دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

بعنوان مادّة من المواد فلا يعقل تحقّق الصورة قبل تحقّق الركوع أو السجود ، حتّى على القول بالكشف ، فإذا تحقّقت جميع المواد لا يصحّ القول بأنّ هذا كاشف عن تحقّق الصورة قبل تحقّق المادّة.

وثانيا : بأنّ هذا المعنى مخالف لما ارتكز في ذهن المتشرّعة من أنّ الصلاة عبارة عن الشرائط والأجزاء الطوليّة.

وأمّا ما ذكرناه من المؤيّد له فيستفاد منه : أوّلا : أنّ الصلاة مركّبة من المقولات المتباينة والماهيّات المتضادّة ، ولكن مع ذلك لوحظت بين أجزائها وحدة اعتباريّة كما مرّ.

وثانيا : أنّ حين الاشتغال بها حرّم الله تعالى علينا امورا متعدّدة كالضحك والاستدبار ونحوهما ، فيكون وجود المحرّمات في حال الصلاة ولحاظ الوحدة الاعتباريّة مصحّحا للتعبير بأنّ الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم.

وإن أبيت عن ظهوره إلّا فيما قال به المرحوم البروجردي قدس‌سره قلنا : إنّ ما ارتكز في ذهن المتشرّعة ينفي هذا الظهور ، وتكون أيضا الوحدة الاعتباريّة الطوليّة مجوّزة للتعبير بأنّه شرع في الصلاة أو هو في الصلاة أو فرغ من الصلاة ، فلا يكون هذا البيان قابلا للمساعدة وإن كان مأنوسا بالذهن.

وقال استاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ (١) في مقام تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة : أمّا المختار فيتوقّف بيانه على تقديم مقدّمة وفيها امور :

منها : أنّ محطّ البحث للأعلام إنّما هو تصوير جامع كلّي قابل للانطباق على الأفراد المختلفة كيفا وكمّا ، فحينئذ مرتبة فرض الجامع متقدّمة على مرتبة عروض الصحّة والفساد عليه ؛ لما عرفت سابقا من أنّهما من عوارض وجود

__________________

(١) منهاج الوصول إلى علم الاصول ١ : ١٥٥ ، تهذيب الاصول ١ : ٧٥.

٢٨١

العبادات خارجا ، ولكنّ تصوير الجامع مربوط بمرحلة الماهيّة.

ومنها : أنّ الصحّة والفساد ليست بمعنى النقص والتمام ؛ لأنّ بينهما تقابل التضادّ ـ كما مر ـ فلا يكون الصحّة والفساد من الامور الإضافيّة بحيث يجوز أن تكون ماهيّة صحيحة من حيثيّة وفاسدة من اخرى ، كما صرّح به صاحب الكفاية قدس‌سره ؛ إذ يستحيل أن يكون المتضادّان ـ كالسواد والبياض ـ من الامور الإضافيّة كما هو المعلوم.

ومنها : أنّه مرّ أنّ الشرائط على أقسام ، وأنّ بعض ما هو من الشرائط ويكون دخيلا في اتّصاف الصلاة بالصحّة خارجا ، غير داخل في محطّ البحث والتسمية ؛ لما عرفت من أنّ البحث هنا يكون في المرتبة المتقدّمة على الوجود الخارجي ، وما يعرضه الصحّة والفساد. فعلى هذا لا مناصّ من الاعتراف بكون الموضوع له أمرا ينطبق على مقالة الأعمّي ؛ لما علمت من أنّ الماهيّة التي وضعت لها لفظة «الصلاة» إذا وجدت في الخارج مجرّدة عن تلك الشرائط التي عرفت خروجها عن الموضوع له تتّصف لا محالة بالفساد ، ولا يمكن اتّصافها بالصحّة في هذا الحال ، وهذا بعينه مقالة الأعمّي.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الألفاظ التي توضع للمركّبات الحقيقيّة أو الاعتباريّة تكون على أنحاء مختلفة ؛ إذ اللفظ الذي يوضع للمركّب تارة يلاحظ المركّب بمادّة معيّنة وهيئة مخصوصة ، بحيث لو تغيّرت الهيئة أو المادّة بزيادة أو نقيصة لم يكن الموضوع له للّفظ ، وإطلاق اللفظ عليه يكون على نحو المسامحة ، وتارة يلاحظ المركّب بمادّة معيّنة فقط ، وتارة يلاحظ المركّب بهيئة مخصوصة فقط ، وقد يوضع اللفظ للمركّب بدون لحاظ مادّة معيّنة وهيئة مخصوصة فيه ، بل لوحظ المركّب بنحو اللابشرط ، والملاك فيه ترتّب غرض

٢٨٢

خاصّ وأثر مخصوص بأيّ مادّة وهيئة حصلت ، وذلك مثل البيت والسيّارة وأمثال ذلك ، فإنّ البيت بيت سواء اخذت موادّه من الحجر أو الطين أو الجصّ أو الخزف ، بني على هيئة المربّع أو المثلّث أو غيرهما.

ثمّ قال : لا مانع عن القول بأنّ الصلاة وأضرابها موضوعة للمركّبات الاعتباريّة الشرعيّة التي لا تكون محدودة من حيث الهيئة والمادّة حتّى بصورة أنّه يقال : الصلاة ماهيّة إذا وجدت في الخارج لا تنطبق إلّا على الأفراد الصحيحة ؛ إذ قلنا بخروج بعض الشرائط الدخيلة في الصحّة عن الموضوع له ، فيصدق على الفرائض والنوافل قصرها وتمامها وما وجب على الصحيح والمريض بأقسامها.

ثمّ قال : ولكنّ هذا الجامع لا ينطبق على صلاة الغرقى ؛ إذ الغريق إذا لم يكن قادرا عليها إلّا بالتوجّه القلبي فكيف ينطبق عليه عنوان الصلاة؟! إلّا أنّه ليس بصلاة حقيقة ، وإطلاق لفظ الصلاة عليه يكون من باب المسامحة. والإشكال المهمّ الموجود في المقام هو : أنّ الشرائط الدخيلة في الموضوع له عند الصحيحي ـ كالطهارة ـ لا تكون قابلة للرؤية ؛ إذ لا دخل لنفس الشرائط فيه ، بل للتقيّد بها ومعيّتها دخل في الموضوع له ، فحينئذ بأيّ طريق نعلم واجدها من فاقدها مع أنّه لا فرق بين الواجد والفاقد من حيث التركيب الخارجي أصلا. هذا تمام كلامه ـ دام ظلّه ـ في المقام.

ومعلوم أنّ هذا الجامع بعد توجّه الإشكالين المذكورين في كلامه ـ دام ظلّه ـ عليه لا يكون قابلا للمساعدة كسائر الجوامع المذكورة في المقام.

والحاصل : أنّ تصوير الجامع على القول بالصحيح حسب ما ذكرنا من كلام صاحب الكفاية والأجلّاء من تلامذته يكون مخدوشا.

٢٨٣

ولكنّ التحقيق في المقام أنّه قد يكون الغرض من تصوير الجامع على القول بالصحيح إثبات القول بالصحّة ، كما هو الظاهر من كلام المحقّق الخراساني (١) فإنّه قال : لا بدّ على كلا القولين من قدر جامع في البين ، ولا إشكال في وجوده بين الأفراد الصحيحة ، وإمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره. وأمّا تصوير الجامع على القول بالأعمّ ففي غاية الإشكال ، ثمّ استفاد منه أنّ الحقّ مع الصحيحي ؛ إذ يمكن له تصوير الجامع بخلاف الأعمّي.

وجوابه : أوّلا : أنّه لا يمكن للصحيحي أيضا تصوير الجامع كما مرّ أن ذكرناه أكثر ممّا قيل في تصويره وجوابه مفصّلا.

وثانيا : أنّ المهمّ في هذا البحث بحث الحقيقة والمجاز ؛ إذ القائل بالحقيقة الشرعيّة يقول : إنّ الصلاة حقيقة في الصحيح ومجاز في الأعمّ ، أو حقيقة في الأعمّ ، فيكون تصوير الجامع أيضا من علائم الحقيقة كالتبادر ونحوه ، بأنّه إذا كان تصوير الجامع على القول بالصحيح ممكنا فالصلاة حقيقة في الصحيح ، وإذا كان تصوير الجامع على القول بالأعمّ ممكنا فهي حقيقة في الأعمّ ، مع أنّه لا دخل لتصوير الجامع وعدمه في تشخيص الحقيقة عن المجاز ، فتصوير الجامع لهذا الغرض لا فائدة فيه.

وأمّا إذا كان الدليل على القول بالصحيح التبادر وصحّة السلب عن الفاسد وأمثال ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، فلا نحتاج إلى تصوير الجامع والعلم به ولو من طريق الإشارة إليه بآثاره وخواصّه ، فإنّا نستكشف من ضمّ عموميّة الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات إلى أنّها لا تنطبق على الأفراد الفاسدة ، أنّ الجامع موجود ولاحظه الشارع حين الوضع ، ولا ضرورة تدعو

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٦ ـ ٤٢.

٢٨٤

إلى العلم بها أصلا.

ولو قيل : إنّ الجامع إذا كان مبهما فكيف ينسبق إلى الذهن ولا مناسبة بين إبهام الشيء وتبادره إلى الذهن كما لا يخفى؟!

قلت : لا مانع من ذلك ، فإنّا نرى كثيرا ما تبادر معنى في الذهن مع أنّ كنهه وحقيقته مبهم عندنا ، ومنها حقيقة الوجود ، فإنّها بكنهها غير معلومة عندنا ، مع أنّها من أظهر المعاني والمفاهيم كما هو المعلوم.

نعم ، لقائل أن يقول : إنّه لا يعقل تصوير الجامع على القول بالصحيح أصلا ، بل هو مستحيل ، كما أشار إليه صاحب الكفاية وأجاب عنه.

وتوضيح ذلك : أنّ الجامع إمّا أن يكون أمرا مركّبا أو أمرا بسيطا ، وكلاهما أمر غير معقول ، فإن كان الجامع أمرا مركّبا ذا أجزاء ففيه : أوّلا : أنّ كلّ ما فرض جامعا فله حالتان : أنّه إذا كان واجدا لجميع الأجزاء فيتّصف بالصحّة ، وإذا كان فاقدا لبعض الأجزاء فيتصف بالفساد.

وثانيا : أنّه يكون في حالة صحيحا وفي حالة فاسدا.

وإن كان الجامع أمرا بسيطا فهو إمّا أن يكون عنوان المطلوب أو ملزوما مساويا له ، والأوّل غير معقول ؛ لبداهة استحالة أخذ ما لا يتأتّى إلّا من قبل الطلب في متعلّقه ، مع استلزامه الترادف بين لفظة «الصلاة» والمطلوب ، وعدم جريان البراءة مع الشكّ في أجزاء العبادات وشرائطها ، والشكّ بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ؛ لعدم الإجمال حينئذ في المأمور به في العبادات ، وإنّما الإجمال والشكّ فيما يتحقّق به ـ أي في المحصّل ـ وفي مثله لا مجال للبراءة كما حقق في محلّه ، مع أنّ المشهور القائلين بالصحيح قائلون بها في الشكّ في أجزاء العبادات.

٢٨٥

والثاني أيضا غير معقول ؛ إذ لا بدّ لنا في مقام العمل من القطع بتحقّق عنوان ملازم للمطلوب ، ففي صورة الشكّ في جزئيّة السورة ـ مثلا ـ لا بدّ من القول بالاحتياط ؛ إذ هو شكّ في المحصّل ، مع أنّهم قائلون بالبراءة في الشكّ فيها.

وإذا لم يمكننا الجواب عن هذا الإشكال فهو أقوى شاهد على بطلان القول بالصحيح ، فلا مناص عن القول بالأعمّ ؛ إذ الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات كانا عامّين ، فلا بدّ لنا من الجامع ولو بصورة الإمكان.

ولكنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) قال في مقام الجواب عنه : إنّا نختار من الفروض الثلاثة الشقّ الأخير منها ، وهو كون الجامع أمرا بسيطا وملازما مساويا للمطلوب ، وفي صورة الشكّ في الأجزاء نقول بجريان البراءة أيضا.

بيان ذلك : أنّ مورد جريان أصالة الاشتغال هو صورة تعدّد وجود السبب والمسبّب وامتيازهما وجودا ، كالطهارة من الحدث فإنّها ـ بناء على كونها حالة نفسانيّة ـ مغايرة وجودا لأسبابها من الغسل والوضوء ونحوهما ، فإذا شكّ في دخل شيء جزء أو شرطا في أسباب الطهارة فمحصّلها تجري فيه أصالة الاشتغال.

وأمّا الجامع في المقام فيكون متّحدا مع المركّبات الخارجيّة وجودا ـ كاتّحاد الطبيعي مع أفراده ـ حيث لا وجود له إلّا بوجود أفراده ، فالشكّ في الأجزاء لا محالة يرجع إلى الشكّ في دخل شيء في نفس المأمور به ، فتجري فيه البراءة.

فالجامع هو مفهوم واحد بسيط ومتّحد مع الأفراد المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات. ومن هنا نرجع إلى ثمرة النزاع بين الصحيحي

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٦ ـ ٣٧.

٢٨٦

والأعمّي ، ولا نتعرّض لنقل الجوامع المذكورة في المقام على القول بالأعمّ ، فإنّه : أوّلا : أنّ ما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره في بحث الثمرة يرتبط بما نقلناه عنه آنفا في جواب القائل بالاستحالة.

وثانيا : أنّه لا فائدة في نقل الجوامع المتصوّرة على القول بالأعمّ ونقدها ؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون باطلا ـ كما قال به المحقّق الخراساني قدس‌سره فلا ثمرة في نقلها ـ وإمّا أن يكون صحيحا ، فما ذا يستفاد من تصوير الجامع بعد أن لم يكن صحّة تصوير الجامع دليلا لصحّة قول الأعمّي ، كما قلنا في تصوير الجامع على القول بالصحيح ، فلا فائدة في إطالة الكلام في هذا المقام.

ثمرة المسألة :

ذكروا لها عدّة ثمرات :

منها : أنّه بناء على الأعمّ لا بدّ من الرجوع إلى البراءة في مورد الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين إذا كان الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته للمأمور به ، وأمّا بناء على الصحيح فلا بدّ من الرجوع إلى الاشتغال في المورد المذكور.

ولكنّ الالتزام بهذه الثمرة يستلزم ألّا تكون مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين مسألة مستقلّة ، بل هي متفرّعة على مسألة الصحيح والأعمّ ، ولذا أورد عليها صاحب الكفاية بأنّه لا وجه لجعلها ثمرة البحث هنا ؛ إذ القول بالبراءة أو الاشتغال في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين لا يبتني على القول بالأعمّ أو الصحيح في هذه المسألة ، بل لا ربط بين المسألتين أصلا ، بحيث يجوز للصحيحي القول بالبراءة في تلك المسألة ، وللأعمّي القول بالاشتغال في تلك المسألة ، ولذا ذهب المشهور إلى البراءة مع ذهابهم إلى الصحيح ، فإنّ مورد البراءة غير مورد الاشتغال كما مرّ تفصيله.

٢٨٧

ولكنّ المحقّق النائيني قدس‌سره قال بترتّب هذه الثمرة على المسألة ، وأنّه لا بدّ للصحيحي من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، كما أنّه لا بدّ للأعمّي من الرجوع إلى البراءة ، فإنّ تصوير الجامع على القول بالصحيح لا يمكن إلّا بتقييد المسمّى ، إمّا من ناحية العلل والمصالح ـ مثل عنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر ونحوه من علل تشريع الصلاة ـ وإمّا من ناحية الآثار والمعلولات ، مثل قوله عليه‌السلام : «إن قبلت الصلاة قبل ما سواها». وحيث إنّ هذه العناوين خارجة عن المأتي به ، ومأخوذة في المأمور به ، وبناء على ذلك فالشكّ في اعتبار شيء جزءا أو شرطا لا محالة يوجب الشكّ في حصول العناوين المذكورة ، فيرجع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في المحصّل ، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال دون البراءة.

وكان لاستاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ (١) كلام آخر هاهنا. ومحصّله : أنّ الصحيحي إذا لم يمكن له تصوير الجامع إلّا بتقييد المسمّى بعنوان بسيط خاصّ إمّا من ناحية علل الأحكام ، أو من ناحية معلولاتها كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره فلا مناص له إلّا الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، كما أنّه للأعمّي لا مناص إلّا الرجوع إلى البراءة ، ولكن حسب ما قلنا في تصوير الجامع لا إلزام في اختيار قاعدة الاشتغال أصلا ، بل يجوز لنا القول بجريان أصالة البراءة.

توضيح ذلك : أنّه قد ذكرنا فيما تقدّم أنّ الجامع عبارة عن المركّب الاعتباري الشرعي الذي لا يكون محدودا من حيث الهيئة والمادّة ، إلّا أنّه يترتّب عليه غرض خاصّ وأثر مخصوص ، كالدار التي وضعت لمركّب كذا لغرض السكونة فيها من دون تقييده بمادّة خاصة وهيئة مخصوصة ، وحينئذ

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٧٨ ـ ٨١.

٢٨٨

إذا شكّ في جزئيّة شيء للمأمور به أو شرطيّته فلا مانع من جريان أصالة البراءة فيه عقلا ، ولا يرجع الشكّ هنا إلى الشكّ في محصّل المسمّى ؛ إذ ليس له وجود سوى وجود الأجزاء المحقّق في الخارج.

وبعبارة اخرى : كان المأمور به متّحدا مع المأتي به من حيث الوجود ، فيكون متعلّق الأمر تسعة أجزاء منه متيقّنة ـ مثلا ـ وأمّا الجزء العاشر منه فمشكوك ، وهو مورد جريان أصل البراءة.

ولكنّ الظاهر ـ على ما ذكره المحقّق الخراساني في مقام تصوير الجامع ـ عدم إمكان جريان البراءة وإن قلنا باتّحاد الجامع مع الأجزاء الخارجيّة من حيث الوجود وإمكان الإشارة إليه من طريق العلل والمصالح ؛ إذ المبنى للقائلين بالبراءة في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر هو عبارة عن انحلال العلم إلى المعلوم بالتفصيل والمشكوك ، بأنّ تعلّق الأمر بتسعة أجزاء ـ مثلا ـ مقطوع ، وتعلّقه بالسورة مشكوك ، فيجري في معلوم الجزئيّة حكم العلم وفي المشكوك حكم الشكّ ، وحكم الشكّ في التكليف هو جريان أصالة البراءة فيه.

ولكنّ المحقّق الخراساني بعد قوله بأنّ الجامع أمر بسيط ملازم للمطلوب لا يمكنه القول بالانحلال ؛ إذ لا معنى للانحلال في أمر بسيط ، بل مورده هو الأمر المركّب ، فالانحلال لا يناسب بساطة الجامع ؛ إذ هو فرع التركّب والتعدّد ، فلا بدّ له من الرجوع إلى الاشتغال.

والحاصل : أنّ جريان الاشتغال لا ينحصر بالشكّ في المحصّل والمحصّل وتعدّد الوجود بينهما ، بل لا بدّ له قدس‌سره أيضا من القول بالاشتغال بعد قوله بأنّ المأمور به أمر بسيط ؛ إذ المبنى للبراءة هو الانحلال ، ولا معنى له هنا كما قال به أيضا المحقّق النائيني قدس‌سره. هذا تمام كلامه دام ظلّه.

٢٨٩

ولكن الصحيح أنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره قائل بكون المأمور به أمرا بسيطا لازما مساويا للمطلوب ، وأنّه متّحد مع المأتي به الذي تركّب من مقولات متباينة ، فقد مرّ منه قدس‌سره : أنّ وجود الجامع ليس إلّا الوجود المركّب الخارجي ، بل كان تحقّقهما بوجود واحد ، إلّا أنّه يمكن أن يقال بعدم معقوليّة هذا المعنى بين المأمور به والمأتي به ، ولكنّ الظاهر أنّ هذا المعنى مسلّم عند المحقّق النائيني والإمام ـ دام ظلّه ـ ولذا لم يعترضا عليه من هذه الجهة. وإذا كان الأمر كذلك فلا مانع من تحقّق الانحلال هاهنا أيضا ؛ إذ لا فرق بين كون المسمّى أمرا مركّبا ، أو أمرا بسيطا متّحدا مع المركّب ، فيجري الانحلال فيهما معا كما هو المعلوم.

فالحقّ مع المحقّق الخراساني ، وترتّب هذه الثمرة على النزاع ليس بصحيح ، فلا يكون جريان البراءة أو الاشتغال في صورة الشكّ في الجزئيّة متفرّعا على القول بالصحيح أو الأعمّ هنا.

ومنها ـ أي الثمرة ـ : ما ذكره جماعة ـ منهم المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ وهو : أنّه لا يجوز التمسّك بالإطلاق أو العموم على القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيح ؛ لنفي جزئيّة شيء مشكوك أو شرطيّته ؛ لعدم إحراز المسمّى مع الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة ، ويجوز التمسّك به على القول بالأعمّ إذا لم يكن المشكوك محتمل الركنيّة ، فإنّ موضوع الخطاب عليه بعد تماميّة مقدّمات الحكمة محرز.

وتوضيح ذلك : أنّ التمسّك بالإطلاق يتوقّف على مقدّمات :

الاولى : كون المتكلّم في مقام البيان.

الثانية : عدم قدر متيقّن في مقام التخاطب مع تعلّق الحكم بالجامع القابل للانقسام إلى قسمين أو أقسام.

الثالثة : عدم نصب قرينة على التعيين.

٢٩٠

فإذا تحقّقت هذه المقدّمات يجوز للأعمّي التمسّك بالإطلاق لدفع كلّ ما احتمل دخله في المأمور به جزء أو شرطا ، فإنّه قائل بأنّ المأمور به عبارة عن الجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة ، فإذا احرز جزئيّة عدّة من الامور وشرطيّة عدّة اخرى وشكّ في جزئيّة السورة ـ مثلا ـ فلا مانع من التمسّك بالإطلاق ؛ لإثبات عدم جزئيتها ؛ لأنّه شكّ في اعتبار أمر زائد على صدق اللفظ.

نعم ، لو شكّ في كون الشيء ركنا للصلاة أم لم يكن فلا يجوز التمسّك بالإطلاق ؛ لأنّ الشكّ فيه يرجع حينئذ إلى الشكّ في صدق اللفظ ، ومعه لا يمكن التمسّك بالإطلاق كما لا يخفى.

وأمّا للصحيحي فلا يجوز التمسّك بالإطلاق في صورة الشكّ في جزئيّة شيء من الأشياء ، أو شرطيّة شيء بعنوان الدخل في المسمّى ؛ لأنّ المقدّمة الثانية على هذا القول مفقودة ؛ إذ الأمر عليه لم يرد إلّا على الواجد لتمام الأجزاء والشرائط ، فلو شكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته فلا محالة يرجع الشكّ إلى الشكّ في صدق اللفظ على الفاقد المشكوك فيه ؛ لاحتمال دخله في المسمّى ، فكيف يمكن التمسّك بالإطلاق ، مع أنّه كان التمسّك بالإطلاق متفرّعا على إحراز عنوان المطلق؟! فإذا شكّ في رقّيّة «زيد» وحرّيته لا يجوز التمسّك بإطلاق «اعتق رقبة».

نعم ، إذا شكّ في أخذ قيد الإيمان فيها بعد إحراز رقيّة «زيد» يجوز التمسّك به ، كما أنّه إذا شكّ في عالميّة «زيد» لا يجوز التمسّك بعموم «أكرم العلماء» ، بل يجوز التمسّك به في صورة الشكّ في إكرامه بعد إحراز عالميّته ، وإلّا يوجب التمسّك به في الصورة الاولى التمسّك بالعام ، أو المطلق في الشبهة المصداقيّة ،

٢٩١

وهو كما ترى. وهكذا في ما نحن فيه لو تمسّك الصحيحي في صورة الشكّ في جزئيّة السورة ـ مثلا ـ بإطلاق (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) لنفي جزئيّتها كان هذا من التمسّك بالدليل العامّ في الشبهة المصداقيّة ، فإنّه قائل بدخالة جميع الأجزاء وأكثر الشرائط في المسمّى ، ولا يصدق عنوان الصلاة على فاقد بعضها أصلا.

واورد على هذه الثمرة بأنّه لا فرق في جواز التمسّك بالإطلاق بين القول بالصحيح أو الأعمّ ، فإنّا نرى أنّ الصحيحي كالأعمّي يتمسّك به فيما إذا احتمل جزئيّة شيء أو شرطيّته زائدا على القدر المتيقّن ، ولذا يتمسّك الفقهاء قدس‌سرهم بإطلاق صحيحة حمّاد (١) ـ التي وردت في مقام بيان الأجزاء والشرائط ، حيث إنّ الإمام عليه‌السلام بيّن فيها جميع أجزاء الصلاة وشرائطها ما عدا الاستعاذة ـ على عدم وجوبها ، بلا فرق في ذلك بين الصحيحي والأعمّي.

وهو مدفوع بما ذكرنا بعنوان الملاك ؛ لعدم جواز التمسّك بالإطلاق على القول بالصحيح ، أعني كونه من التمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة الذي لم يقل به أحد ؛ إذ لا يمكن التمسّك بالإطلاق قبل إحراز عنوان المطلق ، فكيف يمكن للصحيحي التمسّك به إذا شكّ في جزئيّة الاستعاذة ـ مثلا ـ مع أنّ هذا الشكّ يرجع إلى الشكّ في صدق اللّفظ؟! وحينئذ لو رأينا في مورد تمسّكهم به فلا بدّ من توجيهه بنسيانهم مبناهم هنا ، وأمثال ذلك.

وأمّا الاستشهاد عليه بتمسّك الفقهاء ـ رضي الله عنهم ـ بإطلاق صحيحة حماد فهو خلط بين الإطلاق المقامي والإطلاق اللفظي ، مع أنّ الأوّل متقوّم بسكوت المتكلّم عن البيان حينما يورد الحكم على نفس الأجزاء والشرائط أو الأفراد ، والثاني متقوّم بإحراز صدق المطلق على المورد المشكوك ، وكلّ من

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٤٥٩ ، الباب ١ من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث ١.

٢٩٢

الإطلاقين أجنبيّ عن الآخر ، وجواز التمسّك بأحدهما لا يستلزم جواز التمسّك بالآخر.

والإطلاق في الصحيحة من قبيل الأوّل ، فإنّ الإمام عليه‌السلام كان في مقام بيان الأجزاء والشرائط ، فكلّ ما لم نبيّنه يستكشف منه عدم دخله في المأمور به ، والتمسّك به مشترك بين القائل بالصحيح والقائل بالأعمّ.

وأمّا الإطلاق اللّفظي الذي هو محلّ البحث فلا يجوز التمسّك به على القول بالصحيح دون الأعمّ.

هذا ، واورد عليها أيضا بأنّا سلّمنا إمكان التمسّك بالإطلاق للأعمّي دون الصحيحي ، ولكن إذا كان الإطلاق جامعا لشرائط التمسّك به ـ أي تماميّة مقدّمات الحكمة ـ ولا يخفى أنّ أدلّة العبادات جميعا في الكتاب والسنّة كانت مجملة ولم يرد شيء منها في مقام البيان ، فلا يجوز التمسّك بإطلاقها على كلا القولين ، فإنّها جميعا في مقام الجعل والتشريع ولم تنظر لها إلى خصوصيّاتها من الكمّيّة والكيفيّة.

واجيب عنه بأنّ ألفاظ العبادات وإن لم يرد شيء منها في مقام البيان وجميعها مجملة ، إلّا أنّ إمكان ترتّب هذه الثمرة يكفينا لكون المسألة اصوليّة ، فإنّ الملاك فيها إمكان وقوعها في طريق استنباط حكم فرعي كلّي لا فعليّته.

ولكنّ الظاهر أنّه ليس بتامّ ؛ إذ كيف يمكن أن تكون الكبرى الكلّيّة بعنوان الثمرة ولم تكن له الصغرى والمصداق أصلا؟! فلا فائدة في البحث بطولها مع كون ثمرتها بدون المصداق.

والحقّ في الجواب : أوّلا : بأنّ ألفاظ العبادات لا تنحصر بلفظ الصلاة ، بل جميعها حتّى ألفاظ العبادات التي كان وجوبها غيريّا داخلة في محلّ النزاع ، فيكون التتبّع الكامل ودقّة النظر والإحاطة بجميع ألفاظ العبادات للإنسان

٢٩٣

الواحد محالا عاديّا ، فهذا ادّعاء عظيم وغير معقول عند العقلاء.

وثانيا : بأنّ من الآيات الكريمة ما وردت في الكتاب وكانت في مقام البيان ، مثل آية الوضوء والتيمّم ، نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) ، ونحو قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)(٢) ، فإذا شكّ في جزئيّة شيء فيهما فلا مانع من التمسّك بإطلاق هذه الآيات ، وهكذا في آية الصوم كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(٣) ، فلو شككنا في اعتبار شيء غير ما ذكر في الآيات ـ كالكفّ عن الارتماس في الماء فيها ـ فلا مانع من التمسّك بإطلاقها على عدم اعتباره ، كما أنّه لا مانع من التمسّك بإطلاق (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) في باب المعاملات عند الشكّ في اعتبار شيء فيها.

هذا ، مضافا إلى ما في السنّة والأخبار من الروايات المطلقة الواردة في مقام البيان.

واورد على هذه الثمرة أيضا : أنّ الأعمّي كالصحيحي في عدم إمكان تمسّكهم بالإطلاق عند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته ، فإنّ النزاع بين الصحيحي والأعمّي إنّما هو في مقام التسمية والوضع ، وأمّا الثمرة المذكورة فإنّما هي مربوطة بمقام تعلّق الأمر والتكليف بالمأمور به ، فلا إشكال ولا خلاف في أنّ متعلّق الأمر هو عبارة عن الصلاة الصحيحة عند الصحيحي والأعمّي ؛ إذ الشارع لا يأمر بالصلاة الفاسدة ، ولا بما هو الجامع بينه وبين الصحيح قطعا.

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) البقرة : ١٨٣.

٢٩٤

والحاصل : أنّ في مرحلة النزاع بينهما لا محلّ للتمسّك بالإطلاق ، وفي مرحلة تحقّق الإطلاق لا نزاع بينهما في أنّ المأمور به هي الصلاة الصحيحة ، وفي هذه المرحلة لا يجوز التمسّك بالإطلاق على كلا القولين فلا ثمرة في البين.

وجوابه يحتاج إلى الدقّة والتأمّل ، فإنّ المأمور به على كلا القولين وإن كان هو الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط فلا فرق بينهما من هذه الناحية ، إلّا أنّ الاختلاف بينهما في أنّ صدق اللفظ على الفاقد لجزء المشكوك معلوم عند الأعمّي وغير معلوم عند الصحيحي.

توضيح ذلك : أنّ القائل بالصحيح يدّعي أنّ ماهيّة الصلاة ومفهومها ، ما في قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) عبارة عن معنى لا ينطبق إلّا على الأفراد الصحيحة والواجدة لجميع الأجزاء والشرائط ، فإذا شكّ في جزئيّة شيء ـ كالسورة للصلاة ـ فلا يجوز له التمسّك بإطلاق (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ؛ إذ الشكّ في الجزئيّة مساوق للشكّ في صدق عنوان الصلاة ، فلا معنى للتمسّك به في الشكّ في المصداق.

وأمّا القائل بالأعمّ فيدّعي أنّ لفظ «الصلاة» وضع للأعمّ من الصحيحة والفاسدة ، ولكنّ المراد من الصلاة في قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) هو الصلاة الصحيحة ، ولا يخفى أنّه لم يلتزم بمجازيّة استعمال ألفاظ العبادات في تلك الموارد ، بأنّ استعمال لفظ الموضوع للعامّ أو المطلق في الخاصّ أو المقيّد مجاز ، كما أنّه لم يلتزم أحد بحذف وصف الصحيحة في الموارد التي ذكر فيها كلمة الصلاة فإنّه ممّا لم يلتزم به العالم فضلا عن الفاضل ، بل الظاهر أنّ المتكلّم إذا قال : «اعتق رقبة» ثمّ قال : «لا تعتق الرقبة الكافرة» تحقّقت هنا إرادة استعماليّة وإرادة جدّيّة ، ولا شكّ في أنّ الإرادة الاستعماليّة تعلّقت بمطلق الرقبة بعنوان بيان حكم كلّي ، فإن لم يتحقّق دليل المقيّد كانت الإرادة الجدّيّة تابعة للإرادة

٢٩٥

الاستعماليّة ، وإنّ تحقّق فيوجب التضييق في دائرة الإرادة الجدّيّة ، ولا يوجب التجوّز أو التضييق في المطلق والإرادة الاستعماليّة ، كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره في باب العامّ والخاصّ.

فالصحيحي في مقام تصوير الجامع يقول : إنّ الصلاة وضعت للأركان ـ مثلا ـ فيكون معنى قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) أقيموا هذه الأركان الخمسة ، سواء تحقّقت بقية الأجزاء أم لا ، فهو مطلق من هذه الحيثيّة ، فإذا شكّ في جزئيّة شيء يتمسّك لنفيها بإطلاق (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) إذا لم يكن المشكوك محتمل الركنيّة ؛ إذ الصلاة الفاقدة للسورة ـ مثلا ـ بلحاظ واجديّتها للأركان يصدق عليها لفظ الصلاة قطعا. وبالنتيجة يحكم قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) بإتيان الأركان بلحاظ الإرادة الاستعماليّة ، وأمّا الأدلّة المقيّدة، مثل : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (١) ؛ و «لا صلاة إلّا بطهور» (٢) وأمثال ذلك ، فتوجب التقييد والتضييق في الإرادة الجدّيّة فقط ، ولا دليل على التمسّك لجزئية السورة بعدم اعتبارها بإطلاق (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، وهذا معنى كون المأمور به صحيح عند الأعمّي ، فيترتّب على البحث الصحيحي والأعمّي ثمرة مهمّة.

أدلّة القولين

إذا عرفت مقدّمات البحث وثمراته فلنبدأ في ذكر أدلّة القولين :

فقد استدلّ المحقّق الخراساني قدس‌سره (٣) للقول بالصحيح بوجوه : منها : التبادر ، وقال: «إنّ المنسبق إلى الأذهان من ألفاظ العبادات هو الصحيح ، ومعلوم أنّه

__________________

(١) المستدرك ٤ : ١٥٨ ، الباب ١ من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث ٥.

(٢) الوسائل ١ : ٣٦٥ ، الباب ١ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٣) كفاية الاصول ١ : ٤٣ ـ ٤٥.

٢٩٦

من علائم الحقيقة ، بل لعلّه كان علامة وحيدة لها».

ثمّ استشكل عليه بأنّه كيف تصحّ دعوى تبادر الصحيح من ألفاظ العبادات مع ما تقدّم في مقام تصوير الجامع على هذا القول من أنّ الجامع لا طريق للعلم به؟! إلّا أنّه قابل للإشارة إليه من طريق الآثار كالناهي عن الفحشاء وما هو معراج المؤمن وأمثال ذلك ، فالجمع بين تبادر الصحيح منها وبين عدم العلم بالجامع بعينه جمع بين المتناقضين لمنافاة التبادر مع إجمال المعنى.

وقال قدس‌سره في مقام الجواب عنه : إنّ المنافاة بينهما إنّما تتحقّق فيما إذا كان المجمل مجملا من جميع الجهات ، وأمّا إذا كان مجملا من جهة ومبيّنا من جهة اخرى ـ مثل منشئيّتها للآثار كالمعراجيّة وغيرها ـ فيكفي ذلك في صحّة دعوى التبادر. نعم ، يتوجّه هذا الإشكال إلى الأعمّي ، فإنّه لو ادّعى التبادر على مدّعاه بعد كون الجوامع المتصوّرة عندهم جميعا مخدوشة ، فيستشكل عليه بأنّ الجامع إذا لم يكن مبيّنا لا بالذات ولا بالآثار كيف يتبادر إلى الأذهان؟! هذا محصّل كلامه قدس‌سره.

ولكن أشكل عليه استاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ (١) وإشكاله يبتني على مقدّمتين :

الاولى : في أنّ الماهيّات في وعاء تقرّرها متقدّمة على الوجود ، ولا يكون وعاء تقررها في عرض تحقّق الوجود ، بل هي بعنوان الموصوف متقدّمة من حيث الرتبة على الوجود ، ويشهد له قولهم : بأنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي ، لا موجودة ولا معدومة ، يعني : لا ارتباط بينها وبين الوجود والعدم

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٨٢ ـ ٨٤.

٢٩٧

في وعاء تقرّرها ، بل الوجود والعدم يعرضان لها بعنوان الوصف. ولذا يقال : الماهيّة قد تكون موجودة وقد تكون معدومة ، أو يقال : الماهيّة موجودة ، ولا يقال : الوجود ماهيّة ، فالماهيّة متقدّمة على الوجود كتقدّم الجسم على الأعراض ، فكما أنّ لوازم الماهيّة متأخّرة عنها نحو تأخّر الزوجيّة عن الأربعة ، فكذلك الوجود متأخّر عنها ، بل تأخّره أظهر منه ؛ لأنّه قابل للانفكاك عنها بخلاف لوازمها ، وهكذا هي متقدّمة على لوازم الوجود بمرتبتين ؛ لتوسّط الوجود بينها وبين لوازم الوجود ، كما هو المعلوم.

المقدّمة الثانية : في أنّ الانتقال من شيء إلى شيء آخر يحتاج إلى العلّة والدليل ، فلا يمكن الانتقال إلى ماهيّة الإنسان من الحجر. نعم ، يصحّ الانتقال من ماهيّة الأربعة إلى لازمها ـ أي الزوجيّة ـ لشدّة الانس والارتباط بينهما ، وأمّا الانتقال من العلّة إلى المعلول أو بالعكس في برهان الإنّ واللمّ فهو مربوط بالوجود ، فإنّا نستكشف وجود المعلول من وجود العلّة أو بالعكس ؛ إذ المشكوك هو الوجود لا الماهيّة ، فالانتقال إلى الماهيّة يحتاج إلى الدليل ، ولا يخفى أنّ التبادر مربوط بعالم الماهيّة ، فإنّ ألفاظ العبادات كأسماء الأجناس وضعت للماهيات ، فلا دخل لها في عالم الوجود ، فنستكشف بواسطة التبادر ـ كمراجعة الكتب اللغويّة ـ أنّ الألفاظ لأيّ ماهيّة وضعت.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه لا شكّ في أنّ النهي عن الفحشاء ، والمعراجيّة وأمثالهما من لوازم الوجود الخارجي ، لا من آثار الماهيّة ، فكيف يمكن الانتقال من آثار الوجود الخارجي إلى الماهيّة مع تأخّرها عن الماهيّة الموضوع لها بمرتبتين؟! فلا معنى للانتقال من العرض المفارق ـ أي الوجود ـ إلى المعروض ـ أي الماهيّة ـ فضلا عن لوازم العرض ، فلا يعقل تبادر الماهيّة

٢٩٨

المجهولة بالذات وبالآثار من لفظ الصلاة ـ مثلا ـ.

ومن هنا يعرف حال صحّة السلب عن الفاسد أيضا ؛ إذ القول بأنّ الصلاة الفاسدة ليست بماهيّة الصلاة متوقّف على العلم بالماهيّة بوجه من الوجوه ، وإذا كانت الماهيّة مجهولة بالذات وبالآثار لتأخّرها بمرتبتين عن الماهيّة ـ كما مرّ آنفا ـ فلا يعقل سلب المجهول بما هو مجهول عن شيء ، بل هو مستحيل كما لا يخفى.

ثمّ قال : يمكن تصحيح دعوى التبادر وصحّة السلب إمكانا لا وقوعا ؛ إذ ليس كلّ ممكن بواقع ، وهو متوقّف على بيان مقدّمتين :

إحداهما : أنّ الغرض من الوضع ـ كما مرّ ـ عبارة عن التفهيم والتفهّم بسهولة ، فإنّ الإنسان بعد لحاظه أنّ إيفاء المقاصد من طريق الإشارة بالأعضاء مشكل بل مستحيل في بعض الموارد جعل الألفاظ علامة للمعاني لسهولة التفهيم والتفهّم بها ، وهذا أمر جعلي اعتباري.

ثانيهما : أنّ الواضع في مقام وضع اللفظ لمعنى كلّي لا ضرورة له أن يكون عالما بالموضوع له بجنسه وفصله وسائر الجهات ، كما أنّ الواضع للأعلام الشخصيّة ـ مثل الأب ـ لا يكون عالما بخصوصيّات جنس المولود وفصله وخلقه وحتّى خلقه أحيانا مع ذلك يضع لفظ «عليّ» ـ مثلا ـ لمولوده.

وكذلك في وضع أسماء الأجناس ، بلا فرق بينهما من هذه الحيثيّة ؛ إذ لا إشكال في قول الواضع ـ مثل يعرب بن قحطان ـ في مقام وضع كلمة الإنسان لوجود كذا : وضعت لفظ «الإنسان» لنفسي وأمثالي ، مع أنّه لا دليل لنا على علمه بجنسه وفصله ، إلّا أنّ واضع ألفاظ العبادات على تقدير ثبوت الحقيقة الشرعيّة هو الشارع ، ولا شكّ في أنّه عالم بماهيّة الموضوع له بتمامها وكمالها ،

٢٩٩

ولكن لا دخل لعلمه بالوضع أصلا.

ثمّ استفاد من هاتين المقدّمتين في ما نحن فيه ، وقال : كما أنّ في الوضع لا يلزم أن يكون الواضع واقفا وعالما بالموضوع له كذلك في التبادر لا يلزم أن يكون المعنى المتبادر معلوما بجنسه وفصله حتّى يتبادر إلى الأذهان ؛ إذ لا شكّ في أنّ العوام ينسبق إلى أذهانهم من كلمة «الإنسان» معنى مخصوص ، مع أنّهم لم يفهموا من الجنس أو الفصل شيئا ، فيمكن أن يكون الموضوع له لكلمة الصلاة ـ مثلا ـ أيضا غير معلوم بتمام جهاته للمتشرّعة ، ولكن يتبادر منها إلى أذهانهم معنى مخصوص ينافي معنى الصوم والزكاة وأمثال ذلك ، فلا يضرّ كون معنى الصلاة مبهما في ظرف التبادر ، وبذلك تندفع الاستحالة المذكورة ويصحّح دعوى تبادر الصحيح بحسب الإمكان العقلي ، إلّا أنّه لا دليل على وقوعه في الخارج كذلك ؛ لأنّ الصحيحي يدّعي تبادر معنى الصحيح من اللفظ وصحّة السلب عن الفاسد ، والأعمّي يدّعي تبادر الأعمّ منه ، وعدم صحّة السلب عن الفاسد ، ولكنّ الإنصاف والوجدان يحكم بخلافهما ، فكلّ منهما يحتاج إلى دليل آخر. انتهى.

الكلام في أدلّة القول بالصحيح

ومن الأدلّة التي استدلّ بها على كون ألفاظ العبادات أسام للصحيح طائفتان من الروايات :

الاولى : الأخبار المثبتة لبعض الآثار والخواصّ للمسمّيات ، مثل كون «الصلاة معراج المؤمن» ، و «الصوم جنّة من النار» إلى غير ذلك.

الثانية : الأخبار النافية للماهيّة والحقيقة في صورة فقدان بعض الأجزاء

٣٠٠