دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

إلّا أنّ الإشكال في تحقّق الانصراف في ما نحن فيه بعد أن نرى استعمال الهيئة في الواجبات الغيريّة والتخييريّة والكفائيّة بحدّ لعلّه كان أزيد من استعمالها في الواجبات النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة ، فكيف يمكن ادّعاء الانصراف؟!

واختار استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) في أصل دلالة هيئة «افعل» على الوجوب طريقا يجري في ما نحن فيه أيضا ، وهو أنّ الأمر الصادر من المولى يحتاج إلى الجواب ، ومجرّد احتمال الاستحباب لا يكون عذرا للمخالفة ، والعقل يحكم بالامتثال في مقام تحيّر العبد ، بأنّ البعث الصادر عن المولى إيجابي أو استحبابي ، وهكذا نقول : إذا أمر المولى بالوضوء ـ مثلا ـ وشككنا في أنّه واجب نفسي أو غيري حتّى يكون وجوبه متوقّفا على وجوب الصلاة ، فالعقل يحكم بالامتثال ، ومخالفة العبد بدليل احتمال كون الوجوب غيريّا لا يكون عذرا ، بل العقل يحكم بأنّ التكليف المسلّم من المولى يحتاج إلى الجواب ، فيستفاد من هذا الطريق النفسيّة. وهكذا في الواجب التعييني والعيني ، هذا تمام الكلام في هذا البحث.

__________________

(١) مناهج الوصول إلى علم الاصول ١ : ٢٨٢.

٥٨١
٥٨٢

المبحث السادس

وقوع الأمر عقيب الحظر

فبعد البناء على ظهور صيغة الأمر في الوجوب إذا وقع الأمر عقيب الحظر أو في مقام توهّمه ظنّا كان أو شكّا أو وهما ، هل يكون موجبا لارتفاع هذا الظهور فلا تدلّ حينئذ على الوجوب أم لا؟ والآراء في هذه المسألة مختلفة ، فنسب إلى بعض العامّة ظهورها في الوجوب كوقوعها في غير هذه الموقعيّة ، وإلى بعض تبعيّتها لما قبل النهي إن علّق الأمر بزوال علّة النهي ، كما في قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(١) ، فإنّ الأمر علّق بالانسلاخ الذي هو عبارة عن انقضاء الأشهر الحرم التي هي علّة النهي ، فيفيد الوجوب الذي كان قبل الحظر ، وفي قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(٢) يفيد الإباحة التي هي حكم الصيد قبل النهي عنه ، وأمّا إن لم يكن معلّقا بزوال علّة عروض النهي أو لم يكن معلّقا أصلا أو وقع في مقام توهّم الحظر فيفيد الوجوب.

ونسب إلى المشهور ظهورها في الإباحة في كلا الفرضين ، ولكن لا بدّ لنا

__________________

(١) التوبة : ٥.

(٢) المائدة : ٢.

٥٨٣

قبل الخوض في البحث من توضيح كلام المشهور ، وقد تقدّم مرارا أنّ أصالة الظهور من الاصول المعتبرة العقلائيّة ، وأعمّ من أصالة الحقيقة ، فكما تحقّق في الاستعمالات الحقيقيّة كذلك تحقّق في الاستعمالات المجازيّة المحفوفة بالقرينة ، فيكون لمجموع «أسدا يرمي» ـ مثلا ـ ظهور في المعنى المجازي ، وحينئذ نلاحظ أنّ ظهور الصيغة في الإباحة إذا وقعت عقيب الحظر أو في مقام توهّمه ، هل يكون من سنخ ظهورها في الوجوب إذا وقعت في غير هذين الموقعيّتين أم لا؟ بمعنى أنّ كليهما مستندان إلى الوضع ، وقول الواضع بأنّه وضعتها للإباحة إذا وقعت في هذين الموقعيّتين ، ووضعتها للطلب الوجوبي إذا وقعت في غير هذين الموقعيّتين ، أو أنّها وضعت للبعث الوجوبي من حيث الوضع ، وأمّا وقوعها في أحد هاتين الموقعيّتين تكون بمنزلة «يرمي» في قولنا : «رأيت أسدا يرمي» ، يعني يتحقّق لها الظهور في المعنى المجازي اتّكالا على القرينة ، إلّا أنّ القرينة قد تكون جزئيّة وشخصيّة كما في المثال المذكور ، وقد تكون كلّيّة وعامّة كما في ما نحن فيه.

فيكون وقوع الأمر عقيب النهي أو في مقام توهّمه قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي ، فينحلّ نظر المشهور في الحقيقة إلى ادّعاءين : أحدهما : ادّعاء سلبي ، وهو أنّ الأمر في هاتين الموقعيّتين ليس بظاهر في المعنى الحقيقي والبعث الوجوبي.

وثانيهما : ادّعاء إثباتي ، وهو أنّ الأمر في هاتين الحالتين ظاهر في خصوص الإباحة ، فهل يمكننا موافقة المشهور في كلا الحكمين أو في الحكم الأوّل فقط لجهة خاصّة؟ فيكون موجبا لإجماله بعد ارتفاع ظهوره الأوّلي في الوجوب.

٥٨٤

ولكن لا بدّ من نظر إجمالي إلى أدلّة الأقوال كما قال صاحب الكفاية (١) : إنّ أرباب الأقوال المذكورة تمسّكوا لمدّعياتهم بجملة من موارد الاستعمالات ، مثل أمر الطبيب بأكل بعض المأكولات بعد النهي عنها للمريض بدلالته على الإباحة وأمثال ذلك ، مع أنّه لا مجال للتمسّك بها ، فإنّه قلّ مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب أو الإباحة أو التبعيّة ، فلا يصلح الاستدلال بها على كون مجرّد وقوع الأمر عقيب الحظر قرينة على ما ادّعوه من الأقوال المذكورة بعنوان قاعدة كلّيّة.

ووافق صاحب الكفاية قدس‌سره المشهور في الادّعاء السلبي وهو : أنّ الأمر إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهّمه ليس بظاهر في المعنى الحقيقي ، وخالفهم في الادّعاء الإثباتي ، وهو : ظهوره في هذين المقامين في الإباحة ، بل هو قائل بأنّ الوقوع في أحد هذين المقامين قرينة صارفة فقط ، وليست بقرينة معيّنة فيصير الأمر حينئذ مجملا ، فلا يحمل على أحد المعاني من الوجوب والإباحة وأمثال ذلك إلّا بقرينة اخرى.

ومبنى هذه المسألة أنّه إذا كانت في الكلام قرينة وشككنا في أنّ المتكلّم اعتمد على هذه القرينة أم لا فليس له ظهور ، لا في المعنى الحقيقي ولا في المعنى المجازي.

ولا محلّ هاهنا لأصالة الظهور ، فإنّ التمسّك بها فرع إحراز أصل الظهور وتحقّقه ، فإذا كان في الكلام كلمتان وكان بعدهما قرينة واحدة ، ونحن نعلم إرجاعها إلى واحد منهما ونشكّ في إرجاعها إلى الآخر ، فيصير المشكوك فيه مجملا ، كقولنا : «رأيت أسدا وذئبا يرمي» والمتيقّن إرجاعها إلى كلمة

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١١٦.

٥٨٥

«الذئب» ، وأمّا الإرجاع إلى كلمة «الأسد» فمشكوك ، فليس لها ظهور في المعنى الحقيقي ؛ لاحتمال الاعتماد على القرينة ، ولا في المعنى المجازي ؛ لاحتمال عدم الاعتبار بها ، وإذا كان الأمر كذلك فلا مجال للتمسّك بأصالة الظهور.

وأمّا أصالة الحقيقة فإن قلنا بعدم استقلالها في قبال أصالة الظهور ـ بل أنّها شعبة من أصالة الظهور كما هو الحقّ ـ فلا مجال لكليهما في المقام بعد اشتمال الكلام على ما يصلح للقرينيّة.

وأمّا على القول بحجّيّتها تعبّدا عند العقلاء فيحمل الكلام على المعنى. الحقيقي ولو لم يكن ظاهرا فيه ؛ لأصالة الحقيقة ولكونها معتبرة عند العقلاء تعبّدا ، ولكنّه ليس بقابل للقبول ؛ لعدم التعبّد في الامور العقلائيّة.

وبالنتيجة ليس للأمر الواقع بعد الحظر أو في مقام توهّمه ظهور لا في المعنى الحقيقي ولا في المعنى المجازي كما في المثال الذي ذكرناه ، إلّا أنّ القرينة فيه لفظيّة وشخصيّة ، وفي المقام حاليّة وكلّيّة ، ولا فرق بين القرائن من هذه الجهة بعد الاشتراك في أصل صلاحيّة القرينيّة.

هذا توضيح ما قال به صاحب الكفاية في هذه المسألة. والحقّ أنّه كلام متين ونفيس جدّا.

٥٨٦

المبحث السابع

في المرّة والتكرار

في أنّ صيغة الأمر ـ أي المجموع المركّب من الهيئة والمادّة ـ هل تدلّ على المرّة أو التكرار أم لا؟ ولكن لا بدّ لنا ابتداء من البحث في جهتين : الاولى أنّ النزاع المذكور مربوط بالهيئة أو بالمادّة أو بكليهما ، الثانية : أنّ المراد بالمرّة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد أو كلاهما؟

أمّا الجهة الاولى فاستدلّ لارتباط النزاع بالهيئة : أوّلا بأنّه من المسلّم عند المتأخّرين من أهل الأدب وحدة المادّة في المشتقّات ، واختلاف المعاني فيها يرجع إلى الهيئات ، وإذا لاحظنا هذا الاتّفاق مع الاختلاف في دلالة صيغة الأمر على المرّة أو التكرار وعدمها ، فيستفاد أنّ النزاع هاهنا أيضا يرجع إلى الهيئة ، وإلّا ليجري النزاع في جميع المشتقّات بعد اشتراكها في المادّة ، فيدلّ انحصار النزاع في الأمر على ارتباطه بالهيئة.

وثانيا : بما حكاه المحقّق الخراساني قدس‌سره عن صاحب الفصول ، وهو أنّ محلّ النزاع في دلالة الصيغة على المرّة أو التكرار هو نفس الهيئة دون المادّة ، فإنّها خارجة عن حريم النزاع ؛ لحكاية السكّاكي اتّفاق أهل العربيّة على أنّ المصدر المجرّد عن اللام والتنوين الذي هو مادّة صيغة الأمر لا يدلّ إلّا على نفس

٥٨٧

الماهيّة ، فنزاع المرّة والتكرار يختصّ بالهيئة ولا يجري في المادّة.

وأجاب عنه صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بأنّ الاتّفاق المذكور في المصدر لا يوجب الاتّفاق على أنّ مادّة الصيغة لا تدلّ إلّا على الماهيّة ؛ ضرورة أنّ المصدر ليس بمادّة لسائر المشتقّات ، بل هو مثلها في أنّه له مادّة وهيئة ، كيف يكون المصدر مادّة للمشتقّات والحال أنّ معناه مباين لمعنى المشتقّ ـ كما عرفت ـ ومع المباينة كيف يصحّ أن يكون مادّة لها؟! فعليه يمكن دعوى اعتبار المرّة أو التكرار في مادّة الصيغة.

ثمّ أشكل على إنكار كون المصدر أصلا للمشتقّات بقوله : إن قلت : فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام؟ فأجاب عنه : أوّلا بأنّه محلّ خلاف ؛ لذهاب الكوفيّين إلى أنّ الأصل في الكلام هو الفعل. وثانيا : بأنّ معناه أنّ الواضع وضع أوّلا المصدر وضعا شخصيّا ، ثمّ بملاحظته وضع بوضع نوعي أو شخصي سائر الصيغ التي تناسبه مادّة ومعنى ، مثلا : وضع الواضع كلمة «الضرب» للحدث المنسوب إلى فاعل ما بوضع شخصي ، ثمّ بملاحظته وضع هيئة «ضرب» بوضع نوعي لفعل الماضي ، فمعنى كون المصدر أصلا هو التقدّم في الوضع ، وليس معناه كون المصدر بمادّته وهيئته مادّة للمشتقّات ؛ لعدم انحفاظ المصدر لا بهيئته ولا بمعناه في المشتقّات ؛ لمباينته لها هيئة ومعنى.

ويمكن أن يقال : إنّه يصحّ للواضع القول بأنّه : وضعت مادّة «ض ـ ر ـ ب» بشرط أن يكون الضاء مقدّما ثمّ الراء ثمّ الباء لمعنى كذا.

قلنا : هذا صحيح ولكن لا ينضبط معه الوضع ، ولذا يكون المصدر في الكلام بهذا المعنى.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١١٧ ـ ١١٩.

٥٨٨

هذا محصّل كلام صاحب الكفاية بتوضيح وإضافة.

ولكنّه لم يذكر أنّ مفاد هيئة المصدر الذي له هيئة ومادّة ما هو؟ والتحقيق أنّ فيه احتمالين : أحدهما : أنّ هيئة المصدر ليس لها معنى خاصّ ، إنّما هي لإمكان التلفّظ والتنطّق بالمادّة ، كما قال به استاذنا الأعظم السيّد الإمام قدس‌سره (١).

وثانيهما : أن يكون لهيئته معنى زائد على المادّة ، ويؤيّده ما يقول به أهل الأدب من أنّ المصدر إمّا أن يكون بمعنى الفاعل ، وإمّا أن يكون بمعنى المفعول ، فيستفاد منه أنّ لهيئته يتحقّق معنى زائد على معنى المادّة السارية في المشتقّات ، فمفاد المادّة عبارة عن نفس الحدث الذي يعبّر عنه بالفارسيّة ب «كتك» ، وهذا المعنى متحقّق في جميع المشتقّات ، ومفاد الهيئة عبارة عمّا يقول به أهل الأدب من أنّ المصدر ما كان في آخر معناه الفارسي الدالّ «د» والنون «ن» أو التاء «ت» والنون «ن» ، وهذا أقرب عندي.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ إشكال صاحب الكفاية على صاحب الفصول ليس في محلّه ، فإنّ الاتّفاق ثابت بأنّ المصدر المجرّد عن اللام والتنوين مفاده نفس الماهيّة على ما نقل عن السكّاكي ، أي أنّ المادّة هي المصدر لا تدلّ على المرّة والتكرار ، ومن المعلوم أنّ مفاد الهيئة ليس بأقلّ من مفاد المادّة ، بل مفادها عبارة عن مفاد المادّة مع إضافة ، فلا تنقص الهيئة من مفاد المادّة ، وإذا لم تكن في مادّة المصدر دلالة على المرّة والتكرار فلا تكون في مادّة سائر المشتقّات أيضا ؛ إذ المادّة في الجميع واحدة ، ولا فرق بينها من هذه الجهة ، ومنها مادّة الأمر.

فيبقى في المسألة احتمالان : أحدهما : ارتباط النزاع بمجموع الهيئة والمادّة ،

__________________

(١) مناهج الوصول إلى علم الاصول ١ : ٢٠٢.

٥٨٩

وثانيهما : ارتباطه بالهيئة فقط ، والاحتمال الأوّل وإن كان جعل الصيغة في عنوان البحث مؤيّدا له ولكن لا يساعده الواقع ؛ إذ مرّ في باب المشتقّ أنّه ليس لمجموع الهيئة والمادّة وضع على حدة في قبال الهيئة والمادّة ، حتّى يكون النزاع مرتبطا به ، فلا محالة يتعيّن الاحتمال الثاني ـ أي الارتباط بالهيئة ـ فيرجع النزاع إلى أنّ هيئة الأمر هل تدلّ على خصوص المرّة أو على خصوص التكرار أو لا تدلّ عليهما أصلا.

ولكن أشكل عليه استاذنا الأعظم السيّد الإمام قدس‌سره (١) بإشكال وهو : أنّ هذا المعنى بعيد جدّا ؛ لأنّ الهيئة وضعت لنفس البعث والتحريك ، ومقتضى البعث هو إيجادها في الخارج ، وحينئذ الشيء الواحد من جهة واحدة لا يعقل أن يتعلّق به البعث مكرّرا على نحو التأسيس ، ولا يكون مرادا ومشتاقا إليها مرّتين ؛ لما مرّ أنّ تشخّص الإرادة بالمراد والمتعلّق فهي تابعة له في الكثرة والوحدة ، فلا تتعلّق بالشيء الواحد إرادات متعدّدة في آن واحد ، وهكذا البعث والتحريك المتعدّد بماهيّة واحدة في زمان واحد.

فإن قلت : على القول بكون الإيجاد جزء مدلول الماهيّة يصحّ النزاع ، بأن يقال : إنّه بعد تسليم وضعها لطلب الإيجاد هل هي وضعت لإيجاد أو إيجادات؟ فإنّ إيجاد الماهيّة قابل للتعدّد والتكثّر ، فلا مانع من كون التكرار قيدا لإيجاد الماهيّة ، وبتبعه يتكرّر البعث والتحريك أيضا.

وجوابه أوّلا : أنّ كلمة الإيجاد لا تكون جزء مفاد المادّة ، فإنّ مفادها نفس الماهيّة ـ كما مرّ آنفا نقل السكّاكي الإجماع على ذلك ـ لا جزء مفاد الهيئة ، فإنّ مفادها عبارة عن البعث والتحريك ، وأمّا انحصار طريق الامتثال بإيجاد

__________________

(١) المصدر السابق.

٥٩٠

الماهيّة في الخارج فهو وإن كان صحيحا إلّا أنّ البحث في مقام تعلّق التكليف لا في مقام الامتثال ، ولا دخل للوجود في متعلّق التكليف.

وجواب الإمام قدس‌سره (١) عنه : أنّ مفاد الهيئة معاني حرفيّة ، وقد مرّ أنّها غير مستقلّات مفهوما وذهنا وخارجا ودلالة ، ولا يمكن تقييد الإيجاد الذي هو معنى حرفي بالمرّة والتكرار إلّا بلحاظه مستقلّا. ومرّ أيضا أنّ لنا في قبال الجوهر والعرض وجودا آخر أضعف من وجود العرض ؛ لاحتياجه في التحقّق إلى الوجودين ، وهو عبارة عن واقعيّة ظرفيّة الدار لزيد ـ مثلا ـ فإذا لم يكن للمعاني الحرفيّة استقلال في مرحلة من المراحل المذكورة فلا بدّ من لحاظها دائما آلة للغير ووصفا للغير ، وإذا اخذ التكرار قيدا في مفاد الهيئة فمعناه لحاظ الهيئة بما أنّ لها معنى حرفيّا آلة للغير ، ولحاظها استقلالا بما أنّ التكرار قيد له ، والجمع بينهما في استعمال واحد غير جائز.

ويمكن أن يتوهّم أنّ الإمام قدس‌سره صرّح في المباحث السابقة أنّ القيود ترجع كثيرا إلى الهيئات كقولنا : «ضربت زيدا يوم الجمعة» ومعلوم أنّ التقييد ب «يوم الجمعة» يرجع إلى مفاد هيئة ضربت يعني وقوع الضرب من المتكلّم ، فكيف لا يمكن تقييد الهيئة في ما نحن فيه؟!

وقال الإمام قدس‌سره (٢) في مقام دفع هذا التوهّم : وما ذكرناه سابقا من أنّ نوع الاستعمالات لإفادة معاني الحروف وجوّزنا تقييدها ، بل قلنا : إنّ كثيرا من التقييدات راجع إليها ، لا ينافي ما ذكرنا هاهنا ؛ لأنّ المقصود هناك إمكان تقييدها في ضمن الكلام بلحاظ آخر ، فيكون دليل تقييد المعنى الحرفي في

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.

٥٩١

المثال تعلّق اللحاظين به في الموقعيّتين ، أي تعلّق اللحاظ الآلي قبل التقييد وتعلّق اللحاظ الاستقلالي بعد التقييد وتكميل الجملة ، والبحث في ما نحن فيه في نفس الهيئة بدون الضميمة ، ومعنى التقييد فيها اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي في آن واحد.

وإن قلت : إنّ ذلك إنّما يرد لو كانت الهيئة موضوعة للإيجاد والمتقيّد بالمرّة والتكرار حتّى يستلزم تقييد المعنى الحرفي وقت لحاظه آليّا ، وأمّا إذا قلنا بأنّها موضوعة للإيجادات بالمعنى الحرفي فلا يكون كذلك. وإن شئت قلت : بأنّه كما يجوز استعمال الحرف في أكثر من معنى يجوز وضع الحرف للكثرات واستعمالها فيها.

قلت : ما ذكرت كان أمرا ممكنا ولكنّه خلاف الوجدان والارتكاز في الأوضاع ، فلا محيص في معقوليّة النزاع من إرجاعها إلى وضع المجموع مستقلّا بحيث يرجع القيد إلى الجزء المادّي لا الصوري أو إلى نفس المادّة ؛ بأن يقال : إنّ لمادّة الأمر وضعا على حدة. هذا تمام كلام الإمام قدس‌سره مع توضيح وإضافة.

ولكنّ التحقيق : أنّ أدلّته في المقام وإن كانت غير قابلة للخدشة ، إلّا أنّ استنتاجه برجوع القيد إلى المادّة مع الاتّفاق بين المتأخّرين على وحدة مفاد المادّة في جميع المشتقّات بعيد جدّا ، ولكنّه أهون من إرجاع القيد إلى الهيئة كما لا يخفى.

وأمّا البحث عن الجهة الثانية بأنّ المراد بالمرّة والتكرار هل هو الدفعة ـ بمعنى وحدة الإيجاد التي تصدق على الأفراد أيضا ـ والدفعات أو الفرد والأفراد؟ فكان لكلا القولين مقرّب ، ومقرّب الأوّل أنّ لفظ المرّة ظاهر في الدفعة ولفظ التكرار في الدفعات ، ومقرّب الثاني أنّ ما أوجب طرح هذا

٥٩٢

النزاع في الاصول عبارة عن أنّ بعض الواجبات يكفي إيجاد فرد منه في طول العمر مثل حجّة الإسلام ، والبعض الآخر منها يلزم إيجاد أفراد المتعدّد منه ، إلّا أنّ تعدّد كلّ شيء بحسبه ، فالصلاة ـ مثلا ـ يجب فرد منها بالإضافة إلى كلّ وقت من الأوقات ، والصوم يجب إيجاد فرد منه بالإضافة إلى سنة ، وهكذا ، واختلاف الواجبات من هذه الجهة أوجب لطرح هذا البحث في الاصول ؛ بأنّ هيئة «افعل» إذا صدرت عن المولى هل يكفي الإتيان بفرد واحد من المأمور به أو يلزم الإتيان بأفراد متعدّد منه؟ فهذا يناسب مع الفرد والأفراد لا الدفعة والدفعات.

وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) : والتحقيق أن يكون محلّ النزاع فيهما بكلا المعنيين ، وصاحب الفصول (٢) أقام دليلا على كون المراد بالمرّة والتكرار هو الدفعة والدفعات.

وإنّا نبحث في باب الأوامر عن المسألتين المتشابهتين : إحداهما : دلالة الأمر على المرّة والتكرار وعدمها ، وثانيهما : أنّ الأوامر والنواهي تتعلّق بالطبائع والمفاهيم أو بالأفراد؟ والظاهر أنّ إحداهما ليست متفرّعة على الاخرى ، بل كلتاهما مستقلّتان في البحث.

وضابطة الاستقلال أن يكون كلّ من القائلين بأقوال مختلفة في هذه المسألة مختارا في اختيار كلّ من الأقوال في المسألة الاخرى ، فبناء على إرادة الفرد من المرّة يلزم جعل هذا البحث تتمّة للمبحث الآتي من أنّ الأمر متعلّق بالطبيعة أو الفرد ، فيقال عند ذلك : وعلى تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضي التعلّق

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١١٩ ـ ١٢١.

(٢) الفصول الغروية : ٧١.

٥٩٣

بالفرد الواحد أو المتعدّد أو لا يقتضي شيئا منهما ، ولم يحتج إلى إفراد كلّ منهما بالبحث كما فعلوه.

وأمّا لو اريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين ، ويجري البحث على كلا القولين في تلك المسألة ؛ بأن يقال : بناء على تعلّق الأمر بالطبيعة هل تقتضي الصيغة مطلوبيّة الطبيعة دفعة أو دفعات؟ وعلى القول بتعلّقه بالفرد هل تقتضي الصيغة اعتبار الدفعة في مطلوبيّة الفرد أو الدفعات أو لا تقتضي شيئا منهما؟ ونستكشف من استقلال المسألتين أنّ المراد منهما هي الدفعة والدفعات.

وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) في مقام جوابه : إنّ هذا توهّم فاسد ، وجوابه مبتن على توضيح كلتا المسألتين ، أمّا توضيح المسألة الآتية فهو أنّ مراد القائل بتعلّق الأمر بالطبيعة ليس تعلّقه بنفس الطبيعة والماهيّة ؛ إذ الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، لا موجودة ولا معدومة ، لا محبوبة ولا مبغوضة ، بل المراد تعلّقه بها باعتبار وجودها في الخارج ، والفرق بين هذا القول والقول بتعلّقه بالفرد بأنّ الفرد عبارة عن وجود الطبيعة مع الخصوصيّات الفرديّة ، فيرجع النزاع إلى أنّ مطلوب المولى عبارة عن وجود الماهيّة فقط ، وأمّا العوارض المشخّصة بلحاظ الملازمة مع الوجود الخارجي فهي خارجة عن دائرة المطلوبيّة ، أو المطلوب عبارة عن وجود الطبيعة مع الخصوصيّات الفرديّة ، مع اشتراكهما في أصل تعلّق الطلب بوجود الطبيعة.

وتوضيح هذه المسألة : أنّ المراد بالمرّة والتكرار بمعنى الفرد والأفراد هو أنّ القائل بالمرّة يقول بدلالة الأمر على وجود واحد من وجودات المأمور به ،

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١١٩ ـ ١٢١.

٥٩٤

والقائل بالتكرار يقول بدلالته على وجودات متعدّدة منها ، والقائل بعدم الدلالة عليهما يقول بدلالته على أصل الوجود ، وعنوان الوحدة والتكثّر خارج عنه.

فيجري نزاع المرّة والتكرار بمعنى الفرد والأفراد على كلّ من القول بتعلّق الأمر بالطبيعة أو الأفراد بأنّ المطلوب إن كان هو الطبيعة يقع النزاع في أنّ الصيغة هل تدلّ على مطلوبيّة وجود واحد أو وجودات متعدّدة أو لا تدلّ عليها؟ كما أنّ المطلوب إن كان هو الفرد المتميّز عن سائر الأفراد بالخصوصيّات المشخّصة يقع النزاع في أنّ الصيغة هل تدلّ على أنّ متعلّق الأمر وجود واحد أو وجودات متعدّدة؟ فجعل هذا النزاع من تتمّة مسألة تعلّق الأمر بالطبيعة أو الفرد ليس في محلّه.

والتحقيق : أنّ أصل مدّعاه ـ من أنّ المراد من الطبيعة وجود الطبيعة في المسألة الآتية ، والمراد من الفرد والأفراد في هذه المسألة هو وجود واحد ووجودات متعدّدة ـ كلام متين ولا يكون قابلا للمناقشة ، ولكنّ الدليل الذي أقامه لهذا الدعوى ليس بصحيح ، فلا بدّ لنا من إقامة الدليل الصحيح بعد موافقة أصل هذا الكلام.

وأمّا الاستدلال على كون المراد من الطبيعة ليس نفس الطبيعة ؛ بأنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي ، فهو مخدوش : أوّلا بأنّ المتناقضات بأجمعها مسلوبة عن مرحلة الماهيّة ، فكما أنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي ، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، كذلك لا موجودة ولا غير موجودة ، وإذا لم تكن إضافة الطلب إلى الماهيّة صحيحة فكيف تصحّ إضافة الوجود إليها؟! مع أنّ كلاهما مسلوب عن ذات الماهيّة ، فلا يمكن حلّ المشكل بأنّ الأمر طلب

٥٩٥

وجود الطبيعة.

وثانيا : أنّ قول الفلاسفة بأنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي أجنبي عن المقام ، بل هو مربوط بالحمل الأوّلي الذاتي ، وملاكه اتّحاد الموضوع والمحمول في الوجود والماهيّة ، وفي المفهوم أيضا على قول ، فالماهيّة في هذا المقام ليست إلّا ذات الماهيّة وأجزائها ـ أي الجنس والفصل ـ وكلّ ما كان خارجا عنهما كان خارجا عن الماهيّة أيضا ، فقضيّة «الإنسان موجود» بلحاظ الحمل الأوّلي قضيّة كاذبة ، كما أنّ قضيّة «الإنسان غير موجود» بهذا اللحاظ قضيّة كاذبة ، وهكذا في سائر المتناقضات ، فمعنى قولهم : الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي ، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، عبارة عن أنّ المطلوب ليس تمام الماهيّة ولا جزء الماهيّة ، كما أنّ كونها غير مطلوبة ليس كذلك ، وهكذا ، فكلّ ذلك مربوط بمقام الحمل الأوّلي الذاتي.

وأمّا البحث في مسألة تعلّق الأمر بالطبائع والماهيّات فلا شكّ في أنّه مربوط بمقام الحمل الشائع الصناعي ، وملاكه اتّحاد الموضوع والمحمول في الوجود ، وأنّ الموضوع مصداق من مصاديق المحمول ، مثل : «زيد إنسان» ، فإذا قلنا : ماهيّة الصلاة مطلوبة لا يكون معناه المطلوبيّة داخلة في ماهيّة الصلاة ، بل معناه أنّ ماهيّة الصلاة تكون من مصاديقها ، كما أنّ الجسم يكون من إحدى مصاديق الأبيض ، فالبحث في أنّ الأمر متعلّق بالماهيّة كعروض البياض بالجسم وعدمه ، لا أنّ الطلب دخيل في الماهيّة ، فالدليل لا ينطبق على المدّعى ؛ إذ المدّعى عبارة عن أنّ الأمر لا يتعلّق بالطبيعة ، والدليل عبارة عن أنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي ، فأصل مدّعى صاحب الكفاية صحيح ؛ بأنّ القائل بتعلّق الأوامر بالطبائع مراده وجود الطبيعة ، والقائل

٥٩٦

بتعلّقها بالأفراد مراده الأفراد مع الخصوصيّات الفرديّة ، فالنزاع في أنّ العوارض المشخّصة داخلة في مطلوب المولى أم لا ، مع قبول كلاهما أنّ الطلب يتعلّق بوجود الطبيعة.

ولكنّ البحث هاهنا في أنّ المادّة تدلّ على نفس الماهيّة والهيئة تدلّ على البعث والتحريك ، فلا شيء آخر يدلّ على الوجود.

ونسب إلى صاحب الفصول (١) أنّه قال بأنّ الوجود جزء مفاد الهيئة ـ أي وضعت هيئة الأمر لطلب الوجود ـ فمجموع الهيئة والمادّة تدلّ على طلب وجود الماهيّة.

ولنا طريق آخر لعلّه يطابق الواقع ، وهو كما مرّ أنّ البعث والتحريك على قسمين : أحدهما : البعث والتحريك الحقيقي ، والآخر : البعث والتحريك الاعتباري. والثاني في الحقيقة قائم مقام الأوّل ، وإذا سمعنا تحقّق البعث والتحريك الحقيقي فنفهم أنّه متوجّه إلى وجود مبعوث إليه ، مع أنّ الألفاظ لا تدلّ عليه ، مثل : «زيد بعث عمرا إلى السوق» ، واستفادة الوجود من هذا منوط بالدلالة الالتزاميّة لا الوضعيّة ؛ إذ لا يمكن البعث والتحريك الحقيقي إلى غير جانب الوجود عقلا.

وهذا المعنى يجري بعينه في البعث والتحريك الاعتباري أيضا ؛ إذ كما أنّه لا معنى لاعتبار الملكيّة بدون المالك والمملوك في عالم الاعتبار كذلك لا معنى للبعث والتحريك الاعتباري بدون الوجود ، خصوصا على القول بأصالة الوجود ، واللابدّيّة العقليّة حاكمة بالملازمة بين المبعوث إليه والوجود ، بل العرف أيضا يستفيد من قول المولى لعبده : «سافر إلى طهران» أنّه بعثه إلى

__________________

(١) الفصول الغروية : ٧١.

٥٩٧

إيجاد السفر إلى «طهران» ، فالعرف أيضا يساعد العقل في هذه المسألة ، فما ادّعاه المحقّق الخراساني قدس‌سره صحيح ، ولكن من هذا الطريق لا من الطريق الذي ذكره.

وهذا فتح باب لنا في أصل بحث دلالة الصيغة على المرّة أو التكرار وعدمها ؛ إذ لا شكّ في أنّ المقصود من الدلالة هاهنا الدلالة اللفظيّة والوضعيّة ، سواء كان النزاع مربوطا بالهيئة أو بالمادّة أو بالمجموع ، وحينئذ يظهر ما هو التحقيق في المسألة من أنّه لا ارتباط للمرّة والتكرار بالدلالة اللفظيّة ، فإنّ لهما عنوان الوصفيّة للوجود ، فإذا كان الموصوف خارجا عن الدلالة اللفظيّة ـ كما مرّ آنفا ـ فكيف الحال بالنسبة إلى وصف الوحدة والتكرّر؟! بل الوصف خارج عنها بطريق أولى ، ولا يعقل أن يكون الموصوف خارجا عن مفاد الصيغة والوصف داخلا فيه كما لا يخفى ، فلا مجال للنزاع بأنّه هل الصيغة تدلّ على المرّة أو التكرار أم لا.

ويمكن أن يقال : إنّه كما يستفاد أصل الوجود عن طريق العقل واللابدّيّة العقليّة كذلك يستفاد قيد المرّة أو التكرار أيضا عن طريق اللابدّيّة العقليّة ، وإن كان هذا خلاف الظاهر إلّا أنّه يكفي للإيصال إلى المرّة أو التكرار.

ولكنّه مخدوش ؛ بأنّ اللابدّيّة العقليّة تحتاج إلى الملاك كما تحقّق في المبعوث إليه من أنّه مربوط لا محالة بالوجود ، وليست اللابدّيّة العقليّة أو العرفيّة زائدة حتّى تقتضي تحقّق القيد بالوحدة أو التكرار أيضا.

وأمّا إذا كان الوجود داخلا في مفاد الهيئة من حيث الوضع ـ كما قال به صاحب الفصول ـ ففي بادئ النظر وإن كان النزاع معقولا بأنّ الوجود المتحقّق في مفاد الهيئة هل هو عبارة عن الوجود المطلق أو الوجود المقيّد بالوحدة أو

٥٩٨

التكرار ، إلّا أنّ تماميّة هذا الكلام متوقّف على تسليم جهتين : إحداهما : دخالة الوجود في مفاد الهيئة لغة ، أي وضع هيئة «افعل» للبعث والتحريك إلى وجود مبعوث إليه بحسب اللغة ، مع أنّه ليس كذلك واقعا.

والثانية : عدم ورود الإشكال الذي أورده الإمام قدس‌سره من اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي في آن واحد في كلمة واحدة ، مع أنّه أيضا وارد ولا يكون قابلا للدفع.

وبالنتيجة لا دلالة لصيغة الأمر بمجموعها على المرّة ولا على التكرار.

ثمّ إنّ إتيان المكلّف في مقام الامتثال بوجود واحد من وجودات الطبيعة يكفي في تحقّق المأمور به قطعا ، فإنّ مفاد صيغة الأمر عبارة عن البعث والتحريك الاعتباري إلى إيجاد الطبيعة ، وهو يتحقّق بإيجاد فرد واحد منها في الخارج ، إنّما الكلام في إيجاد المكلّف في مقام الامتثال أفرادا متعدّدة ، سواء كان بصورة عرضيّة ـ كعتق عبيده بصيغة واحدة بعد حكم المولى بوجوب عتق العبد ـ أو كان بصورة طوليّة كعتق عبيده تدريجا فردا بعد فرد ، ولا بحث في تحقّق الامتثال وعدمه بها ؛ لأنّه إذا كان إيجاد فرد واحد منها موجبا لتحقّق الامتثال ، فإيجاد الأفراد المتعدّدة بطريق أولى يكون كذلك ، بل البحث في أنّ إيجاد أفراد متعدّدة يعدّ امتثالا واحدا أو يعدّ امتثالات متعدّدة ، وثمرته تظهر في استحقاق المثوبة من حيث وحدته وتعدّده.

أمّا الأفراد العرضيّة فتكون فيها أقوال ثلاثة : بأنّها تكون بمجموعها امتثالا واحدا كما قال به استاذنا الأعظم السيّد الإمام قدس‌سره (١) ، أو يكون كلّ منها فردا مستقلّا للامتثال كما قال به استاذنا السيّد البروجردي قدس‌سره (٢) ، أو هو تابع لقصد

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ١٧٢ ـ ١٧٣.

(٢) المصدر السابق ١ : ١٢٤.

٥٩٩

الممتثل كما نقل عن المحقّق الخراساني قدس‌سره في درسه ، وإن يستفاد من عبارة الكفاية (١) القول الأوّل ؛ إذ يقول : فيكون إيجاد الطبيعة في ضمن الأفراد كإيجادها في ضمن الواحد.

وقال المرحوم البروجردي قدس‌سره في مقام الاستدلال : إنّ الطبيعة متكثّرة بتكثّر الأفراد ، ولا يكون فردان أو أفراد منها موجودة بوجود واحد ؛ لأنّ المجموع ليس له وجود غير وجود الأفراد ، فكلّ فرد محقّق للطبيعة ، ولمّا كان المطلوب هو الطبيعة بلا قيد بالمرّة أو التكرار فحينئذ إذا أتى المكلّف بأفراد متعدّدة فقد أوجد المطلوب في ضمن كلّ فرد مستقلّا ، فيكون كلّ فرد امتثالا برأسه كما هو موجود برأسه وبنفسه ، نظير ذلك الواجب الكفائي حيث إنّ الأمر فيه متعلّق بنفس الطبيعة ، ويكون جميع المكلّفين مأمورين بإتيانها ، فمع إتيان واحد منهم يسقط الوجوب عن الباقي. وأمّا لو أتى به عدّة منهم دفعة فيعدّ كلّ واحد ممتثلا ، ويحسب الكلّ امتثالا مستقلّا لا أن يكون فعل الجميع امتثالا واحدا. هذا تمام كلامه على ما نقل عنه الإمام قدس‌سرهما.

وقال الإمام قدس‌سره (٢) في مقام جوابه بما حاصله : إنّ الملاك في وحدة الامتثال وتعدّده عبارة عن وحدة التكليف وتعدّده ، فإن كان التكليف واحدا فالامتثال أيضا واحد ، وإن كان التكليف متعدّدا فالامتثال أيضا متعدّد ، إلّا أنّ لتعدّد التكليف طرقا متعدّدة ، فقد يكون بنحو الصلاة والصوم ... وتعدّد التكليف فيها بتعدّد عناوين المكلّف به ، وقد يكون تعدّد التكليف بنحو العامّ الاستغراقي ، مثل : «أكرم كلّ عالم» ، والحكم فيه ينحلّ ويتعدّد بتعدّد مصاديق

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٢١.

(٢) مناهج الوصول إلى علم الاصول ١ : ٢٨٩ ـ ٢٩١.

٦٠٠