دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

الإسناد الحقيقي ، فلازمه أن يكون قولنا : «الميزاب جار» مجازا في الكلمة ، ولكنّ المحقّقين قائلون بأنّ كلمة «جار» استعملت في معناها الحقيقي ، إلّا أنّ تطبيقها على الميزاب وإسناده إليه مجازي ، فكلمة «جار» في قولنا : «الماء جار» وفي قولنا : «الميزاب جار» استعملت في معناها الحقيقي بلا فرق بينهما ، إلّا أنّ الإسناد في الأوّل حقيقي ، وفي الثاني مجازي.

فالتحقيق : أنّ الحقّ مع المحقّقين ، وما قال به صاحب الفصول كان من باب الخلط بين المجاز في الإسناد والمجاز في الكلمة. هذا تمام الكلام في بحث المشتقّ.

٤٤١
٤٤٢

المقصد الأوّل

في الأوامر

وفيه فصول

٤٤٣
٤٤٤

الفصل الأوّل

فيما يتعلّق بمادّة الأمر من جهات

وهي عديدة :

الجهة الاولى

أنّه قد ذكر للفظ الأمر معان متعدّدة

منها : الطلب ، كما يقال : أمره بكذا ، ولا يخفى أنّ الأمر بمعنى الطلب كنفس الطلب يكون من المشتقّات ، ولذا يعبّر عن المكلّف بالمأمور ، وعن المكلّف به بالمأمور به ، وهو لا يجمع إلّا بالأوامر.

ومنها : الشأن ، كما يقال : شغله أمر كذا.

ومنها : الفعل ، كما في قوله تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)(١).

ومنها : الفعل العجيب ، كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا)(٢) قال المرحوم البروجردي قدس‌سره (٣) : أنّ عدّ الفعل العجيب من معانيه لعلّه من جهة

__________________

(١) هود : ٩٧.

(٢) هود : ٨٢.

(٣) نهاية الاصول : ٧٥.

٤٤٥

الاشتباه بالإمر ـ بكسر الهمزة ـ فإنّه بمعنى العجيب كقوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً)(١) ، وأنّ الأمر في قوله تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) وفي قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) ما استعمل إلّا في معنى الطلب كما لا يخفى.

ومنها : الشيء ، كما تقول : «رأيت اليوم أمرا عجيبا».

ومنها : الحادثة ، كما تقول : «وقع في هذا اليوم أمر كذا».

ومنها : الغرض ، كما تقول : «جاء زيد لأمر كذا».

ومن المعلوم أنّ الأمر بهذه المعاني يكون من الجوامد ، وجمعه عبارة عن الامور.

وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) : لا يخفى أنّ عدّ بعضها ـ أي بعض هذه المذكورات من معاني الأمر ـ من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم ؛ ضرورة أنّ الأمر في «جاء زيد لأمر كذا» ما استعمل في معنى الغرض ، بل اللام قد دلّ على الغرض. نعم ، يكون مدخوله مصداقا للغرض ، وهكذا الحال في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) يكون مصداقا للتعجّب لا مستعملا في مفهومه ، وكذا في الحادثة والشأن.

ثمّ قال : لا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء ، هذا بحسب العرف واللّغة.

وحاصل كلامه : أنّ الأمر مشترك في المعنيين : وهما الطلب والشيء ، إلّا أنّ الشيء قد يقع مصداقا للغرض وقد يقع مصداقا للحادثة ، وهكذا ، والتعابير قرينة على كونه مصداقا لأيّ من المعاني المذكورة.

__________________

(١) كهف : ٧١.

(٢) كفاية الاصول ١ : ٨٩ ـ ٩٠.

٤٤٦

ووافقه صاحب الفصول (١) في أنّ الأمر مشترك بين المعنيين ، لكنّه ذكر عوض الشيء شأنا.

وأمّا تقييد الطلب بقيد «في الجملة» في كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره فيحتمل أن يكون ناظرا إلى المباحث الآتية من أنّ للعلوّ والاستعلاء دخل في معنى الأمر أم لا ، وأنّ الأمر بمعنى الطلب يختصّ بالأمر الوجوبي أو يشمل الطلب الاستحبابي أيضا.

ويحتمل أن يكون ناظرا إلى أنّه إذا قلنا : إنّ الأمر يكون بمعنى الطلب فليس معناه صحّة إطلاق لفظ الأمر في كلّ مورد يصحّ إطلاق لفظ الطلب فيه ، بل إذا طلب شخص من شخص آخر شيئا ـ مثل طلب المولى من عبده ماء ـ فيطلق عليه الآمر والطالب معا ، وأمّا إذا جعل لفظ الطلب صفة الشخص ـ مثل طالب العلم وطالب الشهادة ـ فلا يطلق عليه لفظ الأمر ، ولا يقال في المثال : آمر العلم وآمر الشهادة.

ويستفاد من عدم تقييده كلمة «الشيء» بقيد «في الجملة» أنّ في كلّ مورد يطلق لفظ «الشيء» يطلق لفظ الأمر أيضا ، مع أنّه ليس كذلك ، فإنّ إطلاق لفظ الأمر في بعض موارد استعمال لفظ «الشيء» فيه غير مأنوس جدّا ، كما إذا قلنا : هذا الكتاب أمر عجيب ، ومن هنا نكشف أنّه لا بدّ من تقييد لفظ «الشيء» أيضا بالقيد المذكور.

فقد عرفت أنّ معاني الأمر ليست من سنخ واحد ، فأحدها حدثي واشتقاقي ، وهو الطلب. والأمر بهذا المعنى جمعه أوامر ، والمعنى الآخر ـ سواء كان شيئا أو شأنا أو غيرها ـ ليس باشتقاقي ، والأمر بهذه المعاني جمعه امور.

__________________

(١) الفصول الغروية : ٦٢ ـ ٦٣.

٤٤٧

ومن المعلوم أنّ استعمال الأوامر محلّ الامور وبالعكس ليس بصحيح ، ومن الواضح أنّ المغايرة في المشترك اللفظي لا تتحقّق إلّا من ناحية المعنى ؛ إذ اللفظ مع جميع خصوصيّاته يوضع تارة لمعنى واخرى لمعنى مغاير له وهكذا ، كوضع لفظ العين لمعان متعدّدة ، بلا تصرّف في اللفظ ، وإن كان جمعها متفاوتا ، فإنّ العين الباكية تجمع على أعين ، والعين الجارية تجمع على عيون ، والعين بمعنى الأعاظم تجمع على أعيان.

ولكنّه في ما نحن فيه وضع لفظ الأمر بهيئته ومادّته لمعان غير اشتقاقيّة تارة ووضع بمادّته فقط لمعنى اشتقاقي آخر ، فالدخيل في وضع الأمر للطلب هي المادّة وحدها يعني «أ ، م ، ر» وأمّا الدخيل في الأمر الموضوع للشيء وأمثاله فهي الهيئة المعيّنة والمادّة المعيّنة ، فأين لفظ الواحد المشترك بين المعنيين؟! فلا تتحقّق هاهنا خصوصيّة لازمة في المشترك اللفظي ، فيكون وضع اللفظين للمعنيين كما هو المعلوم.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال مبتن على ما اخترناه في باب المشتقّ من أنّ المبادئ في المشتقّات عبارة عن المادّة الخالية عن الهيئة ؛ إذ لا بدّ من أن يكون المبدأ ساريا وجاريا في جميع المشتقّات من حيث اللفظ والمعنى ، فإذا كان للمبدا هيئة مخصوصة ـ مثل هيئة المصدر ـ فلا يمكن سريانه فيها لفظا ومعنى ؛ إذ الهيئات متغايرة فيها ، ولا تتحقّق فيها هيئة المصدر ، ولذا قلنا : إنّ المصدر وضع لإمكان النطق بالمبدإ ، ولا معنى له أزيد من معنى المبدأ ، فما هو المعروف من أنّ المصدر أصل للكلام ، وأنّ المصدر ما كان في آخر معناه الفارسي «د ، ن» أو «ت ، ن» ليس بصحيح.

والإشكال الثاني على المحقّق الخراساني قدس‌سره أنّه لم لا يعدّ الفعل من المعاني

٤٤٨

الحقيقيّة ، ولا من المعاني التي يعبّر عنها باشتباه المصداق بالمفهوم وإن كان داخلا في هذا السنخ من المعاني؟! إلّا أنّه لا دليل ؛ لعدم ذكره وحده.

والإشكال المهمّ عليه قدس‌سره أنّه قال : إنّ الأمر في قولنا : «جاء زيد لأمر كذا» ما استعمل في معنى الغرض ، بل اللام قد دلّت على الغرض. نعم ، يكون مدخوله مصداقا للغرض.

فنقول : أوّلا : ليس استعماله فيه باطلا ؛ إذ لا شكّ في صحّة قول : «جاء زيد لغرض كذا».

وثانيا : على فرض تسليم أن يكون مدخول اللام مصداقا للغرض فهل الأمر استعمل في مصداق الغرض بما أنّه مصداق للغرض أو بما أنّه مصداق للشيء؟ إن قلت : استعمله فيه بما أنّه مصداق للغرض ، قلنا : فلم لا يجوز استعماله في مفهوم الغرض؟! بل استعماله فيه يكون جائزا بطريق أولى.

وإن قلت : استعمله فيه بما أنّه مصداق للشيء ، قلنا : هذا ليس من اشتباه المصداق بالمفهوم ؛ لأنّه حينئذ استعمل في مصداق نفس الغرض لا في مصداق أحد المفاهيم العامّة ، مع أنّ استعماله في مفهوم الشيء استعمال حقيقي عنده ، وهكذا في قولنا : «شغلني أمر كذا» أنّ الأمر إن استعمل في مصداق الشأن بما أنّه مصداق للشأن فكيف لا يجوز استعماله في مفهوم الشأن؟! وإن استعمل فيه بما أنّه مصداق للشيء فليس هذا من اشتباه المصداق بالمفهوم. وهكذا في سائر المعاني.

وذهب المحقّق النائيني قدس‌سره (١) إلى أنّ لفظ الأمر مشترك بين المعاني بنحو الاشتراك المعنوي ، والموضوع له أمر واحد ، وهي الواقعة التي لها أهمّيّة في

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ١٢٨.

٤٤٩

الجملة ، وهذا المعنى قد ينطبق على الحادثة ، وقد ينطبق على الشأن ، وقد ينطبق على الغرض ، بل يمكن أن يقال : إنّ الأمر بمعنى الطلب أيضا من مصاديق هذا المعنى الواحد ، فإنّه أيضا من الامور التي لها أهمّيّة ، فلا يكون للفظ «الأمر» إلّا معنى واحد يندرج الكلّ فيه. فكلامه قدس‌سره يحتوي على أمرين : الأوّل : أصل الاشتراك المعنوي ، الثاني : أنّ القدر الجامع عبارة عن الواقعة التي لها أهمّيّة في الجملة.

ومن البديهي أنّ الأمرين مخدوشان ؛ لأنّ الظاهر أنّ المراد من الجامع هو الجامع الذاتي والمقولي لا العرضي ولا الانتزاعي ، وأقلّ مراتب الجامع الذاتي هو الاشتراك في الجنس ، وهذا لا يتصوّر بين المعنى الاشتقاقي وغيره ؛ لأنّ الجامع بينهما لا يخلو من أن يكون معنى اشتقاقيّا أو جامديّا ولا ثالث لهما ، وعلى الأوّل لا ينطبق على الجوامد ، وعلى الثاني لا ينطبق على المعنى الحدثي ، وهذا معنى عدم تصوّر جامع ذاتي بينهما.

على أنّه لا يعقل اختلاف الجمع في لفظ الموضوع للجامع الجنسي باختلاف المعاني ، فإنّ تحقّق الجامع الجنسي هاهنا يستلزم أن يكون استعمال الأمر الذي يجمع على امور في خصوص المعنى غير الاشتقاقي استعمالا مجازيّا ، وهكذا استعمال الأمر الذي يجمع على أوامر في خصوص المعنى الاشتقاقي استعمالا مجازيّا ، فإنّ استعمال اللفظ الموضوع للجامع في خصوص بعض الأنواع مجازيّ ، مع أنّه لم يلتزم به أحد. نعم ، تصوير اختلاف الجمع في المشترك اللفظي سهل ، فينفي الاشتراك المعنوي اختلاف لفظ الأمر في الجمع.

ولو سلّمنا أصل الاشتراك المعنوي في المقام ولكنّ الواقعة ليست مثل الشيء من المفاهيم العامّة حتّى تصدق على كلّ الأشياء.

٤٥٠

على أنّه لا دليل لأخذ الأهمّيّة في معنى الأمر ، بحيث يكون استعماله فيما لا أهمّيّة له مجازا ؛ إذ لا فرق في استعماله فيه واستعماله فيما له أهمّيّة في الجملة ، ومن هنا صحّ تقسيم الأمر إلى المهمّ وغير المهمّ ، ولو كانت الأهمّيّة داخلة في معناه لكان هذا تناقضا.

أمّا المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) بعد القول بأنّه لا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء بحسب العرف واللغة ، وبعد ذكر المعنى الاصطلاحي له قال : إنّما المهمّ بيان ما هو معناه عرفا ولغة ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة ، وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنّة ، ولا حجّة على أنّه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز ، وما ذكر في الترجيح عند تعارض هذه الأحوال لو سلّم ولم يعارض بمثله لا دليل على الترجيح به ، فلا بدّ عند التعارض من الرجوع إلى الأصل في مقام العمل.

نعم ، لو علم ظهوره في أحد معانيه ولو احتمل أنّه كان للانسباق من الإطلاق فليحمل عليه ، وإن لم يعلم أنّه حقيقة فيه بالخصوص أو فيما يعمّه ، كما لا يبعد أن يكون كذلك ـ أي ظاهرا ـ في المعنى الأوّل ، وهو الطلب.

ومن المعلوم أنّ هذا رجوع عمّا قال به في صدر كلامه من كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء.

وأمّا استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (٢) فبعد مناقشته الاشتراك اللفظي والمعنوي قال : الظاهر ـ كما هو مقتضى التبادر ـ من قولنا : «أمر فلان زيدا» أنّ مادّته موضوعة لجامع اسمي بين هيئات الصيغ الخاصّة بمالها من المعنى ، لا الطلب

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٩٠.

(٢) مناهج الوصول إلى علم الاصول ١ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

٤٥١

ولا الإرادة المظهرة ولا البعث وأمثالها ، ولا يبعد أن يكون المعنى الاصطلاحي مساوقا للغوي ، أي لا يكون له اصطلاح خاصّ.

وسيأتي توضيح كلامه إن شاء الله تعالى ، ولكنّه لا يستفاد من كلامه شيء بالأخص بعد مناقشته الاشتراك اللفظي والمعنوي ، فإنّ للأمر في المثال معنى اشتقاقيّا ، وهو الطلب.

ولو سلّمنا أنّه ليس كذلك ، إنّما البحث في أنّ استعمال الأمر في سائر المعاني هل يكون بنحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو بنحو المجاز ، أو ليس له معنى غير الاشتقاقي؟ ولا يستفاد من كلامه شيء من ذلك.

والظاهر أنّ الإشكال في الاشتراك اللفظي أقلّ ممّا في الاشتراك المعنوي ؛ إذ الإشكال فيه مبتن على المبنى الخاصّ ، فلا يبعد القول بالاشتراك اللفظي بين معنيين : أحدهما : الطلب في الجملة ، وثانيهما : الشيء في الجملة.

وأمّا البحث في المعنى الاصطلاحي فقال صاحب الكفاية قدس‌سره : وأمّا بحسب الاصطلاح فقد نقل الاتّفاق على أنّه حقيقة في القول المخصوص ومجاز في غيره ، فالأمر بحسب الاصطلاح هو صيغة «افعل».

ولا يخفى أنّه لا يمكن الاشتقاق منه ، فإنّ معناه حينئذ لا يكون معنى حدثيّا ، فإنّ هيئة «افعل» ليست بمشتق ، بل هي من مقولة اللّفظ ، مع أنّ الاشتقاقات منه ظاهرا تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم لا بالمعنى الآخر ، فتدبّر.

ويمكن أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول المخصوص لا نفس القول ، تعبيرا عن الطلب بما يدلّ عليه ، وهو القول المخصوص مجازا من باب ذكر الدالّ وإرادة المدلول ، فالفرق بين المعنى اللّغوي والاصطلاحي بالعموم والخصوص ؛ إذ المعنى اللغوي هو الطلب ، سواء كان بالقول أم لا ،

٤٥٢

والاصطلاحي هو الطلب بالقول المخصوص ، فكلاهما اشتقاقي.

وفيه : أنّه لا نحتاج إلى معنى اصطلاحي مغاير للمعنى اللغوي هاهنا ، وأمّا استدلاله فمردود بأنّه من البديهي أنّ الإجماع المنقول ليس بحجّة ، فكيف نعتمد عليه في إثبات المعني الاصطلاحي؟! ويؤيّده ما نرى في الخارج وإطلاق لفظ الأمر في المحافل والمجالس بمعنى واحد ، وفهم الكلّ منه معنى واحدا.

ولذا قال الإمام قدس‌سره (١) : إنّه لا يبعد أن يكون المعنى الاصطلاحي مساوقا للمعنى اللغوي ، أي لا يكون له اصطلاح خاصّ.

ومحصّل كلامه قدس‌سره أنّ ما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره بكونه معنى اصطلاحيّا ـ أي القول المخصوص وهو المعنى اللّغوي أيضا ـ بأنّ مادّة الأمر موضوعة لمفهوم اسمي منتزع من الهيئات بمالها من المعاني ، بمعنى أنّ الموضوع جامع للهيئات المستعملة في معانيها لا نفس الهيئات ولو استعملت لغوا أو مجازا في غير معناها ، ومن المعلوم أنّ للهيئة معنى حرفيّا ، إلّا أنّه قد يكون للإخبار والإخطار ، وقد يكون للإنشاء والإيجاد ، كحرف النداء فإنّه وضع لإيجاد النداء ، وهكذا حرف القسم.

وأمّا الهيئات بلحاظ أنّها للإنشاء وإيجاد الطلب فكان لها مفهوم حرفي داخل تحت مفهوم اسمي ، وهو نفس هيئة «افعل» وما يشابهها من الثلاثي المزيد ، والرباعي المجرّد والمزيد ، فإنّه كان لنفس هيئة «افعل» مثل لفظ الابتداء معنى اسمي ، ولمصاديقها معنى حرفي ، فمعنى الأمر لغة واصطلاحا مفهوم اسمي مشترك بين الهيئات التي كانت لها معاني حرفيّة إيجاديّة.

فحينئذ يرد عليه الإشكال المذكور أيضا بشدّته ، ولكنّه قدس‌سره أجاب عنه : بأنّ

__________________

(١) مناهج الوصول إلى علم الاصول ١ : ٢٣٨.

٤٥٣

هيئة «افعل» وإن لم تكن لها معنى حدثيّا إلّا أنها بلحاظ انتسابها إلى اللافظ وصدورها منه يصحّ الاشتقاق منها ، كما أنّ الكلام واللفظ والقول مشتقّات باعتبار الانتساب إلى اللافظ والقائل والمتكلّم. هذا محصّل كلامه قدس‌سره.

وأجاب المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) عن الإشكال بأنّ وجه الإشكال إن كان لتوهّم أنّ الموضوع له ـ أي القول المخصوص ـ لفظ لا معنى فضلا من أن يكون حدثيّا ، وبعبارة أوضح : أنّ الاشتقاق وعدمه من شئون المعنى ، وإذا لم يكن المعنى متحقّقا فلا محلّ لعنوان الاشتقاق وعدمه ، ففيه : أنّ الأمر بمعنى القول واللفظ كنفس اللفظ ، له لفظ ومعنى ، ومن هنا يصحّ القول بأنّ «زيد لفظ».

وإن لم يكن له معنى كان القول به ـ مثل القول بأنّ «زيد ديز» ـ قولا باطلا ، ولذا يصحّ تقسيم اللفظ إلى المهمل والمستعمل ، فتحقّق المعنى للّفظ ممّا لا شبهة فيه.

وإن كان وجه الإشكال ما هو المعروف من عدم كون الموضوع له معنى حدثيّا ففيه : أنّ القول واللّفظ من مقولة الكيف المسموع بحيث يكون للمسموعيّة دخل في ماهيّته النوعيّة ، فالمسموعيّة فصل مميّز له كما أنّ الناطقيّة فصل مميّز للإنسان ، ولا شكّ في أنّ للمسموع معنى اشتقاقيّا ، فكيف يمكن تفكيك المعنى الاشتقاقي عن اللفظ والقول مع أنّه جزء ماهيّة نوعيّة لهما؟! فلا يعقل القول بأنّ القول المخصوص له معنى ولكنّه ليس بمعنى حدثي.

وأشكل عليه تلميذه بأنّ لكلّ لفظ حيثيتين : الاولى : حيثيّة صدوره من اللافظ خارجا وقيامه به ، كصدور غيره من الأفعال كذلك.

الثانية : حيثيّة تحقّقه ووجوده في الخارج ، فاللفظ من الحيثيّة الاولى وإن

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

٤٥٤

كان قابلا للتصريف والاشتقاق ، إلّا أنّ لفظ الأمر لم يوضع بإزاء القول المخصوص من هذه الحيثيّة ، وإلّا لم يكن لتوهّم عدم إمكان الاشتقاق والصرف منه ، بل هو موضوع بإزائه من الحيثيّة الثانية ، ومن الطبيعي أنّه من هذه الحيثيّة غير قابل لذلك ، كما عرفت. فما أفاده قدس‌سره مبني على الخلط بين هاتين الحيثيتين.

وفيه : أوّلا : أنّه لا دليل على كون محلّ النزاع هو اللفظ من حيثيته الثانية ، بل يمكن القول بأنّ محلّ النزاع هو اللفظ من الحيثيّة الاولى ، مع أنّ المسموعيّة التي تكون جزء ذات اللفظ لا يمكن تفكيكها منه ، فلا يعقل لحاظ اللفظ بدون لحاظ كونه مسموعا.

نعم ، يعدّ هذا إشكال على استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره فإنّه لاحظ الاشتقاقيّة بالنسبة إلى اللفظ والمتكلّم ، ولكن يؤيّده قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)(١) ؛ لأنّ اللفظ أقرب إلى المعنى الاشتقاقي من السواد والبياض قطعا ، وأنّ انتسابهما إلى المكان ـ أي الوجوه ـ يوجب أن يكون لهما معنى اشتقاقيّ ، ومع قطع النظر عن الانتساب لا يتحقّق المعنى الاشتقاقي أصلا ، فإنّ الضرب والقتل مع قطع النظر عن الانتساب إلى القاتل والمقتول والضارب والمضروب واقعيّتان خارجيّتان ، ولا دليل على كونهما حدثيّا.

ولا يتوهّم أنّه إذا كان الانتساب ملاكا في المقام فلا يبقى في العالم معنى غير الاشتقاقي ، فإنّا نقول : إنّ لفظ «زيد» وأمثاله أجنبي عن المعنى الاشتقاقي ، وإن لوحظ انتسابه إلى أشياء متعدّدة فالحقّ مع الإمام قدس‌سره فإنّ المعنى اللغوي والاصطلاحي واحد ، وهو القول المخصوص ، ولا يكون من الاشتراك بنوعيه

__________________

(١) آل عمران : ١٠٦.

٤٥٥

أثر ولا خبر.

وإن أبيت أنّ مبدأ الاشتقاقي في الأمر بمعنى الطلب عبارة عن المادّة بوحدتها ، ومبدأه في الأمر بمعنى الشيء مثلا عبارة عن المادّة مع الهيئة.

قلنا : لا إشكال في البين ؛ إذ اللفظ والمعنى متعدّد ، وليس لفظ الأمر من الألفاظ المشتركة أيضا.

٤٥٦

الجهة الثانية

في أنّ العلو والاستعلاء معتبر في معنى الأمر أم لا؟

ولا بدّ قبل الورود في البحث من ذكر مقدّمتين :

إحداهما : أنّ الأمر لو كان بصورة المشترك اللفظي أو المعنوي بين المعنى المشتقّ والجامد فالبحث هاهنا في المعنى الاشتقاقي وأنّ المراد من الطلب الموضوع له هو الطلب المطلق أو الطلب من العالي ، ولعلّ كلمة «في الجملة» في العبارة ناظرة إلى هذا كما مرّ.

وأمّا إذا قلنا : إنّ المعنى الاشتقاقي هو مفهوم اسمي جامع بين الهيئات ـ يعني هيئة صيغة افعل ـ فالبحث يجيء؟؟؟ في أنّ المراد من المفهوم الاسمي المشترك بين الهيئات هو الهيئة المطلقة أو الهيئة الصادرة من العالي والمستعلي ، فعلى كلا التقديرين يجري هذا البحث.

والثانية : أنّ العلو عبارة عن عظمة الشخص عند العقلاء ؛ إذ العقلاء بما هم عقلاء قائلون بلزوم الإطاعة وعظمة الأشخاص المخصوصة في الاجتماع مثل الأب والمولى والحاكم وإن كان غاصبا ، ونرى أيضا تبعيّتهم في ذلك عن الشرع من الأمر باتّباع العلماء والعرفاء والفقهاء.

وأمّا الاستعلاء فعبارة عن الاتّكاء بالعلو ، ولكنّ المستعلي قد يكون واجدا

٤٥٧

للعلوّ حقيقة فيقال له : العالي المستعلي ، وقد يكون فاقدا له حقيقة فيقال له : السافل المستعلي.

إذا عرفت هذا فنقول : لا إشكال في اعتبار العلوّ في معنى الأمر على ما هو المتبادر من لفظ الأمر ، ويشهد له الاستعمالات العرفيّة ، فإنّه يقال : «أمر الوالد ولده» و «أمر المولى عبده بكذا» إذا طلبا منهما شيئا ، ولا يقال : «إنّ العبد أمر مولاه» و «الابن أباه بكذا» حين طلبهما منهما شيئا ، وهكذا لا يقال : «إنّ المقلّد أمر مرجعه بكذا».

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بعد قبول هذا الأمر : إنّ الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء ، فيكون الطلب من العالي أمرا ولو كان مستخفضا لجناحه ، وأمّا اعتبار أحدهما ـ على سبيل منع الخلو ـ فضعيف. فطلب المساوي أو السافل مع الاستعلاء من العالي المستعلي لا يكون أمرا عنده.

وذكر المرحوم البروجردي قدس‌سره (٢) في المقام مقدّمة صحيحة ، ولكنّه استفاد منها ما لا يساعده العرف ، وهو قوله : «إنّ حقيقة الأمر بنفسه تغاير حقيقة الالتماس والدعاء». وهذا ممّا يساعده العرف ، ويؤيّده الاستعمالات الشائعة ، كما مرّ آنفا.

ثمّ قال : إنّ الطلب بنفسه ينقسم إلى قسمين : الأوّل : الطلب الذي قصد فيه الطالب انبعاث المطلوب منه بنفس هذا الطلب ؛ بحيث يكون داعيه ومحرّكه إلى الامتثال صرف هذا الطلب ، وهذا القسم من الطلب يسمّى أمرا. القسم الثاني : هو الطلب الذي لم يقصد الطالب فيه انبعاث المطلوب منه بنفس الطلب ، بل

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٩١.

(٢) نهاية الاصول ١ : ٨٦ ـ ٨٧.

٤٥٨

كان قصده انبعاث المطلوب منه بهذا الطلب منضمّا إلى بعض المقارنات التي توجب وجود الداعي في نفسه كطلب المسكين من الغني ؛ فإنّه لا يقصد انبعاث الغني بنفس طلبه وتحريكه لعلمه بعدم كفاية بعثه في تحرّك الغني ، ولذا يقارنه ببعض ما له دخل في انبعاث الغني كالتضرّع والدعاء لنفس الغني ووالديه ـ مثلا ـ وهذا القسم من الطلب يسمّى التماسا أو دعاء ، فعلى هذا فحقيقة الطلب على قسمين ، غاية الأمر أنّ القسم الأوّل منه ـ أي الذي يسمّى بالأمر ـ حقّ من كان عاليا ، ومع ذلك لو صدر عن السافل بالنسبة إلى العالي كان أمرا أيضا ، ولكن يذمّه العقلاء على طلبه بالطلب الذي ليس شأنا له ، كما أنّ القسم الثاني يناسب شأن السافل ، ولو صدر عن العالي أيضا لم يكن أمرا ، فيقولون : لم يأمره بل التمس منه ، ويرون هذا تواضعا منه.

وفيه : أنّ للعلوّ ـ إذا كان ـ دخلا في معنى الأمر ، فما يصدر من السافل ليس بأمر ، وإذا لم يكن له دخل فيه فلم لا يكون من حقّه وشأنه الطلب على النحو المذكور؟! فتحقّق الأمر من السافل مع عدم كونه من حقّه متناقضان لا يجتمعان ، ولعلّه تخيّل أنّه لو كان للعلوّ دخل في معنى الأمر لا بدّ حين تفسير قولنا : «أنا آمرك بكذا» أن نقول : أطلب منك وأنا عال ، مع أنّه ليس كذلك ؛ إذ لا شبهة في دخالة إنسانيّة الآمر في معنى الأمر ، وهكذا كون الطلب وجوبيّا على ما هو التحقيق كما سيأتي ، ولكن لا نقول في مقام تفسير القول المذكور : أطلب منك وأنا إنسان ، أو أطلب منك طلبا وجوبيّا ؛ لأنّه لا ضرورة لذكر هذه الخصوصيّات.

فالتحقيق : أنّ الاستعلاء والعلوّ معا معتبران في معنى الأمر ، فإنّ الطلب الصادر من العالي إن كان بصورة الالتماس وعدم الاتّكاء بالعلو لا يطلق عليه

٤٥٩

الأمر ، كما صرّح به قدس‌سره آنفا.

قال المحقّق القمي (١) صاحب القوانين قدس‌سره : إنّ الاستعلاء عبارة عن تغليظ القول. ومن المعلوم أنّه مساوق للإيجاب والطلب الوجوبي.

ولا يخفى على أحد مغايرة معنى الاستعلاء والإيجاب ؛ إذ الإيجاب والاستحباب نوعان من الطلب ، وأمّا الاستعلاء فهو الاتّكاء بالعلو ولو لم يكن في الواقع عاليا ، وهو يتحقّق بعدم تغليظ القول أيضا. نعم ، يمكن أن يكون في بعض الموارد تغليظ القول أمارة للاستعلاء.

وقال بعض : إنّ أحد الأمرين على سبيل منع الخلو ، إمّا علوّ الطالب واقعا ، وإمّا استعلاؤه كاف في صدق الأمر ، واستدلّ لكفاية الاستعلاء في صدقه بأنّ العقلاء يقبّحون السافل المستعلي الذي يأمر العالي ، ويذمّونه بأنّك لم تأمر العالي؟ فإطلاقهم الأمر على طلب السافل المستعلي يدلّ على كفاية استعلاء الطالب في صدق الأمر وعدم اعتبار العلو الواقعي فيه ، وإلّا يذمّونه بأنّك لم تستعلي على العالي.

وجوابه : أنّ التقبيح إنّما هو على استعلائه على العالي لا على أمره حتّى يقال : إنّ التقبيح على هذا الأمر يكشف عن عدم اعتبار العلوّ الواقعي في صدقه ، وإطلاق الأمر على طلبه في مقام توبيخه إنّما هو بحسب مقتضى استعلائه ، فإنّه يعلم أنّ للعلو دخلا في الأمر ، ويعلم أيضا أنّه فاقد لذلك ، فلذا يأمر السافل اتّكاء على العلوّ الادعائي والتخيّلي ، فيكون إطلاق الأمر على طلب المستعلي السافل مجازا ؛ لمناسبته صورة الأمر الحقيقي ، فلا يكفي الاستعلاء بدون العلوّ في صدق الأمر.

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٨١.

٤٦٠