دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

كون ثبوت القيد ضروريّا لا يضرّ بدعوى الانقلاب ، فإنّ المحمول ـ كالضاحك في المثال ـ إمّا هو ذات المقيّد ؛ بأن يكون القيد خارجا عنه والتقيّد داخلا فيه ، وإمّا هو مجموع القيد والمقيّد. وعلى الأوّل يلزم الانقلاب قطعا ؛ إذ المفروض أنّ المحمول هو ذات المقيّد كالإنسان الذي هو جزء لمعنى الضاحك ، وثبوته للإنسان ضروري بلا ريب ، وأمّا التقيّد بالضحك بلحاظ كونه معنى حرفيّا قائما بالذات المقيّد فلا يصلح للحمل الذي لا بدّ فيه من اللحاظ الاستقلالي ، فالقضيّة لا محالة تكون ضروريّة.

وعلى الثاني يلزم الانقلاب أيضا ، إلّا أنّه في جزء القضيّة لا في تمامها ؛ لأنّ المحمول مركّب يحمل كلّ جزء منه على الموضوع ، ولذا تنحلّ قضيّة : «الإنسان ضاحك» إلى قضيّتين ، وهما : «الإنسان إنسان» و «الإنسان له الضحك» ؛ لأنّ المفروض أنّ «ضاحك» ينحل إلى «إنسان له الضحك» ، فإنسان المطوي في الضاحك يحمل على الإنسان الموضوع ، ولا شكّ في أنّ هذه القضيّة ضروريّة ، كما أنّ الجزء الآخر من المحمول المركّب ـ وهو له الضحك ـ يحمل أيضا على الإنسان الموضوع ، ويقال : «الإنسان له الضحك» ، وهي قضيّة ممكنة ، فالانقلاب إلى الضروريّة ثابت على كلّ حال ، سواء كان المحمول ذات المقيّد أم المجموع من القيد والمقيّد.

ثمّ استشهد بكلام الشيخ والفارابي في عقد الوضع بقوله : فعقد الحمل ينحلّ إلى القضيّة ، كما أنّ عقد الوضع ينحلّ إلى قضيّة مطلقة عامّة عند الشيخ ، وقضيّة ممكنة عامّة عند الفارابي. والمراد من المطلقة العامّة أن تكون الفعليّة مأخوذة في الموضوع ، فالمقصود من الإنسان الموضوع في قضيّة ما يكون بالفعل إنسانا ، بخلاف الممكنة العامّة فإنّ المراد منها أن تكون الإمكان

٤٢١

مأخوذة في الموضوع ، فالمقصود من الإنسان الموضوع في قضيّة ما يكون بالإمكان إنسانا ، فإذا كان الحال في عقد الوضع كذلك فالأمر في عقد الحمل أوضح.

ومن المعلوم أنّ كلامه قدس‌سره في هذا المقام في مرتبة من الضعف والبطلان ، وأمّا فرض الأوّل في كلامه فإنّ المعنى الحرفي سنخ من الحقائق ونوع من الواقعيّات ، وإن احتاج في تحقّقه إلى الأمرين إلّا أنّ واقعيّته لا تكون قابلة للإنكار كما حقّق في محلّه ، فإذا كان المحمول الإنسان بوصف التقيّد وللتقيّد دخل في المحمول فالقضيّة ليست بضروريّة ، وإلّا يلزم أن يكون معنى «الكاتب» و «الضاحك» و «الناطق» هو معنى الإنسان ، وهو كما ترى ، فلا ترجع قضيّة : «الإنسان ضاحك» إلى قضيّة «الإنسان إنسان» ، فلا محالة يبقى جهة الإمكان بحالها بعد حكاية المعنى الحرفي عن الواقعيّة والحقيقة.

وأمّا الفرض الثاني في كلامه فإنّه إن سلّمنا الانحلال في القضيّة وأنّ إحدى القضيّتين ضروريّة واخرى ممكنة ، فحينئذ إن قلت بعدم تحقّق الانقلاب فهذا لا يكون جوابا لصاحب الفصول ، وإن قلت بتحقّقه ـ كما هو ظاهر الجواب ـ فهو غير صحيح ؛ إذ النتيجة بلحاظ ملاحظة المجموع تابعة لأخسّ المقدّمتين ، فإذا لوحظت القضيّة الضروريّة والممكنة معا فلا محالة تكون جهة المجموع ممكنة ؛ لأنّ الإمكان أخسّ من الضرورة ، كما ثبت في محلّه ، فأين يلزم الانقلاب؟! مع أنّ أصل الانحلال ليس بصحيح ؛ لأنّ الموضوع في قضيّة «الإنسان ضاحك» هو الإنسان ، والمحمول على فرض أخذ مصداق الشيء في المشتقّ هو إنسان له الضحك ، فلم يكن إنسان ثالث في البين حتّى يجعل موضوعا في القضيّة الثانية.

٤٢٢

والغريب منه مقايسته عقد الحمل بعقد الوضع ، والقول بأنّ عقد الحمل ينحلّ إلى قضيّة كما أنّ عقد الوضع ينحلّ إلى قضيّة.

ووجه الغرابة : أنّ هذا ليس بمعنى الانحلال الحقيقي إلى القضيّتين المذكورتين حتّى تكون قضيّة واحدة منحلّة إلى أربع قضايا من جهة انحلال عقد الوضع وعقد الحمل ، بل معناه انحلال المحمول إلى أمرين وقضيّة واحدة مثل أن يكون المحمول جملة ، فكما أنّ رجوع عقد الوضع إلى ممكنة عامّة أو مطلقة عامّة لا يوجب انحلال أصل القضيّة إلى قضيّتين كذلك في عقد الحمل ، فلا يستلزم تركّب معنى المشتقّ انقلاب مادّة الإمكان إلى الضرورة كما عرفت.

ثمّ إنّ الجزء الثاني من كلام المحقّق الشريف ـ وهو دخالة مصداق الشيء في معنى المشتقّ ـ خارج عن محلّ النزاع ، فإنّه يستلزم أن يكون الوضع في المشتقّ عامّا والموضوع له خاصّا ، مع أنّه لم يقل به أحد القائلين بالتركيب والبسيط ، حتّى أنّ القائلين بعدم الفرق بين المشتقّ والمبدأ إلّا بالاعتبار سلّموا كون الموضوع له فيه عامّا ، ولم يقل أحد منهم بأنّ بينهما فرقا آخر ، وهو كون الموضوع له في المشتقّ خاصّا ، على أنّ مصداق الشيء في القضايا الحمليّة ك «زيد كاتب» كان معيّنا ، وكذا إذا كان المشتقّ عنوانا يختصّ بنوع خاصّ كالضاحك ـ مثلا ـ وأمّا إذا لم يختصّ العنوان بنوع خاصّ كقولنا : «حسّاس متحرّك بالإرادة» فتحصيل المصداق أمر لا يمكن المساعدة عليه ، فلا بدّ لنا إمّا من الالتزام بالإبهام في معناه ، وإمّا من الالتزام بأخذ مفهوم الشيء في معنى المشتقّ ، ولكن الإبهام مردود ؛ لعدم الفرق بين الكاتب والمتحرّك من جهة عدم الإبهام في المعنى.

فمحلّ البحث ومدار الكلام هو أخذ مفهوم الشيء في معنى المشتقّ ولا ينفيه

٤٢٣

دليل المحقّق الشريف كما مرّ.

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : «ثمّ إنّه يمكن أن يستدلّ على البساطة بضرورة عدم تكرّر الموصوف في مثل «زيد الكاتب كذا» ، ولو كان المشتقّ مركّبا من الشيء مفهوما أو مصداقا لزم تكرّره ؛ بأن يقال في المثال «زيد الذي شيء له الكتابة» إن كان المأخوذ في معنى المشتقّ مفهوم الشيء ، و «زيد الذي زيد له الكتابة» إن كان المأخوذ فيه مصداق الشيء».

وفيه : أنّه لو سلّمناه في صورة أخذ مصداق الشيء مع خروجه عن محلّ النزاع لا نسلّمه في صورة أخذ مفهوم الشيء قطعا ؛ إذ مع رفع «الذي» تكون جملة «زيد شيء له الكتابة» قضيّة حمليّة ، فلا تكرّر في الموصوف أصلا ؛ لأنّ الموصوف هو «زيد» ، لا «شيء» و «زيد» ، والمستفاد من كلامه قدس‌سره أنّه يقول بما مرّ من انقلاب الإمكان إلى الضرورة عن المحقّق الشريف ، مع أنّ ظاهر كلامه يوهم أنّه كلام جديد ، فأخذ مفهوم الشيء بعنوان عرض عامّ في معنى المشتقّ لا يوجب تكرّر الموصوف كما لا يخفى.

واستدلّ أيضا للبساطة بأنّه لو اخذ مفهوم الشيء في المشتقّ يلزم دخالة شيء آخر غير المبدأ والذات في معنى المشتقّ ، وهي نسبة الذات إلى المبدأ ، وحينئذ تشتمل قضيّة «الإنسان ضاحك» على نسبتين : نسبة في المشتقّ ونسبة في القضيّة ، ومن المعلوم أنّه لا يتحقّق فيها إلّا نسبة واحدة ، ومن هنا نستكشف عدم دخالة مفهوم الشيء في معناه.

وفيه : أوّلا : أنّ النسبة في المشتقّ غير النسبة في القضيّة ؛ إذ الاولى ناقصة والثانية تامّة ، فإنّ النسبة التامّة لا تصلح لأن تقع محمولا في القضيّة ؛ إذ لا بدّ في

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٨٣ ـ ٨٤.

٤٢٤

المحمول من كونه مفردا أو مركّبا ناقصا.

وثانيا : أنّ النسبة الناقصة المأخوذة في المشتقّ متقدّمة من حيث الرتبة على النسبة التامّة في القضيّة ، فإنّ النسبة في القضيّة متأخّرة عن المحمول المأخوذ فيه النسبة الناقصة رتبة.

وثالثا : لا ارتباط بين النسبتين أصلا ؛ لعدم الاتّحاد في الموضوع والمحمول ، فإنّ الموضوع في نسبة المحمول التي استفيدت من كلمة «له» هو «شيء» ، وفي القضيّة «إنسان» موضوع و «شيء له الضحك» محمول ، وهذا غير قادح.

فالحقّ في المسألة بعد عدم تماميّة أدلّة القائلين بالبساطة وعدم نفي الأدلّة المذكورة دخالة مفهوم الشيء في معنى المشتقّ ، وبعد أن ظهر احتياج معنى المشتقّ في تحقّقه إلى المبدأ والذات ، وتلبّسها به ولو بعنوان المنتزع منه كما قال به المحقّق الشريف أنّ المتبادر من لفظ المشتقّ هو معنى المركّب لا البسيط ، فكما أنّه يتبادر من سماع المصدر «ضرب» الحدث ومن سماع فعل الماضي «ضرب» الحدث مع النسبة في الزمان الماضي ، كذلك يتبادر من سماع لفظ المشتقّ ، مثل : «ضارب الإنسان» المتلبّس بالضرب ، بلحاظ اختصاص الضرب بالإنسان ، وكذلك يتبادر من لفظ الأبيض الشيء الذي عرض له البياض ، فيما ينسبق إلى الذهن من المشتقّ عبارة عن المعنى المركّب ، وهو الذات ـ مفهوم شيء ـ والحدث والنسبة بينهما ، فلا فرق بين المشتقّ والأفعال من حيث تركّب المعنى من الامور الثلاثة المذكورة فيهما ، إلّا أنّ الأفعال تنطبق على الزمان في الزمانيّات ، فالضارب يعني شيء ثبت له الضرب ، ومن الممكن أن يكون للفظ المفرد معنى تركيبيّ ، لا سيما اللفظ الذي له مادّة وهيئة ، وكان لكلّ منهما وضع على حدة وإن لم يكن للمادّة تحصّل إلّا بالهيئة ، ألا ترى أنّ

٤٢٥

«غلام زيد» مفرد ، ولكن لكلّ من «غلام» و «زيد» معنى مستقلّ ؛ لتعدّد الوضع والموضوع له ، وهكذا لفظ المشتقّ.

ولا يخفى أنّ بعض الأعلام أيضا قائل بالتركيب ، واستدلّ أيضا بالتبادر ، ولكنّه نقض لكلامه السابق ، حيث إنّه ردّ كلام صاحب الكفاية قدس‌سره بأنّ المراد من البساطة والتركيب هاهنا البساطة والتركيب بحسب التحليل لا بحسب الإدراك والتصوّر.

بيان النقض : أنّ التركيب التحليلي لا يناسب التبادر ؛ لأنّ التبادر لا يكون إلّا في مقام الإدراك والتصوّر ، والتبادر مقدّم من حيث الرتبة على التحليل العقلي ، فما ينسبق إلى الذهن ويقع تصويره فيه ، فهو مربوط بعالم التصوّر والإدراك ، فالقول بالتركيب التحليلي لا يجامع التمسّك بالتبادر. هذا تمام الكلام في البساطة والتركيب في معنى المشتقّ.

الأمر الثاني : الفرق بين المشتق ومبدئه

وأمّا الفرق بين المشتقّ ومبدئه فإنّ كثيرا من الفلاسفة قالوا في هذا المقام : إنّ المشتقّ يكون «لا بشرط» والمبدأ يكون «بشرط لا» ، ثمّ اختلف العلماء في مرادهم عن هذه العبارة.

وفسّرها صاحب الفصول (١) بأنّ مرادهم أنّ المشتقّ والمبدأ حقيقة واحدة ، وكان لهما مفهوم واحد ، إلّا أنّه إذا لوحظ واعتبر «لا بشرط» فيكون مشتقّا ويصحّ حمله على الذات ، وإذا لوحظ واعتبر «بشرط لا» ، فيكون مبدءا ولا يصحّ حمله عليها ، كما سيأتي نظيره في بحث المطلق والمقيّد ، فإنّ مفهوم الرقبة

__________________

(١) الفصول الغروية : ٦٢.

٤٢٦

ـ مثلا ـ واحد ، قد يلاحظه المولى حين جعله متعلّقا للأمر «لا بشرط» بالنسبة إلى الإيمان والكفر ، وقد يلاحظه «بشرط شيء» بالنسبة إلى الإيمان ، وقد يلاحظه «بشرط لا» بالنسبة إلى الكفر ، فالأمر يتمثّل بعتق الرقبة المؤمنة أو الرقبة غير الكافرة لو قلنا بالواسطة بين الكفر والإيمان كما في أطفال الكفار ـ مثلا ـ وهكذا لا فرق بين المشتقّ ومبدئه على هذا التفسير إلّا بالاعتبار واللحاظ ، ولذا اعترض صاحب الفصول على أهل المعقول بأنّ هذا الفرق غير صحيح ؛ لأجل امتناع حمل العلم والحركة على الذات ، وإن اعتبرا «لا بشرط» فالاعتبار لا يغيّر المبدأ إلى المشتقّ ، ومن هنا لا نشكّ في أنّ قولنا : «زيد علم» ليس بقضيّة حمليّة صحيحة.

وأجاب عنه صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بأنّ مرادهم ليس ما توهّم حتّى يرد الإشكال المذكور ، وذلك بعد ما قال قدس‌سره : «إنّ في ذات المشتقّ خصوصيّة قابلة للحمل والجري على الذات ، بلا دخل للحاظ المتكلّم وعدمه فيه ، كقولنا : «زيد عالم» فإنّه لا فرق في اتّحاد الموضوع والمحمول الذي هو ملاك الحمل بينه وبين قولنا : «زيد إنسان» ، بخلاف المبدأ فإنّ في معناه خصوصيّة تأبى عن الحمل على الذات ، فالفرق بينهما عنده واقعي وحقيقي.

وبعد هذا البيان قال قدس‌سره : وإلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما من أنّ المشتقّ يكون «لا بشرط» ، والمبدأ يكون «بشرط لا» ، أي يكون مفهوم المشتقّ غير آب عن الحمل ، ومفهوم المبدأ يكون آبيا عنه.

واعترض عليه المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (٢) بأنّ هذا الكلام مناف مع تصريح

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٨٣ ـ ٨٤.

(٢) نهاية الدراية ١ : ٢١٨ ـ ٢٢٢.

٤٢٧

أهل المعقول ، فإنّ المحكي عن المحقّق الدوّاني في تعليقاته على شرح التجريد للقوشجي أنّه لا فرق بين المشتقّ ومبدئه الحقيقي دون مبدئه المشهوري ـ وهو المصدر ـ إلّا بالاعتبار.

ثمّ أقام دليلا لبساطة مفهوم المشتقّ بما يشبه دليل المحقّق الشريف ، وقال : «لا دخل للشيء مفهوما ولا مصداقا في معنى المشتقّ ؛ إذ لو دخل في مفهوم الأبيض الشيء كان معنى قولنا : «الثوب الأبيض» : الثوب الشيء الأبيض ، ولو دخل فيه الثوب بخصوصه كان معناه الثوب الأبيض ، وكلاهما معلوم الانتفاء».

وهذا مغالطة منه ؛ إذ المعنى في الصورة الاولى هو : «الثوب شيء له البياض» ، وفي الصورة الثانية هو : «الثوب ثوب الذي له البياض» ، وعلى أيّ حال صرّح بأنّ الفرق بينهما إنّما هو بالاعتبار.

وصرّح أيضا صدر المتألّهين (١) في شواهد الربوبيّة حيث قال : مفهوم المشتقّ عند جمهور علماء الكلام متحصّل من الذات والصفة والنسبة ، وعند بعض المحقّقين هو عين الصفة ، لاتّحاد العرض والعرض عنده بالذات ، والفرق بكون الصفة عرضا غير محمول إذا اخذ في العقل «بشرط لا» ، وعرضيّا محمولا إذا اخذ «لا بشرط».

ويؤيّده نقل الحكيم السبزواري (٢) في تعليقاته على الأسفار عن المحقّق الدوّاني وجهين آخرين : أحدهما : أنّا إذا رأينا شيئا أبيض ، فالمرئي بالذات هو البياض ، ونحن نعلم بالضرورة أنّا قبل ملاحظة أنّ البياض عرض والعرض

__________________

(١) الأسفار ١ : ٤٢.

(٢) المصدر السابق.

٤٢٨

لا يوجد قائما بنفسه نحكم بأنّه بياض وأبيض ، ولو لا الاتّحاد بالذات بين الأبيض والبياض لما حكم العقل بذلك في هذه المرتبة ، ولم يجوّز قبل ملاحظة هذه المقدّمات كونه أبيض ، لكنّ الأمر خلاف ذلك.

وحاصل الوجه الآخر : أنّ المعلّم الأوّل ومترجمي كلامه عبّروا عن المقولات بالمشتقّات ومثّلوا لها بها ، فعبّروا عن الكيف بالمتكيّف ، ومثّلوا لها بالحار والبارد ، ولو لا الاتّحاد لم يصحّ ذلك.

هذا ، وفسّر الكلام المذكور في لسان أهل المعقول الحكيم السبزواري في تعليقاته على الأسفار بما يغاير تفسير صاحب الفصول وصاحب الكفاية معا ، وملخّصه : أنّ نفس حقيقة البياض وغيرها من الأعراض تارة تلاحظ بما هي وأنّها موجودة في قبال موضوعها ، فهي بهذا اللحاظ بياض ولا يحمل على موضوعه ، كيف وقد لوحظ فيه المباينة مع موضوعه والحمل هو الاتّحاد في الوجود. واخرى تلاحظ بما هي ظهور موضوعها وكونها مرتبة من وجود موضوعها وطورا لوجوده وشأنا من شئونه ، وظهور الشيء وطوره وشأنه لا يباينه ، فيصحّ حملها عليه ؛ إذ المفروض أنّ هذه المرتبة مرتبة من وجود الموضوع والحمل هو الاتّحاد في الوجود.

ولكنّ الإمام قدس‌سره (١) على ما يستفاد من تقريراته أنّه استشكل أوّلا على ما حكاه السبزواري عن المحقّق الدوّاني من أنّه : إذا رأينا البياض والعقل يحكم بالضرورة في المرحلة الاولى بأنّه أبيض ، وملخّص إشكاله : أنّه لو فرضنا أن يحكم العقل كذلك ، ولكنّ مفهوم المشتقّ ومعناه أمر لغوي وعرفي لا بدّ من استفادته من العرف ، ولا يصحّ القول بأنّ البياض أبيض عند العرف قطعا.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ١٢٤ ـ ١٢٧.

٤٢٩

وثانيا : على ما قال به المحقّق السبزواري من أنّ البياض قد تلاحظ بما هو ظهور موضوعه فيصحّ حمله عليه.

ويرد عليه : أنّ البياض على أيّ نحو يلاحظ ليس قابلا للحمل أصلا ، فقولنا : «الجسم بياض» ليس بقضيّة ، بل القضيّة أن يقال : الجسم أبيض. ومن هنا نكشف أنّ للأبيض معنى يكون بنفسه قابلا للحمل ، وللبياض معنى لا يكون بذاته كذلك.

على أنّ المقصود من المبدأ ما هو؟ فإنّ كان المراد منه المبدأ الحقيقي لا المشهوري ، يعني المادّة السارية في ضمن المشتقّات كما هو الظاهر من كلمات أهل المعقول ، وحينئذ يرد عليهم :

أوّلا : أنّ اجتماع «بشرط لا» و «لا بشرط» في كلمة واحدة ، مثل : «ضارب» كيف يعقل؟! إذا المادّة التي كان لها عنوان «بشرط لا» كيف تجتمع مع هيئة لها عنوان لا بشرط؟!

وثانيا : أنّ المادّة كما لا تحصّل لها من حيث اللفظ إلّا في ضمن الهيئة كذلك لا تحصّل لها من حيث المعنى إلّا في ضمن الهيئة ، فليس لها معنى حتّى تكون قابلة للحمل.

وإن كان المراد من المبدأ المبدأ المشهوري ـ أي المصدر ـ فهو خلاف ظاهر كلمات أهل المعقول ، بل خلاف تصريح المحقّق الدواني المتقدّم.

والحاصل : أنّ ما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره في مقام الفرق بين المشتقّ ومبدئه من أنّ المشتقّ له معنى بذاته قابل للحمل ، والمبدأ له معنى بذاته لا يكون قابلا للحمل فهو الصحيح ، وحينئذ إن قلنا : إنّ المبدأ هي المادّة غير المتحصّلة فعدم قابليّته للحمل تكون بنحو السالبة بانتفاء الموضوع كما قال به

٤٣٠

الإمام قدس‌سره ، وإن قلنا : إنّ للمبدا معنى متحصّلا وهيئة المصدر وضعت لإمكان التنطّق به فيكون للمبدا معنى غير قابل للحمل ، فإن رجع كلام أهل المعقول إلى هذا المعنى فهو ، وإلّا فليس بصحيح.

ثمّ إنّ صاحب الفصول (١) ذكر في ذيل جواب أهل المعقول مسألة اخرى تحت عنوان «ملاك الحمل» وهي في الحقيقة جواب آخر على رأي أهل المعقول ، وهي : أنّ الحمل يتقوّم بشيئين : أحدهما : المغايرة الدخيلة في تشكيل القضيّة الحمليّة ، وثانيهما : الاتّحاد الدخيل في ظرف تحقّق الحمل من الخارج أو الذهن ، فالتغاير قد تكون اعتباريّا والاتّحاد حقيقيّا ، مثل : «زيد انسان» ، وقد يكون التغاير حقيقيّا والاتّحاد اعتباريّا ؛ بأنّ الشيئين يعتبران ويلاحظان شيئا واحدا ، فيجعل المجموع الذي اعتبر واحدا موضوعا ، وجزء منه محمولا ، مثل : «الجسم بياض» ، بخلاف الأبيض فإنّه قابل للحمل على الجسم بدون اعتبار الوحدة ، فهذه ضابطة الحمل التي جعلها صاحب الفصول جوابا لأهل المعقول.

ولكنّ الفرض الثاني من كلامه وقع موردا للإشكال ؛ بأنّه كيف يعقل حمل أحد المتغايرين على الآخر بالوحدة الاعتباريّة؟! ولا يخفى أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره توهّم أنّ ملاك الحمل بتمامه عنده ملاحظة التركيب بين المتغايرين واعتبار كون مجموعهما بما هو مجموع واحدا ، ولذا اعترض عليه بأنّ ملاك الحمل هو الهوهويّة والاتّحاد من وجه والمغايرة من وجه آخر ، كما يكون بين المشتقّات والذوات ، ولا يعتبر معه ملاحظة التركيب بين المتغايرين ، مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التحديد ، مثل : «الإنسان حيوان ناطق» وسائر القضايا في طرف الموضوعات.

__________________

(١) الفصول الغروية : ٦٢.

٤٣١

والإنصاف أنّ هذا بعيد من كلام صاحب الفصول بمراحل ، فإنّه في مقام جواب أهل المعقول وبيان الفرق بين المشتقّ ومبدئه ، قال (١) : «حمل البياض على الجسم يحتاج إلى اعتبار التركيب ، بخلاف حمل الأبيض عليه ، فإنّه وكذا سائر المشتقّات يحمل عليه بدون الاعتبار كما لا يخفى ؛ إذ الأبيض مع الجسم متّحد حقيقة.

ولعلّ منشأ توهّم المحقّق الخراساني قدس‌سره تمثيل صاحب الفصول للمغايرة الوجوديّة بقوله : «الإنسان جسم» ؛ إذ لا مغايرة بينهما أصلا ، بل هما متّحدان من حيث الوجود.

وأمّا إشكاله الثاني على صاحب الفصول فوارد عليه ، وهو : أنّ ملاحظة التركيب واعتبار المجموع أمرا واحدا منحلّ بالحمل ؛ لاستلزامه المغايرة بين الموضوع والمحمول بالجزئيّة والكلّيّة ، فهذا الحمل نظير حمل الأجزاء على الكلّ ، والجزء بما هو جزء آب عن الحمل على الكلّ وعلى جزء آخر ، فلا يصحّ هذا الحمل ؛ لمغايرة الجزء للكلّ وعدم الاتّحاد المصحّح للحمل بينهما.

وأمّا الإشكال المهمّ فهو : أنّ القضيّة الحمليّة ما تحكي وتخبر عن الواقعيّة الخارجيّة وتلقي الواقعيّة إلى السامع بدون زيادة ونقيصة ، ففي الواقع وإن كان وجود العرض ـ كالبياض ـ مغايرا لوجود الجوهر ـ كالجسم ـ إلّا أنّ في مقام الحمل يحمل الأبيض على الجسم ، ومعناه على القول بالتركيب في معنى المشتقّ عبارة عن شيء له البياض ، ولا شكّ في أنّه لا مغايرة بين الجسم وشيء له البياض ، بل تحقّق بينهما اتّحاد وهوهويّة ، وإذا كان الأمر بحسب الواقع كذلك وفي مقام الإخبار أيضا تلقى الصورة الواقعيّة طابق النعل بالنعل ، فالقضيّة

__________________

(١) المصدر السابق.

٤٣٢

الحمليّة صحيحة.

ومن هنا يتّضح أمران :

أحدهما : بطلان ما قال به صاحب الفصول من اعتبار الاتّحاد بين الجسم والبياض وصحّة حملهما.

ووجه البطلان أنّ البياض مغاير للجسم من حيث الوجود ومباين له ، فحينئذ إن كان الغرض من حملهما إلقاء الواقع وإرادة الواقعيّة والإخبار عنها فلا يكون بينهما اتّحاد وهوهويّة بحسب الواقع حتّى يخبر عنه.

وأمّا اعتبار التركيب والوحدة بين المتغايرين فلا يوجب تغيير الواقعيّة عمّا هي عليه ، ولا يصحّح الحمل والإخبار ، فيكون كلام صاحب الفصول في نفسه باطلا ، مع قطع النظر عن إشكال المحقّق الخراساني قدس‌سره.

وثانيهما : بطلان ما قال به الأعاظم كالمحقّق الأصفهاني والمحقّق الخراساني قدس‌سرهما من أنّه إذا كان بين الموضوع والمحمول بحسب الواقع اتّحاد وهوهويّة فلا بدّ في مقام تشكيل القضيّة الحمليّة من اعتبار المغايرة بينهما.

وجه البطلان : أنّه لا نحتاج إلى اعتبار المغايرة أصلا ، ولا ضرورة تقتضيه.

وإن قلت : إنّ وجود النسبة في القضايا يقتضيه ؛ إذ لا بدّ من مغايرة المنسوب والمنسوب إليه ، وإلّا لا يعقل نسبة الشيء إلى نفسه.

قلت : إنّ المشهور وإن كان تقوّم القضايا الحمليّة بثلاثة أشياء : الموضوع والمحمول والنسبة ، ولكنّ التحقيق أنّها متقوّمة بالاتّحاد ، فلا تتحقّق النسبة بين «زيد» و «القائم» في قضيّة «زيد قائم» ، إنّما النسبة بين «زيد» والقيام متحقّق ، إلّا أنّ القيام ليس بمحمول ، والمحمول هو القائم ، ومعناه ـ كما مرّ ـ شيء له القيام ، وهو متّحد مع «زيد» الموضوع ، فلا نحتاج إلى النسبة في القضايا

٤٣٣

الحمليّة.

وإن قلت : لا يحمل الشيء على نفسه فلا بد من المغايرة وإن كانت اعتباريّة حتّى يصحّ الحمل ، وإلّا كيف يحمل الشيء على نفسه؟!

قلت : لا إشكال في حمل الشيء على نفسه ، ألا ترى أنّ بيان ماهيّة الإنسان ـ مثلا ـ بصورة قضيّة حمليّة وقولك : «الإنسان حيوان ناطق» لا يحتاج إلى أيّ اعتبار كما لا يخفى ؛ إذ لا ضرورة في مقام الإخبار وإلقاء الواقع إلى اعتبار المغايرة أصلا ، ومن المعلوم أنّ الجملة الخبريّة هي مرآة للواقع ، ولذا لا يكون ملاك الحمل في القضايا الحمليّة إلّا الاتّحاد ، وأقلّ مراتبه الاتّحاد في الوجود ، وأعلى منه الاتّحاد في الماهيّة والمفهوم ، فلا وجه لاعتبار التغاير ، بل لعلّه ليس بصحيح ؛ إذ هو على خلاف الواقع.

ويستفاد من كلمات الإمام قدس‌سره (١) على ما في تقريراته : أنّ القضيّة الحمليّة تكون في الحقيقة ثلاث قضايا : أحدها : القضيّة المحكية ، وهي عبارة عن الواقعيّة الخارجيّة التي تخبر القضيّة الحمليّة عنها في مقام الحكاية. وثانيها : القضيّة الملفوظة ، وهي عبارة عن نفس الألفاظ المستخدمة بعنوان الموضوع والمحمول. وثالثها : القضيّة المعقولة ، وهي عبارة عن الصورة الحاصلة في ذهن المستمع من القضيّة الملفوظة.

ثمّ قال : فكما لا يكون التغاير الواقعي متحقّقا في القضيّة المحكيّة الصادقة كذلك لا معنى للتغاير الاعتباري ، واعتبار التغاير بوجه ؛ لأنّ اعتبار التفكيك ينافي الإخبار بالاتّحاد والهوهويّة. نعم ، تغاير الموضوع والمحمول في القضيّة الملفوظة والمعقولة وجودا أو مفهوما أيضا ممّا لا بدّ منه ، فإذا قلت : «زيد زيد»

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ١٢٧.

٤٣٤

يتكرّر اللفظ ، وهما يحكيان عن هويّة واحدة ، ولا يحكيان عن الاتّحاد ، مع أنّه لا بدّ في القضيّة الحمليّة من الحكاية عن الاتّحاد والهوهويّة ، فلا يكون قولك : «زيد زيد» قضيّة حمليّة ؛ إذ لا تغاير في القضيّة الملفوظة والمعقولة في الواقع.

وصرّح في ذيل كلامه أنّ حمل الشيء على نفسه ليس غير صحيح جدّا ، بل ضروري الصحّة ، وفائدته دفع توهّم من توهّم أنّه يمكن أن يكون الشيء غير نفسه.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّه إذا بدّلنا قولنا : «زيد زيد» بقولنا : «الإنسان إنسان» فلا شبهة في أنّه قضيّة حمليّة صحيحة ، مع أنّه لا مغايرة بين الموضوع والمحمول ، فلا ضرورة إلى التغاير أصلا.

إن قلت : إنّ التغاير اللفظي بينهما في قضيّة «الإنسان إنسان» متحقّق ، فإنّ كون الموضوع معرفة والمحمول نكرة يكفي في التغاير.

قلت : سلّمنا أنّ التغاير اللفظي في كلام الإمام قدس‌سره يشمل هذا النوع من التغاير أيضا ، ولكنّ قول القائل بأنّ «زيد زيد» بعد إحراز أنّه في مقام الإخبار وتشكيل القضيّة لا التأكيد لم ، لا يكون قضيّة حمليّة ، مع أنّ فائدة دفع التوهّم موجود فيه ، وحمل الشيء على نفسه ضروري الصحّة؟! ، فالظاهر أنّ قولنا : «زيد زيد» أيضا قضيّة حمليّة صحيحة ، ويؤيّده التعابير العرفيّة ، فإنّ كثيرا ما يقال مثلا : «ابن الإمام ابن الإمام» ، لا شكّ في أنّه قضيّة حمليّة صحيحة ، بدون التصرّف في المضاف والمضاف إليه في الجملتين كما هو الظاهر ، فليس الملاك في القضايا الحمليّة إلّا الاتّحاد والهوهويّة ولا نحتاج إلى اعتبار التغاير بوجه.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ذكر مسألة بعنوان الأمر الرابع ، وذكر أيضا

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٨٥ ـ ٨٦.

٤٣٥

الجهة الاخرى منها تحت عنوان الأمر الخامس ، ولكنّهما في الحقيقة مسألة واحدة ، فلا بدّ من بحثهما معا كما فعل الإمام قدس‌سره.

الأمر الثالث : في ملاك الحمل

ولا يخفى عليك أنّ للمسألة جهتين : الاولى : في أنّه ظهر ممّا سبق أنّ المشتقّ له معنى قابل للحمل على الذات ، والمبدأ بعكسه كما مر ، فلا شكّ ولا شبهة في مغايرة المبدأ مع الذات التي يجري المشتقّ عليها.

الثانية : في أنّه بعد الاتّفاق على اعتبار المغايرة بينهما لا بدّ من الارتباط بينهما بوجه ، وكلّ من الجهتين وقع موردا للإشكال.

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في الجهة الاولى : إنّه لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتقّ عليه مفهوما وإن اتّحدا عينا وخارجا ، فصدق الصفات ـ مثل العالم والقادر والرحيم والكريم إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال ـ عليه تعالى على ما ذهب إليه أهل الحقّ من عينيّة صفاته يكون على نحو الحقيقة ، فإنّ المبدأ فيها وإن كان عين ذاته تعالى خارجا إلّا أنّه غير ذاته تعالى مفهوما ، فلا فرق بين قولنا : «زيد عالم» وقولنا : «الله تعالى عالم» في إطلاق العالم عليهما على نحو الحقيقة ، فإنّ مناط الحمل ـ وهو الاتّحاد الوجودي في صفات الباري تعالى مع المغايرة المفهوميّة ـ موجود.

وأمّا صاحب الفصول فلمّا توهّم أنّ المراد من المغايرة المعتبرة بين المبدأ والذات هو التغاير الوجودي والواقعي التزام بحمل صفات الباري تعالى عليه بالتجوّز ؛ بأن يراد بالعالم المحمول عليه تعالى غير معناه اللّغوي ، أو النقل ؛ بأن يكون حمله عليه سبحانه بمعنى آخر حقيقي مناسب لمعناه الأوّل ، فالعالم الذي

__________________

(١) المصدر السابق : ٨٥.

٤٣٦

يحمل على الله تعالى غير العالم المحمول علينا ؛ إذ لا إشكال في كون المبدأ عينا في الواجب وزائدا في الممكن ، بناء على مذهب الحقّ.

الأمر الرابع : في كيفيّة حمل صفات البارئ على ذاته المقدّسة

وأمّا في الجهة الثانية من المسألة فتتحقّق أقوال متعدّدة :

منها : ما نسب إلى الأشاعرة ، وهو أن تكون كيفيّة ارتباط المبدأ بالذات بنحو القيام الحلولي كقيام البياض بالجسم ، ثمّ لاحظوا أنّ صفة المتكلّم ممّا يكون إطلاقه عليه تعالى صحيحا في جميع الشرائع ، ولاحظوا أيضا أنّ قيام مبدئه ـ يعني الأصوات الخاصّة ـ على ذات الباري لو كان بنحو القيام الحلولي يستلزم أن يقع الباري مع كونه قديما معروضا للحوادث ؛ إذ لا شبهة في أنّ الأصوات من الامور الحادثة. ولذا التزموا بأنّ مبدأ المتكلّم إذا أطلق على الله سبحانه فهو كلام النفس ، وهو قديم وقائم على ذات الباري بنحو الحلول.

ويمكن أن يجاب عنه بأنّ قيام المبدأ بالذات بنحو القيام الحلولي في جميع المشتقّات واضح البطلان ، فإنّه سلّمنا أنّ قيام الضرب بالمضروب ـ مثلا ـ حلولي ، ولكنّه بالضارب صدوري لا حلولي ، فليس ارتباط المبدأ بالذات بنحو القيام الحلولي أبدا.

ومنها : ما قيل بعدم اعتبار القيام في ارتباط المبدأ بالذات أصلا ، فإنّه توهّم أنّ كلمة «القيام» ملازمة لكلمة «الحلول» ، وإشكاله أوضح من أن يخفى. وللتفصّي عن هذا الاشكال التزم بعدم اعتبار القيام رأسا.

ومنها : ما عن ظاهر الفصول (١) من اعتبار القيام بالمعنى الأعمّ من الحلول

__________________

(١) الفصول الغروية : ٦٢.

٤٣٧

والصدور فيما لم يكن المبدأ ذاتا ، مثل : الضارب والمضروب ونحو ذلك ، وعدم اعتبار القيام فيما كان المبدأ ذاتا كالابن ، وإذا كان المبدأ عين الذات كصفات الواجب تعالى فالتزم بالنقل أو التجوّز ؛ للتفصي عن الإشكال ؛ بأنّ قيام مبدأ العالم ـ مثلا ـ بذات الباري لا يكون بنحو الحلول والصدور ، فقولنا : «الله تعالى عالم» ليس بصحيح.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) بأنّه إذا قلنا : «الله تعالى عالم» إمّا أن نعني أنّه من ينكشف لديه الشيء فهو ذاك المعنى العامّ الشامل للواجب والممكن ، أو أنّه مصداق لما يقابل ذاك المعنى المعبّر عنه بالجهل ، فمعنى العالم حينئذ هو الجاهل ، فتعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

وإمّا أن لا نعني شيئا فتكون صرف لقلقة لسان وألفاظ بلا معنى ، فلا بدّ من إرادة المعاني العامّة من الصفات ؛ لئلّا يلزم شيء من المحذورين فيه تعالى.

والإنصاف أنّ هذا الجواب عن صاحب الفصول ليس بصحيح ، فإنّه اعتبر في قيام المبدأ بالذات الجامع بين الحلولي والصدوري ، ولمّا كان هذا السنخ من القيام ممتنعا فيه سبحانه وتعالى التزم صاحب الفصول بالنقل أو التجوّز بمعنى إرادة معنى من العلم والقدرة ، مثلا : يكون عين ذاته عزوجل ولا يكون زائدا عليها ، فيصحّ قولنا : «الله تعالى علم» ، بل هذا التعبير أولى من قولنا : «الله تعالى عالم».

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) : والتحقيق : أنّه لا ينبغي أن يرتاب من كان من اولي الألباب في أنّه يعتبر في صدق المشتقّ على الذات وجريه عليها من

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٨٨.

(٢) المصدر السابق : ٨٦ ـ ٨٨.

٤٣٨

التلبّس بالمبدإ بنحو خاصّ على اختلاف أنحائه الناشئة من اختلاف الموارد تارة ، واختلاف الهيئات اخرى ، من القيام صدورا ـ كالإعطاء والضرب ـ أو حلولا ـ كالمرض ـ أو وقوعا عليه ـ كالضرب بالنسبة إلى المضروب ـ أو فيه ـ كمجلس ومسجد ـ أو انتزاع المبدأ عن الذات مفهوما مع اتّحاد معها خارجا كما في صفاته تعالى ، أو مع عدم تحقّق إلّا للمنتزع عنه كما في الإضافات ـ نحو الابوّة ـ والاعتبارات ـ نحو الملكيّة ـ التي لا تحقّق لها ولا يكون بحذائها في الخارج شيء ، ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له مفهوما وقائما به عينا ، لكنّه بنحو من القيام ، لا بأن يكون هناك اثنينيّة وكان ما بحذائه غير الذات ، بل بنحو الاتّحاد والعينيّة وكان ما بحذائه عين الذات ، وعدم اطّلاع العرف على مثل هذا التلبّس من الامور الخفيّة لا يضرّ بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة ولو بتأمّل وتعمّل من العقل ، والعرف إنّما يكون مرجعا في تعيين المفاهيم لا في تطبيقها على مصاديقها. هذا ملخّص كلامه قدس‌سره.

وما يستفاد من كلام الإمام قدس‌سره (١) وبعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات (٢) أنّه لا يعتبر في جري المشتقّ على الذات تلبّسها بالمبدإ حتّى نحتاج إلى توسعة دائرة التلبّس وشمول الموارد التي لا يساعدها العرف ، وينتهي الأمر إلى إنكار مرجعيّة العرف ، بل المعتبر فيه واجديّة الذات للمبدا في قبال فقدانها له ، وهي تختلف باختلاف الموارد ، فتارة يكون الشيء واجدا لما هو مغاير له وجودا ومفهوما ، كما هو الحال في غالب المشتقّات.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ١٢٨.

(٢) محاضرات في الفقه ١ : ٢٩١ ـ ٢٩٢.

٤٣٩

واخرى يكون واجدا لما هو متّحد معه خارجا وعينه مصداقا وإن كان يغايره مفهوما ، كواجديّة ذاته تعالى لصفاته الذاتيّة.

وثالثا يكون واجدا لما يتّحد معه مفهوما ومصداقا وهو واجديّة الشيء لنفسه ، وهذا نحو الواجديّة ، بل هي أتمّ وأشدّ من واجديّة الشيء لغيره ، فالواجديّة خصوصيّة متحقّقة في المشتقّ ، ويشهد له التبادر والوجدان.

وأمّا كيفيّة الواجديّة من كونها بنحو العينيّة أو بنحو زيادة المبدأ على الذات فلا دخل لها في مفهوم المشتقّ ، فالعالم يعني الواجد للعلم ، سواء كانت الواجديّة بنحو العينيّة ـ كما في الباري ـ أم بنحو زيادة المبدأ على الذات ـ كما في المخلوقين ـ فإنّهما خارجتان عن مفهوم العالم ، فلا فرق بين إطلاق العالم على زيد ـ مثلا ـ وعلى الباري من حيث كونه إطلاقا حقيقيّا ، فلا نحتاج إلى الالتزام بالنقل والتجوّز. وهذا المعنى قريب إلى الذهن بعد الدقّة والتأمّل ، والعرف أيضا يساعده.

الأمر الخامس : لا يعتبر في صدق المشتقّ التلبّس الحقيقيّ

الظاهر أنّه لا شكّ في أنّ إطلاق كلمة «جار» على الماء ك «الماء جار» إطلاق حقيقي ، ولا بحث فيه ، ولا شكّ أيضا في أنّ إطلاق كلمة «جار» على الميزاب ـ كما في الميزاب جار ـ إطلاق مجازي ، وإنّما البحث في أنّ لفظ «جار» بما أنّه مشتقّ هل هو استعمل فيه في معناه الحقيقي حتّى يكون مجازا في الإسناد ، أم استعمل في غير معناه الحقيقي حتّى يكون مجازا في الكلمة؟

وما يستفاد من كلام صاحب الفصول (١) أنّه يعتبر في صدق المشتقّ حقيقة

__________________

(١) الفصول الغروية : ٦٢.

٤٤٠