دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

فكلمة «من» في جملة : «سر من البصرة إلى الكوفة» من أيّهما؟ لا شكّ في أنّ إيجاديّته مخالف للوجدان ، ولا معنى لحكائيّته بعد. هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ السير في هذه الجملة يكون مأمورا به ، ولا بدّ في المأمور به من كونه أمرا كلّيّا ، ولا يمكن أن يكون جزئيّا خارجيّا ؛ إذ السير قبل تحقّقه ليس بجزئي خارجي ، وبعد تحقّقه في الخارج يكون الأمر به لغوا ، فكيف يكون الموضوع له واقعيّة خارجيّة وخصوصيّة خاصّة بعد القطع بأنّ استعمال كلمة «من» في هذه الجملة لا يكون مجازا؟!

وأجابوا عنه بوجوه :

الأوّل : أنّ المعاني الحرفيّة واقعيّات اندكاكيّة في أطرافها ومتعلّقاتها ولا استقلال لها ، فتكون الحروف من حيث الكلّيّة والجزئيّة تابعة لمتعلّقاتها ، فيكون معنى «من» في جملة : «سر من البصرة إلى الكوفة» كلّيّا تبعا للسير.

الثاني : ما يستفاد من كلام استاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ (١) وهو : أنّ ما نحن فيه يكون من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، ولازم ذلك تعدّد المعاني والموضوع له واستقلال كلّ منهما ، والفرق بينهما من جهتين ، وهما أنّ الوضع في المشترك اللفظي متعدّد بخلاف ما نحن فيه ، وأنّ المعاني فيه محدودة بخلاف ما نحن فيه ؛ إذ المعاني هاهنا متعدّدة بتعدّد أفراد العامّ ، فلا مانع من القول : بأنّ كلمة «من» في هذه الجملة استعملت في معان متعدّدة.

إن قلت : إنّ استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد محال.

قلنا : أوّلا : لا نسلّم استحالته كما سيأتي مفصّلا ، وثانيا : لو سلّمنا الاستحالة فهي في موارد كانت للّفظ معان مستقلّة ، مثل : كلمة «عين» لا في موارد كانت

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٣١ ـ ٣٢.

١٦١

للّفظ معان تبعيّة كما في ما نحن فيه.

ولكنّ التحقيق في الجواب : أنّه لا بدّ من توضيح نكتة هاهنا ، وبها يندفع الإشكال ولا نحتاج إلى الجوابين المذكورين ، وهي : أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره لم يبيّن معنى الجزئيّة التي ذكرها في جملة : «سرت من البصرة إلى الكوفة» ، وكذا معنى الكلّيّة التي ذكرها في جملة : «سر من البصرة إلى الكوفة» ، ولا بدّ من توجيهه بأنّ السير الذي تحقّق في الماضي وكان المتكلّم في مقام الإخبار عنه كانت له خصوصيّات متعدّدة ، من قبيل تحقّقه في زمان معيّن وطريق معيّن ومع وسيلة مشخّصة ، وهكذا ، فيكون هذا المعنى جزئيّا خارجيّا. وأمّا في مقام الأمر في قولنا : «سر من البصرة إلى الكوفة» يكون السير المأمور به كلّيّا ؛ إذ المولى لم يقيّد تحقّقه بزمان كذا وطريق كذا و... فتحصل موافقة الأمر بامتثال كلّ مصداق من المصاديق ، ولا معنى للكلّية والجزئيّة سوى ذلك.

إذا عرفت هذا فنقول : لا شكّ ولا شبهة في أنّه لا دلالة للجمل الخبريّة على زمان السير وطريقه وسائر خصوصيّاته ، ولا تحكي عنها أبدا ، والالتزام بأنّ دلالة هذه الجمل ناقصة باطل إجماعا ومخالف للوجدان ، فيكون كلمة «من» في جملة : «سرت من البصرة إلى الكوفة» حاكية عن الواقعيّة المتعلّقة بالسير والبصرة ، وهي تمام معناها ، ولا دخل للزمان وسائر الخصوصيّات فيه ، ولا فرق في هذا المعنى بينها وبين جملة : «سر من البصرة إلى الكوفة» وكلتاهما تفيدان واقعيّة واحدة ، كالأسامي إذا استعملت في الجمل الإنشائيّة لا فرق بينها وبين ما إذا استعملت في الجمل الخبريّة ، فكيف يكون معنى كلمة «من» في الاولى جزئيّا وفي الثانية كلّيّا؟!

وبالجملة ، إنّما الحروف على قسمين : قسم منها يسمّى ب «الحكائيّة» وهي

١٦٢

تحكي عن الواقعيّة ، سواء كانت في ضمن الجمل الخبريّة أو الإنشائيّة ، وقسم منها يسمّى ب «الإيجاديّة» وهي حروف توجد بها معان لم تتحقّق قبلها.

وأمّا كيفيّة الوضع في القسم الأوّل فهي لا تكون بصورة الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، بأن تكون هنا حين الوضع ماهيّة كلّيّة ، فيضع اللفظ لمصاديقها بعد لحاظها ، فقد ذكرنا فيما تقدّم أنّ هذا المعنى محال ، بل الواضع يلاحظ عنوانا ثمّ يضع اللفظ للمعنونات ؛ إذ لا يمكن له لحاظ المعنونات جميعا ، فلا بدّ من لحاظ عنوانها نحو عنوان «النسبة الابتدائيّة» ولا دخل له في حقيقة المعنونات ، وهذا يشبه بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.

وأمّا كيفيّته في القسم الثاني فهو قريب من هذا المعنى ، فإنّ الواضع حين وضع حرف «و» للقسم يلاحظ مفهوم القسم ثمّ يضع اللفظ لإيجاد القسم ، ومعلوم أنّ الجزئيّة مساوقة للوجود ، فيكون الموضوع له لحرف «و» عبارة عن مصاديق القسم ، وكما أنّ حرف «من» لو استعمل بوحدته لا يكون له معنى أصلا ، كذلك حرف «و» وهذه الخصوصيّة ـ أي الخصوصيّة التعلّقيّة ـ محفوظة في كلا القسمين من الحروف ، ولا يخفى أنّ عنوان «إيجاد القسم» ليس بقسم ، كما أنّ عنوان «النسبة الابتدائيّة» ليس بنسبة.

في القضايا

والمشهور أنّ القضايا الحمليّة على قسمين : قسم منها يسمّى ب «الحمل الأوّلي الذاتي» وقسم منها يسمّى ب «الحمل الشائع الصناعي» والأوّل على قسمين : فإنّ الموضوع والمحمول قد يكونا متّحدي المفهوم والماهيّة ، كما في قولك : «الإنسان إنسان» و «الإنسان بشر» بناء على الترادف ، فيكون ما يفهم من أحدهما عين ما يفهم من الآخر، وقد يكونا متّحدي الماهيّة ومختلفي

١٦٣

المفهوم ، كما في قولك : «الإنسان حيوان ناطق» إذ ليس ما يفهم من أحدهما عين ما يفهم من الآخر ، ومعلوم أنّ لازم الاتّحاد في الماهيّة والمفهوم الاتّحاد في الوجود كما هو واضح ، وهذا هو الملاك في القضيّة الحمليّة بالحمل الأوّلي الذاتي.

وأمّا القضيّة الحمليّة بالحمل الشائع الصناعي فهي أيضا على قسمين : فإنّ الملاك فيها الاتّحاد في الوجود والمغايرة في الماهيّة والمفهوم ، ولكنّ حمل المحمول على الموضوع قد يكون بلا واسطة ، بل يكون الموضوع مصداقا حقيقيّا للمحمول ، كما في قولك : «زيد إنسان» إذ لا شكّ في مغايرتهما من حيث المفهوم والماهيّة ، فإنّ ماهيّة «زيد» عبارة عن الحيوان الناطق المقيّد بخصوصيّات فرديّة ، وهذه غير ماهيّة الإنسان ، ويبقى بينهما الاتّحاد في الوجود فقط ، ومع هذا قد يكون حمله عليه مع الواسطة ، كما في قولك : «الجسم أبيض» لأنّ حمل الأبيض عليه يحتاج إلى الواسطة ؛ إذ الجسم صار معروضا للبياض ، والبياض أبيض فالجسم أبيض.

وأمّا المعروف في الألسنة من أنّ القضايا الحمليّة مركّبة من ثلاثة أجزاء ـ أي الموضوع والمحمول والنسبة ـ فهذا التركّب يتحقّق في جميع مراحل القضايا ، يعني : في مرحلة التلفّظ والقضيّة الملفوظة ، وفي مرحلة المفهوم والقضيّة المعقولة وما يعقله المخاطب من القضيّة الملفوظة ، وفي مرحلة الواقعيّة والقضيّة المحكيّة.

وتوضيحه يتوقّف على مقدّمتين : الاولى : أنّ النسبة ـ كما مرّ ـ تكون من الامور الواقعيّة المتقوّمة بطرفيها ، فلا بدّ من التغاير في طرفي النسبة ، وبدونه لا معنى للنسبة كما هو واضح.

والثانية : أنّ الأصل في مراحل القضايا هي المرحلة الواقعيّة والقضيّة

١٦٤

المحكيّة ؛ إذ الغرض من الجملة الخبريّة إلقاء الواقعيّة عن طريق اللفظ إلى المخاطب وانتقاله إليها من هذا الطريق.

إذا عرفت هذا فنقول : لا شكّ في أنّ النسبة ليست موجودة في النوع الأوّل من القضيّة الحمليّة بالحمل الأوّلي الذاتي ؛ إذ لا تتحقّق المغايرة بين الموضوع والمحمول ، بل هما متّحدان من حيث الماهيّة والمفهوم والوجود ، ولا مغايرة بينهما حتّى المغايرة بالإجمال والتفصيل مع كونها من أصدق القضايا ، نحو : «الإنسان إنسان» وهكذا في النوع الثاني منها ، مثل : «الإنسان حيوان ناطق» وهذه القضيّة ليست قابلة للمناقشة ، مع أنّه لا تتحقّق النسبة فيها أيضا ؛ إذ لا مغايرة بين الإنسان والحيوان الناطق حتّى تتحقّق النسبة بينهما ، وهكذا في النوع الأوّل من القضيّة الحمليّة بالحمل الشائع الصناعي ، مثل : «زيد إنسان» ؛ لأنّ الغرض في هذه القضيّة ليس إلّا إثبات فرديّة «زيد» للإنسان ، وإذا كان الأمر كذلك لا نرى في الخارج واقعيّة باسم «زيد» وفي مقابلها واقعيّة اخرى باسم الإنسان حتّى تكون بينهما النسبة.

وأمّا النوع الثاني منها مثل : «الجسم أبيض» فإذا رأينا في الخارج اتّصاف الجسم بالبياض فلا نشكّ في تحقّق النسبة بينهما ؛ إذ الجسم وجود جوهري والبياض وجود عرضيّ يعرض له ، وبينهما تتحقّق النسبة ، ولكن في مقام الحكاية عن هذه الواقعيّة قد يقول المتكلّم : «الجسم له البياض» وقد يقول : «الجسم أبيض» ، وبينهما بون بعيد ؛ إذ لا تتحقّق النسبة في الصورة الثانية ، والأبيض عبارة عن ذات ثبت لها البياض ، وهو في الخارج عين الجسم ومتّحد معه ، ولا يكون الجسم شيء والأبيض شيء آخر حتّى تتحقّق بينهما النسبة ، وأمّا في الصورة الاولى فالظاهر أنّه تتحقّق النسبة فيها ؛ إذ الجسم

١٦٥

مبتدأ والبياض خبره ، وبينهما النسبة متحقّقة ، ولكنّ أهل الأدب في مقام التركيب قالوا : إنّ للجار والمجرور متعلّق محذوف ، ويعبّر عن هذا السنخ من القضايا بالقضيّة المؤوّلة ، وأصل القضيّة عبارة عن «الجسم ثابت له البياض» ، وكلمة «ثابت» خبر للمبتدا ، وحينئذ لا فرق بينها وبين قضيّة «الجسم أبيض» من حيث عدم النسبة فيهما ؛ إذ «الجسم» ليس غير ثابت له البياض ، بل يكون بينهما اتّحاد ، وهو لا يوافق النسبة كما لا يخفى.

ولكنّ التحقيق : أنّه إن لم نلاحظ القضيّة من نظر النحويين فلا تكون النسبة الموجودة في هذا السنخ من القضايا مدلولة للقضيّة الحمليّة ، بل هي مدلولة للحروف ، ويشهد على ذلك إفادة نسبة هذه الجملة وإن كانت بصورة المركّب غير التام ، مثل : «الجسم الذي له البياض» ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ المحمول في هذه القضيّة عند المشهور عبارة عن جملة : «له البياض» فلا بدّ من وجود النسبة أيضا بين «الجسم» و «له البياض» ؛ إذ البياض لا يكون خبرا حتّى تتحقّق النسبة بينهما ، مع أنّه لم يقل به أحد.

والحاصل : أنّه في القضايا إمّا أنّه ليس للنسبة أثر ولا خبر ، أو كانت مدلولة للحروف ـ كما مرّ آنفا ـ مع أنّ الظاهر من كلامهم عدم الفرق بين القضايا الموجبة والسالبة من جهة الاشتراك في وجود النسبة فيها ، ولكن كانت النسبة في الاولى إيجابيّة ، وفي الثانية سلبيّة ، كما في قولك : «زيد ليس بقائم» ، فكيف تكون النسبة قابلة للتصوّر هاهنا؟! إذ لا يكون في الخارج قيام حتّى يقع طرفا للنسبة ، والسلب أمر عدميّ ، ولا يمكن أن يكون العدم طرفا للنسبة ، مع أنّ تحقّق النسبة على أمرين وجوديّين كما هو واضح.

فلا بدّ من توجيه كلامهم على خلاف ظاهره بأنّ مرادهم من النسبة

١٦٦

السلبيّة في القضايا السالبة عبارة عن سلب النسبة ، وحينئذ ليست النسبة فيها موجودة ، فلا أصل ولا أساس لما قال به المشهور من تركّب القضايا من ثلاثة أجزاء ، وإن كان هذا منشأ لأكثر التعاريف والمباني في المنطق والاصول والعلوم الأدبيّة.

ومناط الحمل في القضايا ـ كما أشار إليه صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في باب المشتقّ ـ هو الاتّحاد والهوهويّة ، وله مراتب ودرجات ، وأعلى مراتبه : عبارة عن الاتّحاد في المفهوم والماهيّة والوجود ، مثل : «الإنسان إنسان».

وثانيتها : عبارة عن الاتّحاد في الماهيّة والوجود ، مثل : «الإنسان حيوان ناطق».

وثالثتها : عبارة عن الاتّحاد في الوجود فقط ، وهي أدنى مرتبة الاتّحاد والهوهويّة ، مثل: «زيد إنسان». ومعلوم أنّ هذه القضيّة صحيحة إذا كان الحمل بمناط الاتّحاد في الوجود ، وأمّا إذا كان بمناط الاتّحاد في الماهيّة فهي قضيّة كاذبة ؛ إذ ليس بينهما اتّحاد في هذه المرحلة.

وأمّا النوع الثاني من القضيّة الحمليّة بالحمل الشائع الصناعي إذا كانت الحكاية بصورة «الجسم أبيض» و «زيد قائم» فلا شبهة في الاتّحاد بين الموضوع والمحمول في مرحلة الوجود ، إنّما الإشكال في سنخ الأخير منها ، مثل : «الجسم له البياض» ، و «زيد في الدار» ، فإنّ كلمة «في» تدلّ على الظرفيّة ، وهي واقعيّة ثالثة لا يمكن اتّحادها مع الموضوع أو المحمول ، فلا تكون جملة : «في الدار» قابلة للحمل على الموضوع ، كما أنّ البياض لا يكون قابلا للحمل على الجسم ، فلا بدّ لها من المتعلّق ، مثل كلمة «كائن» أو «ثابت» أو «مستقرّ» ،

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٨٤.

١٦٧

ومعلوم أنّ بين «زيد» وكائن في الدار اتّحاد وهوهويّة ، ولذا عبّروا عن هذه القضايا بالقضايا المؤوّلة ، بمعنى أنّ المحمول فيها ليس قابلا للحمل بدون التأويل.

هذا ، والملاك في القضايا السالبة عبارة عن نفي الاتّحاد والهوهويّة ، ولكن ليس المراد من سلب الاتّحاد سلبه عن جميع المراحل ـ أي مرحلة المفهوم والماهيّة والوجود ـ بل لا بدّ فيه من مراعاة نوع الاتّحاد المقصود في القضيّة الموجبة ، فإذا قيل : «زيد قائم» في الموجبة و «زيد ليس بقائم» في السالبة يعلم أنّ المراد من الاتّحاد وسلبه فيهما يكون في عالم الوجود فقط ، كما أنّه إذا قيل في الموجبة : «الإنسان حيوان ناطق» وفي السالبة : «الإنسان ليس بحيوان ناهق» نستكشف أنّ المراد من الاتّحاد وسلبه فيهما يكون في مرحلة الماهيّة فقط ، فيظهر منه أنّه إذا قيل بلحاظ الاتّحاد في المفهوم : «الإنسان ليس بحيوان ناطق» كانت هذه قضيّة صحيحة ، كما أنّه إذا قيل بلحاظ الاتّحاد في المفهوم «الإنسان حيوان ناطق» كانت هذه قضيّة كاذبة. هذا تمام الكلام في باب القضايا.

الإنشاء والإخبار

قال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ـ بعد ما اختار أنّ المعنى الحرفي والاسمي متّحدان بالذات من حيث الوضع والموضوع له والمستعمل فيه ، ومختلفان من حيث اللحاظ الآلي والاستقلالي في مقام الاستعمال ـ : ثمّ لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضا كذلك ، فيكون الخبر موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه ، والإنشاء يستعمل في قصد تحقّقه وثبوته وإن

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٦.

١٦٨

اتّفقا فيما استعملا فيه ، بمعنى أنّهما أيضا متّحدان من حيث الوضع والموضوع له والمستعمل فيه ، ومختلفان في الداعي ، فإنّه في الإنشاء قصد إيجاد المعنى ، وفي الخبر قصد الحكاية عنه وإن كان في كلامه نوع من المسامحة ، وظاهره يدلّ على خلاف مقصوده.

توضيح ذلك يتوقّف على مقدّمة ، وهي : أنّ الجملات التي يستعملها المتكلّم في مقام الإفادة على ثلاثة أقسام : أحدها : ما يستعمل في مقام الإخبار فقط ، مثل جملة «زيد قائم» فإنّها جملة خبريّة محضة ، واستعمالها في مقام الإنشاء باطل قطعا.

وثانيها : ما يستعمل في مقام الإنشاء فقط ، ولا يتحقّق بها إلّا الإنشاء ، مثل صيغة «افعل» وهي أمر إنشائي ، سواء استعمل في مقام الأمر الوجوبي أو الاستحبابي أو في مقام توهّم الحذر ؛ إذ الجواز أيضا أمر إنشائيّ.

وثالثها : ما قد يستعمل في مقام الإنشاء ، وقد يستعمل في مقام الإخبار ، مثل جملة «بعت داري» ونحوها.

ولا يخفى أنّ المراد من الاختلاف في الخبر والإنشاء في كلامه قدس‌سره هو القسم الثالث منها ، وقال : إنّ لجملة «بعت كذا» معنى واحدا ، لا دخل للإنشاء والإخبار في حقيقته ، ولكن إن استعملت في مقام إنشاء البيع تجد عنوان الإنشائيّة ، وإن استعملت في مقام الإخبار عمّا سبق تجد عنوان الخبريّة ، وليس لها معنيان مختلفان في الحقيقة.

ولكن يرد عليه : بأنّه قدس‌سره استفاد من الأدلّة الامتناع والاستحالة في بحث الحروف ؛ إذ الخصوصيّة التي قال بها الجمهور في الموضوع له الحروف لا محلّ لها خارجا ولا ذهنا ، ثمّ اختار المبنى المذكور ، وأمّا في بحث الخبر والإنشاء

١٦٩

فتمسّك بكلمة «لا يبعد» ، ومعناه إمكان الفرق في جملة «بعت كذا» بين ما إذا استعملت في مقام الإخبار ، وبين ما إذا استعملت في مقام الإنشاء ، مع أنّه لا خصوصيّة هاهنا حتّى يوجب التمسّك.

والتحقيق في المسألة : أنّه كما قلنا في بحث الحروف : إنّ المعاني الحرفيّة والاسميّة متباينتان بتمام الذات والحقيقة ، وأنّ لفظ الابتداء يحكى عن المفهوم وعنوان الابتداء ، وحرف «من» يحكي عن المعنونات والواقعيّات الخارجيّة ، وكذلك في هذه المسألة لا مانع من أن يكون لجملة «بعت كذا» معنيان متضادّان بالحقيقة من حيث الموضوع له والمستعمل فيه : أحدهما عبارة عن الحكاية عن تحقّق البيع ، والآخر عن إنشاء البيع ، والعرف أيضا يساعد هذا المعنى ، إنّما الإشكال في أنّ لكلمة «بعت» مادّة وهيئة ، ولكلّ منهما معنى على حدة ؛ لأنّ مادّتها عبارة عن البيع ، وهو في اللغة مبادلة مال بمال ، وهيئتها عبارة عن الفعل الماضي لمتكلّم وحده ، ومعناه خبر محض وصرف الإخبار عن السابق ، وليس لمجموع الهيئة والمادّة وضعا ثالثا ، ولا نعلم أنّ المعنيين المذكورين مدلولان للهيئة أو للمادّة ، إن كانا مدلولين للهيئة فلم لا يكون في أمثال هذه الهيئة؟ وإن كانا مدلولين للمادّة فلم لا يكون في أمثال هذه المادّة؟

وهذا الإشكال يهدينا إلى الانصراف عمّا قلناه من أنّ لكلمة «بعت» معنيين متضادّين ، ويوجب القول بأنّ الإنشائيّة اخذت في حقيقة المادّة مع قطع النظر عن الهيئة ، ولا شكّ في أنّ المراد من المبادلة في المعنى اللغوي هي المبادلة الإنشائيّة لا المبادلة المكانيّة ، والإنشائيّة لا تنفكّ عن المادّة أصلا ، وأمّا استعمال كلمة «بعت» في مقام الإنشاء والإخبار ، مع أنّ عنوان الإنشائيّة محفوظ في نفس المادّة ، فيكون وضع الواضع الهيئة كذلك ، مثل كلمة «يضرب»

١٧٠

الذي وضعه الواضع للدلالة على الحال والاستقبال.

فإذا استعملت هذه الجملة في مقام الإنشاء يكون معناها : صار الإنشاء متحقّقا في الحال ، وإذا استعملت في مقام الإخبار يكون معناها : صار الإنشاء متحقّقا فيما مضى ، والفرق بينهما لا يكون إلّا من حيث الزمان فقط ، وعنوان الإنشاء في كليهما محفوظ ، والهيئة قد توجد الإنشاء في الحال وقد تحكي عمّا مضى ، وهذه الحكاية لا تكون إلّا لوضعها من ناحية الواضع كذلك ، وهكذا في سائر الجمل المشتركة بين الإخبار والإنشاء.

وربّما يشكل بأنّه سلّمنا هذا المعنى في كلمة «بعت» و «أنكحت» وسائر الجمل التي قد تستعمل في مقام الإنشاء ، وقد تستعمل في مقام الإخبار ، واخذت في مادّتها عنوان الإنشائيّة ، ولكنّا نرى كثيرا ما استعمال الجمل الخبريّة ، مثل : «يعيد صلاته» و «يغسل ثوبه» مكان «ليعد صلاته» و «ليغسل ثوبه» ، مع أنّه لا يؤخذ في مادّتها عنوان الإنشائيّة ، كما لا يخفى.

وجوابه : أنّ استعمال كلمة : «بعت» و «أنكحت» في مقام الإنشاء والإخبار استعمال حقيقي يحتاج إلى الوضع ، وأمّا استعمال الجمل المذكورة في المعنى الإنشائي فاستعمال مجازي وكنائي ، ولا نحتاج فيه إلى وضع خاصّ ، ولا يخفى أنّ كلامنا في الاستعمال الحقيقي لا المجازي.

حقيقة الإنشاء والإخبار

واعلم أنّ الإنشاء والإخبار وصفان للجملة ، والمفرد لا يتّصف بهذين العنوانين ، والمقسم لهما جملة يصحّ السكوت عليها. وأمّا حقيقة الإخبار فلا إبهام فيها ، بل أوضح من أن يبيّن ؛ لأنّه يحكي عن الواقع في الزمان الماضي أو الحال أو الاستقبال ، أو نفي الواقع كذلك ، وأمّا حقيقة الإنشاء فتحتاج إلى

١٧١

البحث والتأمّل ، والبحث فيها يكون في مرحلتين :

الاولى : في أنّ للفظ تأثيرا في حقيقة الإنشاء أم لا؟ قال بعض الأعلام ـ على ما في كتاب المحاضرات (١) ـ : إنّ الجملة الإنشائيّة موضوعة لإبراز أمر نفساني ، فكلّ متكلّم متعهّد بأنّه متى ما قصد إبراز ذلك يتكلّم بالجملة الإنشائيّة ، مثلا : إذا قصد إبراز اعتبار الملكيّة يتكلّم بصيغة «بعت» أو «ملكت» ، وإذا قصد إبراز اعتبار الزوجيّة يبرزه بقوله : «زوّجت» و «أنكحت» ، وإذا قصد إبراز اعتبار كون المادّة على عهدة المخاطب يتكلّم بصيغة «افعل» ونحوها ، وهكذا ، فالإنشاء يتحقّق بالاعتبار النفساني ، سواء كان هناك لفظ يتلفّظ به أم لم يكن؟ نعم ، اللفظ مبرز له في الخارج.

ثمّ يدفع الإشكال بقوله : أمّا الاعتبارات الشرعيّة أو العقلائيّة فهي وإن كانت مترتّبة على الجمل الإنشائيّة ، إلّا أنّ ذلك الترتّب إنّما هو فيما إذا قصد المنشئ معاني هذه الجمل بها لا مطلقا ، والمفروض في المقام أنّ الكلام في تحقيق معانيها وفيما تترتّب عليه تلك الاعتبارات.

وبتعبير آخر : أنّ الجمل الإنشائيّة وإن كانت ممّا يتوقّف عليها فعليّة تلك الاعتبارات وتحقّقها خارجا ، ولكن لا بما أنّها ألفاظ مخصوصة ، بل من جهة أنّها استعملت في معانيها.

على أنّه ليس في كلّ مورد من موارد الإنشاء اعتبار من العقلاء أو من الشرع ؛ لأنّ في مورد إنشاء التمنّي والترجّي والاستفهام ونحوها ليس أيّ اعتبار من الاعتبارات حتّى يتوصّل بها إلى ترتّبه في الخارج.

ثمّ استدلّ لذلك المعنى بقوله : إنّ الجملة الإنشائيّة لم توضع لإيجاد المعنى في

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٨٨.

١٧٢

الخارج ، والوجه في ذلك هو أنّهم لو أرادوا بالإيجاد الإيجاد التكويني كإيجاد الجوهر والعرض فبطلانه من الضروريّات التي لا تقبل النزاع ، وإن أرادوا به الإيجاد الاعتباري كإيجاد الوجوب والحرمة أو الملكيّة والزوجيّة وغير ذلك فيردّه أنّه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفساني من دون حاجة إلى اللفظ والتكلّم به ؛ ضرورة أنّ اللفظ في الجملة الإنشائيّة لا يكون علّة لإيجاد الأمر الاعتباري ، ولا واقعا في سلسلة علّته ، فإنّه يتحقّق بالاعتبار النفساني كما قلناه.

ولكن يرد عليه : أوّلا : أنّ صريح الوجدان يحكم بأنّ الزوجيّة تتحقّق بنفس جملة «أنكحت كذا» و «قبلت كذا» ، لا أنّها تحكي عمّا حدث من الإنشاء سابقا ، وهكذا في جملة «بعت كذا» ونحوها.

وثانيا : أنّ البرهان الذي ذكره ـ دام ظلّه ـ مقنع لمن أحال أن يكون الاعتبار النفساني كافيا في الإنشاء ، وهو يقول في جوابه بإمكان كفايته ، ولكنّ كلّ ممكن لا يوجب الإيصال إلى الواقعيّة ، فإنّا نرى بالوجدان تأثير اللفظ في تحقّق الإنشاء عند الشرع والعقلاء في موارد الإنشاءات اللفظيّة ـ كالبيع والنكاح ونحوهما ـ وحتّى في باب الأوامر والنواهي إن لم يكن اللفظ لا يصدر من الآمر أمر ومن المأمور عمل به في الخارج ، فالإنشاء اللفظي لا يتحقّق بدون اللفظ ، مع أنّ لازم كلامه أن تكون الجملة الإنشائيّة في مقام الإنشاء جملة خبريّة ؛ إذ لا فرق في مقام الحكاية عن الواقع المحقّق بين أن يكون تحقّقه قبل اسبوع أو شهر أو آناً ما قبل الحكاية.

المرحلة الثانية : في ذكر الأقوال في حقيقة الإنشاء : نسب إلى المشهور أنّ الإنشاء عبارة عن استعمال اللفظ في معناه بداعي تحقّق هذا المعنى في وعاء

١٧٣

تحقّقه من الاعتبار ؛ إذ الملكيّة ـ مثلا ـ مع أنّ أسبابها مختلفة قد تتحقّق بفعل فاعل مختار ، مثل : حيازة المباحات ، وقد تتحقّق بعامل غير اختياري ـ كالإرث ـ وقد تتحقّق بالإنشاء ، ولكنّه أمر اعتباري لا واقع له في الخارج إلّا اعتبار الشارع والعقلاء ، فيكون استعمال صيغة «بعت» في مقام البيع بداعي تحقّق سبب للملكيّة في عالم الاعتبار ، وصيغة «أنكحت» في مقام العقد بداعي تحقّق سبب للزوجيّة في العالم المذكور.

ولكن يرد عليه : أوّلا : أنّ لازم هذا المعنى عدم تحقّق الإنشاء فيما لو باع البائع مال الغير لنفسه عالما واشتراه المشتري كذلك ؛ إذ لا يكون هاهنا استعمال كلمة «بعت» في معناها بداعي تحقّقه في عالم الاعتبار بعد علمهما ببطلان هذا البيع عند الشارع والعقلاء ، مع أنّ القول بعدم تحقّق الإنشاء أصلا خلاف الوجدان ؛ إذ لا فرق في تحقّق الإنشاء بين كون البائع غاصبا أو غيره.

وثانيا : أنّ لازم هذا المعنى محدوديّة الإنشاء بامور اعتباريّة فقط ، وأمّا الامور الواقعيّة ـ مثل : الطلب الذي له واقعيّة خارجيّة ـ فهي إرادة قائمة بالنفس ، وواقعيّة ذهنيّة ، وهي عبارة عن تصوّر مفهومه ولا يتعلّق به الإنشاء ؛ إذ ليس فيه استعمال اللفظ في معناه بداعي تحقّقه في عالم الاعتبار.

ولكن يمكن جوابه بأنّ مفهوم الطلب كمفهوم الإنسان ليس فيه قابليّة الإنشاء عند المشهور حتّى يشمله التعريف.

قال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) في فوائده : إنّ الإنشاء هو القول الذي يقصد به إيجاد المعنى في نفس الأمر ، مثلا : ملكيّة المشتري للمبيع لها واقعيّة لم تكن لها قبل الإنشاء ، ولا نعني من وجود الملكيّة بالإنشاء إلّا مجرّد التحقّق الإنشائي

__________________

(١) فوائد الاصول : ١٧ ـ ١٨.

١٧٤

لها الموجب مع الشرائط لنحو وجودها ، الحاصل بغيرها من الأسباب الاختياريّة كحيازة المباحات ، والاضطراريّة كالإرث ، بمعنى : أنّه كما أنّ الملكيّة تكون من الامور الاعتباريّة ، كذلك الوجود الإنشائي أمر اعتباري ، فيمكن أن يكون في مورد الوجود الإنشائي ملكيّة المبيع للمشتري بدون اعتبار الملكيّة من الشارع والعقلاء ، مثل : بيع الغاصب لنفسه ، ويمكن أن يكون في مورد هذا الوجود الإنشائي مع تحقّقه خارجا وذهنا ، مثل : مفهوم الطلب ، ويمكن أن يتحقّق الوجود الإنشائي بلا إرادة سابقه ـ أي وجود واقعي الطلب ـ كالأوامر الامتحانيّة.

واعلم أنّ نفس الأمر أعمّ من الواقع ؛ إذ هو منحصر بالوجود الذهني والخارجي واللفظي والكتبي ، وأمّا نفس الأمر فيشمل وجودا آخر باسم الوجود الإنشائي في عالم الاعتبار.

لا يقال : إنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد فكيف يتشخّص هذا الوجود مع كونه في مقابل الوجود الذهني والخارجي؟

لأنّا نقول : إنّ مشخّصات هذا النحو من الوجود إنّما هو بشخص المنشئ وشخص لفظه ، بحيث لو أنشأ بلفظ آخر ، أو أنشأه شخص آخر يتحقّق وجود إنشائي آخر. هذا ملخّص كلامه.

والكلام معه قدس‌سره يقع في جهتين :

الاولى : أنّ المفاهيم الواقعيّة هل يتحقّق لها هذا الوجود الإنشائي أم لا؟ وهو قدس‌سره قائل بأنّ مفاد صيغة «افعل» كان وجودا إنشائيّا للطلب ، ومفاد صيغة «لا تفعل» كان وجودا إنشائيّا للنهي.

وبعبارة اخرى : مع أنّه يتحقّق لمفهوم الطلب وجود واقعي خارجي ،

١٧٥

ووجود واقعي ذهني ، وكانت له واقعيّة اخرى في نفس الأمر باسم الوجود الإنشائي ، وسيأتي إتمام وإكمال هذا البحث من هذه الجهة في مبحث الأوامر إن شاء الله.

الجهة الثانية : في أنّ لازم كلامه قدس‌سره في العقود الصحيحة تحقّق اعتبارين من العقلاء ، أحدهما اعتبار الوجود الإنشائي ، والآخر اعتبار الملكيّة ، مع أنّ العقلاء لم يلتزموا بهذا المعنى.

قال المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) في تفسير كلام صاحب الكفاية ما هذا إجماله : إنّ الوجود منحصر بالعيني والذهني والكتبي واللفظي ، ومراده قدس‌سره من الوجود الإنشائي هو الوجود اللفظي ، فيكون وجود المعنى بعين وجود اللفظ ، بحيث ينسب الوجود إلى اللفظ بالذات ، وإلى المعنى بالعرض وبالجعل والمواضعة ، كما أنّ ماهيّة الإنسان بسبب المصداق تتّصف بالوجود العيني ، وبسبب التصوّر تتّصف بالوجود الذهني ، كذلك المعنى يتّصف بالوجود اللفظي بسبب اللفظ ؛ لتحقّق العلاقة الوضعيّة بينهما ، فلفظ الإنسان بما أنّه لفظ له تحقّق ووجود حقيقة حين التكلّم به ، ولماهيّته تحقّق بالعرض ، وإنّما قيّدوه بنفس الأمر ، مع أنّ وجود اللفظ في الخارج وجود للمعنى أيضا بالعرض ؛ تنبيها على أنّ اللفظ بواسطة العلقة الوضعيّة وجود المعنى تنزيلا في جميع النشئات ، فكأنّ المعنى ثابت في مرتبة ذات اللفظ بحيث لا ينفكّ عنه في مرحلة من مراحل الوجود ، والمراد بنفس الأمر حدّ ذات الشيء ـ أي الماهيّة ـ من باب وضع الظاهر موضع المضمر.

إن قلت : هذا المطلب جار في جميع الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من دون

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

١٧٦

اختصاص بالإنشائيّات.

قلنا : فرقه أنّ المتكلّم قد يتعلّق غرضه بإيجاد نفس هذه النسبة ، وقد يتعلّق بالحكاية عن النسبة الواقعة ، مثلا : مفاد كلمة «بعت» إخبارا وإنشاء واحد ، وهي النسبة المتعلّقة بالملكيّة ، فقد يقصد وجود تلك النسبة خارجا بوجودها اللفظي ، فليس وراء قصد الإيجاد أمر آخر وهو الإنشاء ، وقد يقصد زيادة على ثبوت المعنى تنزيلا الحكاية عن ثبوته في موطنه أيضا وهو الإخبار.

ثمّ قال في آخر كلامه : فلا ينتقض باستعمال الألفاظ المفردة في معانيها فإنّها كالإنشائيّات من حيث عدم النظر فيها إلّا إلى ثبوتها خارجا ثبوتا لفظيّا ، غاية الأمر أنّها لا يصحّ السكوت عليها ، بخلاف المعاني الإنشائيّة ، وهذا أحسن ما يتصوّر في شرح حقيقة الإنشاء ، وعليه يحمل ما أفاده استاذنا العلّامة ، لا على أنّه نحو وجود آخر في قبال جميع الأنحاء المتقدّمة فإنّه غير متصوّر.

أقول : لا يخفى أنّ كلامه قدس‌سره يكون موردا للإشكال من جهتين :

الاولى : من جهة حمل كلامه على هذا المعنى ؛ إذ لا شكّ ولا شبهة في عدم ظهور كلامه في المعنى المذكور ، ولذا لا دليل لحمل كلامه عليه ، إلّا من حيث عدم معقوليّته كما صرّح في آخر كلامه ؛ إذ الوجود منحصر بأنحاء أربعة كما قال به المحقّقون من الفلاسفة.

والتحقيق : أنّ انحصار الحقائق والواقعيّات والماهيّات فيها غير قابل للإنكار ، ولكن مع ذلك لا إشكال في أنّ للملكيّة أيضا تحقّقا ووجودا إذا حصلت بالحيازة أو الإرث ، مع أنّه لم يكن من أنحاء الوجود الأربعة ، فلا بدّ له قدس‌سره في مقام الجمع بينهما من القول بأنّ تقسيم الوجود بالأقسام الأربعة

١٧٧

مربوط بالحقائق والواقعيّات ، وأمّا الملكيّة والزوجيّة ونحوهما فتكون من الامور الاعتباريّة ، لا واقعيّة لها إلّا في عالم الاعتبار ، وإذا كانت الملكيّة كذلك فيكون الوجود الإنشائي أيضا من هذا القبيل ، فإنّه ليس في مقابل الوجود العيني والذهني ، بل هو أمر اعتباري عند العقلاء وكان ظرف تحقّقه نفس الأمر ، وهو أعمّ من الواقع ؛ لشموله عالم الاعتبار أيضا. ولا دليل على تفسير نفس الأمر بأنّ اللفظ بواسطة العلقة الوضعيّة وجود المعنى في جميع المراحل حتّى مرحلة الماهيّة ؛ إذ لا ربط للفظ بالمعنى في الماهيّة ؛ لأنّ وجود اللفظ وجود بالذات وبالأصالة ، ووجود المعنى وجود تبعي لا استقلال له ، وبينهما بون بعيد ، فكيف يتّحدان في الماهيّة؟! فلا يكون له داع لذكر نفس الأمر إلّا الأعمّيّة ، ويكون تفسيره به في غير محلّه ، وكلام صاحب الكفاية قدس‌سره لا يكون كلاما غير متصوّر.

الثانية : من جهة عدم صحّة كلامه أصلا ، فإنّ بيانه يرجع إلى أنّ الوجود الإنشائي عبارة عن الوجود اللفظي ، وتحقّق المعنى يكون بتحقّق اللفظ ، وينسب التحقّق إلى اللفظ أصالة وبالذات ، وإلى المعنى بالعرض. وهذا المعنى يستلزم المحذورات في باب المفردات غير الإنشائيّة ، مثل : كلمة «إنسان» حيث قال قدس‌سره : هذا المعنى جار فيه أيضا ، ولا فرق بينه وبين الجمل الإنشائيّة في الإنشائيّة ، ومع هذا كان ملاك الفرق بين المفرد والجملة ، لا بين كلمة «إنسان» والجمل الإنشائيّة ؛ إذ لا تكون فيها شائبة الإنشاء ، بل مفهومه أيضا بعيد عن عالم الإنشاء كما يحكم به صريح الوجدان.

وهكذا في مقام الفرق بين الجمل الخبريّة والإنشائيّة حيث قال قدس‌سره : إنّ في كليهما يتحقّق معنى الإنشائيّة ، بل هما مشتركان في هذا المعنى ، والفرق بينهما في

١٧٨

أنّ الجمل الخبريّة مشتملة على زيادة ، وهو الإخبار عن الواقعيّة ، مع أنّ هذا مخالف لما اتّفق عليه جميع العلماء من أنّ الإنشاء والإخبار من المقولتين المتضادّتين كالسواد والبياض ، وليست فيهما جهة مشتركة أصلا ، وهذا دليل على بطلان أصل مبناه قدس‌سره وهذا المعنى أبعد من كلام المشهور وصاحب الكفاية.

فالأمر دائر بين قول المشهور وما قال به المحقّق الخراساني قدس‌سره مع أنّهما أيضا مخدوشان من جهة ؛ لأنّ تعريف المشهور لا ينطبق على الإنشاء الذي يتحقّق في بيع الغاصب لنفسه ، ولازم كلام صاحب الكفاية تعدّد الاعتبار في العقود ، وهو بعيد عند العقلاء.

ولكن بعد التحقيق والتدقيق نشاهد أنّ لازم كلام المشهور أيضا كان تعدّد الاعتبار ، أحدهما : اعتبار تحقّق السبب ، والآخر : اعتبار تحقّق المسبّب ، فإنّهم يقولون بأنّ الإنشاء هو استعمال اللفظ في معناه بداعي تحقّقه في وعاء مناسب ـ أي الاعتبار ـ ومعلوم أنّ سببيّة كلمة «بعت» لاعتبار الملكيّة ليست في عالم التكوين أو الخارج ، مثل : سببيّة النار للحرارة ، بل هي مربوطة بعالم الاعتبار ، يعتبرها الشارع والعقلاء ، فيكون تعريف المشهور مخدوشا من جهتين ، والترجيح في المقام ـ بعد المقايسة بين الأقوال ـ لرأي صاحب الكفايةقدس‌سره.

أسماء الإشارة والضمائر

قال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) : يمكن أن يقال : إنّ المستعمل فيه في أسماء الإشارة والضمائر أيضا عامّ ، وإنّ تشخّصه إنّما نشأ من قبل ظهور استعمالها ، حيث إنّ أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها وكذا بعض الضمائر ،

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٦.

١٧٩

وبعضها ليخاطب بها المعنى ، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخّص كما لا يخفى ... ولكن التشخّص الناشئ من قبل الاستعمالات لا يوجب تشخّص المستعمل فيه ... فدعوى أنّ المستعمل فيه في مثل «هذا» و «هو» و «إيّاك» إنّما هو المفرد المذكّر ، وتشخّصه إنّما جاء من قبل الإشارة أو التخاطب بهذه الألفاظ إليه ... غير مجازفة.

ومراده أنّ الوضع والموضوع له والمستعمل فيه فيها عامّ وكلّي ، وهو المفرد المذكّر ، والفرق في مقام الاستعمال فقط ، ونظيره قال في باب الحروف في مقام الفرق بين كلمة «من» و «الابتداء» :

مقدمة :

لا يخفى أنّ مورد استعمال كلمة «هذا» عبارة عن الإشارة الحضوريّة ، وأنّ عنوان الإشارة يكون من المعاني الحرفيّة المتقوّمة بالطرفين ـ أي المشير والمشار إليه ـ كالظرفيّة المتقوّمة بالظرف والمظروف ، هذا متّفق عليه ، ولكنّ الإشارة على نوعين : إحداهما : إشارة عمليّة محضة ، وهي مستقلّة لا يحتاج في تحقّقها إلى اللفظ ، كالإشارة باليد وسائر الجوارح.

والثانية : إشارة لفظيّة ، وأمّا في تحقّقها مستقلّة أو أنّها تحتاج إلى اقترانها مع الإشارة العمليّة فاختلف العلماء فيه.

قال بعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات : «إنّ كلمة «هذا» أو «ذاك» لا تدلّ على معناها وهو المفرد المذكّر ، إلّا بمعونة الإشارة الخارجيّة كالإشارة باليد ـ كما هي الغالب ـ أو بالرأس أو بالعين ، وضمير الخطاب لا يبرز معناه إلّا مقترنا بالخطاب الخارجي» (١).

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٩١.

١٨٠