القربة ، ولكنّ الأمر الضمني المستفاد من النهي عمّا يضادّ قصد القربة ـ إذ هي من الدواعي غير الإلهيّة التي توجب البطلان ـ متحقّق قطعا ، ولا يلزم توجّه الأمر إلى عنوان قصد القربة صريحا ، بل يكفي تحقّق الأمر الضمني المستفاد من النهي أيضا.

وأمّا جوابه الثاني فهو مخدوش : أوّلا بأنّه انسدّ طريق استكشاف العباديّة رأسا ، فإنّ بعد انسداد طريق تبيين الشارع بالقول ـ بأنّه لا يمكن له أخذ قصد القربة في المتعلّق لا بأمر واحد ولا بأمرين ـ ليس لنا طريق لاستكشاف

٥٥٦

عباديّة الواجبات ، مع أنّه معترف بتحقّق الواجبات التعبّديّة ، ونحن نرى أنّ صلاة الميّت ـ مثلا ـ تحتاج إلى قصد القربة بخلاف دفنه ، فما المانع من بيان الشارع العباديّة والتوصّليّة مثل بيانه شرطيّة الطهارة وجزئيّة فاتحة الكتاب بقوله : «لا صلاة إلّا بطهور» (١) ، و «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (٢) بعد كون العقول عاجزة عن درك هذه المسائل قطعا ، فلا يسلّم انسداد يد الشارع بالنسبة إلى تبيين قصد القربة.

وأمّا قوله : «إن أحرز عباديّة العمل فلا يبقى مجال للأمر الثاني ؛ لحصول الغرض بموافقة الأمر الأوّل ، وإن شكّ في العباديّة فالعقل يحكم مستقلّا من باب قاعدة الاشتغال برعاية قصد القربة» فهو مخدوش من جهات :

الاولى : أنّ مع قطع النظر عن بيان الشارع يمكن أن يكون المكلّف غافلا عن التعبّديّة والتوصّليّة ، ويمكن أن يكون قاطعا بالتوصّليّة مع كون العمل في الواقع عباديّا ، وعلى فرض كون المكلّف في العبادات إمّا قاطعا في التعبّديّة وإمّا شاكّا في التعبّديّة والتوصّليّة ، وفي صورة الشكّ حكم العقل برعاية قصد القربة ، ولكنّه لا يكون من الأحكام الفطريّة العقليّة ، مثل حكمه بالفطرة على وجود الصانع ، بل كان من قبيل حكم العقل في باب الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ؛ بأنّه يدّعي البعض حكم العقل بالاشتغال والبعض الآخر حكمه بالبراءة ، ولذا يدّعي البعض أنّ العقل يحكم برعاية قصد القربة والبعض الآخر يدّعي خلافه.

الثانية : لو سلّمنا اتّفاق العقول جميعا في الحكم برعاية قصد القربة في مورد

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣١٥ ، الباب ٩ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث ١.

(٢) المستدرك ٤ : ١٥٨ ، الباب ١ من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث ٥.

٥٥٧

الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة ، وهكذا اتّفاقهم في باب الأقلّ والأكثر الارتباطيّين في الحكم بالاشتغال ورعاية الأجزاء والشرائط.

ففيه : أوّلا : إنّا نرى تبيين الشارع لسائر الأجزاء والشرائط مثل قوله : «لا صلاة إلّا بطهور» و «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ، وهكذا ، فما الفارق بينها وبين قصد القربة؟ الذي أوجب استحالة بيان الشارع في قصد القربة بخلاف سائر الأجزاء والشرائط ، مع أنّ حكم العقل في الجميع سواء.

وثانيا : أنّ نتيجة اتّفاق العقول في الحكم عدم الاحتياج إلى بيان الشارع لا الاستحالة ، فهذا الدليل لا ينطبق مع المدّعى ، أي ادّعاء عدم إمكان أخذ قصد القربة في المتعلّق ، لا من طريق أمر واحد ولا من طريق أمرين ، مع أنّا نرى بيان عدّة من الأحكام التحريميّة والوجوبيّة من ناحية الشارع في موارد حكم العقل بقبحها أو حسنها ، مثل : «الظلم قبيح» و «الإحسان حسن» ، بل الملازمة بين حكم العقل والشرع ، وقاعدة «كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع» أقوى دليل على عدم صحّة القول بعدم الاحتياج إلى بيان الشارع في مورد حكم العقل.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) بعد القول باستحالة أخذ قصد القربة في المتعلّق قال : هذا كلّه إذا كان التقرّب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال ، وأمّا إذا كان بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه أو كونه ذا مصلحة أو له تعالى ، فاعتباره في متعلّق الأمر وإن كان بمكان من الإمكان إلّا أنّه غير معتبر فيه قطعا ؛ لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال الذي عرفت عدم إمكان أخذه فيه.

ويمكن أن يتوهّم في بادئ النظر أنّه ليس للدليل ـ أي لكفاية الاقتصار ـ

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١١٢.

٥٥٨

دلالة على المدّعى ـ أي أنّه غير معتبر فيه قطعا ـ بل كما يكفي قصد القربة بمعنى قصد الامتثال كذلك يكفي بمعنى إحدى الامور الثلاثة المذكورة.

ولبعض المحشّين بيان لتوضيح ذلك ؛ بأنّ كلّ واحد من الامور المذكورة إمّا يعتبر تعيينيّا أو يعتبر تخييريّا بينه وبين قصد الامتثال ، والأوّل باطل قطعا ؛ لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال في مقام العمل بلا خلاف ، والثاني باطل أيضا ؛ إذ التخيير إن كان متحقّقا هاهنا فلا بدّ من كونه تخييريا شرعيّا ، وهو ما كان جميع أطراف التخيير قابلا لتعلّق الأمر بها ، فلا معنى للتخيير الشرعي بعد إثبات استحالة أخذ قصد القربة بمعنى قصد الامتثال في المتعلّق.

ولا يخفى أنّ التفصيل المذكور بين قصد القربة بمعنى قصد الأمر وبإحدى المعاني الثلاثة ليس بصحيح ، بل يرد على قصد القربة بهذه المعاني مثل ما ورد عليه بمعنى قصد الأمر.

توضيح ذلك : أنّك قلت : لو كانت الصلاة المقيّدة بداعي الأمر متعلّقة للأمر لا يكون المكلّف قادرا على إتيان الصلاة بداعي الأمر ، فإنّ ذات الصلاة ليست مأمورا بها.

قلنا : إنّ هذا الإيراد بعينه يجري في هذه المعاني ؛ بأنّه لو كانت الصلاة المقيّدة بداعي الحسن ـ مثلا ـ متعلّقة للأمر لما كان المكلّف قادرا على الامتثال ، فإنّ ذات الصلاة لا تكون حسنا فكيف يمكن له إتيان الصلاة بداعي الحسن؟! وهكذا في صورة كون الصلاة المقيّدة بكونها ذات مصلحة أو بكونها لله تعالى متعلّقة للأمر.

وأمّا قولك : إن اخذ قصد الأمر في المتعلّق بعنوان الجزئيّة يلزم أن يكون الأمر داعيا إلى داعويّة نفسه ، وهذا غير معقول.

٥٥٩

فنقول : إنّه لو كانت الصلاة المركّبة من داعي الحسن مأمورا بها يلزم أن يكون الحسن داعيا إلى داعويّة نفسه ، وهذا أيضا غير معقول ، وهكذا في صورة كون الصلاة المركّبة من داعي المصلحة أو كونها لله تعالى مأمورا بها.

والحاصل ممّا ذكرنا : أنّ أخذ قصد القربة في المتعلّق ـ سواء كان بمعنى داعي الأمر أو إحدى المعاني الأخر ـ لا مانع منه.

البحث الثالث : في أنّه هل يمكن التمسّك بإطلاق الصيغة عند الشكّ في العباديّة والتوصّليّة لاستكشاف أحد الأمرين أم لا؟ والكلام هاهنا يقع في مقامين : المقام الأوّل في الأدلّة اللفظيّة ، والثاني في الاصول العمليّة.

وكان لصاحب الكفاية قدس‌سره (١) في المقام الأوّل كلام يحتاج إلى توضيح ، وهو أنّه بعد القول بأنّ قصد القربة يكون بمعنى قصد الأمر وهو لا يكون قابلا للأخذ في المتعلّق ، لا بنحو الجزئيّة ولا بنحو الشرطيّة ، لا بأمر واحد ولا بأمرين. قال : «لا مجال للتمسّك بالإطلاق لإثبات التوصّليّة ، بمعنى أنّه لو شككنا في جزئيّة شيء أو شرطيّته ـ كالسورة أو الطهارة مثلا ـ يمكننا التمسّك بإطلاق (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) بعد تماميّة مقدّمات الحكمة ، أي كون المولى في مقام البيان ، وعدم نصبه القرينة على التقييد ، وعدم كون القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، فيستفاد منها عدم الجزئيّة أو الشرطيّة.

وأمّا في مورد الشكّ في دخالة قصد القربة ـ بمعنى قصد الأمر الذي لا يمكن أخذه في المتعلّق ـ فلا يجوز التمسّك بأصالة الإطلاق ؛ لأنّ الإطلاق والتقييد من باب العدم والملكة ، وهما يحتاجان إلى الموضوع القابل ، أي الإطلاق عبارة عن عدم التقييد في المورد الذي يمكن التقييد فيه ، وإذا ثبت عدم إمكان تقييد

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١١٢.

٥٦٠