دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

العالم ، فيكون إكرام كلّ فرد واجبا برأسه ، ولذا يمكن الامتثال والموافقة بالنسبة إلى بعض الأفراد والمخالفة بالنسبة إلى البعض الآخر. فإذا الامتثال فرع الطلب ، كما أنّ العقوبة فرع ترك المطلوب ، فلا يمكن الامتثالات مع وحدة الطلب ولا استحقاق عقوبة واحدة مع كثرته.

أضف إلى ذلك أنّ قياس ما نحن فيه على الواجب الكفائي قياس مع الفارق ؛ لأنّ البعث في الواجب الكفائي يتوجّه إلى عامّة المكلّفين بحيث يصير كلّ مكلّف مخاطبا بالحكم ، فهناك طلبات كثيرة وامتثالات عديدة ، لكن لو أتى به مكلّف واحد منهم يسقط التكليف عن الباقي ؛ لحصول الغرض وارتفاع الموضوع ، وإن تركوها رأسا لعوقبوا جميعا ، وإن أتاها الجميع دفعة فقد امتثلوا كافّة ؛ لكون كلّ فرد منهم محكوما بحكمه ومخاطبا ببعثه المختصّ ، بخلاف المقام.

وأضعف من ذلك ما نقل عن درس المحقّق الخراساني قدس‌سره ؛ إذ لا دخل للقصد وعدمه بدون العمل لا في أصل الامتثال ولا في تعدّده ووحدته.

فالحقّ أنّ تعدّد الامتثال ووحدته يدور مدار تعدّد التكليف ووحدته كما قال به الإمامقدس‌سره.

هذا في الأفراد العرضيّة ، وأمّا البحث في الأفراد الطولية فقد يكون غرض المكلّف من الإتيان بالفرد الثاني تبديل الامتثال ، وقد يكون غرضه منه تكميل الامتثال ليعدّ الإتيانان امتثالا واحدا.

وكان لصاحب الكفاية قدس‌سره (١) في هذه الصورة تفصيل ، وهو أنّه إذا كان امتثال الأمر علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى بحيث يحصل بمجرّد الامتثال فلا يبقى معه مجال لإتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثالا

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٢١ ـ ١٢٢.

٦٠١

واحدا ؛ لما عرفت من حصول الموافقة بإتيان الطبيعة مرّة وسقوط الغرض معها ، وسقوط الأمر بسقوطه ، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا.

وأمّا إذا لم يكن الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى ـ كما إذا أمر بإتيان الماء ليشرب أو يتوضّأ فاتي به ولم يشرب أو لم يتوضّأ فعلا ـ فلا يبعد صحّة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا.

هذا ، والحقّ أنّ هذا التفصيل ليس بتام ؛ لأنّ الغرض الأقصى الذي له دخل في الأمر عبارة عمّا يترتّب على فعل المكلّف ، لا ما يترتّب على فعل المأمور والآمر معا ، وهو جعل العبد الماء تحت اختيار المولى ، فيكون فعل المكلّف علّة تامّة لتحقّق هذا الغرض ، وإذا تحقّق الغرض يسقط الأمر ، فكيف يمكن أن تتحقّق طبيعة المأمور به في ضمن الفرد الأوّل ومع ذلك لم يحصل الغرض الأقصى؟!

وبالنتيجة إذا تحقّق الفرد الأوّل يحصل الغرض ، وإذا حصل الغرض فلا يبقى محلّا للفرد الثاني ؛ إذ لا أمر في البين بعد حصول الغرض ، وأمّا فعل المولى من الشرب والوضوء وعدمهما فلا دخل له بالامتثال. هذه نتيجة البحث في الأفراد الطوليّة ، وبه يتمّ الكلام في المرّة والتكرار.

٦٠٢

المبحث الثامن

في الفور والتراخي

اختلف العلماء في أنّ صيغة الأمر هل تدلّ على الفور أو التراخي أو لا دلالة لها على الفور ولا على التراخي؟ لا يخفى أنّ مقصود القائل بالفور تقيّد مفاد الصيغة به وأنّ الفور واجب ، ومقصود القائل بالتراخي تقيّده به وأنّ التراخي واجب ، ومقصود القائل بعدم دلالتها عليهما عدم تقيّدها بهما وأنّهما معا جائزان كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ، ويجري هاهنا جميع ما مرّ في مبحث المرّة والتكرار ، إلّا ما أشكل به الإمام قدس‌سره من أنّ النزاع إن كان مربوطا بالهيئة فيستحيل تعلّق البعث والتحريك مكرّرا بطبيعة واحدة تأسيسا بلا فرق زمانا ومكانا ؛ إذ لا مانع من تعلّقه بها متراخيا.

واختار عدّة من المحقّقين القول الثالث من الأقوال ، واستدلّوا عليه بالتبادر ، وأنّ ما ينسبق من الصيغة إلى الذهن عبارة عن طلب الطبيعة والماهيّة ، بلا دلالة على تقييدها بالفور أو التراخي ، وقد مرّ أنّ قيد الإيجاد أيضا ليس جزء مدلول الصيغة ، بل تدلّ اللابدّيّة العقليّة والعرفيّة بدخله فيه ، خلافا لما نسب

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٢٢.

٦٠٣

إلى صاحب الفصول (١) ، ويؤيّده أنّ الفور والتراخي من قيود الزمان ، وكما أنّ المكان لا يتبادر منها كذلك الزمان لا ينسبق إلى الذهن.

والقائل بالفور بعد تسليم هذا الانسباق يقول : إنّ لنا طرقا أخر لاستفادة الفوريّة لا في جميع الأوامر ، بل في الأوامر الشرعيّة فقط :

أحدها : ما حكيناه عن المحقّق الحائري قدس‌سره فيما مضى ، ومن الآثار المترتّبة عليه الفوريّة في هذا المبحث ، وهو أنّ العلل الشرعيّة كالعلل التكوينيّة في جميع الأحكام والآثار والخصوصيّات ، ومن الآثار المتحقّقة في العلل التكوينيّة فوريّة ترتّب المعلول على علّته وعدم انفكاك المعلول عنها خارجا ، وهكذا في العلل الشرعيّة ، فإذا تحقّقت العلّة الشرعيّة يتحقّق المعلول الشرعي ، ومن العلل الشرعيّة الأوامر ، فبمجرد تحقّق الأوامر الشرعيّة لا بدّ من تحقّق المعلول فورا بواسطة المكلّف.

وجوابه : تقدّم أنّه لا دليل على هذا التشبيه ، سيّما التشبيه بجميع الآثار التي منها تحقّق المعلول بتحقّق العلّة ، فهو ادّعاء بلا دليل.

على أنّ لنا دليلا على خلافه ، وهو أنّه لا يقدر أحد ـ سوى الباري ـ على سلب العلّيّة عن العلّة التكوينيّة ، ولكن في الواجبات الشرعيّة نحن نرى كثير ما تحقّق الوجوب فعلا ، مع أنّ الواجب لا يتحقّق إلّا بعد مدّة مديدة كما في الواجب المعلّق مثل الحجّ ؛ لأنّ وجوبه يتحقّق بمجرّد تحقّق الاستطاعة ، ولذا يجب على المكلّف الإتيان بالمقدّمات ، وأمّا الواجب فلا يتحقّق إلّا في الموسم ، فانتقض هذا الدليل العقلي أو شبه العقلي بهذا المورد ؛ بأنّ القول بالواجب المعلّق يستلزم التفكيك بين العلّة والمعلول الشرعي.

__________________

(١) الفصول الغروية : ٧١.

٦٠٤

وثانيها : أنّ عدّة من الآيات تدلّ على الفوريّة كقوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)(١) و (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)(٢).

وتقريب الاستدلال : أنّ الآيتين تدلّان على وجوب المسارعة والاستباق إلى سبب المغفرة والخير ؛ إذ لا معنى للاستباق والمسارعة إلى نفس المغفرة والخير بعد كونهما من أفعاله تعالى ، ولا سبب لهما أعظم من الواجبات وامتثال أوامره تعالى ، فيجب إتيانها وإطاعة الأوامر فورا.

وأجابوا عن هذا الاستدلال بأجوبة متعدّدة ، بعضها مختصّ بآية واحدة ولا يجري في الاخرى ، وبعضها الآخر مشترك بين الآيتين.

وأمّا الجواب الاختصاصي عن الآية الاولى فهو : أنّ وجوب المسارعة في الآية لا ينحصر بسبب المغفرة ؛ إذ يقول الله تعالى في ذيل الآية : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ، والظاهر أنّ المعطوف مغاير مع المعطوف عليه ، وبعد أن لا يكون لنا تكليف بعنوان المسارعة إلى الجنّة في مقابل سائر التكاليف الإلهيّة يستفاد أنّ الأمر في الآية إرشادي ولا يدلّ على الوجوب ، ولا يعقل أن يكون الأمر بالنسبة إلى المعطوف عليه مولويّا وبالنسبة إلى المعطوف إرشاديّا ، فلا محالة يحمل الأمر بالسرعة في كلتا الجملتين على الإرشادي.

وأمّا الجواب المشترك بين الآيتين فهو يجري في الآية الاولى بأنّ هيئة «سارعوا» تكون من باب المفاعلة ، ويتعلّق اللحاظ فيه بالطرفين ، فأوجب الله تعالى بالآية المسارعة والمسابقة إلى فعل المأمور به بين المكلّفين ، وهذا المعنى

__________________

(١) آل عمران : ١٣٣.

(٢) البقرة : ١٤٨.

٦٠٥

لا يجري في الواجبات العينيّة كالصلاة والصوم والحجّ وأمثال ذلك ؛ إذ الواجب فيها إتيان كلّ واحد من المكلّفين وظيفته بلا دخل له بوظيفة سائر المكلّفين ، ولا معنى للمسارعة لكلّ واحد منهم على الآخر بالنسبة إلى وظيفته ، وحركة المتديّنين سريعا في أوّل الوقت إلى المساجد تكون لإدراك فضيلة الجماعة وأوّل الوقت لا لمسابقة بعضهم البعض الآخر.

وإنّما يجري هذا الاستدلال في الواجبات الكفائيّة فقط ، فإنّ غرض المولى فيها يتحقّق بعمل شخص واحد ، فإن خالف الجميع يكون مستحقّا للعقوبة ، وإن وافق أحد منهم يصدق عليه عنوان المطيع ويستحقّ المثوبة ، ولا يصدق على سائر المكلّفين عنوان العاصي ولا عنوان المطيع ولا يستحقّون المثوبة ولا العقوبة ، فيصدق هاهنا عنوان المسارعة.

وهكذا في آية : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) إلّا أنّ السبق واللحوق يستفاد من مادّة السبق لا من هيئته ، فالاستدلال بها يصحّ في الواجبات الكفائيّة فقط لا العينيّة ، ولا معنى للسبق إلى الصلاة والصوم وأمثال ذلك.

ويمكن أن يقال : إنّ دلالة الآيتين على وجوب المسارعة والفوريّة في الواجبات الكفائيّة كافية في الاستدلال ، فإنّا نستفيد بضميمة عدم القول بالفصل وجوب الفوريّة في الواجبات العينيّة أيضا ، ويثبت المدّعى.

وفيه : أوّلا : أنّه لا يستفاد من ارتباط الآيتين بالواجبات الكفائيّة وجوب المسارعة والاستباق ، وأنّ في كلّ واحد من الواجبات الكفائيّة يتحقّق تكليفان : أحدهما : أصل الواجب ، وثانيهما : المسارعة إليه ، بل التكليف واحد ، ولكنّ المسارعة والاستباق إليه راجح ومستحبّ.

وثانيا : أنّ الاستباق والمسارعة لا يكون بمعنى الفوريّة ؛ لأنّ الاستباق

٦٠٦

والمسارعة يصدق مع التراخي أيضا ؛ لأنّ إتيان بعض المكلّفين العمل قبل بعض الآخر يصدق أنّه استبق العمل بالنسبة إلى غيره ، فلا يستفاد من الآيتين الدلالة على الفوريّة قطعا.

ومع قطع النظر عن هذه الإشكالات نبحث أيضا في أنّ ظهور آية (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) في العموم لا يكون قابلا للمناقشة ، فإنّ دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم متّفق عليه ، فيكون مفاد الآية : واستبقوا إلى كلّ ما هو خير ، وهذا يوجب الإشكال من حيث شمولها المستحبّات كما سيأتي.

وأمّا الاستدلال بآية : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) فهو مبتن على أن يكون لفظ السبب مقدّرا ؛ إذ المغفرة من أفعاله تعالى ، ولا معنى للسرعة إلى فعل الغير ، فلا بدّ أن يكون المقدّر ما هو فعل المكلّف وهو السبب ، وهذا أيضا يكون قابلا للمناقشة ؛ بأنّ فعل الغير على قسمين : فإنّه قد لا يكون مربوطا بهذا المكلّف بوجه ، وحينئذ لا معنى للسرعة إلى هذا النحو من فعل الغير ، وقد يكون مربوطا بالمكلّف في عين كونه من أفعال الغير ، وحينئذ لا مانع من أن تكون السرعة إلى فعل الغير واجبا بلحاظ هذا الارتباط ، كقولنا للطالب مثلا : «اسرع إلى الشهريّة» ، مع أنّ إعطاء الشهريّة فعل الغير ، ولكنّ طرف إضافة الإعطاء هو الطالب ، ولذا يصحّ هذا القول له ، والمغفرة أيضا من هذا القبيل ؛ إذ يصحّ أنّ المغفرة فعل الله تعالى.

وأمّا بلحاظ ارتباطه بالمكلّفين فلا مانع من قولنا : «اسرعوا إلى مغفرة من ربّكم». هذا أوّلا.

على أنّه يرد على كلا فرضي التقدير وعدمه إشكال مهمّ آخر ، وهو أنّه لو فرضنا عدم التقدير في الآية فتكون المغفرة نكرة موصوفة ، ومعناها : سارعوا

٦٠٧

إلى مغفرة موصوفة بأنّها من ربّكم ، ومعلوم أنّ النكرة الموصوفة ليست من الألفاظ الدالّة على العموم.

وإن فرضنا كون السبب مقدّرا وكان معناها : «واسرعوا إلى سبب المغفرة» فيكون سبب المغفرة نكرة مضافة ، وهي أيضا لا تكون من الألفاظ الدالّة على العموم ، وإن كانت هي أقرب إلى العموم.

ولو فرضنا دلالة النكرة مضافة إلى العموم بخلاف النكرة الموصوفة ، فهل تعامل مع مثل الآية معاملة النكرة المضافة ، أو تعامل معاملة النكرة الموصوفة؟ لعلّ الملاك فيه ما هو ظاهر اللفظ لا ما هو المقدّر.

ويؤيّد عدم دلالة الآية على العموم اختلاف المفسّرين في تفسير الآية ، بأنّ المقصود من المغفرة الصلوات اليوميّة عند بعض ، والدخول في الصفّ الأوّل من الجماعة عند بعض ، والسرعة في الاقتداء ـ أي في الصلوات ـ عند بعض ، والتوبة عند بعض ، والجهاد في سبيل الله عند بعض ، والإخلاص في العمل عند بعض ، ولم يقل أحد منهم بدلالتها على العموم ، وأنّها لا تنحصر بالمصاديق ، فإن لم تدلّ على العموم ينهدم أساس الاستدلال.

ومع قطع النظر عن الإشكالات وفرض دلالة كلتا الآيتين على العموم يرد عليه :

أوّلا : أنّه لا شكّ في كون المستحبّات كالواجبات خيرا ، وهكذا في سببيّتها للمغفرة ، بل تكون سببيّتها للمغفرة أولى من بعض الواجبات ، فلا يمكن خروج المستحبّات بحسب الدلالة اللفظيّة عن الآيتين ، فكيف يمكن الالتزام بوجوب الاستباق إليها مع أنّها من العناوين المستحبّة؟!

وثانيا : أنّ الفوريّة والاستباق في أكثر الواجبات أيضا ليس بواجب

٦٠٨

ـ كالصلاة والزكاة مثلا ـ وأمّا الواجبات المضيّقة ـ كالصوم ـ فلا معنى للفوريّة فيها ، فيبقى تحت الآيتين عدّة من الواجبات كالحجّ والجهاد في سبيل الله خصوصا إن كان دفاعيّا ، وعلى هذا إن حملنا الآيتين مع عمومهما على الوجوب يلزم تخصيص الأكثر ، وهو مستهجن ، مع أنّ لحن الآيتين وسياقهما آب عن التخصيص ، ولا يكون قابلا له ، فلا محالة يتعيّن القول بعدم دلالة الآيتين على الوجوب ؛ لدفع هذه المحذورات ، وإن دلّتا من حيث الهيئة على الوجوب.

وأشكل على الاستدلال بآية (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) بأنّه سلّمنا أنّ هيئة الأمر وضعت للبعث والتحريك الوجوبي ، إلّا أنّ هاهنا قرينة عقليّة تمنع من حملها عليه ؛ إذ الاستباق والتقدّم بالنسبة إلى الخيرات لا بالنسبة إلى المكلّفين ، فكأنّه يقول : «قدّموا بعض الخيرات على بعض» ، والملاك في التقديم عبارة عن نفس الاتّصاف بالخيريّة ونفس انطباق عنوان الخير ، ولم تلاحظ في الآية المراتب الشديدة والضعيفة ، وليس ملاك الاستباق كون الخير في المرتبة القويّة ، بل الملاك نفس الاشتراك في الخيريّة.

وأمّا في مقام العمل فلا محالة يتحقّق التقدّم والتأخّر ؛ إذ المفروض عدم إمكان الجمع بين جميع الخيرات في آن واحد ، وإذا كان الأمر كذلك فالسؤال المطروح : ما مزيّة المتقدّم على المتأخّر وما نقص المتأخّر بالنسبة إلى المتقدّم ، مع أنّهما مشتركان في أصل الملاك ، وصدق عنوان الخيريّة عليهما سواء؟ وعلى هذا إن حملنا الهيئة في الآية على وجوب الاستباق يلزم من وجوب الاستباق إلى الخير الأوّل عدم وجوب الاستباق إلى الخير الثاني ، فيلزم من وجوده عدمه ، وهو محال ، وهذه القرينة العقليّة توجب رفع اليد عن مفاد الهيئة.

٦٠٩

ولا يستفاد من كلام المستشكل بعد عدم الحمل على الوجوب معنى آخر ، ولعلّ مراده الحمل على الاستحباب ، مع أنّ الإشكال يجري بعينه في هذا الفرض أيضا ؛ إذ الملاك في استحباب الاستباق هو الاتّصاف بالعناوين الخيريّة ، فبعد اشتراك المتأخّر والمتقدّم في أصل الملاك يلزم من استحباب الاستباق إلى الخير المتقدّم عدم استحباب الاستباق إلى الخير المتأخّر.

ولعلّ مراده الحمل على الإرشاد ؛ بأنّ العقل يحكم بحسن الاستباق إلى الخيرات ، والآية الشريفة تدلّ على هذا المعنى إرشادا ، وهذا الحمل أولى من الحمل على الاستحباب.

وهذا البيان مخدوش : أوّلا : بأنّ ما يتّصف بالسبق عبارة عن المكلّفين لا الخيرات ، والظاهر من الآية أنّه يجب على كلّ مكلّف أن يستبق الخير من مكلّف آخر ، لا أنّه يجب عليه أن يستبق إلى بعض الخيرات بالنسبة إلى بعضها الآخر ، فالمسابقة بين المكلّفين ، كما مرّ ذكره في الواجب الكفائي.

وثانيا : أنّه لو سلّمنا وفرضنا أنّ الاستباق في الآية تكون بين الخيرات فلا يثبت المدّعى أيضا ، فإنّ مجرّد عدم إمكان الجمع لا يوجب رفع اليد عن الوجوب والالتزام بالحمل على الإرشاد ، بل تصل النوبة إلى جريان قواعد باب التزاحم كمسألة إنقاذ الغريقين والصلاة والإزالة ؛ لأنّ القاعدة تقتضي في مثل هذه الموارد تقدّم الأهمّ أو محتمل الأهمّية ، وفي صورة عدمهما كان المكلّف مخيّرا ، فيكون مفاد الهيئة في الآية من مصاديق باب المتزاحمين ، ويبقى على ظاهره بدون الحمل والتوجيه.

وثالثا : أنّ الأمر الإرشادي تابع لما حكم به العقل من اللزوم أو الحسن قبل الأمر ، وفي مورد الآية صحيح أنّ العقل يحكم بالحسن ، إلّا أنّه يحكم

٦١٠

بحسن الاستباق إلى الخير في مقابل تركه ، لا أنّه يحكم بحسن الاستباق إلى بعض الخيرات بالنسبة إلى بعضها الآخر ، كما أنّ العقل في مورد آية : (أَطِيعُوا اللهَ) يحكم بلزوم إطاعة الله تعالى قبل الأمر ، فالأمر في الآية أيضا يرشد إلى هذا المعنى.

على أنّه يجري إشكال الاستحالة في هذا الفرض أيضا ؛ إذ العقل يحكم بحسن الاستباق إلى الخيرات ، والملاك عبارة عن صدق عنوان الخير بلا دخل للمراتب فيه ، فلا محالة يتحقّق في مقام العمل التقدّم بالنسبة إلى البعض والتأخّر إلى بعض آخر ، فما الفرق بين الخير المتقدّم والمتأخّر؟ فيلزم من وجوده عدمه ، وهو محال ، فلا تدلّ الآية على الإرشاد ، كما أنّه لا تدلّ على الوجوب والاستحباب ، وهذا أمر غير معقول.

فتحقّق ممّا ذكرنا أنّه لا دليل لنا من اللغة على دلالة مطلق الأوامر على الفوريّة ولا من الآية والرواية ؛ لدلالة خصوص الأوامر الشرعيّة عليها ، ولذا بطل القول بالفور بمعنى التقيّد به ، كما بطل القول بالتراخي بمعنى التقيّد به.

استمراريّة الفوريّة وعدمها

وذكروا في ذيل بحث الفور والتراخي مطلبا بعنوان التتمّة والتكملة ، وهو أنّه على القول بالفور بنحو التقيّد في مطلق الأوامر أو في خصوص الأوامر الشرعيّة ، فهل مقتضى الأمر الإتيان بالمأمور به فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الإتيان به فورا في الزمان الثاني أو لا؟ وجهان مبنيّان على أنّ مفاد الصيغة على هذا القول هو وحدة المطلوب أو تعدّده.

توضيح ذلك : أنّ القيد والمقيّد قد يكون بنحو وحدة المطلوب بحيث إن

٦١١

انتفى القيد ينتفي المقيّد رأسا ، كما إذا قال المولى : اعتق رقبة مؤمنة ـ مثلا ـ وأحرزنا من الخارج وحدة مطلوبه وغرضه ، وقد يكون بنحو تعدّد المطلوب كما في الصلوات اليوميّة المقيّدة بالأوقات الخمسة ، فإنّه كان للمولى فيها مطلوبان : أحدهما : أصل صلاة الظهر ـ مثلا ـ والآخر : إيقاعه في وقت خاصّ ، فإن فات القيد يبقى المقيّد بحاله ، فأمر ما نحن فيه دائر بين وحدة المطلوب بمعنى كون الفوريّة مقوّمة لأصل المصلحة ؛ بحيث تفوت بفوات الفوريّة ، وتعدّد المطلوب بمعنى أن يكون هناك مصلحة قائمة بذات الفعل ومصلحة اخرى قائمة بإيقاعه فورا.

ومن المعلوم أنّ نهاية ما يستفاد من الآيتين عبارة عن نفس التقيّد ، ودلالتهما على مطلوبيّة الطبيعة فورا ، لا كيفيّة التقيّد ونوعه ، فتصل النوبة إلى الاصول اللفظيّة والعمليّة ، ويمكن أن يقال في مقام التمسّك بالأصل اللفظي : إنّ مقتضى الإطلاق عدم الوجوب في الزمان الثاني ؛ لأنّه كما أنّ أصل التكليف يحتاج إلى البيان والتعرّض كذلك تحقّقه في الزمان الثاني يحتاج إلى البيان والتعرّض ، وبعد تماميّة مقدّمات الحكمة وعدم تعرّضه له يستفاد عدم وجوبه في الزمان الثاني.

وإذا لم يكن إطلاق في البين ووصلت النوبة إلى الاصول العمليّة فكان هاهنا طريق لجريان الاستصحاب بنحو الكلّي من القسم الثاني ؛ بأن نقول : بعد توجّه التكليف من المولى إلينا وحصول اشتغال ذمّتنا ودوران الأمر بين وحدة المطلوب ـ بحيث إن انتفى القيد ينتفي أصل التكليف ـ وتعدّد المطلوب ـ بحيث إن خالف القيد يبقى أصل التكليف ـ فنشكّ في بقاء التكليف وعدمه ، فلا مانع من استصحاب أصل التكليف ، كما إذا نذر أحد الحجّ مقيّدا بهذه

٦١٢

السنة ثمّ خالفه ، فلا محالة نشكّ في وجوب قضائه في السنوات الآتية ، والاستصحاب طريق لبقاء وجوب القضاء ، ففي ما نحن فيه أيضا بعد الإخلال بالفوريّة نستفيد بقاء التكليف من هذا الطريق ، خلافا لما نستفيده من الإطلاق.

٦١٣
٦١٤

الفصل الثالث

في الإجزاء

إنّ صاحب الكفاية قدس‌سره (١) جعل عنوان هذا البحث هكذا : الإتيان بالمأمور به على وجهه ـ أي بجميع خصوصيّاته المعتبرة فيه ـ يقتضي الإجزاء ، بمعنى عدم وجوب الإتيان على المكلّف ثانيا ، لا إعادة ولا قضاء. وصاحب الفصول قدس‌سره (٢) جعل العنوان فيه هكذا : الأمر بالشيء هل يقتضي الإجزاء إذا أتى بالمأمور به على وجهه أو لا؟ كالعنوان في مسألة الفور والتراخي ، والمرّة والتكرار ونحوهما.

وعلى القول الأوّل تكون كلمة «يقتضي» بمعنى السببيّة والتأثير ، وعلى القول الثاني تكون بمعنى الدلالة ، وجعل النزاع في مدلول الأمر ـ أي العنوان الثاني ـ وإن كان مناسبا لمباحث الألفاظ ، وهو الأقرب إلى الذهن في بادئ النظر وأولى من العنوان الأوّل ؛ إذ لا دخل للإتيان والعمل الخارجي باللفظ ، إلّا أنّه بعد التحقيق الدقيق والكامل لا يكون قابلا للقبول ، فإنّ كلمة «يقتضي» تكون على هذا التقدير بمعنى الدلالة كما قلنا ، والدلالات منحصرة

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٢٤.

(٢) الفصول الغروية : ١١٦.

٦١٥

بالمطابقة والتضمّن والالتزام ، وكلّ ذلك ممنوع هاهنا ، أمّا المطابقة فلأنّ معناها أن يكون مفاد هيئة «افعل» بحسب الوضع واللغة أنّه إذا اتي بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء.

وجوابه : أوّلا : أنّ هذا المعنى لا يتبادر إلى الذهن بعد سماع هيئة «افعل» فمثلا : إذا سمعنا جملة (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) لا ينسبق إلى الذهن أنّه إذا أتيتم بالصلاة مع الخصوصيّات المعتبرة فيها ، فلا تجب الإعادة في الوقت ولا القضاء في خارج الوقت.

وثانيا : أنّ المعنى المطابقي عبارة عن تمام الموضوع ، مع أنّا نعلم أنّ مدلول هيئة الأمر هو الطلب أو البعث والتحريك الوجوبي ، وإن كان لهذه الإضافات دخلا فيه فلا بدّ من كونها بصورة الأجزاء أو القيود ؛ إذ لا يمكن أن يكون الوجوب خارجا عن الموضوع له.

وأمّا ممنوعيّة الدلالة التضمّنية فهي بدليل الأوّل ؛ إذ المتبادر من الهيئة البعث والتحريك الوجوبي فقط ، ولذا نفي دلالة التضمّن كالمطابقة لا يحتاج إلى الاستدلال ولم يلتزم بهما أحد.

وأمّا الدلالة الالتزاميّة فإن كانت جزء الدلالة اللفظيّة فيشترط فيها الخصوصيّتان على قول ، وخصوصيّة واحدة على قول آخر ، والاولى أن يكون اللزوم فيها بنحو البيّن ، والثانية أن يكون البيّن بمعنى الأخصّ ، ومعناه أنّ مجرّد تصوّر الملزوم كاف في تحقّق الانتقال إلى اللازم كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة وسائر لوازم الماهيّة ، وقال بعض : إنّه يكفي في تحقّق الدلالة اللفظيّة أن يكون البيّن بالمعنى الأعمّ ، ومعناه أنّ بعد تصوّر الملزوم واللازم معا لا تحتاج الملازمة والارتباط بينهما إلى الدليل ، فيتحقّق بتصوّر الطرفين القطع بالملازمة ،

٦١٦

ولا شكّ في أنّ الأوّل من الدلالة اللفظيّة ، ولكنّ الثاني مختلف فيه.

وبعد هذا التمهيد يتّضح تقريب الاستدلال بالدلالة الالتزاميّة ، فيقال : إنّ الأمر يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على وجود مصلحة ملزمة في المأمور به ، وهي أوجب في صدور الأمر عن المولى ، وإذا تحقّق المأمور به في الخارج تتحقّق المصلحة الملزمة أيضا ، فلا يبقى محلّ للإعادة والقضاء في الوقت أو في خارج الوقت.

ولكنّه لا يخفى أنّ صحّة هذا الكلام مبتنية على أمرين : أحدهما : أن يدلّ الأمر بالدلالة الالتزاميّة على تحقّق المصلحة في المأمور به.

وثانيهما : أن يكون البيّن بالمعنى الأعمّ أيضا من الدلالة اللفظيّة. وكلاهما مخدوش :

أوّلا : بأنّ عدّة من العلماء ينكرون أساس المصلحة والمفسدة كالأشاعرة ، فللمولى عندهم أن ينهى عن شيء من دون أن يكون هذا الشيء مشتملا على المفسدة ، أو تكون في النهي مصلحة ، وهكذا في المأمور به.

وثانيا : أنّ على القول بوجود المصلحة والمفسدة في المأمور به والمنهي عنه ، وأنّ الأمر يدلّ على وجود مصلحة في البين ، ولكنّه مردّد بين أن يكون في المأمور به وبين أن يكون في نفس الأوامر ، مثل : الأوامر الاختباريّة والاعتذاريّة ، كما أنّ في النواهي تكون مردّدة بين تحقّقها في المنهي عنه وبين تحقّق المصلحة في نفس النهي ، فكيف يوجب تصوّر الأمر الانتقال إلى المصلحة الملزمة المتحقّقة في المأمور به؟! ولو فرضنا أنّ الأمر يدلّ على وجود مصلحة ملزمة في المأمور به وأنّ اللزوم بين الأمر والمصلحة يكون بنحو البين بالمعنى الأعمّ فلا يتمّ المطلوب أيضا ؛ لعدم إحراز كونه من الدلالة اللفظيّة ،

٦١٧

فيكون عنوان صاحب الكفاية خاليا عن الإشكالات المذكورة ، وأولى من عنوان صاحب الفصول.

ولا بدّ لنا قبل الورود في البحث من تحرير محلّ النزاع حتّى يظهر أنّ هذا المبحث هل يكون من المباحث العقليّة أو من مباحث الألفاظ ، أو قسم منه عقلي والقسم الآخر منه لفظي؟ وهو يحتاج إلى مقدّمة ، وهي أنّ الأوامر على ثلاثة أقسام : الأوّل : الأمر الواقعي الأوّلي أو الاختياري ، الثاني : الأمر الواقعي الثانوي أو الاضطراري ، الثالث : الأمر الظاهري.

وتتحقّق في الأوّل خصوصيّتان : الاولى : كون المكلّف مختارا ، الثانية : كون المكلّف قاطعا بالتكليف وكونه عالما بأنّ وظيفته كذا ، كقول الشارع : «أقم الصلاة مع الوضوء إن كنت واجدا للماء».

ويتحقّق في الثاني الخصوصيّة الثانية المذكورة بخلاف الاولى ؛ إذ المكلّف لا يكون متمكّنا من الماء أو لا يكون متمكّنا من الاستفادة منه لاستلزامه الضرر أو الحرج ، ولكنّه كان عالما بالتكليف في هذه الحالة ، كقوله : «أقم الصلاة مع التيمّم إن كنت فاقدا للماء».

وأمّا الأمر الظاهري فيتحقّق في مورد الشكّ في التكليف ، مثلا : لا نعلم أنّ الواجب ظهر يوم الجمعة صلاة الجمعة أو صلاة الظهر؟ وجعل الشارع في مثل هذا المورد طرقا وأمارات واصولا لتعيين وظيفة المكلّف ، كجعله خبر العادل حجّة بمقتضى آية النبأ ، فإذا نقل زرارة عن الصادقين عليهما‌السلام أنّ في يوم الجمعة صلاة الجمعة واجبة ، فكانت هذه وظيفة ظاهريّة مقرّرة للجاهل من دون أن تكون مزيلة لجهله ، وهكذا إن استفدناها من الاستصحاب بأنّ صلاة الجمعة في عصر حضور الإمام المعصوم عليه‌السلام كانت واجبة يقينا فنشكّ في عصر الغيبة

٦١٨

في بقائه ، فنستصحب وجوبها بمقتضى قول المعصوم عليه‌السلام ... «لا تنقض اليقين بالشكّ» (١) ، فصلاة الجمعة وظيفة ظاهريّة للجاهل من دون أن تكون مزيلة لجهله ، فنعبّر عن هذه الأحكام بالأحكام الظاهريّة.

إذا تمهّدت لك هذه المقدّمة فنقول : إنّ النزاع في مسألة الإجزاء يقع في مقامين :

الأوّل : أن يلاحظ كلّ المأمور به بالنسبة إلى أمره فهل أنّ إتيان المأمور به مع الوضوء وسائر الخصوصيّات يجزي عن الأمر الواقعي الأوّلي أم لا؟ وإتيان فاقد الماء الصلاة مع التيمّم هل يكفي عن الأمر الواقعي الاضطراري أم لا؟ وهكذا في الأمر الظاهري.

المقام الثاني : أنّ إتيان الصلاة مع التيمّم مع أنّ المكلّف كان في حال الصلاة فاقدا للماء هل يكفي عن الأمر الواقعي الأوّلي بعد أن صار في الوقت أو بعده واجدا للماء أم لا؟ وأنّ إتيان المأمور به بالأمر الظاهري ـ مثل صلاة الجمعة ـ هل يجزي عن الأمر الواقعي بعد انكشاف الخلاف في الوقت أو بعده أم لا؟ وما هو المهمّ والأساس في المسألة عبارة عن المقام الثاني المنحصر في الأمر الاضطراري والظاهري.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ البحث في المقام الأوّل بحث عقلي ؛ إذ الحاكم بالإجزاء وعدمه في مثل هذا المورد هو العقل ولا دخل للألفاظ فيه ، ولا ينحصر هذا المعنى في الأوامر الشرعيّة ، بل كان في الأوامر العرفيّة أيضا كذلك ، وأمّا البحث في المقام الثاني فبحث لفظي وخارج عن حدود حكم العقل ، فلا بدّ لنا من مراجعة أدلّة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة ونلاحظ أنّه يستفاد من

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢١٧ ، الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

٦١٩

مفادها الإجزاء أم لا؟

فمثلا : تكون في رواية صحيحة جملة : «أنّ التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين» ، كأنّه يقول : لا تتوهّم أنّ تحقّق الطهارة منحصر بالماء ، بل التراب أيضا طهور في ظرف فقدان الماء ، كما أنّ الماء طهور في ظرف وجدانه ، ويستفاد من هذا اللحن خصوصا مع الدقّة في ذيل الجملة ـ أي يكفيك إلى عشر سنين ـ الإجزاء ، فيرجع البحث إلى مفاد دليل الأمر الاضطراري لا إلى العقل.

وهكذا في الأوامر الظاهريّة ، فلا بدّ لنا من ملاحظة سياق أدلّة حجّيّة الخبر والاستصحاب من أنّ مفادها تعيين وظيفة الشاكّ في ظرف الشكّ فقط وبعد انكشاف الواقع تجب الإعادة والقضاء أم لا ، فالبحث في هذا المقام متمحّض في أدلّة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة.

إذا عرفت هذا فالظاهر أنّه لا مانع من اجتماع المقامين المتضادّين في محلّ النزاع تحت العنوان والجامع الواحد ، وهو كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره : أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟ ولكنّ المقصود منه حين البحث في المقام الأوّل أنّه هل يقتضي الإجزاء بالإضافة إلى أمره؟ وحين البحث في المقام الثاني أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري والظاهري هل يقتضي الإجزاء بالإضافة إلى الأمر الأوّلي الواقعي أم لا؟

ويمكن أن يتوهّم أنّه لا محلّ للبحث في المقام الأوّل ، فإنّ المخالف فيه لا يكون من يسمع كلامه ، وما هو أساس البحث والمهمّ في هذه المسألة عبارة عن المقام الثاني الذي هو بحث لفظي ، فهذا مؤيّد لما ذكره صاحب الفصول في عنوان المسألة.

٦٢٠