دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

لصحّة استعمال أحد اللفظين في الآخر بنحو الحقيقة.

وفيه : أوّلا : أنّ أصل علاميّة صحّة الحمل مخدوش كما مرّ آنفا.

وثانيا : مع قطع النظر عن الإشكال وقبول أصل العلاميّة لا دليل لنا على استثناء مورد من موارد الحمل ؛ لأنّ الموضوع وإن كان مركّبا في بعض الموارد ، ولكنّ ذلك التركّب يستفاد من المعنى البسيط بحسب التحليل العقلي ، فينتج المعنى الحقيقي بأنّ كلّ ما يرجع جنسه إلى الحيوان وفصله إلى الناطق فهو المعنى الحقيقي للإنسان ، مع أنّه لا بدّ في مقام الحمل من تجريد الموضوع عن قيد التركّب ، وإلّا لم يصحّ الحمل أصلا.

ومنها ـ الاطّراد :

وقد ذكروا الاطّراد علامة للحقيقة ، وعدمه علامة للمجاز ، وعرّفوه بتعاريف مختلفة ، منها : ما ذكره المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) وحاصله : ليس الغرض تكرار استعمال لفظ في المعنى وعدمه ، فإنّه إذا صحّ الاستعمال فيه مرّة واحدة يصحّ فيه مرّات عديدة ، من دون فرق في ذلك بين الاستعمال الحقيقي والمجازي ، بل مورد هاتين العلامتين ما إذا اطلق لفظ باعتبار معنى كلّي على فرد ، ولكنّه يشكّ أنّ ذلك الكلّي مطّرد أم لا ، فإذا وجد صحّة الإطلاق مطّردا باعتبار ذلك الكلّي كشف عن كونه من المعاني الحقيقيّة ، وإن لم يكن مطّردا كشف عن كونه من المعاني المجازيّة.

مثلا : إطلاق لفظ «رجل» على «زيد» باعتبار كونه واجدا لخصوصيّة الرجوليّة صحيح ومطّرد ، وهكذا إطلاقه على كلّ من كان واجدا لها من المصاديق ، وهذا يكشف عن كونه معنى حقيقيّا له. وأمّا إطلاق لفظ «الأسد»

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٨٤.

٢٢١

على كلّ فرد من أفراد الشجاع فلا يطّرد ولا يصحّ مطلقا ، بل يصحّ إطلاقه باعتبار هذا المفهوم الكلّي على الإنسان الشجاع ، ولا يصحّ إطلاقه على كلّ رجل يشبهه ، كما إذا كان شبيها له في البخر ، وهكذا يكشف عن كونه من المعاني المجازيّة.

ولكن استشكل في علاميّة الاطّراد أيضا بأنّ الاطّراد ليس لازما مساويا للوضع حتّى يكون أمارة عليه ، بل هو لازم أعمّ من الوضع ، فليس دليلا عليه ؛ لعدم دلالة العامّ على الخاصّ ، ووجه أعمّيّته هو وجود الاطّراد في المجاز أيضا ، حيث إنّ علاقة المشابهة في أظهر الأوصاف ، كشجاعة الأسد ـ مثلا ـ توجب جواز استعمال لفظ «الأسد» في جميع موارد وجود هذه العلاقة ، فالاطّراد بلحاظ كلّ واحدة من العلائق الموجودة حاصل ، مع أنّ استعمال اللّفظ في المعاني بلحاظ تلك العلائق مجاز.

وأجاب عنه صاحب الكفاية (١) ، وحاصل جوابه : أنّ الاطّراد في المجازات إنّما يكون بلحاظ أشخاص العلائق ، بحيث يكون شخص المستعمل فيه دخيلا في صحّة الاستعمال وحسنه ، لا بملاحظة أنواعها كما هو شأن الاطّراد في الحقائق ، فاستعمال لفظ «الأسد» في الرجل الشجاع بعلاقة المشابهة بينهما وإن كان مطّردا ، إلّا أنّ اطّراده إنّما هو بملاحظة شخص هذه العلاقة ، أعني علاقة المشابهة بينه وبين الرجل الشجاع بخصوصه ، ولذا لا يحسن استعماله في العصفور الشجاع مع وجود الشجاعة فيه ، وهذا بخلاف الاطّراد في الحقائق ، فإنّه يكون بملاحظة أنواع العلائق من دون خصوصيّة لمورد الاستعمال ، فيكون الاطّراد علامة للحقيقة ، وعدمه بالنسبة إلى نوع العلاقة علامة

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٨ ـ ٢٩.

٢٢٢

للمجاز.

وأجاب عنه أيضا المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) بقوله : الكلام في عدم اطّراد المعاني المجازيّة المتداولة بين أهل المحاورة ، وإن كان المعنى المجازي المناسب للحقيقي واقعا أخصّ ممّا هو المتداول لتخلّفه في بعض الموارد ، فإذا اطّرد استعمال لفظ في معنى بحدّه فهو علامة الوضع ؛ إذ ليس في المعاني المتداولة بحدّها ما هو كذلك إلّا في الحقائق.

ولكنّ التحقيق : أنّه لا يساعد هذا التفسير من الاطّراد ، فإنّه أوّلا : يرجع إلى صحّة الحمل بعد القول بأنّ زيدا رجل.

وثانيا : أنّ إطلاق الرجل على «زيد» و «عمرو» و «خالد» لخصوصيّة الرجوليّة لا يستلزم أن يكون هذا المعنى المردّد معنى حقيقيّا للرجل ويكون هذا الإطلاق صحيحا ؛ لأنّه يمكن أن يكون إطلاق الرجل على جميع الأفراد بنحو المجاز ، بل لا يمكن إحراز صحّة الإطلاق وعدمه إلّا بالعلم بالمعنى الحقيقي والمجازي ؛ إذ العلم بصحّة الإطلاق وعدمه في مورد الاطّراد وعدمه متوقّف على العلم بهما ، وهذا دور.

وإذا قيل : إنّ هذا الإطلاق عند العرف صحيح.

قلنا : إنّ هذا يرجع إلى المغايرة بين العالم والمستعلم ، وهو خارج عن محلّ البحث ، فهذا البيان على الظاهر ليس بتامّ.

وأمّا التفسير الآخر فلاستاذنا المرحوم السيّد البروجردي قدس‌سره وملخّص ما أفاده بعد قبوله علاميّة الاطّراد وعدمه للحقيقة والمجاز : أنّ الاطّراد هو حسن الاستعمال بنحو الإطلاق ، بخلاف عدم الاطّراد.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٨٥.

٢٢٣

بيان ذلك : أنّ الاستعمالات الحقيقيّة لها شرط واحد ، وهو كون المقام مقام الإخبار بوقوع الرؤية ـ مثلا ـ على الرجل الرامي ، كما في قولنا : رأيت رجلا يرمي ، وصحّة هذا الإطلاق لا يختصّ بزمان خاصّ أو مكان خاصّ ؛ لأنّ الإطلاق حقيقيّ وانطباقه لا ينحصر بمورد دون مورد. وأمّا الاستعمالات المجازيّة فيحتاج إحرازها إلى امور ثلاثة : الأوّل : كون المقام مقام الإخبار بتعلّق الرؤية به وأنّه يرمي.

الثاني : حسن ادّعاء كونه أسدا ، بأن يكون بالغا أعلى درجات الشجاعة.

الثالث : كون المقام مقام إظهار شجاعته ، كما في قولنا : رأيت أسدا يرمي ؛ لأنّ استعمال لفظ «الأسد» في الرجل الشجاع إذا كان المقصود ـ مثلا ـ تحريكه إلى الجهاد حسن ، بخلاف إطلاقه فيه في مقام دعوته إلى الأكل ، مثلا : بأن يقال له : «يا أسد تفضّل إلى أكل الطعام» ، بل يكون إطلاق «الأسد» عليه قبيحا في هذا المقام.

ثمّ قال : إنّ جعل عدم الاطّراد علامة للمجاز وإن فرض أنّه ليس بلحاظ نوع العلاقة بل بلحاظ الصنف منها ، لكن قولكم : «فالمجاز أيضا على هذا مطّرد» واضح الفساد ، بعد ما ذكرناه من أنّ صرف تحقّق صنف العلاقة ومصحّح الادّعاء لا يكفي في الاستعمال ما لم يكن المقام مقام إظهار هذا الادّعاء.

وفيه : أوّلا : أنّه لا يحسن إطلاق الحقائق بنحو الإطلاق ، فلا بدّ لها أيضا من المناسبة ، كقولنا بعد العلم باسم زوجة أحد : السلام عليك يا زوج فلانة ، فإنّه مع حقيقته قبيح ، حتّى في باب الأدعية لا بدّ لنا من رعاية المناسبة في القول ؛ لأنّه لا يقال في مقام طلب المغفرة ـ مثلا ـ : يا قهّار ، اغفر لي ، بل يقال :

٢٢٤

«يا غفّار ، اغفر لي» ، مع أنّ كليهما من الحقائق.

وثانيا : أنّ إحراز حسن إطلاق الحقائق وعدم حسنه في المجازات متوقّف على العلم بهما ، وإلّا فكيف يحرز الجاهل أو المتردّد أنّ هذا الإطلاق حسن أو قبيح ، إلّا أن يتصوّر هاهنا أيضا العالم والمستعلم ، وهو خارج عن محلّ البحث.

وأمّا التفسير الآخر عن الاطّراد لبعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات (١) وهو : أنّ الاطّراد الكاشف عن الحقيقة عبارة عن استعمال لفظ خاصّ في معنى مخصوص في موارد مختلفة بمحمولات عديدة مع إلغاء جميع ما يحتمل أن يكون قرينة على إرادة المجاز ، وهذه طريقة عمليّة لتعليم اللّغات الأجنبيّة ، واستكشاف حقائقها العرفيّة.

توضيح ذلك : أنّ من جاء من بلد إلى بلد آخر ورد في بلد لا يعرف لغتهم ، فإذا تصدّى لتعلّم اللّغة السائدة في البلد رأى أنّ أهل البلد يطلقون لفظا ويريدون به معنى ، ويطلقون لفظا آخر ويريدون به معنى آخر ، وهكذا ، ولكنّه لا يعلم أنّ هذه الإطلاقات من الإطلاقات الحقيقيّة أو المجازيّة ، فإذا رأى أنّهم يطلقون هذه الألفاظ ويريدون بها تلك المعاني في جميع الموارد حصل له العلم بأنّها معاني حقيقية ؛ لأنّ جواز الاستعمال معلول لأحد أمرين: إمّا الوضع أو القرينة ، وحيث فرض انتفاء القرينة من جهة الاطّراد فلا محالة يكون مستندا إلى الوضع ، مثلا : إذا رأى أحد أنّ العرب يستعملون لفظ «الماء» في معناه المعهود ، ولكنّه شكّ في أنّه من المعاني الحقيقيّة أو من المعاني المجازيّة ، فمن إلغاء ما يحتمل أن يكون قرينة من جهة الاطّراد علم بأنّه من المعاني الحقيقيّة ، ولا يكون فهمه منه مستندا إلى قرينة حاليّة أو مقاليّة ، وبهذه الطريقة ـ أي تكرار

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ١٢١ ـ ١٢٤.

٢٢٥

الاستعمال ـ غالبا يعلّمون الأطفال والصبيان اللّغات والألفاظ.

وبهذا تحصّل أنّ الاطّراد بهذا التفسير الذي ذكرناه علامة لإثبات الحقيقة ، بل أنّه هو السبب الوحيد لمعرفة الحقيقة غالبا ، فإنّ تصريح الواضع وإن كان يعلم به الحقيقة إلّا أنّه نادر جدّا ، وأمّا التبادر فهو وإن كان يثبت به الوضع ـ كما عرفت ـ إلّا أنّه لا بدّ من أن يستند إلى العلم بالوضع ، إمّا من جهة تصريح الواضع أو من جهة الاطّراد ، والأوّل نادر فيستند إلى الثاني لا محالة. انتهى.

وفيه : أوّلا : أنّ الإحاطة بجميع موارد الاستعمالات لا يمكن أن تتحقّق بحسب العادة ، فلا بدّ من التأويل والتوجيه بأن مراده منها الشيوع وكثرة الاستعمال كما هو الظاهر من لفظ الاطّراد.

وثانيا : أنّه إذا رأى شخص من أهل سائر اللّغات أنّ العرب يستعملون لفظ «الماء» في معناه المعهود ، فقد يعلم في الاستعمالات الثانية والثالثة أنّ هذا المعنى مستند إلى حاقّ اللفظ ، وحينئذ لا يحتاج إلى الاطّراد ، وهذا متمحّض في التبادر عند الغير. وقد لا يعلم أنّه مستند إلى حاقّ اللّفظ أم لا ، وحينئذ قد لا يوجب كثرة الاستعمال لرفع الشكّ وإن بلغ ما بلغ ، وقد يوجب العلم باستناده إلى حاقّ اللفظ وإن احتمل في الاستعمالات الأوّليّة استناده إلى وجود القرينة ، ولكنّ الاطّراد يوجب إحراز استناده إلى حاقّ اللفظ ، فنقول :

إنّ العلامة هاهنا عبارة عن التبادر لا الاطّراد ، ولكن كان له الشرط الذي لم يتحقّق قبل كثرة الاستعمال ، وهو إحراز الاستعمال مستندا إلى حاقّ اللفظ ، فيكون سبب الكشف إحراز الاستعمال لا الاطّراد ، فتشخيص المعنى الحقيقي مستند إلى إحراز الاستناد ، وهو من أيّ طريق حصل ومن أيّ سبب يتحقّق يكفي في التبادر ، كما مرّ سابقا.

٢٢٦

وحاصل هذا البيان يرجع إلى تحقّق شرط التبادر ، فهو السبب الوحيد لمعرفة الحقيقة ، فلا ربط للاطّراد بما هو هو في تشخيص المعنى الحقيقي ، كما أنّه لا ربط للتكرار في تعليم الأطفال ، فإنّهم يأخذون المعنى من الاستعمال الأوّل ، والغرض من التكرار هو حفظ المعنى كما هو معلوم.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه في بحث علائم الحقيقة والمجاز أنّ الاطّراد ليس بعلامة أصلا ، وأمّا صحّة الحمل فهو علامة للحقيقة إذا كان المستعلم غير العالم ، وكذلك صحّة السلب علامة للمجاز ، إذا كان كذلك فالأولى في العلاميّة التبادر ، وكان له طريقان كما مرّ مفصّلا. هذا تمام الكلام في بحث علائم الحقيقة والمجاز.

٢٢٧
٢٢٨

الأمر الثامن

تعارض الأحوال

إنّ للّفظ أحوالا خمسة ، وهي : التخصيص والتقييد والمجاز والاشتراك والإضمار والنقل. والبحث فيه كما ذكروا يقع في مقامين : أحدهما : في دوران الأمر بين المعنى الحقيقي وبين إحداها ، وثانيهما : في دوران الأمر بين نفس الأحوال الخمسة.

والمحقّق الخراساني قدس‌سره (١) اكتفى بجملة في المقام الأوّل وهي : أنّه «لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الأمر بينه وبين المعنى الحقيقي إلّا بقرينة صارفة عنه إليه».

وفي المقام الثاني اكتفى بقوله : «وأمّا إذا دار الأمر بينها فالاصوليّون وإن ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها إلّا أنّها استحسانات لا اعتبار بها ، إلّا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى ؛ لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك كما لا يخفى». انتهى.

ولكن الأولى هاهنا البحث في أصالة عدم النقل تبعا لاستاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ فلا شكّ إجمالا في تحقّق أصالة عدم النقل عند العقلاء ، ولكنّ

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٩.

٢٢٩

البحث فيه يقع في مقامين : الأوّل : في ملاك هذا الأصل ، والثاني : في مورد هذا الأصل.

أمّا البحث في المقام الأوّل : فيحتمل أن يكون هذا الأصل استصحابا عقلائيّا ، فإنّ الوضع للمعنى الأوّل متيقّن ، والشكّ في حدوث النقل بالوضع التعييني أو التعيّني ، فتجري أصالة عدم النقل ، ولكنّ الظاهر أنّ الاستصحاب بما هو هو ليس بحجّة عندهم ، واتّكاؤهم بحسب الظاهر عليه ليس بسبب الاستصحاب ، بل كان بسبب اطمئنان البقاء في أكثر الموارد كالرجوع إلى الدار للاطمئنان ببقائها ، فلا يكون هذا الأصل استصحابا عقلائيّا.

ويمكن أن يقال : إنّ الملاك فيه عبارة عن تحقّق غرض الوضع ـ أي التفهيم والتفهّم بسهولة ـ إذ لو لم يكن هذا الأصل في موارد مشكوكة لم يتحقّق غرض الوضع.

وقال سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ (١) : إنّ المدرك لهذا الأصل عندهم هو حكم الفطرة الثابتة لهم من عدم رفع اليد عن الحجّة ـ أي الوضع للمعنى الأوّل ـ بلا حجّة ، وعن الظهور الثابت بمجرّد الاحتمال ، ولكنّ المهمّ أصل تحقّق هذا البناء لا ملاكه كما لا يخفى.

وأمّا البحث في المقام الثاني فإنّه كان لهذا الأصل مورد مسلّم وموارد مشكوكة ، والأوّل فيما إذا كان أصل الوضع مسلّما وتحقّق النقل مشكوكا ، فههنا يجري هذا الأصل بلا إشكال. ومن الثاني العلم بتحقّق النقل والشكّ في تقدّمه على الاستعمال وتأخّره عنه.

والحقّ أنّا نعلم بعدم بنائهم على جريانه هاهنا ، ولا أقلّ من الشكّ في بنائهم ،

__________________

(١) مناهج الوصول إلى علم الاصول ١ : ١٣٢ ، تهذيب الاصول ١ : ٦١ ـ ٦٢.

٢٣٠

وهو يكفي في عدم الحجّيّة وعدم بنائهم ، كالشكّ في اعتبار الاصول الشرعيّة. كما قال به استاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ (١) تبعا للمحقّق الخراساني قدس‌سره (٢).

وقال العلّامة الحائري قدس‌سره (٣) : «إذا كان النقل متيقّنا وتقدّمه على الاستعمال مشكوكا تجري أصالة عدم النقل حين الاستعمال ؛ لأنّ الحجّة لا ترفع اليد عنها إلّا بحجّة مثلها ، وأنّ الوضع السابق حجّة فلا يتجاوز عنه إلّا بعد العلم بالوضع الثاني».

ولكنّ التحقيق : أنّ الحجّة هو الظهور لا الوضع بنفسه ، ولم ينعقد لهذا الاستعمال ظهور أصلا ؛ إذ الشكّ في تقدّم النقل وتأخّره عنه يمنع من انعقاده ، فلا محلّ لجريان أصالة عدم النقل هاهنا كما هو الظاهر. وكان في هذا الأصل بيان آخر لا فائدة في التعرّض له.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) كفاية الاصول ١ : ٣٤.

(٣) درر الفوائد ١ : ٤٦ ـ ٤٧.

٢٣١
٢٣٢

الأمر التاسع

الحقيقة الشرعيّة

ذكروا لثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه في الكتب القديمة أقوالا مختلفة ، ولكلّ قول دليل أو أدلّة متعدّدة ، ولكنّ البحث فيه مبتن على الأساسين المهمّين بحيث لو انهدم أحدهما أو كلاهما فلا محلّ لهذا البحث ولا ثمرة فيه.

أحدهما : كون المعاني مدلولا عليه للألفاظ في شريعة الإسلام فقط ، بحيث كانت مستحدثة في شرعنا ، ولم يرد في الشرائع السابقة عن هذه المعاني خبر ولا أثر أصلا.

وثانيهما : ثبوت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وضع الألفاظ للمعاني ، وبسبب الشارع نقل هذه الألفاظ من المعاني اللّغوية إلى المعاني المستحدثة شرعا.

ولا يخفى أنّ ألفاظ المعاملات خارجة عن حريم النزاع ، فإنّ حقائقها حقائق عرفيّة أمضاها الشارع ، فالنزاع يجري في ألفاظ العبادات فقط ، فلا بدّ لنا من البحث في جهات حتّى يتّضح ثبوت هذين الأساسين أم عدم ثبوتهما :

الاولى : في ملاحظة تأريخ حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من حيث تحقّق الوضع والنقل وعدمه فيه ، ولا شكّ في أنّ التأريخ الموجود بين أيدينا الحافظ لسيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحياته وأفعاله حتّى أفعاله العاديّة فضلا عمّا له ربط بالتشريع

٢٣٣

لم يحفظ ذكرا عن الوضع والنقل ، مع أنّه لو كان هناك شيء لنقل إلينا ؛ لكثرة الدواعي إلى نقله ، والمهمّ منه عدم ذكر الأئمّة عليهم‌السلام للوضع في كلماتهم ، مع أنّهم ذكروا خصوصيّات مهمّة من حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن لم يتعرّضوا له أصلا. ولم تتحقّق مسألة باسم الوضع حتّى لو قلنا بأنّ الوضع كما يحصل بالتصريح بإنشائه كذلك يحصل باستعمال اللّفظ في غير ما وضع له بقرينة الوضع كما قال به صاحب الكفاية ، وإلّا لا بدّ من ذكره في التأريخ أو في لسان الأئمّة عليهم‌السلام فإنّه ليس أقلّ أهمّية من كيفيّة وضوئه صلى‌الله‌عليه‌وآله التي نقلت مرارا على ألسنتهمعليهم‌السلام.

الجهة الثانية : في ملاحظة كتاب الله من حيث وجود تلك المعاني في الامم السابقة وعدمه فلا شكّ في أنّه يستفاد من مراجعة القرآن معهوديّة تلك المعاني في الامم السابقة ، كما ينبئ عنه غير واحد من الآيات ، مثل : قوله سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(١) ، وقوله تعالى في مقام الحكاية عن قول عيسى عليه‌السلام : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(٢) ، وقوله سبحانه لإبراهيم عليه‌السلام : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً)(٣) ، والمهمّ منها قوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً)(٤) ، فثبوت هذه المعاني حتّى الزكاة في الشرائع السابقة لا إشكال ولا كلام فيه ، وإن لم نقل بثبوتها فيها بهذه الكيفيّة والأجزاء والشرائط الثابتة في شرعنا ، بل كانت فيها بعنوان عبادة مخصوصة سوى المعنى اللغوي ، والاختلاف فيها بين شريعتنا وسائر الشرائع لا يكون أزيد من اختلافها

__________________

(١) البقرة : ١٨٣.

(٢) مريم : ٣١.

(٣) الحجّ : ٢٧.

(٤) الأنفال : ٣٥.

٢٣٤

بحسب حالات المكلّفين ، كاختلاف صلاة الحاضر والمسافر والغريق والمريض.

فهذه الآيات كلّها شواهد بيّنة على أنّ ألفاظ العبادات كانت معلومة المفهوم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ومعاصريه من الكفّار ، وكلّهم يفهمون معانيها بلا معونة قرينة.

إن قلت : إنّ ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة لا يدلّ على وجود تلك الألفاظ فيها ، بل كانت في بعضها بالسريانيّة كما في لغة عيسى عليه‌السلام ، أو بالعبريّة كما في لغة موسى عليه‌السلام وقد نقلت عنها بهذه الألفاظ الخاصّة في شريعتنا ، لاقتضاء مقام الإفادة ذلك.

قلنا : إنّ المهمّ تحقّق هذه المعاني بعنوان عبادة مخصوصة في الشرائع السابقة ولو كانت باللغة السريانيّة أو العبريّة ، فإذا تحقّق أنّ الصوم أو الصلاة كان فيها بعنوان عبادة من العبادات يكفي في الاستدلال ؛ على عدم كون هذه المعاني مستحدثة في شريعة الإسلام ، مع أنّه مخالف لظاهر الآيات ، ولا يكون جوابا لمعهوديّة تلك الألفاظ عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعاصريه من الأصحاب والمشركين حين نزول الآيات.

ولا يتوهّم أنّ الألفاظ المذكورة موضوعة بإزاء تلك المعاني في ألسنة الأنبياء السالفة ؛ لأنّه وإن كان ممكنا في نفسه إلّا أنّه لا شاهد عليه ، لا من الآيات ، ولا من الروايات ، مع أنّه لو كان كذلك فلا فائدة لنا في بحث الحقيقة الشرعيّة ، فإنّ جميع الاستعمالات في لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تحمل على المعاني السابقة.

الجهة الثالثة : في أنّه لا بدّ للوضع من موقعيّة تقتضي تحقّقه فيها ، ولا معنى له بدونها ، فإنّ الواضع بعد ملاحظة أنّه كان معنى الصوم ـ مثلا ـ موردا لابتلاء

٢٣٥

الناس وأنّ تفهيمه من طريق الإشارة مشكل وضع هذا اللفظ لهذا المعنى ؛ لغرض السهولة في التفهيم والتفهّم ، فإذا جاء رسول من الله تعالى بدين جديد ومسلك حادث كان موقعيّة وضعه من حين تبعيّة الناس له ورغبتهم إليه وبسط دينه ، فهو بعد ملاحظة احتياجه واحتياج امّته إلى استعمال الألفاظ في المعاني المستحدثة يضع الألفاظ للمعاني على فرض تحقّقه بسبب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبناء على ذلك كان المقتضي له زمان تقرّره وحياته في المدينة ، لا زمان حياته في مكّة ، حيث إنّ تابعيه في ذلك الزمان كانوا في غاية القلّة ، مع أنّا نرى وجود ألفاظ العبادات في الآيات المكّيّة النازلة في ابتداء البعثة ، كقوله سبحانه في سورة المزمّل : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(١) ، وقوله تعالى في سورة الأعلى : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)(٢).

ولا شكّ في أنّ المراد من الصلاة هي العبادة المخصوصة ، وأنّ دلالتها عليها ليست بمعونة قرينة حاليّة أو لفظيّة ، فإنّا نرى عدم وجود قرينة لفظيّة في الآية ، وأمّا القرينة الحاليّة فليست مناسبة للكتاب الذي كان بعنوان معجزة باقية إلى يوم القيامة ، فكيف وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الألفاظ لتلك المعاني مع أنّ الموقعيّة لم تقتضيه أصلا؟!

وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث : «صلّوا كما رأيتموني اصلّي» (٣) فليس بقرينة ، بل هو مؤيّد لعلم الناس بكون الصلاة عبادة مخصوصة وجهلهم بكيفيّتها ، وقد مرّ أنّ الجهل بالكيفيّة لا ينافي أصل التحقّق ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرشدهم إلى الكيفيّة بهذه الجملة ، كإرشاد العالم الجاهل إلى الكيفيّة في زماننا هذا.

__________________

(١) المزمل : ٢٠.

(٢) الأعلى : ١٥.

(٣) البحار ٨٢ : ٢٧٩.

٢٣٦

فيستفاد من الجهات الثلاثة المذكورة عدم تحقّق النقل والوضع أو الحقيقة الشرعيّة بلسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

هذا ، واختلف الاصوليّون أيضا في مسألة الحقيقة الشرعيّة من حيث ترتّب الثمرة عليها وعدمه ، فقال عدّة من الأعاظم : لا تترتّب عليها ثمرة أصلا ، فلا يكون في هذا البحث فائدة عمليّة.

وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) : «وأمّا الثمرة بين القولين فتظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع ، بلا قرينة على معانيها اللغويّة مع عدم الثبوت ، وعلى معانيها الشرعيّة على الثبوت فيما إذا علم تأخّر الاستعمال ، وفيما إذا جهل التأريخ ـ إمّا بجهل تأريخ كليهما أو أحدهما ـ ففيه إشكال».

ووافقه بعض بناء على الثبوت بأن يحمل على المعنى الشرعي فيما إذا تأخّر الاستعمال عن النقل ، ولكن خالفه بعض بناء على عدم الثبوت بأنّ اللفظ يصير مجملا ، فلا بدّ من التوقّف فيه ، ولا يحمل على المعنى الحقيقي اللغوي ، ولا على المعنى الشرعي الحادث.

إن قلت : لا بدّ لنا من متابعة أصالة الحقيقة إذا دار الأمر بين المعنى المجازي والحقيقي فهي المرجع هاهنا لا التوقّف.

قلنا : لا شكّ في صيرورة المعاني الشرعيّة من المجازات المشهورة ، بحيث إذا استعمل اللفظ بلا قرينة ليس احتمالها أقلّ من احتمال المعنى الحقيقي ؛ لكثرة استعمال هذه الألفاظ في المعاني الشرعيّة ، فصار اللفظ حينئذ مجملا ، والمختار هاهنا هو التوقّف.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٤.

٢٣٧

وممّن أنكر أصل ترتّب الثمرة في هذا البحث المحقّق النائيني قدس‌سره (١) وتبعه فيه تلميذه العلّامة الخوئي ـ دام ظلّه ـ (٢) وقال في مقام الإنكار : إنّه لا ثمرة لهذه المسألة أصلا ؛ لأنّ ألفاظ الكتاب والسنّة الواصلتين إلينا يدا بيد معلومتان من حيث المراد ، فلا يبقى مورد نشكّ فيه في المراد الاستعمالي ، ولا يتوقّف في حملها على المعاني الشرعيّة ، فإنّ ألفاظ الكتاب والسنّة قد وصلت إلينا من النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بواسطة الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام.

ثمّ قال : إنّ الحقيقة الشرعيّة وإن فرض أنّها لم تثبت إلّا أنّه لا شبهة في ثبوت الحقيقة المتشرّعيّة في زمن ما ، كما قال المحقّق الخراساني قدس‌سره : إنّ منع حصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة ، فاستعملت هذه الألفاظ في ألسنة الأئمّة عليهم‌السلام ... جميعا في المعاني المستحدثة بلا قرينة ، مثل : استعمالات سائر المتشرّعة ، وعليه فليس لنا مورد نشكّ فيه في مراد الشارع المقدّس من هذه الألفاظ حتّى تظهر الثمرة المزبورة. نعم : لو فرض كلام وصل إلينا من النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا واسطة الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام فيمكن أن تظهر الثمرة فيه إذا فرض الشكّ في مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله منه ، إلّا أنّه فرض في فرض. فبالنتيجة لا ثمرة للبحث عن هذه المسألة أصلا ، بل هو بحث علمي فقط. انتهى.

ولكن يمكن المناقشة في قوله ـ دام ظلّه ـ فقوله : «إنّ ألفاظ الكتاب والسنّة قد وصلت إلينا من النبيّ الأكرم بواسطة الأئمّة الأطهار» غير صحيح ؛ لأنّ للكتاب حيثيّتين: حيثيّة اللفظ وحيثيّة المعنى ، ولا شكّ ولا شبهة في أنّ المرجع لحيثيّة الثاني هو الأئمّة عليهم‌السلام فإنّهم مفسّرو الكتاب ، ولو كان تفسيرهم على

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ١ : ١٢٥ ـ ١٢٦.

٢٣٨

خلاف الظاهر ، فإنّ المفسّرين يحتاجون إليهم عليهم‌السلام في التفسير.

وأمّا المرجع لحيثيّة الأوّل فهو التواتر فقط ، ولا ربط له بالأئمّة عليهم‌السلام أصلا ، فطريق إثبات الكتاب أو إثبات جزئيّة الآية المشكوكة ـ مثلا ـ منحصر بالتواتر ، كما صرّح به المفسّرون ، ولعلّه كان سهوا من القلم ؛ لأنّ هذا المعنى ممّا اتّفق عليه علماء المسلمين ، كما يستفاد من استدلالهم في موارد مختلفة ، مثل قول المالكيّة (١) : بأنّ «بسم الله» الذي ذكر في ابتداء السور ليس من القرآن ، فإنّه لم يثبت قرآنيّتها متواترا.

واجيبوا بثبوت قرآنيّتها متواترا ، ويشهد لذلك وجودها في جميع المصاحف المكتوبة في صدر الإسلام ، مع أنّهم لم يكتبوا شيئا سوى القرآن حتّى أسامي السور ، فهذا دليل على ثبوتها متواترا.

وقال السيوطي في كتاب الإتقان : إنّ فخر الدّين الرازي نقل عن بعض الكتب القديمة أنّ ابن مسعود اعتقد بأنّ فاتحة الكتاب وكذا المعوّذتين في آخر القرآن ليس من الكتاب. واستبعده السيوطي : بأنّه كيف يمكن إنكار ما ثبت بالتواتر مع أنّه يوجب الكفر؟! ولو قال بعدم اشتراط ثبوت القرآن بالتواتر فيوجب التزلزل في قرآنيّة القرآن ، فلا بدّ من توجيه كلامه أو تكذيب النسبة إليه ، فهذا دليل على أنّه لا بدّ من إثبات القرآنيّة بالتواتر.

وأمّا الدليل على شرطيّة التواتر فيه فلا يخفى أنّه ليس إلّا عبارة عن كلام الله ، فإنّ لنا مطالب أخر باسم الأحاديث القدسيّة الّتي تنسب إليه تعالى ، ومع ذلك لا يشترط في إثباتها التواتر ، ولا لأنّه معجزة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما هو المعلوم ، بل لخصوصيّة موجودة في نفس القرآن التي تقتضي انحصار طريق

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن : ٤٣٢ ـ ٤٤٨.

٢٣٩

إثباته بالتواتر ، وهو كونه أساسا للإسلام ، وكتاب هداية للناس من الضلالة ، ومعجزة باقية إلى يوم القيامة ، ولم يأت لبيان الأحكام خاصّة ، بل كان إتيانه لبيان جميع ما له دخل في سعادة الإنسان ، وهو الكتاب الذي قال الله تعالى في شأنه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١) ، وحيث كان شأنه كذلك فلا معنى لإثباته بخبر عادل ، بل لا بدّ فيه من التواتر ، فكان المسلمون يستبقون إلى حفظه من الابتداء ، وكذلك الكفّار الذين كانوا في أعلى درجة من الفصاحة والبلاغة يستبقون إلى حفظه لوهنه وإيراد الخدشة عليه ؛ إذ القرآن ناداهم بأعلى صوت بقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(٢) ، ولذا كانت الدواعي لحفظ القرآن وافرة ولم تصل النوبة إلى خبر الواحد حتّى يقال: إنّه يثبت به أم لا.

وقد أخطأ خطأ بيّنا من قال : بعدم جمع القرآن في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بل كان جمعه واتّصال الآيات بمعنى تأليف الكتاب وتنظيم السور في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومرتبطا بالوحي ، بل جمعه واتّصاله وارتباطه بالوحي ضروريّا ؛ إذ روي إتيان جبرئيل بكلّ آية آية من القرآن ، وقوله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ضعها في سورة كذا.

وأمّا الجمع الذي نسب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام أو أبي بكر أو عثمان فلا يرتبط بتأليف القرآن وتنظيم الآيات والسور ، فإنّ جمع مولى الموحّدين عليه‌السلام عبارة عن كتابة جميع خصوصيّات الآيات ، من تفسيرها وتبيين غوامضها وشأن نزولها وسائر ما له دخل بها ، مع رعاية نظمها وترتيبها ، كما فعل ذلك ابن مسعود

__________________

(١) الحجر : ٩.

(٢) البقرة : ٢٣.

٢٤٠