دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

إلى وضع على حدة مناف لما مرّ منه قدس‌سره في باب الوضع ؛ لأنّ من أقسام الوضع المذكورة فيه هو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، ومعناه ملاحظة معنى كلّي ووضع اللفظ لمصاديقه ، ومعلوم أنّ بين المصاديق تحقّق التباين ، فيمكن أن يكون للفظ واحد ألف ألف معنى ، مع أنّه يتحقّق بوضع واحد ، فيتحقّق الاشتراك اللفظي بدون الاحتياج إلى أوضاع متعدّدة ، ولا معنى لهذا القسم من الوضع سوى الاشتراك اللفظي ، فالقائل بهذا القسم من الوضع كيف ينكر وحدة الوضع في باب الاشتراك؟! فلا بدّ لمن قال بإمكان تصويره ـ كالمحقّق الخراساني قدس‌سره ـ من وحدة الوضع في باب الاشتراك ، وذكرنا فيما تقدّم أنّ هذا القسم من الوضع لا إمكان له لا وقوعا ولا تصوّرا. فهذا مناقشة في كلامه قدس‌سره مع أنّ أصل ما أفاده قدس‌سره في كمال المتانة والتماميّة.

واستدل القائل بالاستحالة بوجوه :

منها : أنّ الاشتراك ينافي حكمة الوضع وهي التفهيم والتفهّم بسهولة ، فإنّ إبراز المقاصد لا يمكن في جميع الموارد إلّا باللفظ ، وأمّا غيره ـ كالإشارة ونحوها ـ فلا يفي بذلك في المحسوسات فضلا عن المعقولات ـ فنحتاج إلى الوضع لسهولة التفهّم والتفهيم ، وحيث إنّ الاشتراك مخلّ بذلك ؛ لأنّ نسبة اللفظ إلى كلّ من المعنيين أو المعاني على حدّ سواء ، وخفاء قرائن المراد نوعا فتبطل حكمة الوضع ، فصدوره عن الواضع الحكيم محال.

وأجاب عنه صاحب الكفاية قدس‌سره بوجهين : الأوّل : أنّ إمكان الاتّكال في تفهيم المعنى الذي أراده على القرائن الواضحة الدالّة من الواضحات ، فإنّ اللفظ المشترك وإن لم يدلّ على المقصود بنفسه ولكنّه يدلّ عليه بواسطة ضمّ قرينة إليه ، فلا يلزم منافاة لحكمة الوضع.

٣٤١

الثاني : أنّا نمنع كون الاشتراك يوجب الإخلال بغرض الوضع ، فإنّ الغرض كما يتعلّق بالتفهيم والتفهّم كذلك قد يتعلّق بالإهمال والإجمال وعدم نصب دلالة على المراد.

والحاصل : أنّ هذا التعليل أخصّ من المدّعى ؛ لاختصاصه بصورة خفاء القرائن ، فلا يصلح لأن يكون دليلا على منع الاشتراك مطلقا ولو فيما إذا كانت قرائن المراد جليّة ودلالتها على المقصود واضحة.

ومنها : أنّ الاشتراك ينافي حقيقة الوضع ؛ لأنّ الوضع عبارة عن جعل اللفظ مرآة وفانيا في المعنى ، بحيث إنّا ننتقل من استعمال اللفظ إلى المعنى بلا تحيّر وتردّد ، ومعلوم أنّ هذا المعنى لا يناسب الاشتراك.

وجوابه : أنّه قد خلط المستدلّ بين مقام الوضع والاستعمال ؛ إذ لا شكّ في أنّ الواضع يلاحظ اللفظ مستقلّا كالمعنى ثمّ يجعله علامة للمعنى ، وقد مرّ مرارا أنّ الوضع مثل تسمية الأب لمولوده من جهة استقلال اللفظ والمعنى معا.

نعم ، بعد تحقّق الوضع وإيصال النوبة إلى مقام الاستعمال يتعلّق غرض المستعملين بإلقاء وتلقّي المعنى فقط ، ويكون التفاتهم إلى اللفظ التفات مرآتي ، بل اللفظ يكون فانيا في المعنى بحدّ كأنّه لم يسمع أصلا. فهذا الدليل ليس بتامّ.

ومن الوجوه التي استدلّ بها القائل باستحالة الاشتراك : أنّ حقيقة الوضع عبارة عن جعل الملازمة الذهنيّة بين اللفظ والمعنى ؛ بحيث أنّ اللفظ لا يكاد ينفكّ عن المعنى ، والمعنى لا يكاد ينفكّ عن اللفظ ، فعليه يلزم من الوضع للمعنيين أن يحصل عند تصور اللفظ الانتقالان المستقلّان دفعة واحدة ، وسيأتي أنّ هذا المعنى مستحيل عند عدّة من المحقّقين ، فكيف يعقل الملازمة بين اللفظ والمعنى الأوّل والثاني وعدم انفكاكهما عنه؟!

٣٤٢

وجوابه : أنّ هذا المبنى مخدوش من أساسه ؛ إذ الوضع لا يكون عبارة عن جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى ، فإنّهما من المتباينين ، ولا يمكن جعل الملازمة التكوينيّة بينهما للواضع ، ولا معنى لجعل الملازمة الاعتباريّة ، مضافا إلى أنّ الواضع في مقام الوضع يقيم الوضع مقام الإشارة اللفظيّة حتّى يعرف المشار إليه في حال الحياة والموت ، والحضور والغياب باللفظ الموضوع ، فامتناع الاشتراك كضرورة وجوده ليس بتامّ ، بل هو أمر ممكن تحقّقه في الخارج ، بل نرى تحقّقه بين المعنيين المتضادّين ، مثل : لفظ «القرء» بمعنى الطهر والحيض ، وأمثال ذلك.

ولكنّه يمكن أن يقال : إنّه لا نحتاج إلى الاشتراك ، مع أنّ الألفاظ كانت وافية للمعاني ، فلا موجب له ، فما الدليل لتحقّقه؟

ذكروا هاهنا وجهين :

الأوّل منهما ينتج من ضمّ مقدّمتين :

إحداهما : أنّ الاشتراك في لغة لا يستلزم الاشتراك في كلّ لغة ، فإنّا نرى أنّ لكلّ قبيلة أو بلد اصطلاحات خاصّة مع اشتراكهم في أصل اللغة ، مثلا : يراد من لفظ «العين» في بلد من البلاد العربية العين الباكية ، وفي بلد آخر منها العين الجارية ، فالاصطلاحات متغايرة بحسب البلاد في زماننا هذا ، وبحسب القبائل في الأزمنة السابقة ؛ لأنّ الواضع لا يكون ذات الواجب ولا شخصا معيّنا خاصّا ، بل لكلّ قبيلة وضع خاصّ واصطلاح مخصوص.

وثانيتهما : أنّ ديدن المحقّقين من اللّغويين كان استفادة اللّغات من ألسنة الأقوام والقبائل ، فإذا رأى اللّغوي أنّ في قبيلة يراد من لفظ العين ـ مثلا ـ العين الباكية وقبيلة اخرى يراد منها العين الجارية فلا بدّ له حين الكتابة

٣٤٣

من كتابة جميع المعاني ؛ بأنّ العين ـ مثلا ـ تكون حقيقة في سبعين معنى ، فيكون أحد مناشئ الاشتراك اختلاف المعاني في القبائل في الأزمنة السابقة ، واختلافها في البلاد في زماننا هذا.

الثاني : تقدّم أنّ الغرض من الوضع هو التفهيم والتفهّم ، ولا يخفى أنّ ذلك على نوعين ، فإنّ غرض المتكلّم قد يتعلّق ببيان المراد بنحو كامل وإظهاره ما في ضميره بنحو أجلى للمخاطب ، وقد يتعلّق غرضه ببيان المراد بنحو الإجمال ، ومعلوم أنّ الاشتراك اللفظي أحسن طريق لبيان المراد على النحو الثاني ، فيقضي غرض الوضع تحقّق الاشتراك في اللّغات.

ويمكن لنا بيان منشأ آخر للاشتراك وهو : أنّ الواضع وضع لفظ «الأسد» للحيوان المفترس ، ولكنّه استعمل كثيرا في المعنى المجازي بحيث صار حقيقة فيه في مقابل المعنى الحقيقي ؛ بحيث أنّ المخاطب حين استماع كلمة «الأسد» بلا قرينة يصير متحيّرا في أنّ المراد منه ما هو؟ فيتحقّق هاهنا الاشتراك اللفظي بصورة الوضع التعيّني ، فهذا أيضا منشأ للاشتراك اللفظي ، كما لا يخفى.

وأشار المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) إلى قول آخر في المسألة وهو القول بالتفصيل بين القرآن وغيره ؛ بأنّ الاشتراك مستحيل في القرآن دون غيره ؛ إذ لو قلنا بوجود لفظ المشترك فيه لزم التطويل بلا طائل أو الإجمال ، وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى.

توضيحه : أنّه حين الاستعمال إن اعتمد في تعيين المراد على القرائن الدالّة عليه لزم التطويل غير المحتاج إليه ، وإن لم يعتمد عليها في تعيين المراد لزم الإجمال ، وكلا الأمرين غير لائق بكلامه تعالى ، وهذان المحذوران أوجبا

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٥٣.

٣٤٤

امتناع الاشتراك في القرآن.

وجوابه أوّلا : إنّا نرى في القرآن وجود اللفظ المشترك كثيرا ما ، مثل قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(١) ، فإنّ لفظ القروء استعمل في المعنيين المتضادّين ـ أي الطهر والحيض ـ وهكذا لفظ العين استعمل في موضع من القرآن في معان متعدّدة ، مثل قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها)(٢). وقوله تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)(٣) وأمثال ذلك.

وثانيا : أنّ الدليل المذكور مردود بكلا وجهيه : أمّا الإجمال فبأنّه اجتهاد في مقابل النصّ ؛ لأنّه تعالى صرّح بوجود المتشابهات في القرآن بقوله : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)(٤).

وأمّا لزوم التطويل بلا طائل فبإمكان أن يكون نصب القرينة لغرض آخر غير تعيين المراد من المشترك ، لكن كانت تلك القرينة دالّة بالدلالة الالتزاميّة على المعنى المراد من اللفظ المشترك ، فلا يلزم التطويل بلا طائل.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) الأعراف : ١٧٩.

(٣) المطففين : ٢٨.

(٤) آل عمران : ٧.

٣٤٥
٣٤٦

الأمر الثاني عشر

استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد

لا بدّ لنا قبل تحقيق المسألة من ذكر مقدّمتين حتّى يعلم محلّ النزاع :

إحداهما : أنّ عنوان المسألة في كتب القدماء حتّى إلى زمان صاحب المعالم قدس‌سره (١) وصاحب القوانين قدس‌سره (٢) يدور مدار الجواز وعدمه ، إلّا أنّ المتأخّرين كالمحقّق الخراساني قدس‌سره (٣) بدّل العنوان بالإمكان والاستحالة ، فعلى هذا يقع البحث في مرحلتين : المرحلة الاولى : في الإمكان وعدمه ، وإن قلنا بإمكانه في هذه المرحلة فتصل النوبة إلى المرحلة الثانية ، وهي أنّ هذا الأمر الممكن هل يكون موردا لترخيص الواضع أم لا؟

والثانية : أنّ محلّ النزاع هو في ما إذا استعمل لفظ واحد في معنيين مستقلّين ؛ بحيث يكون الإطلاق الواحد في حكم الإطلاقين ، والاستعمال الواحد في حكم الاستعمالين ، ويكون كلّ واحد من المعنيين مرادا على الاستقلال.

__________________

(١) معالم الدين : ٣٩.

(٢) قوانين الاصول : ٣٩.

(٣) كفاية الاصول ١ : ٥٤.

٣٤٧

ومن هنا يظهر أنّ استعمال اللفظ الواحد في مجموع المعنيين بما هو كذلك ، أو في قدر جامع بينهما أو في أحدهما على سبيل البدليّة ، أو في أحدهما أصالة وفي الاخرى تبعا ، خارج عن محلّ النزاع ، فمحلّ النزاع فيما إذا كان كلّ واحد من المعنيين مرادا من اللفظ على سبيل الاستقلال والانفراد.

وأمّا في المرحلة الاولى فقال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) باستحالته ، وقال في مقام الاستدلال : إنّ حقيقة الاستعمال ليس جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى حتّى يقال : إنّه لا إشكال في جعل اللفظ علامة للمعنيين ، بل هي عبارة عن جعل اللفظ فانيا في المعنى وعنوانا له ، بل بوجه نفسه كأنّه الملقى ، ولذا يسري إلى اللفظ حسن المعنى وقبحه ، فلحاظ اللفظ وجها للمعنى وفانيا فيه ينافي لحاظه وجها لمعنى آخر مع فرض وحدة اللحاظ ، حيث إنّ لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلّا بتبع لحاظ المعنى فانيا فيه فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون ، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال؟! فلا يمكن جعل لفظ واحد في آن واحد فانيا في اثنين ووجودا ووجها لهما معا ، إلّا أن يكون اللاحظ أحول العينين.

ولا يخفى أنّ في هذه العبارة ثلاث احتمالات :

الأوّل : أن يكون مدار كلامه قدس‌سره في الاستعمال بأنّ ماهيّة الاستعمال فناء اللفظ في المعنى ، وبعد فنائه في المعنى الأوّل فليس له وجود سوى وجود هذا المعنى حتّى يفنى في المعنى الثاني ، فإن كان مراده هذا الاحتمال ففيه :

أوّلا : أنّ ماهيّة الاستعمال ليست فناء اللفظ في المعنى وإن كان له عنوان

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٤٨

تبعي بالنسبة إلى المعنى ، وإلّا يلزم عدم دخالة اللفظ من حيث حسنه وقبحه في إلقاء المعنى ، مع أنّ الخطيب يسعى في استخدام ألفاظ حسنة لإلقاء مطالبه ، فكيف يعقل فناء اللفظ في المعنى مع أنّهما من المقولتين المتباينتين؟!

وثانيا : لو سلّمنا أنّ ماهيّة الاستعمال هي فناء اللفظ في المعنى إلّا أنّ كلا المعنيين لمّا كانا في عرض واحد فلا مانع من فنائه فيهما ؛ إذ لا يكون هاهنا أوّليّة وثانويّة ، بل كلاهما في عرض واحد.

الاحتمال الثاني : أنّ المعنى حين الاستعمال يتعلّق به اللحاظ الاستقلالي ، وإذا كان المعنى متعدّدا فاللحاظ الاستقلالي الذي يتعلّق بها أيضا كان متعدّدا ، وأمّا لحاظ اللفظ فيكون تابعا للحاظ المعنى ، فإذا استعمل في شيئين يكون تابعا لهما في اللحاظ ، فيجتمع فيه اللحاظان الآليّان بالتبع ، وهو كما ترى.

ويحتمل قويّا أن يكون مراده قدس‌سره هذا الاحتمال ، ولعلّه كانت جملة «إلّا أن يكون اللاحظ أحول العينين» ناظرة إلى هذا المعنى ، وهذا هو الأقرب إلى كلامه قدس‌سره.

وإن كان مراده هذا الاحتمال فيجاب بأنّ اللفظ والمعنى قد يلاحظان بنظر المتكلّم ، وقد يلاحظان بنظر السامع.

توضيحه : أنّ المولى قبل صدور الأمر منه يلاحظ المعنى ويتوجّه إليه ، ولكن يتوجّه إلى اللفظ حين صدور الأمر وتفهيم مراده العبد ، فيلاحظه تبعا للمعنى ويقول : «جئني بماء» إلّا أنّه لا دليل لأن يكون اللحاظ التبعي متعدّدا ، بل يلاحظه تبعا بلحاظ واحد ، فيلاحظ المعنيين ثمّ يلقي كليهما بلفظ واحد ، فإذا كان الملحوظ بلحاظ استقلالي متعدّدا فلا يستلزم أن يكون الملحوظ باللحاظ التبعي أيضا متعدّدا.

٣٤٩

وأمّا السامع والمخاطب فينتقل من اللفظ إلى المعنى فينعكس الأمر ؛ إذ يكون لحاظ المعنى تبعا للحاظ اللفظ وسماعه ، فإذا كان اللفظ دالّا على المعنيين انتقل منه إليهما من غير لزوم استحالة أبدا ، فلا يلزم من تبعيّة اللحاظ جمع اللحاظين في اللفظ ، كما لا يخفى.

الاحتمال الثالث : أنّ كلامه قدس‌سره يدور مدار أصل اللحاظ مع حذف عنوان الاستقلال والتبع عنه ؛ بأنّ معيار تعدّد اللحاظ في اللفظ هو تعدّده في المعنى ، فإذا كان اللحاظ في جانب المعنى متعدّدا فلا بدّ من تعدّده في جانب اللفظ أيضا.

وجوابه : أنّ هذا ليس بتامّ ؛ لأنّه إذا قال المتكلّم : «رأيت عينا» وأراد منها العين الباكية ، ثمّ قال بعد ساعة أيضا : «رأيت عينا» وأراد منها هذا المعنى ، فلا شكّ في تعدّد اللحاظ ووحدة المعنى ، فكيف كان اللحاظ متعدّدا مع أنّ المعنى واحد؟! فلا بدّ من تغيير المعيار ؛ بأنّ تعدّد اللحاظ في جانب اللفظ تابع لتعدّد الاستعمال ، فإذا كان الاستعمال واحدا يكفي فيه اللحاظ الواحد وإن كان المعنى متعدّدا ، وإذا كان الاستعمال متعدّدا فلا بدّ من تعدّد اللحاظ. ولا يصح ما أفاده قدس‌سره في مقام الاستدلال للقول بالاستحالة ، فتدبّر.

فإن قيل : إنّه لا مانع من تعلّق اللحاظين بلفظ واحد مع أنّه واحد.

قلنا : إنّ هذا المعنى ليس بصحيح ؛ إذ اللحاظ عبارة عن تصوّر الشيء وحضوره عند النفس والتفات الذهن إليه ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن إحضاره في النفس مرّتين بدون تعدّد الزمان ، كما أنّه لا يمكن إتيان علمين في آن واحد بشيء واحد للإنسان.

وقد استدلّ المحقّق النائيني قدس‌سره (١) على الاستحالة بأنّ حقيقة الاستعمال ليست

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥١.

٣٥٠

إلّا عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ وإلقاءه إلى المخاطب خارجا ، ولذا لا يرى المخاطب إلّا المعنى ، فإنّه الملحوظ أوّلا وبالذات ، واللفظ ملحوظ بتبعه وفان فيه ، فلازم استعمال اللفظ في المعنيين على نحو الاستقلال تعلّق اللحاظ الاستقلالي بكلّ واحد منهما في آن واحد كما لو لم يستعمل اللفظ إلّا فيه. ومن الواضح أنّ النفس لا تستطيع أن تجمع بين اللحاظين المستقلّين في آن واحد ، فلا شكّ في أنّ الاستعمال في أكثر من معنى واحد يستلزم ذلك ، والمستلزم للمحال محال.

وجوابه : أنّ النفس بما أنّها جوهر بسيط ولها صفحة واسعة تقدر أن تجمع بين اللحاظين المستقلّين في صفحتها في آن واحد.

ويدلّ على ذلك امور :

الأوّل : أنّا إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدنا أنّها تقدر على تصوّر امور متضادّة أو متماثلة بتصوّرات مستقلّة في آن واحد ، فإنّ إسناد الرؤية ـ مثلا ـ إلى العين أو النفس إسناد حقيقي ، ومعلوم أنّ النفس بما لها من السعة تقدر على رؤية عدّة أشخاص في آن واحد بلا تقدّم وتأخّر ، فالرؤية مع كونها عملا للنفس تستلزم أن يكون المرئي متعدّدا ، فلا يكون اجتماع اللحاظين فيها ممتنعا أصلا.

الثاني : أنّ استفادة النفس في آن واحد من قوّة السامعة والباصرة واللامسة لا تكون قابلة للإنكار ، فكيف تقدر النفس في آن واحد على لحاظ المسموع والملموس وأمثال ذلك؟! فيكشف أنّ للنفس سعة خاصّة تقدر بها بما لا يمكن صدوره عن المادّي.

الثالث : أنّ في القضايا الحمليّة التي ملاكها الاتّحاد والهوهويّة وإن كان الموضوع متقدّما والمحمول متأخّرا من حيث اللفظ ، إلّا أنّ حمل الشيء والحكم

٣٥١

بثبوته له كقولنا : «زيد قائم» يستدعي لحاظ كلّ من الموضوع والمحمول في آن واحد ، وهو آن الحكم ، وإلّا لكان الحكم من النفس ممتنعا ، فلا بدّ حين الحمل والحكم من الالتفات إليهما ، وحضورهما معا في النفس بلا تقدّم وتأخّر ، فالحمل يستلزم الجمع بين اللحاظين الاستقلاليّين.

الرابع : أنّه لا إشكال في أنّ قولنا : السواد والبياض متضادّان قضيّة صحيحة ، ولا ريب في أنّ الموضوع فيها عبارة عن السواد والبياض بلا تقدّم وتأخّر في موضوعيّة أحدهما على الآخر ، فالمتكلّم حين حمل المتضادّين عليهما إمّا أن يكون غافلا عنهما ، وإمّا أن يكون ملتفتا إلى كلّ واحد منهما ولا ثالث في البين ، وحيث إنّ الأوّل غير معقول فتعيّن الثاني ، فلا بدّ من حضورهما ولو في آن واحد عند النفس معا حتّى يصحّ الحمل ، فالاستحالة التي ادّعى المحقّق النائيني قدس‌سره في جانب المعنى ـ أي اجتماع اللحاظين المستقلّين في آن واحد عند النفس ـ ليست بتامّة ، كما أنّ الاستحالة التي ادّعاها المحقّق الخراساني قدس‌سره في جانب اللفظ أيضا ليست في محلّها.

وقد ذكر طريق ثالث للاستحالة وهو : أنّ للمفاهيم والماهيّات تصوّر وجودات خمسة : الأوّل : الوجود العيني الخارجي ، الثاني : الوجود الذهني ، الثالث : الوجود الإنشائي ، ولكنّه منحصر ببعض المفاهيم كمفهوم الطلب وأمثاله ، الرابع : الوجود الكتبي ، الخامس : الوجود اللفظي. وهو أنّ تحقّق العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى يقتضي أن يكون اللفظ وجودا تنزيليّا للمعنى ، فيكون «زيد» من حيث وجوده الخارجي مصداقا واقعيّا ووجودا خارجيّا لماهيّة الإنسان ، وأمّا من حيث وجوده اللفظي فيكون وجودا تنزيليّا لها وإن كان هذا اللفظ وجودا خارجيّا ومصداقا واقعيّا لماهيّته اللفظيّة.

٣٥٢

وبعبارة أوضح : أنّه لا إشكال في أنّ قضيّة «زيد إنسان» قضيّة حمليّة بالحمل الشائع الصناعي الذي ملاكه اتّحاد الموضوع والمحمول من حيث الوجود ، وهكذا قضيّة «زيد لفظ» التي يكون الموضوع فيها عبارة عن لفظ «زيد» قضيّة حمليّة بالحمل الشائع الصناعي ، فإنّ لفظ «زيد» ـ أي الموضوع ـ إذا لوحظ بالنسبة إلى ماهيّة اللّفظ ـ أي المحمول ـ يكون بينهما اتّحاد وجودي ؛ إذ لا شكّ في تحقّق الاتّحاد الوجودي بين لفظ «زيد» وماهيّة اللفظ ، فيكون هذا اللفظ مصداقا واقعيّا لماهيّة اللفظ ، كما أنّ معناه يكون مصداقا واقعيّا لماهيّة الإنسان ، ولكنّه مع ذلك يكون لفظ «زيد» مرحلة من معناه ووجودا تنزيليّا له.

ثمّ استفاد المستدلّ من ذلك بأنّ اجتماع الوجودين الواقعيّين في فرد واحد من المحالات ؛ إذ لا يمكن اجتماع فردين من ماهيّة الإنسان ـ مثلا ـ في وجود واحد ؛ لأنّ تعدّد الفرديّة ملازم لتعدّد الوجودات ، كما لا يخفى ، فإذا كان الحال في الوجودات الحقيقيّة كذلك فيكون في الوجودات التنزيليّة أيضا كذلك ، فلا يمكن أن يكون اللفظ الواحد وجودا تنزيليّا للمعنيين ، فيكون استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد من المحالات.

وفيه : أوّلا : أنّ تقسيم وجود الماهيّات والمفاهيم إلى الأقسام الخمسة المذكورة ممّا لا دليل عليه من العقل والنقل ، وإنّما يستحسنه الذوق في مقام التخيّل والتصوّر فقط ؛ إذ لا يمكن بحسب الواقع والدقّة العقليّة أن يكون اللفظ وجودا تنزليّا للمعنى ؛ لأنّهما من المقولتين المتباينتين ، فكيف يمكن أن يكون لفظ «زيد» الذي يكون من مقولة كيف المسموع وجودا للمعنى الذي يكون من مقولة الجوهر؟! ولا يعقل هذا المعنى أصلا. نعم ، يكون بينهما ارتباط

٣٥٣

وضعي واعتباري بعنوان حكاية اللفظ عن المعنى.

وثانيا : على فرض تسليم أن يكون اللفظ وجودا تنزيليّا للمعنى ، ولكنّه لا دليل على أن يكون اجتماع الوجودين التنزيليّين في فرد واحد كاجتماع الوجودين الواقعيّين فيه من المحالات ، وإثبات هذه المماثلة والمشابهة يحتاج إلى الدليل ، وفقدانه يوجب بطلان الاستدلال رأسا ، مع أنّه تحقّق لنا دليل على خلافه ، وهو أنّا نرى اجتماع الوجود الحقيقي والتنزيلي في فرد واحد ، كما في المثال المذكور في الاستدلال ، يعني «زيد لفظ» ، فانّ لفظ «زيد» اجتمع فيه الوجودان الحقيقي والتنزيلي ؛ إذ هو وجود تنزيلي بالنسبة إلى المعنى وماهيّة الإنسان ، ووجود حقيقي ومصداق واقعي بالنسبة إلى ماهيّة اللفظ ، ولا يختصّ كونه وجودا تنزيليّا له في صورة الاستعمال أو غيره ، فإذا تحقّق اجتماع الوجودين الحقيقي والتنزيلي فلا إشكال في اجتماع الوجودين التنزيليّين أيضا ، فما هو من المحالات المسلّمة هو اجتماع الوجودين الواقعيّين في فرد واحد لا غير ، فلا يكون استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى واحد مستحيلا في مقام الثبوت.

وإذا فرغنا من مرحلة الإمكان تصل النوبة إلى المرحلة الثانية ، وهي مرحلة ترخيص الواضع وعدمه ، بمعنى أنّ هذا الاستعمال الممكن جائز عنده أم لا ، غاية ما ثبت لنا في هذه المرحلة أنّ الواضع مع التوجّه والالتفات وضع لفظ العين ـ مثلا ـ لمعان متعدّدة بأوضاع متعدّدة ، ولا نعرف منه تعهّدا وشرطا بأن يقول : هذا الوضع مشروط بعدم استعمال المستعمل في أكثر من معنى واحد حين الاستعمال ، بل يقتضي نفس وضع اللفظ لمعان متعدّدة استعماله في أكثر من معنى واحد ، مع أنّا لا نرى في كتب أهل اللغة وكتب التأريخ

٣٥٤

من الشرط المذكور أثرا ولا خبرا.

ولكنّ المحقّق القمي قدس‌سره ذكر طريقا آخر لعدم الجواز في كتاب القوانين (١) ، وهو قوله في مقام الإشكال على صاحب المعالم قدس‌سره بأنّه : «لا أقول : إنّ الواضع يصرّح بأنّي أضع ذلك اللفظ لهذا المعنى بشرط ألّا يراد معه شيء آخر وبشرط الوحدة ، ولا يجب أن ينوي ذلك حين الوضع أيضا ، بل أقول : إنّما صدر الوضع من الواضع مع الانفراد وفي حال الانفراد ، لا بشرط الانفراد حتّى تكون الوحدة جزء للموضوع له».

توضيح كلامه : أنّ تصريح الواضع بعدم الجواز ليس بلازم كقوله : إنّي وضعت لفظ العين للعين الجارية بقيد الوحدة ، وللعين الباكية أيضا كذلك ، وهكذا ... بل الواضع حين الوضع يلاحظ اللفظ والمعنى في حال الوحدة ويضعه له في هذا الحال ، وهو يكفي في عدم جواز استعماله في أكثر من معنى واحد ؛ إذ لا بدّ في الاستعمال من التبعيّة والتأسّي من الوضع ، فيقتضي اتّصاف المعاني حين الوضع بقيد الوحدة أن يلاحظ هذا الحال حين الاستعمال أيضا ، ولذا لا يجوز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

وفيه : أوّلا : أنّه لو سلّمنا أنّ المعنى حين الوضع كان في حال الوحدة ، ولكنّ رعاية جميع خصوصيّات حال الوضع حين الاستعمال ممّا لم يقل به أحد ؛ إذ لو كان الأمر كذلك فلا بدّ من رعاية خصوصيّات الواضع وحالاته وزمان الوضع ومكانه ، فإذا كان الواضع حين الوضع مستقبلا للقبلة ـ مثلا ـ فيجب في حال الاستعمال رعاية هذا الحال ، وهكذا ، فلا بدّ أن يراعى حين الاستعمال الخصوصيّات التي شرطها الواضع حين الوضع فقط ، فتكون كبرى بيانه

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٦٣ ـ ٦٤.

٣٥٥

مخدوشة.

وثانيا : أنّه لو فرضنا صحّة كلامه قدس‌سره من ناحية الكبرى لكن لا تجري صغرى بيانه في جميع المشتركات اللفظيّة ؛ إذ كان من أقسامها الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، وهو عبارة عن لحاظ الواضع معنى كلّيّا ووضع اللفظ لمصاديقه وأفراده ، ومعلوم أنّ اللّفظ هنا كان واحدا والمعنى متعدّدا بتعدّد أفراد العامّ والكلّي ، فيتحقّق الاشتراك بين المعاني المتعدّدة بوضع واحد ، فلا تكون المعاني حين الوضع في حال الوحدة ومتّصفة بصفة الوحدة ، فلا يجري كلامه قدس‌سره في هذا النوع من المشترك اللفظي ، ولم نجد في هذه المرحلة دليلا على عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، مع أنّا نرى في كلمات الادباء والشعراء استعماله كذلك ، ولا يمكن الالتزام بأن يكون استعمالهم غير جائز.

فثبت إلى هنا أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ليس بمستحيل ، ولا دليل على منع الواضع من هذا الاستعمال كما عرفت ، ولكنّ البحث في أنّ هذا الاستعمال هل يكون بنحو الحقيقة مطلقا ، أو بنحو المجاز مطلقا ، أو يكون في المفرد بنحو المجاز وفي التثنية والجمع بنحو الحقيقة؟ فتكون في المسألة ثلاثة أقوال ، والعمدة هنا بيان قول صاحب المعالم قدس‌سره (١) ـ يعني القول الأخير ـ وفي ضمن تبيينه يظهر ما هو الحقّ منها.

واستدلّ صاحب المعالم لمدّعاه بأنّ الموضوع له في الألفاظ المشتركة ليس هو ذوات المعاني ، بل هو عبارة عن المعنى مقيّدا بقيد الوحدة ، فيكون الموضوع له كلّ واحد من المعاني مشروطا بشرط الوحدة ، وللقيد دخل في الموضوع له بعنوان الجزئيّة ، فإذا استعمل لفظ «العين» ـ مثلا ـ في أكثر من

__________________

(١) معالم الدين : ٣٩.

٣٥٦

معنى واحد يستلزم إلغاء قيد الوحدة ويوجب استعمال اللفظ الموضوع للكلّ في الجزء ، فيكون هذا الاستعمال مجازا. هذا تمام كلامه في المفرد.

وفيه : أوّلا : أنّ كون الموضوع له ذات المعنى بقيد الوحدة ممّا لا يؤيّده كتاب من كتب اللغة ، بل هو ادّعاء لم يقم أيّ دليل عليه ، ولا يوجد واقعا دليل له ، فهو ادّعاء بلا دليل.

وثانيا : لو سلّمنا دخالة قيد الوحدة في الموضوع له ولكنّه لا يكون بنحو التركيب ـ بأن يكون الموضوع له مركّبا من العين الباكية وقيد الوحدة حتّى يكون أحد الجزءين عبارة عن قيد الوحدة والآخر عبارة عن ذات المعنى ـ بل تكون دخالته فيه بنحو التقيّد ، كما اعترف به بقوله : «إنّ الموضوع له عبارة عن المعنى مقيّدا بقيد الوحدة» ، وبناء على ذلك تقيّد جزء والقيد خارجي ، ومعلوم أنّ التقيّد أمر عقلي ، ولا يشمل قولهم : «إن استعمل اللفظ الموضوع للكلّ في الجزء فهو مجاز» لمثل هذا الجزء قطعا على ما هو التحقيق.

وأشكل عليه أيضا صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بما حاصله : أنّ الألفاظ لا تكون موضوعة إلّا لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة ، وإن سلّمنا اعتباره في الموضوع له فلا يجوز استعمال المفرد في أكثر من معنى ولو مجازا ، إذ ليس الأكثر بجزء الموضوع له ليصحّ استعمال اللفظ فيه مجازا بعلاقة الكلّ والجزء ؛ لأنّ المستعمل فيه ـ وهو الأكثر ـ مباين للمعنى الموضوع له ـ وهو المعنى ـ مقيّدا بقيد الوحدة ؛ لمباينة المشروط بشيء للمشروط بعدمه ، فإنّ الأكثر الذي يكون «بشرط شيء» والمقيّد بالوحدة يكون «بشرط لا» ، فأين الكلّ والجزء حتّى يصحّ الاستعمال المجازي بلحاظهما؟ وكيف يستعمل المفرد في أكثر من

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٥٥ ـ ٥٦.

٣٥٧

معنى واحد على نحو المجازيّة؟

ولكنّه مدفوع بأنّه اختلط عليه المفهوم والمصداق ؛ إذ المستعمل فيه ليس بعنوان الأكثر ومفهومه ، بل هو عبارة عن مصداقه ، يعني استعمال اللّفظ في المعنيين أو المعاني باستعمال واحد مثل استعماله فيهما أو فيها مستقلّا ، وحينئذ يصدق لفظ الموضوع للكلّ في الجزء ، كما لا يخفى.

وأمّا استدلال صاحب المعالم لمدّعاه في التثنية والجمع بأنّهما بمنزلة تكرار اللفظ ، ولا مانع من استعمال أحد اللفظين أو الألفاظ في معنى أو معان غير ما استعمل فيه اللفظ الآخر أو الألفاظ الأخر ، فيكون استعمال التثنية والجمع في المعنيين المختلفين أو المعاني المختلفة على نحو الحقيقة ، بخلاف المفرد.

ولكنّ أشكل عليه أيضا في الكفاية (١) بأنّ التثنية والجمع وإن كانا بمنزلة تكرار المفرد ، إلّا أنّ علامتهما تدلّ على تعدّد أفراد ما اريد من المفرد ، وإذا كان المراد من المفرد معنى واحدا فالتعدّد يكون في أفراد ذلك المعنى الواحد ، فإذا اريد من العين ـ مثلا ـ العين الجارية فلا يراد من تثنيتهما وجمعها إلّا فردان وأفراد من هذه الماهيّة ، فوزان التثنية والجمع وزان المفرد في عدم جواز استعمالهما في أكثر من معنى واحد على نحو الحقيقة.

واعترض على صاحب الكفاية بأنّ لازم هذا البيان عدم صحّة دخول علامة التثنية والجمع على الأعلام الشخصيّة ؛ لعدم كون معنى العلم الذي يثنّى ويجمع ذا أفراد حتّى يراد في تثنيته وجمعه فردان أو أفراد من معناه ، فإنّ زيدين ـ مثلا ـ يراد بهما معنيان ، لا فردان من معنى واحد ، فعلى تقدير دلالة علامة التثنيّة والجمع على تعدّد مصداق معنى واحد لا يصحّ تثنية الأعلام

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٥٦ ـ ٥٧.

٣٥٨

وجمعها ، مع أنّ من البديهيّات صحّتهما ، كما لا يخفى.

وأجاب عنه في الكفاية (١) بأنّ الأعلام التي لحقتها علامة التثنية والجمع لم تستعمل في معانيها الحقيقيّة غير القابلة للتعدّد ، بل تستعمل في معنى مجازي ـ وهو المسمّى بزيد ـ ثمّ تثنّى وتجمع ، ومعلوم أنّ المسمّى ذو أفراد ومصاديق ، فيصير «زيد» بعد هذا التأويل كالعين التي تكون لكلّ واحد من معانيها أفراد متعدّدة.

فحاصل إشكال المحقّق الخراساني قدس‌سره في هذا المقام على صاحب المعالم : أنّ علامة التثنية والجمع لا تدلّ على تعدّد المعنى والماهيّة ، وإنّما تدلّ على تعدّد مصداق المعنى الواحد الذي اريد من المفرد ، هذا أوّلا.

وأشكل عليه ثانيا : لو فرضنا أنّ علامة التثنية والجمع تدلّ على مطلق التعدّد لا على تعدّد خصوص مصداق المعنى المراد من المفرد ، فيلزم خروج التثنية والجمع عن حريم النزاع ، وهو استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، فإنّهما بعد أن يكونا بمنزلة تكرار المفرد لا بأس بأن يراد من كلّ لفظ معنى غير المعنى الذي اريد من اللفظ الآخر ، ومعلوم أنّ هذا ليس من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى حتّى ينازع في كونه على نحو الحقيقة أو المجاز ، فإذا اريد من العين ـ مثلا ـ الباكية والجارية فيراد من التثنية كلاهما بلا إشكال.

نعم ، إذا استعملت التثنية في فردين من كلّ من المعنيين كفردين من العين الباكية ، وفردين من العين الجارية ، فكان استعمال للعينين في أكثر من معنى ، ولا يجدي تكرّر المفرد في كونه على نحو الحقيقة ، فإنّ مناط المجازيّة ـ وهو إلغاء قيد الوحدة المعتبرة في الموضوع له في هذا الاستعمال ـ موجود

__________________

(١) المصدر السابق : ٥٧.

٣٥٩

ومحقّق ؛ إذ التثنية وضعت للطبيعتين أو للفردين من طبيعة واحدة ، فإذا استعملت في أربعة أفراد من طبيعتين فلا محالة تلغى قيد الوحدة المعتبرة في الموضوع له ، فالتثنية تشارك حينئذ المفرد في كون الاستعمال في كليهما على نحو المجاز ، ولا يجري هذا الاستدراك في الجمع ، كما لا يخفى. هذا تمام توضيح كلامه قدس‌سره.

ولكنّ التحقيق أنّه لا يمكن استعمال التثنية والجمع في أكثر من معنى أصلا ، فإنّ هيئة التثنية والجمع ـ أي الألف والنون أو الواو والنون ـ موضوعة للدلالة على إرادة المتعدّد من مدخولها ، وتدلّ على تضاعف المفرد ، فإن اريد من المفرد ككلمة العين ـ مثلا ـ في قولك : «رأيت عينين» المعنيان ـ كالجارية والباكية ـ فالهيئة الطارئة عليها تدلّ على فردين من الجارية وفردين من الباكية ، وهذا ليس من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، بل هو من باب استعمال المفرد في ذلك ، فإنّ التثنية مستعملة في معناها الموضوع له الذي يدلّ على تضاعف المفرد ، وهذا بعينه نظير ما إذا ثنّي يكون متعدّدا من نفسه كالطائفة في قولنا : «رأيت طائفتين» فكما أنّه لم يذهب إلى وهم أحد أنّ التثنية في أمثال هذه الموارد مستعملة في أكثر من معنى فكذلك في المقام.

والحاصل : أنّ دلالة الهيئة تابعة للمفرد والمادّة ، فإن اريد بالمادّة طبيعة واحدة ـ كالذهب ـ فالهيئة تدلّ على إرادة المتعدّد منه ، وإن اريد بالمادّة الطبيعتان المختلفتان فالهيئة تدلّ على إرادة المتعدّدة منهما ، فلا معنى لاستعمال التثنية والجمع في أكثر من معنى رأسا ، فيكون محلّ النزاع في هذا البحث لفظ المفرد فقط ، والاستعمال في أكثر من معنى كان فيه على نحو الحقيقة كما مرّ.

٣٦٠