دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

المتعلّق بقصد القربة فلا إطلاق في البين حتّى نتمسّك به لنفي العباديّة ، فانقدح بذلك أنّه لا وجه لاستظهار التوصّليّة من إطلاق الصيغة بمادّتها ، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه ممّا هو ناش من قبل الأمر من إطلاق المادّة في العبادة لو شكّ في اعتباره فيها.

نكتة : أنّه مرّ في باب الصحيح والأعمّ أنّ الأعمّي يمكن له التمسّك بإطلاق (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) لنفي جزئيّة السورة المشكوكة ـ مثلا ـ بعد تماميّة مقدّمات الحكمة ؛ إذ على فرض جزئيّتها لا تكون الصلوات الفاقدة للسورة خارجة عن عنوان الصلاة ، بخلاف الصحيحي فإنّ فاقدة السورة عنده ليست بصلاة أصلا على فرض جزئيّتها.

نعم ، إذا كان الآمر في مقام بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه وإن لم يكن له دخل في متعلّق أمره لامتناع دخله فيه ـ كقصد القربة ونحوه ـ ومعه سكت في المقام ولم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصوله كان هذا قرينة على عدم دخله في غرضه ، وإلّا لكان سكوته نقضا له وخلاف الحكمة. فهذا الإطلاق المقامي الذي قد يعبّر عنه بالإطلاق الحالي في مقابل الإطلاق اللفظي المعبّر عنه بالإطلاق المقالي أيضا. هذا تمام كلامه بتوضيح منّا.

واعلم أنّ الفرق بينهما امور :

الأوّل : أنّ الإطلاق المقامي لا يرتبط باللفظ وليس من الاصول اللفظيّة ، بل يرتبط بمقام المولى وحاله ، بخلاف الإطلاق اللفظي.

الثاني : أنّ المولى في الإطلاق المقامي لا يتكلّم بعنوان المنشئ والآمر والحاكم ، بل يتكلّم بعنوان المخبر والمطّلع على الواقعيّات بجميع ما له دخل في

٥٦١

حصول الغرض المترتّب على الصلاة ـ مثلا ـ بخلاف الإطلاق اللفظي ، فإنّ المولى فيه يتكلّم بعنوان الآمر والمنشئ بتمام ما له دخل ـ شطرا أو شرطا ـ في المتعلّق وإن كان ظاهر كلامه بصورة الجملة الخبريّة ، مثل قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» إذ كان مفاده أنّه يعتبر في الصلاة الطهارة.

الثالث : أنّهم بعد أن يذكروا شرائط الإطلاق اللفظي في باب المطلق والمقيّد ؛ وأنّها عبارة عن مقدّمات الحكمة ، وأوّلها أن يكون المولى في مقام البيان لا الإهمال والإجمال ، ثمّ يقولون : إنّ المولى إذا قال : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) فيتصوّر فيه ثلاث حالات : فقد نحرز من الخارج كونه في مقام بيان خصوصيّات معتبرة في الصلاة ، وقد نحرز عدم كونه كذلك ، وقد نشكّ في كونه كذلك ، ولا بحث في الصورة الاولى والثانية ، وأمّا في الصورة الثالثة فيقولون :

إنّ بناء العقلاء في هذا المورد على تحقّق المقدّمة الاولى من مقدّمات الحكمة ، وأنّ المولى في مقام البيان ، فنتمسّك بالإطلاق في الصورة الاولى والثالثة ، بخلاف الإطلاق المقامي ؛ إذ يمكن لنا التمسّك به في صورة واحدة ، أي صورة إحراز كون المولى في مقام البيان بسبب تصريحه أو بطرق اخرى ، وأمّا في صورة الشكّ فليس للعقلاء بناء على كونه في مقام البيان ، فلا يمكننا التمسّك بالإطلاق المقامي.

وحاصل كلام صاحب الكفاية قدس‌سره أنّه لا يجوز التمسّك بالإطلاق اللفظي في مورد الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة ، وأمّا التمسّك بالإطلاق المقامي فلا بأس به.

ونرجع إلى البحث فنقول : هل أنّ هذا البيان تام أم لا؟ وهاهنا مطالب من أعاظم تلامذته ، ولا بدّ لنا من ملاحظة بعض منها لتنقيح البحث.

٥٦٢

منها : ما قال به المحقّق الحائري على ما نقله عنه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) ، ومحصّل ما أفاده مبنيّ على مقدّمات :

الاولى : أنّ الأوامر إنّما تتعلّق بنفس الطبائع ، أي المفاهيم الكلّيّة اللّابشرطيّة العارية عن كلّ قيد ، لا بصرف الوجود ولا بالوجود السعي والساري في جميع الأفراد والمصاديق.

الثانية : أنّ العلل التشريعيّة كالعلل التكوينيّة طابق النعل بالنعل ، فكلّ ما هو من مقتضيات الثانية يكون من مقتضيات الاولى أيضا كتكثّر المعلول لتكثّر علّته ، وكعدم انفكاك المعلول عنها وغير ذلك ، فكما أنّ النار سبب للحرارة كذلك إتلاف مال الغير سبب للضمان ، وكلّ جنابة سبب مستقلّ لوجوب الغسل ، ولا يمكن الانفكاك بين السبب والمسبّب في التكوينيّات والتشريعيّات إلّا بالإعجاز في الاولى ـ مثل قضيّة إبراهيم عليه‌السلام ـ وحكم خلاف القاعدة في الثانية ، فلا بدّ لنا من المشي على القاعدة في موارد لم يكن الدليل على عدم الانفكاك ، وعلى ذلك بنى قدس‌سره القول بعدم التداخل في الأسباب والقول بظهور الأمر في الفور ودلالته على المرّة ، فالأمر علّة شرعيّة لتحقّق المأمور به وتكون المرّة ، وكذا الفوريّة داخلة في مفاد الأمر ، كما أنّ الفوريّة والمرّة تكون من آثار العلّة التكوينيّة.

الثالثة : أنّ القيود اللبّية على قسمين : قسم منها ما يمكن أخذها في المتعلّق على نحو القيديّة اللحاظيّة كالطهارة ، وقسم منها ما لا يمكن أخذها في المتعلّق وتقييده بها ، إلّا أنّه لا ينطبق إلّا على المقيّد بمعنى أنّه له ضيقا ذاتيّا لا يتّسع غيره بدون دليل يوجب التوسعة كمقدّمة الواجب ـ بناء على وجوبها ـ فإنّ

__________________

(١) مناهج الوصول إلى علم الاصول ١ : ٢٧٥.

٥٦٣

الإرادة المستتبعة للبعث من الأمر لا تترشّح إلى المقدّمة مطلقا ، موصلة كانت أم لا ؛ لعدم الملاك فيها ، ولا على المقيّدة بالإيصال ؛ لاستلزامه الدور المقرّر في محلّه ، ولكنّها لا تنطبق إلّا على المقدّمة الموصلة وكالعلل التكوينيّة ، فإنّ تأثيرها ليس في الماهيّة المطلقة ولا المقيّدة بقيد المتأثّر من قبلها فإنّها ممتنعة ، بل في الماهيّة التي لا تنطبق إلّا على المقيّد بهذا القيد ، كالنار فإنّ معلولها ليست الحرارة المطلقة ، سواء كانت مولّدة عنها أم لا ، ولا المقيّدة بكونها من علّته التي هي النار ، ولكنّها لا تؤثّر إلّا في المعلول المنطبق المخصوص.

إذا تمهّدت هذه المقدّمات فنقول : إنّ المأمور به ليس إلّا نفس الطبيعة القابلة للتكثّر بحكم المقدّمة الاولى ، كما أنّ المبعوث إليه ليست الصلاة المطلقة ، سواء كانت مبعوثا إليها بهذا الأمر أم بغيره ، ولا المقيّد بكونها مأمورا بأمرها المتعلّق بها ، بل ما لا ينطبق إلّا على الأخير لا بنحو الاشتراط ، بل له ضيق ذاتي لا يبعث إلّا نحو المأمور بها ، كما في العلل التكوينيّة.

وبعبارة أوضح : أنّ الأوامر تحرّك المكلّف نحو الطبيعة التي لا تنطبق لبّا إلّا على المقيّدة بتحريكها ، فإذا أتى المكلّف بها من غير دعوة الآمر لا يكون آتيا بالمأمور به ؛ لأنّه لا ينطبق إلّا على المقيّد بدعوة الأمر ، فمقتضى الأصل اللفظي هو كون الأوامر تعبّدية قربيّة. هذا تمام ما ذكره المحقّق الحائري قدس‌سره في أواخر عمره الشريف على ما نقله الإمام قدس‌سره وبه عدل عن كثير من مبانيه السابقة ، ورجع إلى الأصالة التعبّديّة بعد ما كان بانيا على جواز الأخذ في المتعلّق ، وأنّ الأصل في الأوامر كونها توصّليّة.

ولكن هذا الكلام مخدوش من جهات :

الاولى : أنّ ترتّب النتيجة المذكورة على المقدّمات المذكورة ليست صحيحة

٥٦٤

ولو فرضنا صحّة المقدّمات ؛ إذ التضيّق المذكور هل تحقّق في جميع الموارد وإن كان الواجب توصّليّا أو في خصوص الواجبات التعبّديّة؟ فإن كان مراده الأوّل فهو مخالف لما هو من ضروريّات الفقه ؛ من أنّه لا حاجة في الواجبات التوصّليّة إلى التضيّق والتقيّد بقصد القربة بوجه ، وإن كان مراده الثاني وسلّمنا أنّ مقتضى الأصل اللفظي عبارة عن التعبّديّة في موارد الشكّ ، ولكن نسأل أنّ أي أصل هو وما هو اسمه؟

فإن قيل : أنّ مرجع الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة إلى الشكّ في تضيّق المأمور به وعدمه ، وإتيانه بدون قصد القربة يوجب الشكّ في براءة الذمّة ، فلا بدّ من رعاية قصد القربة لتحصيل البراءة اليقينيّة.

قلنا : إنّ هذا أصل عملي لا لفظي.

الثانية : أنّ قياس العلل التشريعيّة بالتكوينيّة قياس مع الفارق ـ كما قال الإمام قدس‌سره (١) بهذا الجواب ـ فإنّ هذا ادّعاء بلا دليل ، بل لنا دليل على خلافه ، وهو أنّ المعلول في العلّة التكوينيّة الحقيقيّة ـ أي الفاعل الإلهي لا المادّي الذي هو في سلك المعدّات ـ إنّما هو ربط محض بعلّته لا شيئيّة له قبل تأثير علّته ، ففعليّته ظلّ فعليّة علّته ، كما قال المرحوم صدر المتألّهين (٢) في مسألة ارتباط الواجب والممكنات : إنّ الممكن عين الربط لا شيء له الربط ، بخلافه في العلل التشريعيّة فإنّ الأمر إمّا يكون بمعنى الإرادة القائمة بنفس المولى ، وإمّا بمعنى البعث والتحريك الاعتباري ، فكلاهما بعيدان عن العلّيّة بمراتب ؛ إذ أقلّ ما يتحقّق في العلّيّة تقدّم العلّة على المعلول ، وهذا المعنى لا يجري فيهما ؛ لأنّ

__________________

(١) مناهج الوصول إلى علم الاصول ١ : ٢٧٦.

(٢) الحكمة المتعالية ٢ : ٢٩٩.

٥٦٥

تشخّص الإرادة التي تعدّ علّة تشريعيّة بتشخّص المراد ؛ إذ هي أمر ذات إضافة لا يعقل تعلّقها بشيء مجهول ، فالمراد وكذا المريد مقدّم على الإرادة ، وهكذا البعث الاعتباري ، فإنّ المبعوث إليه تكون رتبته متقدّمة على البعث ، بل هو متقوّم به ، فلا تكون الأوامر قابلة للمقايسة بالمعدّات التي نتصوّرها العلل التكوينيّة فضلا عن العلّة الحقيقيّة التكوينيّة.

ثمّ قال : وأولى بعدم التسليم ما اختاره في باب تعدّد الأسباب ، فإنّ اقتضاء كلّ علّة تكوينيّة معلولا مستقلّا إنّما هو لقضيّة إيجاب كلّ علّة مؤثّرة وجودا آخر يكون معلولا ووجودا ظلّيّا له ؛ إذ العلّيّة والمعلوليّة تدور مدار الوجود ، ولا معنى لأن تكون إحدى الماهيّات علّة لماهيّة اخرى ، وأمّا الوجوب بمعنى الإرادة فلا معنى لتعلّقه بشيء واحد زمانا ومكانا مرّتين ؛ إذ لا يقع الشيء الواحد تحت دائرة الإرادة إلّا مرّة واحدة ، ولا تحت أمر تأسيسي متعدّد ، فإذن تكثّر الإرادة تابع لتكثّر المراد ، وأمّا المعلول التكويني فتكثّره تابع لتكثّر علّته.

وأيضا يدلّ على بطلان المقايسة عدم انفكاك المعلول عن علّته ، فإنّ وجود العلّة التامّة كاف في تحقّقه ، فلا معنى للانفكاك ، وأمّا الوجوب بمعنى الإرادة فيتعلّق بأمر استقبالي أيضا كما في الواجبات التعليقيّة ، مثل الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة ؛ إذ الوجوب يتحقّق بمجرد تحقّق الاستطاعة ، ولكنّ الواجب يتحقّق في الموسم.

وبالنتيجة لا يتحقّق في مورد الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة الأصل اللفظي على مبنى صاحب الكفاية قدس‌سره بعد عدم تماميّة ما قال به المحقّق الحائري قدس‌سره بما ذكرناه وبما لم نذكره من المناقشات اجتنابا من التطويل.

ومن هنا نرجع إلى كلام صاحب الكفاية والجواب عنه ، وهو مبتن على

٥٦٦

مقدّمتين ونحن نجيب عن مقدّمته الاولى ، ونأخذ النتيجة من البحث ، وعلى فرض تماميّة المقدّمة الاولى نلاحظ أنّ مقدّمته الثانية هل تكون صحيحة أم لا؟ والمقدّمتان عبارة عن استحالة أخذ قصد القربة بمعنى داعي الأمر في المتعلّق ، وكون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، بمعنى استحالة الإطلاق بعد استحالة التقييد ، فنقول : إنّ أخذ قصد القربة في المتعلّق كسائر الأجزاء والشرائط لا مانع منه ولا إشكال فيه ، فالتمسّك بإطلاق الدليل لرفع الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة ونفي دخالة قصد القربة في المأمور به لا إشكال فيه أيضا.

ولكن قد مرّ أنّ التمسّك بالإطلاق مبني على القول بوضع ألفاظ العبادات للأعمّ ؛ إذ المأمور به على القول بالصحيح عبارة عن الصلاة الصحيحة ـ مثلا ـ ولا نعلم أنّ الصلاة الفاقدة لقصد القربة صحيحة أم لا ، ولا بدّ في مورد التمسّك بالإطلاق من إحراز تطبيق المطلق والشكّ في دخالة قيد زائد ـ مثل إحراز عنوان الرقبة ـ والشكّ في دخالة قيد الإيمان في مسألة اعتق رقبة ، فالتمسّك بإطلاق الدليل على القول بإمكان أخذ قصد القربة في المتعلّق لا إشكال فيه ، بخلاف القول بامتناع تقييد المأمور به بقصد القربة بمعنى داعي الأمر كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره.

ولقائل أن يقول : إنّه لا ربط بين امتناع التقييد والتمسّك بالإطلاق ، فإنّا لا نتمسّك بالتقييد ، بل نتمسّك بالإطلاق لنفي التقييد.

ولا بدّ لنا في مقام الجواب عن هذا السؤال من ملاحظة أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هل يكون تقابل العدم والملكة أو تقابل التضادّ أو تقابل الإيجاب والسلب ، إن كان التقابل بينهما تقابل التضادّ فيلزم أن يكونا أمرين

٥٦٧

وجوديين ، التقييد بمعنى أخذ القيد والإطلاق بمعنى رفض القيد ، وإن كان التقابل بينهما تقابل الإيجاب والسلب فيكون التقييد أمرا وجوديّا والإطلاق أمرا عدميّا بمعنى سلب القيد ، وإن كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة فيكون الإطلاق أمرا عدميّا ولكنّه في مورد كان قابلا للتقييد ، وإن لم يكن قابلا للتقييد فلا معنى للإطلاق ، فامتناع التمسّك بالإطلاق بسبب امتناع التقييد يكون على مبنى كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ؛ ولذا لا يمكن التمسّك بالإطلاق اللفظي لنفي التقييد.

وأمّا على مبنى كون التقابل بينهما تقابل التضادّ فليس هذا البيان بتام ؛ إذ لا يلزم من امتناع أحد المتضادّين امتناع الآخر ، إنّما يمتنع اجتماع المتضادّين فقط ؛ ولذا لا مانع من التمسّك بالإطلاق لنفي التقييد على هذا المبنى.

ولو سلّمنا مقدّمته الاولى ـ أي امتناع أخذ قصد القربة في المتعلّق ـ كما أنّه كذلك على مبنى كون التقابل بينهما تقابل الإيجاب والسلب ؛ إذ لا يلزم من امتناع الإيجاب امتناع السلب أصلا ، بل ربما يكون بالعكس ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يمكن لصاحب الكفاية الاستفادة من مقدّمته الاولى بوحدتها لنفي التمسّك بالإطلاق.

والمحقّق النائيني (١) أيضا قال بمثل ما حكيناه عن المحقّق الخراساني من أنّ لازم كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة اعتبار كون المورد قابلا للتقييد ، فما لم يكن كذلك لم يكن قابلا للإطلاق أيضا.

وأجاب عنه صاحب المحاضرات (٢) نقضا وحلّا ، وذكر للنقض عدّة موارد ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١١٣.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ١٧٥ ـ ١٧٩.

٥٦٨

واكتفينا منها بموردين :

أحدهما : أنّ الإنسان جاهل بحقيقة ذات الواجب تعالى ، ولا يتمكّن من الإحاطة بكنه ذاته سبحانه حتّى نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك لاستحالة إحاطة الممكن بالواجب ، فإذا كان علم الإنسان بذاته تعالى مستحيلا لكان جهله بها ضروريّا ، مع أنّ التقابل بين الجهل والعلم من تقابل العدم والملكة ، فلو كانت استحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر لزم استحالة الجهل في مفروض المقام ، مع أنّه ضروري وجدانا.

وثانيهما : أنّ الإنسان يستحيل أن يكون قادرا على الطيران في السماء مع أنّ عجزه عنه ضروري وليس بمستحيل ، فلو كانت استحالة أحد المتقابلين بتقابل العدم والملكة تستلزم استحالة الآخر لكانت استحالة القدرة في مفروض المثال تستلزم استحالة العجز مع أنّ الأمر ليس كذلك.

وأمّا حلّا فلأنّ قابليّة المحلّ المعتبرة في التقابل المذكور لا يلزم أن تكون شخصيّة في جزئيّات مواردها ، بل يجوز أن تكون صنفيّة أو نوعيّة أو جنسيّة كما قال به الفلاسفة ، فلا يعتبر في صدق العدم المقابل للملكة على مورد أن يكون ذلك المورد بخصوصه قابلا للاتّصاف بالوجود ـ أي الملكة ـ بل كما يكفي ذلك يكفي في صدقه عليه ، أن يكون صنف هذا الفرد أو نوعه أو جنسه قابلا للاتّصاف بالوجود وإن لم يكن شخص هذا الفرد قابلا للاتّصاف به.

ويتّضح ذلك ببيان الأمثلة المتقدّمة ، فإنّ الإنسان قابل للاتّصاف بالعلم والمعرفة ، ولكن قد يستحيل اتّصافه به في خصوص لأجل خصوصيّة فيه ، وذلك كالعلم بذات الواجب تعالى حيث يستحيل اتّصاف الإنسان به ، مع أنّ صدق العدم ـ وهو الجهل ـ عليه ضروري ، ومن الطبيعي أنّ هذا ليس إلّا

٥٦٩

من ناحية أنّ القابليّة المعتبرة في الأعدام والملكات ليست خصوص القابليّة الشخصيّة.

وكذلك الحال في المثال الثاني ، فإنّ اتّصاف الإنسان بالعجز عن الطيران إلى السماء بلحاظ قابليّته في نفسه للاتّصاف بالقدرة لا بلحاظ إمكان اتّصافه بها في خصوص هذا المورد ، وقد عرفت أنّه يكفي في صدق العدم القابليّة النوعيّة ، وهي موجودة في مفروض المثال.

وهكذا في ما نحن فيه ، فإنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ولو كان تقابل العدم والملكة ، إلّا أنّه بالنسبة إلى نوع الإطلاق والتقييد ؛ لأنّ امتناع أحدهما نوعا لا يستلزم امتناع الآخر ، وأمّا استلزام امتناع أحدهما في مورد خاصّ امتناع الآخر ، فلا يوجب أن تكون الملازمة بين استحالة التقييد واستحالة الإطلاق مطلقا.

ثمّ ذكر لهذا الجواب مكمّلا ، وهو أنّ معنى التقييد عبارة عن اعتبار قصد القربة ، ومعنى الإطلاق عبارة عن عدم اعتبارها ، فكيف يمكن أن يكون الاعتبار وعدم الاعتبار كلاهما ممتنعين؟! على أنّ تقابل العدم والملكة هو تقابل الإيجاب والسلب في الحقيقة ، إلّا أنّه تعتبر في الأوّل القابليّة ، ولا تعتبر في الثاني ، وهذا مائز بينهما فقط ، ومن البديهي أنّ امتناع الإيجاب لا يسري إلى السلب ، بل السلب يكون ضروريّا مع امتناع الإيجاب ، وهذا المعنى متحقّق في العدم والملكة أيضا ، فإذا كان التقييد ممتنعا فلا يلزم أن يكون الإطلاق أيضا ممتنعا ، بل هو ضروري.

وبالنتيجة : أنّ التمسّك بالإطلاق في مورد الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة لنفي اعتبار قصد القربة كسائر الأجزاء والشرائط لا مانع منه. وإذا لم يمكنّا التمسّك

٥٧٠

بالإطلاق على فرض تماميّة مبنى صاحب الكفاية أو لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة فتصل النوبة إلى الأصل العملي.

ونبحث هاهنا في مقامين : الأوّل : في الأصل العملي العقلي ، الثاني : في الأصل العملي الشرعي ، وقد عرفت الاختلاف في ما نحن فيه على قولين ـ أي استحالة أخذ قصد القربة في المتعلّق وجوازه ـ كاختلافهم في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين على قولين ـ أي القول بجريان البراءة العقليّة والقول بجريان الاحتياط العقلي ـ وأمّا على القول بإمكان الأخذ في المتعلّق فلا فرق بين المقام وبين الشكّ في جزئيّة السورة ـ مثلا ـ من حيث جريان البراءة والاشتغال ، فإنّ كليهما من صغريات مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، وأمّا على القول باستحالة الأخذ في المتعلّق فلازم القول بالاشتغال في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين والشكّ في جزئيّة السورة القول بالاشتغال في ما نحن فيه بطريق أولى ؛ لأنّ العقل إذا حكم بالاشتغال في مورد الشكّ في جزئيّة السورة مع إمكان أخذها في المتعلّق فيحكم بطريق أولى في ما نحن فيه بالاشتغال بعد فرض عدم إمكان الأخذ في المتعلّق.

وإنّما الكلام فيما قلنا بأصالة البراءة في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين هل يمكننا التمسّك بها في ما نحن فيه أم لا؟ قال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) : إنّه لا مجال هاهنا إلّا لأصالة الاشتغال ، ولو قيل بأصالة البراءة فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، وذلك لأنّ الشكّ هاهنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها ، فلا يكون العقاب مع الشكّ وعدم إحراز الخروج عقابا بلا بيان والمؤاخذة عليه

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١١٣ ـ ١١٤.

٥٧١

بلا برهان ؛ ضرورة أنّه بالعلم بالتكليف تصحّ المؤاخذة على المخالفة وعدم الخروج عن العهدة لو اتّفق عدم الخروج عنها بمجرّد الموافقة بلا قصد القربة.

وحاصل كلامه : أنّ الشكّ في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين يرجع إلى الشكّ في كمّيّة التكليف وثبوت أمر زائد فيه ، والعقل يحكم هاهنا بجريان أصالة البراءة. وأمّا الشكّ في ما نحن فيه فيرجع إلى الشكّ في كيفيّة الخروج عن عهدة التكليف ، وهو كالشكّ في أصل الخروج ، والعقل يحكم فيه بالاحتياط.

ولكنّ هذا الكلام مخدوش بأنّ البيان قد يكون بيانا لكلّ ما يمكن أخذه في المتعلّق من الأجزاء والشرائط ، وقد يكون بيانا لكلّ ما له دخل في حصول الغرض من المأمور به ، سواء كان قابلا للأخذ فيه أم لا ، وعبّرنا عن هذا البيان بالإطلاق المقامي ، وعلى هذا فنقول : هل المراد من كلمة «البيان» في قاعدة قبح العقاب بلا بيان التي كانت مستندة لجريان أصالة البراءة مطلق البيان أو بيان ما يمكن أخذه في المتعلّق؟ ونحن نستكشف من إضافة «لا» النافية إلى كلمة «البيان» أنّ المراد هو الأوّل ، وحينئذ لا فرق بين المقام ودوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين من حيث جريان أصالة البراءة ، بعد أنّ البيان ممكن للمولى في كلتا الصورتين ، إلّا أنّ الفرق في طريق البيان فلا دليل للتفكيك بين المقامين من هذه الناحية.

ويمكن أن يقال : إنّ ترتّب الغرض على تحقّق المأمور به كما أنّه كان منشأ لصدور الأمر وحدوثه كذلك كان منشأ لبقائه إلى حين حصول الغرض ، مثلا : إذا قال المولى لعبده : جئني بالماء ، والعبد بعد إعطاء الماء لاحظ أنّ غرضه يعني رفع العطش فلم يحصل بسبب انكسار ظرف الماء الذي بيده ، فالعقل يحكم

٥٧٢

بإعطاء الماء إليه ثانيا من دون حاجة إلى الأمر الثاني ، وهكذا في المقام بعد العلم بأصل الوجوب ، والشكّ في حصول الغرض بإتيان الواجب بدون قصد القربة العقل يحكم برعاية قصد القربة رعاية لحصول غرض المولى.

وجوابه : أوّلا بالنقض بما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، فإنّا في مورد الشكّ في الجزئيّة والاكتفاء بالأقلّ أيضا نشكّ في حصول الغرض ، فلا بدّ هاهنا أيضا من الاحتياط ، مع أنّه خلاف الفرض ، فإنّ هذا البحث في المقام كان بعد فرض القول بالبراءة في الشكّ في الجزئيّة.

وثانيا بالحلّ ، فإنّ غرض المولى قد يكون مشخّصا للعبد في باب الأوامر ، وقد يكون غير مشخّص له إن كان بالصورة الاولى ، فالعقل يحكم بإتيان ما يتحقّق به غرض المولى ، بل لا يحتاج إلى الأمر أصلا ؛ لأنّه طريق لتعيين غرضه ، ومعلوم أنّ الطريق والأمارة إنّما يكون في مورد إذا كان الغرض فيه مجهولا ، وأمّا إن كان بالصورة الثانية وكان بعض الامور مشكوك المدخليّة في المأمور به وتحقّق الغرض ، فليس للعقل الحكم برعاية شيء مشكوك ، فنتمسّك بأصالة البراءة هاهنا مثل دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين بدون الفرق بينهما بوجه.

أمّا المقام الثاني فنبحث فيه أيضا على كلا المبنيين فنقول : أمّا على القول بإمكان أخذ قصد قربة في المتعلّق وجريان البراءة العقليّة فيه كسائر الأجزاء والشرائط فلا مانع من جريان البراءة الشرعيّة أيضا ، فنتمسّك لنفيه بحديث الرفع وأمثاله ، بلا فرق بينه وبين سائر الأجزاء والشرائط في هذا البحث أيضا.

وأمّا على القول بإمكان الأخذ في المتعلّق والاحتياط العقلي في المقام الأوّل

٥٧٣

فهل يمنع الالتزام بالاشتغال هنا عن التمسّك بحديث الرفع هاهنا أم لا؟ لقائل أن يقول : إنّه لا يصحّ التمسّك بالبراءة الشرعيّة ، فإنّا سلّمنا أنّه ليس للشارع بيان ، إلّا أنّه يمكن إحالة البيان إلى حكم العقل ، ولمّا حكم العقل برعاية قصد القربة فلا ضرورة لتعرّضه ، فهو مبيّن من جهة المولى ، فلا محلّ لجريان حديث الرفع.

وجوابه : أوّلا : أنّه لو سلّمنا حكم العقل بالاشتغال ، ولكن لا شكّ في أنّه ليس من الأحكام البديهيّة والضروريّة العقليّة ، بل هو من الأحكام التي اختلفت فيها العقول ـ كما مرّ تفصيله في المقام الأوّل ـ وحينئذ لا يكون هذا مجوّزا ؛ لعدم بيان الشارع ، ولا معنى لاتّكاله على العقول لبيان ما له مدخليّة في حصول الغرض.

وثانيا : على فرض اتّحاد العقول في الحكم بالاشتغال لا مانع من التمسّك بحديث الرفع (١) أيضا ؛ لأنّ جريان أصالة الاشتغال لا يوجب تبديل الشكّ باليقين وما لا يعلمون بما يعلمون ؛ إذ الشكّ موضوع لجريان أصالة الاشتغال ، ولا معنى لإعدام الحكم موضوعه ، ولا ينفي الحكم مجراه ومورده ، بل كان جريانها مؤيّدا لتحقّق عنوان ما لا يعلمون ، والجهل بالحكم الواقعي ، فلا ينافي حكم العقل بالاشتغال مع التمسّك بالبراءة الشرعيّة ، ولا إشكال في الاختلاف بين حكم العقل والشرع ، فنتمشّى بما يقتضيه الدليل الشرعي.

وأمّا على القول بعدم إمكان أخذ قصد القربة في المتعلّق فهل يمكن التمسّك بالبراءة الشرعيّة أم لا؟ قال المحقّق الخراساني (٢) في آخر كلامه : «لا أظنّك أن تتوهّم وتقول : إنّ أدلّة البراءة الشرعيّة مقتضية لعدم الاعتبار وإن كان قضيّة

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من جهاد النفس ، الحديث ١.

(٢) كفاية الاصول ١ : ١١٤.

٥٧٤

الاشتغال عقلا هو الاعتبار ؛ لوضوح أنّه لا بدّ في عمومها من شيء كان قابلا للرفع والوضع شرعا ، وليس هاهنا ، فإنّ دخل قصد القربة في الغرض ليس بشرعي بل واقعي ، ودخل الجزء والشرط فيه وإن كان كذلك إلّا أنّهما يكونان قابلين للوضع والرفع شرعا».

ولكنّه مخدوش بأنّه قد مرّ تصريحه بإمكان التمسّك بالإطلاق المقامي في الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة ؛ بأنّ المولى إذا كان في مقام بيان جميع ما له دخل في تحقّق الغرض بعنوان المخبر العادل لا بعنوان المنشئ والآمر ، ولم يتعرّض لدخالة قصد القربة فيه ، فنستكشف عدم دخالته في المأمور به. وهذا القول لا يكون قابلا للجمع مع عدم ارتباط وضع قصد القربة ورفعه بالشارع ، بل كان أقوى دليل على أنّ وضعه ورفعه بيد الشارع ، فلا مانع من التمسّك بأصالة البراءة الشرعيّة على هذا المبنى أيضا. هذا تمام الكلام في مبحث التعبّدي والتوصّلي.

٥٧٥
٥٧٦

المبحث الخامس

في دلالة الصيغة على الوجوب النفسي

ومن المسائل المعنونة في الكفاية أنّه إذا دار الأمر بين الواجب النفسي والغيري أو بين الواجب التعييني والتخييري أو بين الواجب العيني والكفائي فهل يوجد طريق لإحراز أحد الطرفين أم لا؟ قال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) : قضيّة إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيّا تعيينا عينيّا.

ثمّ استدلّ بأنّ وجوب الواجب الغيري مقيّد بوجوب الغير ـ أي ذي المقدّمة ـ بخلاف وجوب الواجب النفسي كالقول بأنّه يجب الوضوء إذا وجبت الصلاة ، وهكذا في الواجب التخييري والكفائي ، فإذا كان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة على التقييد فالحكمة كونه مطلقا ، سواء وجب هناك شيء آخر أو لا ، أتى بشيء آخر أو لا ، أتى به آخر أولا.

ولكن يرد عليه إشكال ذكرناه في المباحث السابقة ، وهو أنّ الواجب النفسي إن كان عبارة عن الواجب المطلق بلا قيد يلزم اتّحاد القسم والمقسم ، مع أنّه من لازم تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري أن يكون الواجب النفسي

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١١٦.

٥٧٧

عبارة عن المقسم مع إضافة قيد وخصوصيّة له ، وهكذا في الواجب التعييني والعيني.

ولكن قال المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) في مقام الدفاع عن استاذه : إنّ مراد صاحب الكفاية من الواجب النفسي لا يكون الإطلاق من حيث وجوب شيء آخر في مقابل الواجب الغيري ، بل مراده أنّ الواجب النفسي أيضا مقيّد كالواجب الغيري ، إلّا أنّه مقيّد بالقيد العدمي ، وهو عبارة عن عدم كون الوجوب للغير ، وعدم نصب القرينة على القيد الوجودي دليل على عدمه ، فمقتضى الحكمة تعيين المقيّد بالقيد العدمي لا المطلق ، كما هو ظاهر المتن. هذا محصّل كلامه قدس‌سره.

وجوابه : أنّ القضيّة السالبة المتصوّرة هاهنا على قسمين : الأوّل : ما يعبّر عنه بالسالبة المحصّلة ، وهي كما تصدق مع وجود الموضوع كذلك تصدق مع انتفاء الموضوع كقولنا : «ليس زيد بقائم».

والثاني : ما يعبّر عنه بالسالبة المعدولة ، وهي تحتاج إلى تحقّق الموضوع كاحتياج القضيّة الموجبة إليه كقولنا : «زيد لا قائم» وأمّا القيد العدمي الذي قال بتحقّقه في الواجب النفسي فلا يكون من القسم الأوّل ؛ إذ المفروض في المقام أنّ أصل الوجوب مسلّم ، والشكّ في نفسيّته وغيريّته ، فلا بدّ من كونه من قبيل القسم الثاني ، فيكون له عنوان الوصفيّة للموضوع الموجود ـ أي الوجوب المسلّم ـ إمّا أن يكون مع قيد عدمي ، وإمّا أن يكون مع قيد وجودي ، ومن المعلوم أنّ من شرائط التمسّك بالإطلاق لإثبات النفسيّة بعد كون المولى في مقام البيان ، وعدم القدر المتيقّن في مقام التخاطب وأن لا ينصب

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٣٥٣.

٥٧٨

قرينة على التقييد ، فنسأل حينئذ أنّ المراد من التقييد هاهنا التقييد بقيد وجودي أو عدمي؟ فهل يمكننا إثبات الكفريّة من إطلاق «اعتق رقبة» لكون الكفر عبارة عن عدم الإيمان ونفي قيد الإيمان؟ ولا شكّ في أنّ المراد من عدم نصب القرينة على التقييد في هذه المقدّمة من مقدّمات الحكمة أعمّ من القيد الوجودي والعدمي ، ونتيجة الإطلاق مطلق الوجوب وإثبات المقسم ونفي أيّ نوع من القيود ، سواء كان القيد وجوديّا أم عدميّا ، ولا يستفاد منه النفسيّة كما لا تستفاد الغيريّة.

وأمّا احتياج القيد الوجودي إلى مئونة زائدة وعدم احتياج العدمي إليها فلا يعقل أن يكون دليلا لإثبات أحد القيدين ونفي الآخر بسبب الإطلاق ، وهكذا في الواجب التعييني والعيني في مقابل الواجب التخييري والكفائي.

نعم ، يمكننا إثبات النفسيّة من الإطلاق بطريق آخر ، وهو أنّه لا بدّ في دوران الأمر بين النفسيّة والغيريّة من دليلين ؛ أحدهما مشكوك فيه من هذه الجهة ، مثلا : نعلم أنّ الوضوء واجب غيري ـ أي يرتبط وجوبه بوجوب الصلاة ـ أو نفسي لا يرتبط به ، فإن كان غيريّا يكون الوضوء شرطا للصلاة ، وحينئذ يكون الارتباط من الطرفين ، فكما أنّ وجوب الوضوء متوقّف على وجوب الصلاة كذلك صحّة الصلاة متوقّفة على تحقّق الوضوء.

وبالنتيجة يرجع الشكّ في نفسيّة وجوب الوضوء وغيريّته إلى أنّ الوضوء شرط للصلاة أم لا يكون شرطا لها ، فتجري أصالة الإطلاق المربوطة بمادّة الصلاة وتنفى الشرطيّة كما في سائر الشرائط ، وإذا لم يكن شرطا فلم يكن وجوبا غيريّا ، فوجوبه نفسي. وهذا الطريق لا يجري في إثبات العينيّة والتعيينيّة ؛ إذ ليس فيهما من الدليلين أثر ولا خبر.

٥٧٩

ويمكن أن يتوهّم أنّ هذا المعنى يجري في دوران الأمر بين الواجب التعييني والتخييري أيضا ، فإنّ الملاك المذكور ـ أي المواجهة مع الدليلين ـ هاهنا أيضا متحقّق ، وأحد الدليلين أوجب شيئا ، والدليل الآخر أوجب شيئا آخر ، ونشكّ في أنّ وجوبهما تخييري أو تعييني ، فتجري أصالة الإطلاق ويستفاد منها التعيينيّة.

ولكنّه مدفوع بأنّ مجرّد تحقّق الدليلين لا يكفي في استفادة التعيينيّة ، بل يعتبر أن يكون إطلاق أحد الدليلين منوطا بالمتعلّق والآخر بالهيئة كما تحقّق في دوران الأمر بين الواجب النفسي والغيري ، وأمّا الإطلاقان القابلان للتمسّك هاهنا فكلاهما منوطان بالهيئة ، ومن حيث قابليّة التمسّك وعدمها أيضا متساويان ، فإن لم يكن أحدهما قابلا لإثبات التعيينيّة وثانيهما أيضا كان كذلك.

وتمسّك بعض بالتبادر وقال : إنّ المتبادر من هيئة «افعل» هو الوجوب المقيّد بقيد النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة ، ومعلوم أنّ التبادر علامة الحقيقة.

وجوابه : أنّ لازم ذلك أن يكون استعمال هيئة «افعل» في الواجب الغيري والتخييري والكفائي استعمالا مجازيّا ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) مع أنّه لا يمكن الالتزام به أصلا.

ومن الطريق التي يتمسّك بها لإثبات النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة الانصراف الناشئ من كثرة الاستعمال ، ومن البديهي أنّ كثرة استعمال هيئة «افعل» في هذه المعاني إن كان بحدّ يوجب الانصراف إليها يكون قابلا للاستناد في المقام ،

__________________

(١) المائدة : ٦.

٥٨٠