دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

الجهة الثالثة

في أنّ مفاد الأمر عبارة عن خصوص الطلب الوجوبي أو أعمّ منه؟

حكى صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أدلّة عن القائلين بالأعمّ وأجابها ، والمهمّ منها :أنّ تقسيم الأمر إلى الإيجاب والاستحباب بقولهم : الأمر إمّا للوجوب وإمّا للاستحباب يدلّ على كون الموضوع له هو الأعمّ ؛ إذ لا بدّ في صحّة التقسيم من وجود المقسم في جميع الأقسام ، فكما أنّ الأمر يطلق على الطلب الوجوبي على نحو الحقيقة كذلك يطلق على الطلب الاستحبابي على نحو الحقيقة.

وجوابه : أنّ التقسيم المذكور لا يدلّ على أزيد من استعمال الأمر المقسم في المعنى الأعمّ ، وأمّا دلالته على المدّعى ـ وهو كون هذا الاستعمال على نحو الحقيقة ـ فممنوعة ؛ إذ يمكن أن يكون على سبيل المجاز ؛ لعدم الملازمة بين صحّة الاستعمال في معنى وبين كونه على نحو الحقيقة ، كما صرّح به المحقّقون في مقابل السيّد المرتضى قدس‌سره.

ولا يقال : إنّا نتمسّك بأصالة الحقيقة ، فإنّ هذا الأصل يجري فيما كان مراد المتكلّم مشكوكا ، وأمّا إذا كان مراده معلوما وشككنا في كيفيّة الاستعمال

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٩٢.

٤٦١

ـ مثل ما نحن فيه ـ فنقطع بعدم جريانه ، ولا أقلّ من الشكّ ، وهو يكفي في عدم جريانه ؛ إذ لا بد من إحراز مورد جريان الأصل العقلائي. كما لا يخفى.

واستدلّ المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) على كون الأمر حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي بأدلّة متعدّدة :

منها : التبادر ، وهو أمر وجداني لا يمكن الاستدلال به له ، ولذا أنكره بعض كالمحقّق العراقيّ قدس‌سره (٢) ، ولكنّ مراجعة الاستعمالات العرفيّة تؤيّد التبادر المذكور في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره ، بل هو دليل مهمّ في المقام ، ولعلّه هو الدليل المنحصر هاهنا.

ومنها : قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٣) ، والاستدلال مبتن على ما سيأتي إثباته من أنّ دلالة هيئة «افعل» على الوجوب ، فتقريبه على هذا : أنّه تعالى هدّد وحذّر مخالف الأمر بأنّه يجب على مخالف الأمر الحذر من إصابة الفتنة أو العذاب الأليم ؛ إذ لا معنى لندب الحذر أو إباحته ، فيدلّ ترتّب وجوب الحذر على مطلق مخالفة الأمر على أنّ الأمر حقيقة في الوجوب.

ويمكن أن يقال : إنّ في الآية قرينة على دلالة الأمر على الوجوب ، وهي عبارة عن إضافة الأمر إلى الله تعالى ، وهذا لا يناسب المدّعى من أنّ الأمر مطلقا مساوق للطلب الوجوبي ، ولعلّه كان دليلا لجعلها مؤيّدا في الكفاية.

وأورد عليه أيضا المحقّق العراقي قدس‌سره (٤) ، وبيان الإيراد متوقّف على ذكر مقدّمة

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٩٢.

(٢) نهاية الأفكار ١ : ١٦٠ ـ ١٦٣.

(٣) النور : ٦٣.

(٤) نهاية الأفكار ١ : ١٦٢.

٤٦٢

سيأتي تفصيلها في بحث العامّ والخاصّ ، وهي : أنّه لو ورد خطاب بوجوب إكرام كلّ عالم ، وقد علم من الخارج بعدم وجوب إكرام زيد ، لكنّه يشكّ في أنّه مصداق للعالم حقيقة كي يكون خروجه عن الحكم العامّ بنحو التخصيص ، أو أنّه لا يكون مصداقا للعالم حقيقة كي يكون خروجه من باب التخصّص ، فهل تجري هاهنا أصالة العموم لإثبات عنوان الجاهل لزيد وخروجه عن الحكم بنحو التخصّص أم لا؟ والمحقّقون قائلون بعدم جريان أصالة العموم والإطلاق في مثل ذلك المورد ، فإنّ الدليل على حجّيّتهما عبارة عن السيرة وبناء العرف والعقلاء ، والقدر المتيقّن من جريانهما إنّما هو في خصوص الشكّ في المراد ، وأمّا إذا كان الشكّ في كيفيّة الاستعمال كما في ما نحن فيه فلا تجري أصالة العموم والإطلاق ، فإنّا نعلم بعدم وجوب إكرام زيد ـ مثلا ـ ونشكّ في خروجه عن الحكم بنحو التخصيص أو التخصّص ، فلا محلّ لجريان أصالة العموم.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ لفظ الأمر في الآية بلحاظ ترتّب وجوب الحذر على مخالفته محمول على الأمر الوجوبي قطعا ؛ إذ لا معنى لترتّبه على الأمر الاستحبابي بعد جواز تركه شرعا ، فلا شبهة في مراده تعالى ، وإنّما الشكّ في أنّ الأمر الاستحبابي هل يطلق عليه الأمر حقيقة وأنّه خارج عن الآية تخصيصا ـ مثل «زيد» المذكور في المثال إذا كان عالما ـ أو يطلق عليه الأمر بالعناية والمجاز وأنّه خارج عنها تخصّصا ؛ لأنّ الأمر الاستحبابي لا يكون أمرا فلا يفيد جريان أصالة الإطلاق في الآية هاهنا ؛ إذ الشكّ خارج عن مراده تعالى ومفاد الآية؟!

ومنها : قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)(١) فإنّه ورد في مقام

__________________

(١) الأعراف : ١٢.

٤٦٣

توبيخ إبليس بسبب تركه لما امر به من السجود لآدم حينما قال تعالى للملائكة : (اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ)(١) ، ومعلوم أنّه لا توبيخ إلّا في ترك الواجب ، فالأمر حقيقة في الوجوب.

يرد عليه أيضا الإشكالان المذكوران ؛ لأنّ غاية ما يستفاد من ذلك أنّ أمر الله تعالى حقيقة في الوجوب ؛ إذ يمكن أن يقال : إنّ مطلق الأمر لا يكون كذلك.

على أنّ توبيخه تعالى قرينة على كون الأمر في الآية حقيقة في الوجوب ، فلا شكّ في مراده تعالى ؛ وإنّما الشكّ في أنّ خروج الأمر الاستحبابي عن الآية هل يكون بنحو التخصيص أو التخصّص؟ ولا طريق لإثبات ذلك ، ولا تجري أصالة العموم أو الإطلاق هاهنا.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو لا أنّ أشقّ على امتي لأمرتهم بالسواك» (٢) ؛ إذ الكلفة والمشقّة لا تكون إلّا في التحريم والوجوب ، وأمّا إطلاق التكليف على الاستحباب والكراهة والإباحة فلا يخلو عن مسامحة ، فهذا التعبير دليل على أنّ الأمر في الآية حقيقة في الوجوب ، مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر مرارا بالسواك على وجه الاستحباب ، فلا بدّ من كون هذا الأمر للوجوب ، وإلّا لزم لغويّة الأمر المترتّب على المشقّة.

ولكن يرد فيه أيضا الإشكالان المذكوران ؛ إذ يمكن أن يقال : إنّ أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله حقيقة في الوجوب ، وأمّا مطلق الأمر فلا يكون كذلك.

على أنّ مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله في الرواية معلوم ، ولا طريق لإثبات أنّ خروج الأمر

__________________

(١) البقرة : ٣٤.

(٢) الوسائل ٢ : ١٧ ، الباب ٣ من أبواب السواك ، الحديث ٤.

٤٦٤

الاستحبابي عنها بنحو التخصّص أو التخصيص ، ولا تجري في المقام أصالة العموم أو الإطلاق.

ومنها : ما يقول به المحقّق العراقي قدس‌سره (١) من أنّ الإطلاق ومقدّمات الحكمة تدلّ على أنّ لمادّة الأمر ظهور في الطلب الوجوبي ، وتقريبه من وجهين ، وحاصل أحدهما : أنّ المولى إذا أمر عبده بأن قال : «جئني بحيوان» ونعلم أنّه له أنواع متعدّدة ومتباينة ، ولا يصدق أحد النوعين على فرد من أفراد النوع آخر ؛ إذ الإنسان والحمار ـ مثلا ـ نوعان متباينان ، ولا يصدق الإنسان على فرد من أفراد الحمار وبالعكس ، مع أنّهما مشتركان في الجنس بمقتضى الإطلاق وتماميّة مقدّمات الحكمة ، أي كون المولى في مقام البيان ، وعدم تحقّق القرينة للتقييد بأحد النوعين ، وعدم قدر متيقّن في مقام التخاطب على قول أنّ متعلّق غرض المولى هو الإتيان بأيّ نوع من الأنواع ، ولا دخل لنوع خاصّ فيه. وهكذا في ما نحن فيه بأنّ الطلب الاستحبابي باعتبار ما فيه من النقص أو جواز المخالفة ، أو عدم التماميّة يحتاج إلى نحو تحديد وتقييد بخلاف الطلب الوجوبي ، فكان مقتضى الإطلاق بعد كون الآمر في مقام البيان هو كون طلبه طلبا وجوبيّا لا استحبابيّا ؛ إذ الوجوب عبارة عن مطلق الطلب بلا زيادة ، والاستحباب عبارة عن الطلب المقيّد بالنقصان.

وجوابه : أوّلا بالنقض ، وثانيا بالحلّ.

وأمّا الجواب النقضي : فإنّه لا فرق على القاعدة بين أن يقول المولى : «أنا آمرك بكذا» ، و «أنا أطلب منك كذا» ، بل جريان الإطلاق في الجملة الثانية أجلى من الجملة الاولى ، ولا أقلّ من اتّحاد الجملتين من حيث الملاك ، مع أنّ

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ١٦٣.

٤٦٥

الظاهر منه قدس‌سره عدم جريان الإطلاق في الجملة الثانية.

وأمّا الجواب الحلّي فيقال : إنّ هذا الكلام غير معقول من أصله ؛ لأنّ تقسيم الطلب إلى الطلب الوجوبي والاستحبابي يأبى من أن يكون القسم عين المقسم من دون زيادة ، بل لا بدّ في المقسم من تحقّقه في القسمين بعنوان الجنس ، وفي القسم لا بدّ منه ومن أمر زائد بعنوان الفصل المميّز ، فلا يعقل أن يكون الطلب الوجوبي عبارة عن مطلق الطلب بلا زيادة ، ولذا قال المحقّقون في مقام الفرق بين اللابشرط المقسمي واللابشرط القسمي ، بأنّ اللابشرط المقسمي عبارة عن ذات الماهيّة فلذا يجتمع مع ألف شرط ، واللابشرط القسمي ما هو اللابشرطيّة من قيده ، فهذا الدليل أيضا ليس بصحيح ، فالدليل المنفرد والواحد للمسألة هو التبادر فقط.

إذا عرفت هذا فلا بدّ لنا من ذكر ما به يمتاز الوجوب من الاستحباب ، فإنّه مفيد لهذا البحث ، والبحث الآتي في هيئة «افعل» ولموارد أخر ، ولكن قبل الخوض في البحث نذكر ما يظهر من الفلاسفة بعنوان المقدّمة : من أنّ امتياز الشيئين على ثلاثة أنواع : إمّا بتمام الذات أو بجزء منها أو بأمر خارج عنها.

أمّا الأوّل فهو فيما إذا لم يشتركا أصلا أو اشتركا في أمر خارج عن ذاتهما ، كامتياز كلّ من الجوهر والعرض وأنواعهما من الآخر ، فالجوهر وأنواعه ممتازة بتمام الذات من العرض وأنواعه ، واشتراكهما في عناوين مثل الممكن والشيء خارج عن ذاتهما.

وأمّا الثاني فهو فيما إذا اشتركا في بعض الأجزاء وامتازا في بعض آخر كامتياز النوعين من جنس واحد نحو الإنسان والفرس ، فإنّهما مشتركان في الحيوانيّة وممتازان بالناطقيّة والصاهليّة.

وأمّا الثالث فهو فيما إذا اشتركا في تمام الذات كامتياز زيد عن بكر ، فإنّهما

٤٦٦

مشتركان في الإنسانيّة ، وهي تمام ذاتهما وممتازان بالعوارض المشخّصة.

وقد اختلف أهل المعقول في وجود قسم رابع وعدمه هاهنا ، والمحققون منهم قائلون بتحقّقه وهو أن يشتركا في تمام الذات والحقيقة ، إلّا أنّ الحقيقة تكون كاملة وشديدة في إحداهما وناقصة وضعيفة في الاخرى ، فيكون ما به الامتياز عين ما به الاشتراك مثل وجود الواجب والممكن ، فإنّهما مشتركان في أصل الوجود وممتازان أيضا بأصل الوجود ، إلّا أنّه في الأوّل كامل وفي الثاني ناقص ؛ إذ الأوّل لا يفتقر إلى علّة موجدة بخلاف الثاني ، ولا يتوهّم أنّ وجود الواجب مركّب من الوجود والكمال ، ووجود الممكن مركّب من الوجود والنقص ؛ إذ لا دخل في ذاتهما غير واقعيّة الوجود ، ولكن في عين اشتراكهما في هذه الواقعيّة تكون إحداهما كاملة والاخرى ناقصة ، فما به الاشتراك عين ما به الامتياز ، وما به الامتياز عين ما به الاشتراك.

وإذا تمهّدت هذه المقدّمة فنقول : قد يتخيّل أنّ الامتياز بين الوجوب والندب بجزء ذاتهما ، بأن يكونا مشتركين في الجنس وهو الطلب ، ويمتاز كلّ منهما بفصل مختصّ به ، وما يمكن أن يعدّ لهما فصلا امور :

الأوّل : أن يكون الفصل للوجوب المنع من الترك ، وللاستحباب الإذن في الترك.

وفيه : أوّلا : أنّ معنى كلمة «المنع» ليس إلّا التحريك نحو الترك ـ أعني طلب الترك ـ فإذا اضيف هذا إلى لفظ الترك صار حاصل معناه طلب ترك الترك ، وهو عبارة اخرى عن طلب الفعل المعدّ جنسا ، كما قال به المرحوم البروجردي قدس‌سره (١).

__________________

(١) نهاية الاصول ١ : ١٠٠.

٤٦٧

وثانيا : لو كان لمنع الترك دخل في ماهيّة الوجوب بعنوان الفصل فلا محالة يلتفت الإنسان إلى الترك حين الالتفات إلى الوجوب ؛ إذ لا معنى للالتفات إلى المنع من الترك بدونه ، مع أنّ الآمر والمأمور لا يلتفتان إلى الترك أصلا ، فضلا عن المنع من الترك ، فيستكشف من هذا أنّه لا دخل له في معنى الوجوب.

الثاني : أنّ الوجوب هو الطلب الموجب لاستحقاق العقوبة عند مخالفته ، والاستحباب هو الطلب الغير الموجب له.

وفيه : أنّ الوجوب بعد تحصّله وصيرورته وجوبا يصير موجبا لاستحقاق العقوبة ، فإيجاب الاستحقاق من لوازمه وآثاره لا من مقوّماته ، ولا يعقل أن يكون أثر الشيء جزء للشيء.

على أنّ الحاكم باستحقاق العقوبة هو العقل لا الشرع ، ولو كان هذا جزء مقوّما له فلا بدّ من اعتباره من ناحية الشرع ، كما لا يخفى.

الثالث : أنّ الوجوب هو الطلب المسبوق بالإرادة الشديدة ، والاستحباب هو الطلب المسبوق بالإرادة الضعيفة.

وفيه : أنّ الإرادة من العلل الباعثة على الطلب ، والمعلول بتمام ذاته متأخّر عن العلّة ، ولا يمكن أن يكون صدور المعلول عن العلّة من مقوّماته وأجزائه ، فالدليل لا ينطبق على المدّعى ؛ إذ المدّعى عبارة عن الاختلاف الذاتي بينهما ، والدليل يثبت الاختلاف في العلّة.

ولا ينافي هذا ما ذكره أهل المعقول ـ من أنّ الحرارة قد توجد بالنار وقد توجد بالشمس مثلا ، ولكن كانت للحرارة المتحقّقة بواسطة النار خصوصيّة مرتبطة بالنار ، وللحرارة المتحقّقة بواسطة الشمس خصوصيّة مرتبطة بها ، ففي الواقع يتحقّق النوعان من الحرارة ـ فإنّه صحيح ، ولكن ليس معناه الاختلاف

٤٦٨

في ذات الحرارتين ، بل المغايرة ترجع إلى الخصوصيّات المشخّصة.

الرابع : أنّ الوجوب هو الطلب المسبوق بالمصلحة الملزمة ، والاستحباب هو الطلب المسبوق بالمصلحة الراجحة الغير الملزمة.

وفيه : أنّ المصالح والمفاسد متقدّمة رتبة على الإرادة ، لكونها من عللها ، فيكون الطلب متأخّرا عن المصالح والمفاسد بمرتبتين ، فلا يصحّ عدّها من مقوّمات الوجوب والاستحباب الذين هما قسمان من الطلب.

الخامس : ما يستفاد من كلام صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في ذيل مسألة استصحاب الكلّي من القسم الثالث ، من أنّه قد لاحظنا الوجوب والاستحباب بالنظر العرفي ، وقد لاحظناهما بالنظر العقلي ، فإذا لاحظناهما بالنظر العرفي فتكون المغايرة بينهما ببعض الذات ، وإذا لاحظناهما بالنظر العقلي فتكون المغايرة بينهما بالنقص والكمال والشدّة والضعف ، فالعقل يحكم بأنّ الوجوب عبارة عن الطلب الكامل ، والاستحباب عبارة عن الطلب الناقص.

ولكنّ المرحوم البروجردي قدس‌سره (٢) بعد ذكر هذا الكلام بصورة التوهّم أشكل عليه بأنّ الأمر الإنشائي ليس قابلا للشدّة والضعف بنفسه ؛ لأنّه أمر اعتباري صرف ، وليس الامور الاعتباريّة بقابلة للتشكيك بذواتها ، فهذا النوع من التمايز ينحصر في الامور التكوينيّة والواقعيّة ، مثل الوجود ونحوه.

ولا بدّ لنا من توضيح أمرين :

أحدهما : أنّ الامور الاعتباريّة لم لا تكون قابلة للتشكيك؟ والدليل عليه أنّ الأمر الاعتباري يدور مدار اعتبار المعتبر ، فهو إمّا يتحقّق باعتبار من

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣١٤.

(٢) نهاية الاصول ١ : ١٠٠ ـ ١٠١.

٤٦٩

الشارع والعقلاء وإمّا لا يتحقّق ، ولا يتصوّر فيه النقص والكمال.

وثانيهما : أنّ الوجوب والاستحباب هل يكونان من الامور الاعتباريّة أم لا؟ ولا يخفى أن الطلب على قسمين : الطلب الحقيقي والإنشائي ، وأمّا الطلب الحقيقي فإن قلنا بعدم الفرق بينه وبين الإرادة ـ كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره ـ فهو من الأوصاف الحقيقيّة القائمة بالنفس كالعلم ، لكنّه كان من أوصاف ذات إضافة إلى الطالب والمطلوب ، فهذا القسم من الطلب يكون من الامور الواقعيّة ، إلّا أنّ هذا ليس معنى الأمر ، بل معناه عبارة عن الطلب الإنشائي ، فإنّ الإنسان يوجد مفهوم الطلب بواسطة اللفظ في عالم الاعتبار كإنشاء البيع ـ مثلا ـ بواسطة اللفظ في عالم الاعتبار ، فحينئذ كان الوجوب والاستحباب قسمين من الطلب الإنشائي.

والحاصل : أنّ الوجوب والاستحباب أمران اعتباريّان ؛ لأنّهما قسمان من الطلب الإنشائي ، فلا يكون التمايز بين الأمرين الاعتباريّين بالشدّة والضعف والنقص والكمال.

وجوابه ـ بعد قبول أنّ الوجوب والاستحباب أمران اعتباريّان ـ : أنّ عدم قابليّة الامور الاعتباريّة للتشكيك ادّعاء ليس له وجه صحيح وبرهان تامّ ، فإنّا نرى بالوجدان بعد الدقّة في الامور الاعتباريّة أنّ التشكيك فيها متحقّق ؛ إذ البيع ـ مثلا ـ قد يقع بين الطرفين الأصيلين فيعتبره الشارع والعقلاء ، وقد يقع فضولة فيعتبره الشارع والعقلاء أيضا على القول بصحّته ، فكلا البيعين أمران اعتباريّان ، والتمايز بينهما بالشدّة والضعف ، والنقص والكمال ؛ لأنّ الأوّل بيع كامل لا يحتاج إلى الإجازة اللاحقة ، وأمّا الثاني فبيع ناقص يحتاج إلى الإجازة اللاحقة من المالك ، فإن ردّه يبطل من أصله ، فلا شكّ في أنّ الأمر

٤٧٠

الاعتباري يدور مدار الوجود والعدم ، ولكنّ البحث في المقام لا يكون بين وجود الاعتبار وعدمه ، بل البحث فيما يحقّق الاعتبارين كاعتبار بيع الفضولي والأصيل ، فإنّا نرى بعد المقايسة بينهما أنّ البيع الأصيل بيع كامل غير متوقّف على شيء ، وأمّا البيع الفضولي فمع كونه صحيحا ناقص متوقّف على إجازة المالك.

وقال المرحوم البروجردي قدس‌سره (١) في مقام الفرق بين الوجوب والاستحباب بما ملخّصه : إنّ الامتياز بينهما باعتبار وجود المقارنات وعدمها ؛ إذ الأمر الإنشائي قد يقترن بالمقارنات الشديدة ـ مثل ضرب الرجلين على الأرض وتحريك الرأس واليد حين الطلب ـ فينتزع منه الوجوب ، وقد يقترن بالمقارنات الضعيفة ـ مثل أن يقول حين الطلب : وإن لم تفعل فلا جناح عليك ـ فينتزع منه الندب ، وقد لا يقترن بشيء منها أصلا فهو مختلف فيه ، فما تنتزع منه حيثيّة الوجوب أو الندب هو نفس الأمر الإنشائي بلحاظ مقارناته ، ولا دخالة لذلك في نفس حقيقة الوجوب والندب ، فيكون التشكيك فيهما بحسب المقارنات لا بحسب الذات ، فليس للطلب بنفسه وبحسب الواقع مع قطع النظر عن المقارنات قسمان، بل هو أمر واحد تختلف أفراده باعتبار ما يقترن به ، فإنّ ما تنتزع منه حيثيّة الوجوب هو نفس الطلب الإنشائي المقترن بالمقارنات الشديدة أو الأعمّ منه ومن المجرّد ، لا أنّ الوجوب شيء واقعي يستعمل فيه الطلب الإنشائي ويكون المقارن قرينة عليه ، وهكذا ما ينتزع منه الاستحباب.

وفيه أوّلا : أنّه خلط بين مقام الثبوت والإثبات ؛ لأنّ البحث عن التمايز

__________________

(١) نهاية الاصول ١ : ١٠١ ـ ١٠٢.

٤٧١

والافتراق بين المفاهيم يرتبط بمقام الثبوت ، وأمّا البحث في أنّه أين ينتزع الوجوب من صيغة «افعل» وأين لا ينتزع يرتبط بمقام الإثبات ، فالبحث في مقام الفرق بين ماهيّة الوجوب والاستحباب لا في منشأ انتزاعهما وتحقّقهما بحسب الخارج ، كالبحث عن الفرق بين ماهيّة البيع والإجارة ، فإنّا لا نبحث فيه عن تحقّقهما خارجا ، وأنّ البيع ينتزع بواسطة بعت ـ مثلا ـ أم لا ، وهكذا في ما نحن فيه.

وثانيا : أنّه لا يستفاد من كلامه أنّ التمايز بينهما بأيّ نوع من الأنواع الأربعة المذكورة ربّما يتوهّم أنّ التمايز عنده يكون بالعوارض الفرديّة والشخصيّة بعد الاشتراك في تمام الذات ، لكنّه مدفوع بأنّ الوجوب والاستحباب ماهيّتان كلّيّتان ، ولا يعقل فيهما التمايز بالخصوصيّات الفرديّة ، فإنّ هذا النوع من التمايز يختصّ بأفراد ماهيّة واحدة في مرحلة الوجود الخارجي ، ومع ذلك لا يستفاد من كلامه ما هي الذات المشتركة بينهما جنسا وفصلا.

فالتحقيق : أنّ التمايز بينهما بالنقص والكمال والشدّة والضعف ـ كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره ـ فالنقص يكون فصلا للاستحباب ، والكمال للوجوب ، مع اشتراكهما في أصل حقيقة الطلب مثل وجود الكامل والناقص ، فلا يصحّ ما قال به المحقّق العراقي قدس‌سره (١) من أنّ الوجوب كان عين الطلب من دون زيادة ، والاستحباب هو الطلب مع زيادة ، فإنّ لازم التقسيم أن يكون كلّ قسم عبارة عن المقسم مع زيادة ، فالتمسّك بالإطلاق لإثبات أن يكون مفاد الأمر هو الوجوب ليس بصحيح.

ومن هنا نرجع إلى أصل المسألة لتكميل البحث ، وقد مرّ أنّهم ذكروا لكون

__________________

(١) نهاية الأفكار : ١٦٠ ـ ١٦٣.

٤٧٢

الأمر حقيقة في الوجوب أدلّة ، وبقي منها ما اختاره بعض الأعلام وهو : أنّ العقل يدرك بمقتضى قضيّة العبوديّة والرقيّة لزوم الخروج عن عهدة ما أمر به المولى ما لم ينصب قرينة على الترخيص في تركه ، فلو أمر بشيء ولم ينصب قرينة على جواز تركه فهو يحكم بوجوب إتيانه في الخارج ، قضاء لحقّ العبوديّة ، وأداء لوظيفة المولويّة ، وتحصيلا للأمن من العقوبة.

وفيه : أنّ هذا الاستدلال مبتن على إثبات أنّ كلّ أوامر المولى يجب الإتيان بها ، مع أنّ أمر المولى قد يكون واجب الإطاعة ولازم الإتيان ، وقد لا يكون كذلك ، فلا يستفاد من ذلك أنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، فالدليل الصحيح للمسألة هو التبادر. كما مرّ.

٤٧٣
٤٧٤

الجهة الرابعة

في أنّ الأمر موضوع للطلب الإنشائيّ

الظاهر أنّ الطلب الذي هو معنى الأمر ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي ، بل الطلب الإنشائي الذي لا يكون بهذا الحمل طلبا مطلقا ، بل طلبا إنشائيّا ، سواء انشأ بصيغة «افعل» أو بمادّة الطلب أو بمادّة الأمر أو بغيرها.

توضيح ذلك : أنّ الطلب على أنواع : أحدها : الطلب الحقيقي وهو الشوق المؤكّد الحاصل في النفس عقيب الداعي ، فهو ما يتّحد مع الإرادة على قول صاحب الكفاية قدس‌سره ومن الكيفيّات القائمة بالنفس ، وله وجود واقعي.

وثانيها : الطلب الذهني ، وهو عبارة عن الصورة المرتسمة في الذهن حين الالتفات إلى الطلب وتصوّر مفهومه ولو لم يكن الطلب الحقيقي متحقّقا ، وله أيضا وجود واقعي في وعاء الذهن.

وثالثها : الطلب الإنشائي ، وهو أنّ المتكلّم يوجد هذا المفهوم بصيغة «افعل» وأمثال ذلك في وعاء نفس الأمر ، وهو أعمّ من عالم الواقع والذهن والاعتبار كما سيأتي تفصيله.

ثمّ إنّ الطلب الحقيقي قد يجعل موضوعا ويحمل عليه مفهوم الطلب ، مثل :

٤٧٥

«الطلب الحقيقي طلب» ، فلا محالة تكون هذه قضيّة حمليّة بالحمل الشائع الصناعي ، وقد يجعل الطلب الذهني موضوعا ويحمل عليه مفهوم الطلب ، وقد يجعل الطلب الإنشائي موضوعا ويحمل عليه مفهوم الطلب.

وقال المرحوم صدر المتألّهين : إنّ هذين الحملين لا يكونان حملا شائعا ولا حملا أوّليّا ذاتيّا ، بل نوع آخر من الحمل ، فإنّ الموضوع في الحمل الشائع لا بدّ أن يكون مصداقا حقيقيّا للمحمول ، فإن كان مصداقا ذهنيّا أو إنشائيّا له فلا يكون حملا شائعا صناعيّا. وكان كلام صاحب الكفاية قدس‌سره ناظرا إلى هذا المعنى.

ولا بدّ لنا بالمناسبة من ذكر بحث في حقيقة الإنشاء ، قال الشهيد الأوّل ـ في كتاب قواعد الأحكام الذي نظّمه الفاضل المقداد وسمّاه باسم نضد القواعد الفقهيّة (١) ـ : «الإنشاء هو القول الذي يوجد به مدلوله في نفس الأمر».

ولا يكون ذكر القول في كلامه للاحتراز عن غيره ، بل لعلّ ذكره كان لوضوحه وكونه فردا كاملا لما يتحقّق به الإنشاء ، فمقصوده في الواقع أعمّ من القول والفعل ، فالبيع أمر اعتباري يتحقّق بسبب القول والفعل في نفس الأمر ، وتترتّب عليه الآثار عند العقلاء والشارع كالتمليك والتملّك ، وهكذا في النكاح وأمثال ذلك ، ولا يكون البيع ونحوه من الامور الواقعيّة ، فإنّ تحقّقه لا يوجب تغييرا واقعيّا في البائع والمشتري ، ولا الثمن والمثمن ، بل يوجب تبديل الإضافة الاعتباريّة في الثمن والمثمن ، ولا يكون أيضا من الامور الذهنيّة ؛ لأنّ الوجود الذهني عبارة عن تصوّر مفهوم البيع وإيجاد البيع في الذهن لا في عالم الاعتبار ، ولا يبحث في علم الفلسفة عن الامور الاعتباريّة ، بل يبحث فيه عن الواقعيّات ، ولذا تكون واقعيّة الوجود الذهني أيضا موردا للتأمّل ، فلا حظّ

__________________

(١) نضد القواعد الفقهية : ١٣٧.

٤٧٦

للامور الاعتباريّة والذهنيّة في هذا العلم.

نعم ، لا ينحصر الوجود الإنشائي في الامور الاعتباريّة ، ولا يشمل جميع المفاهيم والماهيّات ، بل يشمل بعض المفاهيم التي لها مصاديق حقيقيّة ، مثل مفهوم الطلب والاستفهام والتمنّي والترجّي الموجودة في القرآن ، كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

والظاهر أنّ المشهور أيضا يقول بأنّ الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ.

وأشكل على هذا القول بعض الأعلام في كتاب البيان في تفسير القرآن (٢) ، وملخّص كلامه : أنّ الوجود الإنشائي لا أصل له ، واللفظ والمعنى وإن كانت لهما وحدة عرضيّة منشأها ما بينهما من الربط الناشئ من الوضع ، ومن ذلك يسري حسن المعنى أو قبحه إلى اللفظ ، إلّا أنّ هذا لا يختصّ بالجمل الإنشائيّة ، بل يعمّ الجمل الخبريّة والمفردات أيضا ، وأمّا وجود المعنى بغير وجوده اللفظي فينحصر في نحوين :

أحدهما : وجوده الحقيقي الذي يظهر به في نظام الوجود من الجواهر والأعراض ، ولا بد في تحقّق هذا الوجود من تحقّق أسبابه وعلله ، والألفاظ أجنبيّة عنها بالضرورة.

وثانيهما : وجوده الاعتباري ، وهو نحو من الوجود للشيء ، إلّا أنّه في عالم الاعتبار لا في الخارج ، وتحقّقه باعتبار من بيده الاعتبار ، واعتبار كلّ معتبر قائم بنفسه ويصدر منه بالمباشرة ، ولا يتوقّف على وجود لفظ في الخارج أبدا.

أمّا إمضاء الشارع أو إمضاء العقلاء للعقود أو الإيقاعات الصادرة من

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٢) البيان في تفسير القرآن : ٤٠٩ ـ ٤١٠.

٤٧٧

الناس فهو وإن توقّف على صدور لفظ من المنشئ أو ما بحكم اللفظ ، ولا أثر لاعتباره إذا تجرّد عن المبرز من قول أو فعل ، إلّا أنّ الإمضاء المذكور متوقّف على صدور لفظ قصد به الإنشاء ، وموضع البحث هو مفاد ذلك اللفظ الذي جيء به في مرحلة سابقة على الإمضاء ، فالقول بالوجود الإنشائي للبيع ـ مثلا ـ قبل إمضائه من الشارع وتحقّقه في عالم الاعتبار لا أساس له.

ثمّ قال في مقام الحلّ : والصحيح أنّ الهيئات الإنشائيّة وضعت لإبراز أمر ما من الامور النفسانيّة ، وهذا الأمر النفساني قد يكون اعتبارا من الاعتبارات كما في الأمر والنهي والعقود والإيقاعات ، وقد يكون صفة من الصفات كما في التمنّي والترجّي ، فهيئات الجمل أمارات على أمر ما من الامور النفسانيّة ، وهو في الجمل الخبريّة قصد الحكاية ، وفي الجمل الإنشائيّة أمر آخر.

ثمّ إنّ الإتيان بالجملة المبرزة بوضعها لأمر نفساني قد يكون بداعي إبراز ذلك الأمر ، وقد يكون بداعي آخر سواه ، وفي كون الاستعمال في هذا القسم الأخير مجازا أو حقيقة كلام ليس هنا محلّ ذكره.

وجوابه : أوّلا : أنّ إشكاله على المشهور ليس بصورة برهان منطقي دائر بين النفي والإثبات ، فإنّه يقول : لو كان منشأ الوجود الإنشائي العلقة الوضعيّة فهو يعمّ الجمل الخبريّة والمفردات أيضا ، ولو لم يكن هذا منشأه فالوجود منحصر في الوجود الحقيقي والاعتباري ، وكلاهما أجنبيّ عن الوجود الإنشائي.

ولكن لقائل أن يقول : إنّه ما الدليل على انحصار الوجود بهذين النوعين؟

فلنا أن نقول : بأنّ هنا وجودا ثالثا يسمّى بالوجود الإنشائي.

وثانيا : لا شكّ في أنّه يجوز للبائع اعتبار الملكيّة والبيع قبل اعتبار الشارع والعقلاء ـ يعني في المرحلة السابقة على الامضاء ـ وإلّا لا معنى لإبراز ما في

٤٧٨

نفسه باللفظ ، فنحن نقول بالوجود الإنشائي في هذه المرحلة ، وأنّ البيع الذي اعتبره البائع في نفسه يوجد بلفظ «بعت» ، ولكنّه ربّما يكون منشأ لاعتبار الشارع والعقلاء ، وربّما لا يكون منشأ لاعتبارهما كالمعاملة الفاسدة عندهما ، فيتحقّق الوجود الإنشائي فيها أيضا ، ولكن لا يترتّب عليها الأثر المقصود عند العقلاء والشارع.

وثالثا : لا نسلّم أن تكون الألفاظ بعنوان الأمارة والمبرز لما تحقّق في النفس ، بل يتحقّق البيع ونحوه بنفس اللفظ ، ولا يكون ما اعتبره البائع في نفسه بيعا ، ويشهد له الوجدان والعقلاء من المتشرّعة ، وغيره.

على أنّ الأمارة لا موضوعيّة لها ، بل هي طريق وكاشفة عن الواقع للشاكّ ، فإذا علم أنّ الزوجة في نفسها اعتبرت الزوجيّة فهل يمكن الالتزام بأنّه قد تحقّقت الزوجيّة ولا احتياج إلى اللفظ المبرز؟ فالتحقيق أنّ الامور الاعتباريّة وبعض المفاهيم ـ مثل الطلب ـ يوجد بالقول ، ونسمّي هذا الإيجاد بالوجود الإنشائي ، كما قال به المشهور.

والمحقّق الخراساني قدس‌سره (١) بعد القول بأنّ المراد من الطلب الذي يكون معنى الأمر هو الطلب الإنشائي لا الطلب الحقيقي ، قال : ولو أبيت إلّا عن كونه موضوعا للطلب ـ أي الجامع بين الحقيقي والإنشائي ـ فلا أقلّ من كونه منصرفا إلى الإنشائي منه عند إطلاقه كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا ، وذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائي ، كما أنّ الأمر في لفظ الإرادة على عكس لفظ الطلب ، والمنصرف منها عند إطلاقهما هي الإرادة الحقيقيّة ، واختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٩٣.

٤٧٩

الطلب والإرادة ، خلافا لقاطبة أهل الحقّ والمعتزلة.

ولكن لا بدّ لنا من ذكر مقدّمة لتحقيق المسألة وهي : أنّ المسائل الاعتقاديّة ـ مثل وجود الصانع وصفاته الثبوتيّة والسلبيّة والمعاد وأمثال ذلك ـ كانت محلّا للبحث والنزاع من القرون المتمادية قبل الإسلام بين الناس ، وأمّا بعد ظهور الإسلام ونزول القرآن فقد ظهر للمسلمين رءوس المسائل الاعتقاديّة كمقام الربوبيّة والخالقيّة وسائر صفاته تعالى ، والمبدأ والمعاد وغير ذلك ، وأمّا بعد استقرار الحكومة الإسلاميّة ووقوع حروب مكرّرة بين المسلمين والكفّار ، وإسارة بعض علمائهم ، ومعاشاتهم معهم ، وإلقاء اعتقاداتهم بينهم ، وإسلام بعضهم على الظاهر ، ونفوذ نظريّاتهم الخاصّة بينهم ، فقد جعل بعض نظريّاتهم محلّا للبحث.

على أنّ ارتباط الخلفاء بالحكّام الكفّار وتبادل السفراء بينهم وانعقاد المعاهدات بينهم ـ مثل انعقاد المعاهدة بين معاوية وحاكم الروم (١) ـ أوجب وقوع المسلمين في جريان اعتقاداتهم.

والمهمّ من ذلك أنّ اندحار الكفّار ـ بالأخصّ اليهود والنصارى ـ وذلّتهم في زمن حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيد المسلمين وعدم تسليمهم مع ذلك في مقابل الإسلام من حيث الاعتقاد يوجب القطع بأنّهم كانوا دخلاء في انحراف الخلافة عن مسيرها الأصلي ، بل نرى تسلّط أياديهم وعمّالهم على المقامات العاليّة من الحكومة الإسلاميّة ومشاورة الخلفاء لهم في الامور المهمّة ، ويشهد على ذلك مصاحبة معاوية ومشاورته ل «سرجون» النصراني وابنه منصور وحضورهما في المقامات العالية ، مثل أمارة الماليّات وأرزاق العساكر ،

__________________

(١) حجة السعادة : ٧٠.

٤٨٠