دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

١
٢

٣
٤

المقصد السادس

في بيان الأمارات

المعتبرة شرعا أو عقلا

ولا بدّ من صرف الكلام إلى

بيان بعضها في ضمن المسائل

٥
٦

المسألة الاولى

في مباحث القطع

قال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : المقصد السادس في بيان الأمارات المعتبرة شرعا ـ كحجّيّة خبر العادل ونحوه ـ أو عقلا ـ كحجّيّة الظنّ في حال الانسداد بناء على الحكومة ـ وقبل الخوض في ذلك لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من أحكام ، وإن كان خارجا عن مسائل الفنّ ، وكان أشبه بمسائل الكلام ؛ لشدّة مناسبته في المقام.

وأشار قدس‌سره إلى هذه المسألة بنحو من الإجمال ، بدون ذكر أيّ دليل لخروج أحكام القطع عن مسائل علم الاصول ، وشباهتها بمسائل الكلام ومناسبتها مع بحث الأمارات ، ويستفاد من كلامه قدس‌سره أنّ القطع ليس من مصاديق الأمارة ولا يطلق هذا العنوان عليه ، مع أنّه لا فرق بينه وبين خبر الواحد من حيث الأماريّة والكاشفيّة بحسب اللغة ، بل القطع أظهر مصاديق الأمارة.

ولا بدّ من توجيه كلامه قدس‌سره بأنّ الأمارة هنا ليست بالمعنى اللغوي بل تكون بالمعنى الاصطلاحي ، وهي في الاصطلاح تستعمل في مقابل القطع كاستعمالها في مقابل الاصول العمليّة.

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٤.

٧

ويستفاد دليل خروج مباحث القطع عن المسائل الاصوليّة ممّا ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) وهو : أنّ إطلاق الحجّة على القطع ليس كإطلاق الحجّة على الأمارات المعتبرة شرعا ؛ لأنّ الحجّة عبارة عن الوسط الذي به يحتجّ على ثبوت الأكبر للأصغر ، ويصير واسطة للقطع بثبوته له كالتغيّر لإثبات حدوث العالم ، فقولنا : «الظنّ حجّة» يراد به كونه واسطة لإثبات حكم متعلّقه ، فيقال : «هذا مظنون الخمريّة» و «كلّ مظنون الخمريّة يجب الاجتناب عنه» ، وهذا بخلاف القطع ؛ لأنّه إذا قطع بخمريّة شيء فيقال : «هذا خمر» و «كلّ خمر يجب الاجتناب عنه» ولا يقال : إنّ هذا معلوم الخمريّة وكلّ معلوم الخمريّة حكمه كذا ؛ لأنّ أحكام الخمر إنّما تثبت للخمر لا لما علم أنّه خمر.

والحاصل : أنّ كون القطع حجّة غير معقول ؛ لأنّ الحجّة ما يوجب القطع بالمطلوب ، فلا يطلق على نفس القطع. هذا تمام كلامه قدس‌سره.

وإذا لاحظنا صدر هذا الكلام بدون ذيله يكون قابلا للمناقشة ، فإنّ في مورد قيام البيّنة المعتبرة على خمريّة مائع لا يمكن الالتزام بأنّ كلّ ما قامت البيّنة على خمريّته فهو حرام ؛ إذ الخمر موضوع للحرمة ، لا مظنون الخمريّة ولا مقطوع الخمريّة ، وليس لنا دليل على جعل موضوع الحرمة فيه مظنون الخمريّة ، وبالتالي لا يصحّ هذا البيان.

مع أنّ الحجّة ليست المعنى الذي ذكره قدس‌سره ، أي ما جعل حدّا وسطا في القياس ، بل هي بمعنى ما يصحّ به الاحتجاج من ناحية المولى في مقابل العبد ، وبالعكس.

__________________

(١) الرسائل : ٢ ـ ٣.

٨

ولعلّه كان ذيل كلام الشيخ الأعظم قدس‌سره ناظرا إلى عدم انطباق ضابطة المسألة الاصوليّة على أحكام القطع ، وهي أنّ كلّ مسألة وقعت نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي فهي مسألة اصوليّة ، وإذا ثبت حجّيّة ظاهر الكتاب ـ مثلا ـ تكون نتيجتها إثبات وجوب صلاة الجمعة ـ مثلا ـ فإنّه ممّا دلّ عليه ظاهر الكتاب ، كقولنا : «وجوب صلاة الجمعة ممّا دلّ عليه ظاهر الكتاب» ـ أي الحجّة ـ و «كلّما دلّ عليه ظاهر الكتاب فهو واجب» فصلاة الجمعة واجبة.

والحاصل : أنّ المسألة الاصوليّة تقع في سلسلة علل استكشاف الحكم الفقهي ، وتكون مقدّمة وطريقا لاستكشافه ، وهذه الخصوصيّة لا تتحقّق في مسائل القطع ، فإنّ متعلّق القطع إمّا يكون نفس الحكم الفقهي كالقطع بوجوب صلاة الجمعة ـ مثلا ـ وإمّا يكون موضوعه وهو ملازم للقطع بحكمه ، فمع القطع بوجوب صلاة الجمعة وخمريّة المائع لا مجال لوقوعه في طريق استنباط الحكم الفرعي ، بل يبحث أنّ مخالفة هذا القطع يوجب استحقاق العقوبة أم لا؟ فمسألة القطع خارجة عن مسائل الفنّ ، والشاهد على ذلك عدم تعرّض القدماء لها في كتبهم الاصوليّة.

ولكنّ استاذنا المرحوم السيّد البروجردي قدس‌سره (١) كان مصرّا على أنّ مسائل القطع من المباحث الاصوليّة ، وحاصل كلامه قدس‌سره : أنّ موضوع علم الاصول عبارة عن الحجّة في الفقه ، وهي بمعنى ما يصحّ أن يحتجّ به المولى في مقابل العبد ، وبالعكس ، لا بمعنى الحجّة التي يبحث عنها في المنطق ، أي ما يطلق على القياس ، وموضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، أي بلا واسطة

__________________

(١) نهاية الاصول : ٣٩٤.

٩

في العروض ؛ بمعنى عدم احتياج حمل العرض على المعروض إلى المسامحة والتجوّز ، كما هو الحال في الواسطة في الثبوت ، ومع ذلك يكون قولنا : «ظاهر الكتاب حجّة» مسألة اصوليّة.

ولا يقال : إنّ الحجّة هنا جعلت المحمول لا الموضوع ، فإنّا نقول : إنّ معناه في الواقع أنّ الحجّة في الفقه كانت متعيّنة في ضمن ظاهر الكتاب أم لا؟ وهل تتّحد الحجّة في الفقه مع ظاهر الكتاب مثل اتّحاد الكلّي الطبيعي مع مصاديقه أم لا؟ فإذا كان ظاهر الكتاب حجّة بهذا التقريب من المسائل الاصوليّة تكون مسألة القطع أيضا كذلك ، فإنّ أوّل ما يبحث فيها أنّ القطع حجّة أم لا ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية ، وعدم تعرّض القدماء لها مستند إلى محدوديّة أحكام القطع ووضوحها.

والتحقيق : أنّ على فرض كون البحث عن تعيّن العوارض تحتاج جميع المسائل إلى القلب والانقلاب ؛ إذ لا بدّ من جعل الحجّة فيها موضوعا والموضوعات محمولا ؛ بأنّ الحجّة هل تتّحد مع القطع أو ظاهر الكتاب بحيث يكونان من مصاديق الحجّة أم لا؟ وهذا لا ينطبق مع العناوين المعنونة في علم الاصول ، فالقطع خارج عن مسائل علم الاصول ؛ لعدم انطباق الضابطة عليه ، كما يستفاد من كلام صاحب الكفاية في موارد متعدّدة.

وأمّا أشبهيّة بعض أحكام القطع بمسائل الكلام فهي مبتنية على كون تعريف علم الكلام عبارة عمّا يبحث فيه عن ذات الباري وصفاته وأفعاله ، وما يحسن أن يتحقّق منه وما يقبح أن يتحقّق عنه ولكن في محدودة الإسلام ؛ إذ يبحث في القطع عمّا يترتّب على فعل المقطوع به أو تركه من استحقاق الثواب والعقاب ، وأمّا على القول بكونه عبارة عمّا يبحث فيه عن عوارض

١٠

ذاتيّة الوجود بما هو هو في محدودة الإسلام فلا شباهة بينهما أصلا ، كما يستفاد من كلام استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره في حاشيته على الكفاية.

وأمّا المناسبة بين بعض مسائل القطع وبيان الأمارات المعتبرة فيتحقّق من جهات : منها : أنّ حجّية الأمارات منحصرة بغير القاطع ؛ إذ لا أثر للأمارة في مقابل القطع ، ومنها : أنّ البحث فيهما يدور مدار الحجّيّة بمعنى المنجّزيّة والمعذريّة.

قال الشيخ الأعظم الأنصاري (١) بعد الفراغ عن المقدّمة : فاعلم أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي ، فإمّا أن يحصل له الشكّ فيه أو القطع أو الظنّ.

ولا بدّ من البحث في هذه العبارة من جهتين :

الاولى : في نفس المقسم من حيث إنّ المقسم هل هو المكلّف أم لا؟ وأنّ المقصود منه خصوص المجتهد أو الأعمّ منه؟

الجهة الثانية : في التقسيم من حيث الثلاثيّة أو الثنائية ، وأشار صاحب الكفاية قدس‌سره إلى البحث عن الجهة الاولى في حاشيته على الرسائل (٢) بأنّ عنوان المكلّف ظاهر فيمن توجّه إليه التكليف بالفعل ، ولذا لا يشمل جميع الأقسام ؛ إذ التكليف بالنسبة إلى الشاكّ لا يكون فعليّا ؛ لأنّ الشكّ مانع عن فعليّة التكليف ، ولذا لا بدّ من العدول عن عبارة الشيخ قدس‌سره والقول بأنّ البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم واقعي أو ظاهري ؛ بمعنى خروجه عن محدودة رفع القلم ووروده في دائرة وضع القلم وإنشاء التكليف ، سواء كان التكليف بالنسبة إليه فعليّا أم لا.

__________________

(١) الرسائل : ٢.

(٢) حاشية الرسائل : ١.

١١

والتحقيق : أنّ هذا البيان ليس بصحيح ، فإنّ عنوان المكلّف وإن كان ظاهرا في المكلّف الفعلي ، ولكن ليس معناه فعليّة التكليف حتّى بالنسبة إلى هذه العناوين الثلاثة ، بل معناه أنّ بعد الورود في دائرة التكليف يصير بعض التكاليف بالنسبة إليه فعليّا لا جميع التكاليف ، ويتحقّق بالنسبة إلى البعض الآخر الحالات المذكورة.

وما هو المهمّ في البحث أنّ المكلّف هنا مختصّ بالمجتهد أو أعمّ منه ، ولا قرينة في كلام الشيخ قدس‌سره لتعيين أحدهما ، ويستفاد من عبارة صاحب الكفاية قدس‌سره اختصاصه بالمجتهد بلحاظ قوله : متعلّق به أو بمقلّديه ، كما قال به المحقّق النائيني قدس‌سره (١).

ومعلوم أنّ القطع حجّة سواء كان بالنسبة إلى الحكم أو الموضوع ، وإن كان مخالفا لنظر مقلّد القاطع ، فإنّ حجّيّة فتواه له تكون بعنوان الأمارة ، وقد عرفت أنّ العمل بها وظيفة غير القاطع ، وحجّيّة القطع أمر ذاتي وبديهيّ ولا يتوقّف على أمر المفتي ، كما أنّ أصل التقليد ومراجعة الجاهل بالعالم يكون كذلك ، فعموميّة دائرة القطع وشموله للمجتهد والمقلّد لا شكّ فيه ، وهكذا الاصول العمليّة والأمارات الجارية في الموضوعات ، مثل استصحاب نجاسة الثوب وقيام البيّنة على خمريّة مائع لا يرتبط بالمجتهد ، إلّا من جهة قوله بحجّيّة الاستصحاب والأمارة.

إنّما الإشكال في الأمارات الدالّة على أصل الحكم والاصول العمليّة الجارية في الشبهات الحكميّة ، والمحقّق النائيني قدس‌سره قائل بعدم ارتباطها بالمقلّد العامّي ؛ لعدم اطّلاعه بقيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ـ مثلا ـ وعدم

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٦.

١٢

علمه بحجّيّة الخبر الواحد ـ مثلا ـ بعد اختلاف العلماء فيها ، واختلاف القائلين بالحجّيّة بأنّ خبر العادل حجّة أو الثقة ، أو موثوق به ، وعدم علمه بالخبر المعارض ، وتشخيصه عن غير المعارض ، مع أنّه لا بدّ في جريان الاصول العمليّة في الشبهات الحكميّة من الفحص عن الدليل واليأس عن الظفر به ، فلا محالة يكون المكلّف المقسم عبارة عن المجتهد.

وأنكره المحقّق العراقي قدس‌سره (١) بأنّ المجتهد إذا انتهى نظره بحسب الروايات بأنّ الماء الكرّ إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة يصير نجسا ، ولكنّه لاحظ خارجا أنّ الماء المذكور زال تغيّره من قبل نفسه بعد مدّة ، فهو حينئذ صار شاكّا ببقاء نجاسته وعدمه ، فإن كان قائلا بحجّيّة الاستصحاب يجري الاستصحاب ويحكم بنجاسته.

وأمّا المقلّد في أصل الحكم بالنجاسة يقول به حسب فتوى المجتهد ، ولكنّه بعد زوال تغيّر الماء من قبل نفسه أيضا يشكّ في بقاء النجاسة ثمّ يرجع إلى المجتهد ويسأل منه بأنّ هذا هل وقع مورد تعرّض الروايات نفيا أو إثباتا أم لا؟ ويقول المجتهد بعدم تعرّضها له وكونه مشكوكا عنده ، وحينئذ يجري الاستصحاب نيابة عن المقلّد ، فلا دليل لاختصاص جريان «لا تنقض اليقين بالشكّ» في الشبهات الحكميّة بالمجتهد ، فالمكلّف المقسم لا يختصّ بالمجتهد ، بل يعمّ المجتهد والعامّي معا.

والتحقيق : أنّ التفكيك بين المراحل الثلاثة ـ أي مرحلة نجاسة الماء بالتغيّر ، ومرحلة المشكوكيّة بزوال التغيّر ، ومرحلة جريان الاستصحاب ـ من حيث الرجوع إلى المجتهد ليس بصحيح ، وهذا أمر بديهيّ ، مع أنّ السيرة العملية

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣.

١٣

للمتشرّعة في الرجوع إلى المجتهد ليس كما ذكره ؛ إذ المقلّد يراجع الرسالة العمليّة التي ذكر فيها خلاصة الأحكام والنتائج ، مع أنّ النيابة أمر مخالف للقاعدة ويحتاج إلى الدليل ، ولا يتحقّق هنا دليل ، فلا بدّ من القول باختصاص المقسم بالمجتهد ؛ إذ القطع وإن كان حجّة للقاطع ، ولكنّه خارج عن مسائل علم الاصول ، وتعميمه للمقلّد والمجتهد لا يقتضي تعميم ما هو من الاصول ـ أي تعميم المقسم لهما ـ بعد أنّ التقسيم يكون بلحاظ الاصوليّة.

وهكذا في جريان الأمارات والاصول العمليّة في الشبهات الموضوعيّة ، وإن كان الشاكّ هو المقلّد ـ مثلا ـ ولكن لا بدّ من بيان حكم الشكّ من ناحية المجتهد ، مثل : الحكم بجريان الاستصحاب عند الشكّ في البقاء ، وجريان أصالة البراءة في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة ، ونحو ذلك ، فإنّ جميعها من شأن المجتهد.

والمهمّ هنا البحث في الجهة الثانية ، وقد عرفت من الشيخ الأعظم قدس‌سره التقسيم الثلاثي ، وأنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعيّ فإمّا أن يحصل له الشكّ فيه أو القطع أو الظنّ ، والظاهر منها الشكّ الشخصي والقطع والظنّ الشخصيّين.

واشكل عليه : أوّلا : بأنّ الظنّ الشخصي إذا لم يكن معتبرا ـ مثل حصوله من طريق الشهرة الفتوائيّة ـ فهو في حكم الشكّ ومجرى الاصول العمليّة. وهذا الإشكال وارد عليه ؛ لعدم تقييده بالظنّ الشخصي المعتبر.

وثانيا : أنّ الأمارة المعتبرة قد تقوم عند المجتهد ولم يحصل له القطع ولا الظنّ الشخصي ، مع أنّه لا بدّ له من الحكم بمفاده ؛ إذ لا ضرورة لإفادة الخبر الواحد الصحيح السند للظنّ الشخصي ، فيرد على هذا التقسيم إشكال التداخل والاختلاط.

١٤

وقال المحقّق النائيني قدس‌سره (١) في مقام الدفاع عنه : إنّ بيانه قدس‌سره هنا بيان تمهيدي ولتوجيه الأذهان إلى التقسيم إجمالا ، وبيان المسائل بالتفصيل في محلّه ، ولا تكون للعناوين المذكورة خصوصيّة عنده.

ولكنّه ليس بتامّ ؛ إذ التقسيم في أوّل الكتاب يكون بمنزلة الأساس للبحث ، ولا بدّ من ملاحظة جميع خصوصيّاته.

ولا يخفى أنّ الملتفت إليه في كلام الشيخ قدس‌سره هو الحكم الواقعي وإن لم يقيّده به ولكن يتحقّق في العبارة ما هو شاهد عليه ، وهو أنّ مجرى الاصول العمليّة هو الشكّ في الحكم الواقعي ، فإنّ بعد جريانها واستفادة الحكم الظاهري منها لا يبقى شكّ في البين ، ومعلوم أنّ الحكم الواقعي هو الذي يصلح لتعلّق الشكّ به بخلاف الحكم الظاهري.

ولكنّ الملتفت إليه عند صاحب الكفاية قدس‌سره أعمّ من الحكم الواقعي والظاهري ، ولذا عدل من التقسيم الثلاثي إلى الثنائي ، وقال : إنّ البالغ الذي وضع عليه قلم التكليف إذا التفت إلى حكم شرعي ـ سواء كان واقعيّا أم ظاهريّا ـ فإمّا أن يحصل له القطع بذلك الحكم أو لا ، ويدخل الحكم المستفاد من الأمارات والاصول الشرعيّة حتّى الظنّ الانسدادي على القول بالكشف في الحكم الذي يقطع به ، وإن لم يحصل له القطع به فلا بدّ من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من اتّباع الظنّ لو حصل له ، وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقدير الحكومة ، وإلّا فالرجوع إلى الاصول العقليّة من البراءة والاشتغال والتخيير على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٤.

١٥

وأشكل عليه الإمام قدس‌سره (١) : أوّلا بأنّ خروج الظنّ الانسدادي على الحكومة عن دائرة القطع ليس بتامّ ؛ إذ لو كان مراده من القطع العلم التفصيلي فلا يبقى مجال للبحث عن العلم الإجمالي في مبحث القطع ، وإن كان مراده منه الأعمّ من العلم التفصيلي والإجمالي فلا يصحّ عدّ الظنّ الانسدادي من القسم الثاني ، فإنّ أساس دليل الانسداد هو العلم الإجمالي.

وثانيا : أنّ الأولى من كلامه جعل الملتفت إليه عنوان الوظيفة حتّى لا يبقى مجال للتقسيم ؛ إذ المجتهد قاطع بالوظيفة دائما حتّى في مورد جريان الاصول العقليّة كالبراءة والتخيير.

ويرد عليه إشكال آخر ، هو : أنّه يستفاد من كلامه قدس‌سره في بحث الظنون الخاصّة أنّ الشارع في باب الأمارات لا يعمل عملا سوى جعل الحجّيّة لها بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة ، ولا يكون فيها من جعل الحكم الظاهري أثر ولا خبر ، إلّا في مورد جريان أصالة الطهارة والحلّيّة والاستصحاب على القول بجعل الحكم المماثل ، وفي مورد أصالة البراءة لا يكون سوى رفع الحكم حسب حديث الرفع ، فكيف يمكن أن يكون الملتفت إليه أعمّ من الحكم الواقعي والظاهري؟!

ثمّ قال صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) : وإن أبيت التقسيم إلّا عن كونه ثلاثيّا ، فالأولى أن يقال : إنّ المكلّف إمّا أن يحصل له القطع أو لا ، وعلى الثاني إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا ؛ لئلّا يتداخل الأقسام فيما يذكر لها من الأحكام ، ومرجعه على الأخير إلى القواعد المقرّرة عقلا أو نقلا لغير القاطع ومن يقوم

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٧.

(٢) كفاية الاصول ٢ : ٥.

١٦

عنده الطريق.

والملتفت إليه عنده على هذا التقسيم هو الحكم الواقعي ، والترتيب بين الحالات والطوليّة أيضا ملحوظ عنده كما يدلّ عليه ظاهر كلامه ، وعلى هذا يرد عليه أنّ المقصود من الطريق المعتبر هل هو الطريق المعتبر الشرعي أو الأعمّ منه ومن الطريق المعتبر العقلي ، وعلى الأوّل لا يشمل الأقسام للظنّ الانسدادي على الحكومة ؛ إذ هو ليس بقطع ولا من الطريق المعتبر الشرعي ، ولا من الاصول العمليّة.

إن قلت : إنّه داخل في دائرة القطع والعلم الإجمالي.

قلت : إنّ بعد فرض الترتّب والطوليّة في التقسيم يكون معناه تقدّم الظنّ الانسدادي على نحو الحكومة على الطرق والأمارات الشرعيّة والاصول العمليّة الشرعيّة ، مع أنّه قدس‌سره صرّح في التقسيم الثنائي بتأخّر رتبة الظنّ الانسدادي عنها.

وعلى الثاني يدخل الظنّ الانسدادي في القسم الثاني ، ولازم ذلك تقدّمه على الاصول الشرعيّة من الاستصحاب وأصالة الطهارة وأصالة الحلّية ، مع أنّه ليس كذلك كما صرّح في التقسيم الثنائي بتقدّم الاصول الشرعيّة التي تكون من القطع عليه ، فلا يصحّ تثليث الأقسام بهذه الكيفيّة.

ويصحّ تثليث الأقسام بعد كون الملتفت إليه هو الحكم الواقعي بعد حفظ أمرين :

الأوّل : أن يكون المراد من الطريق المعتبر هو خصوص الطريق المعتبر الشرعي.

الثاني : أن لا يلاحظ الترتّب والطوليّة بين الأقسام في التقسيم ، فإنّه لا يتقوّم

١٧

عليه ، كما أنّه لا يتحقّق في التقسيمات مثل : الحيوان إمّا ناطق وإمّا غير ناطق ، والإنسان إمّا أبيض وإمّا أسود ، ونحو ذلك ، فنقول : المكلّف إمّا يحصل له القطع بالحكم ، وإمّا يقوم عنده طريق معتبر ، وإمّا يكون مرجعه الاصول العمليّة عند الشكّ في الحكم ، وهذا التقسيم خال من الإشكال ، كما ذكره المحقّق الحائري قدس‌سره إجمالا.

إذا عرفت ذلك فلنشرع في أحكام القطع وأقسامه ومسائله ، قال الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) : «لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجودا ؛ لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع ، وليس طريقيّته قابلة لجعل الشارع إثباتا أو نفيا».

ولا بدّ قبل الخوض في البحث من ملاحظة العناوين المربوطة بالمسألة مثل : عنوان وجوب متابعة القطع ، وعنوان حجّيّته بمعنى المنجّزيّة عند إصابة الواقع ، والمعذّريّة عند عدم إصابة الواقع ، وعنوان طريقيّته وكاشفيّته ، من حيث كونهما ذاتيّتين له أو مجعولتين.

والظاهر من وجوب المتابعة في كلام الشيخ قدس‌سره هو الوجوب واللزوم الشرعي ، ولا بدّ هنا من التأمّل والدقّة ، بأنّ القطع من صفات ذات الإضافة وقائم بنفس الإنسان ، كما أنّ الشكّ والظنّ يكون كذلك ، ومعلوم أنّ مراد الشيخ قدس‌سره ليس لزوم متابعة القطع من حيث إنّه صفة نفسانيّة وقائم بالنفس ، بل مراده أنّ متعلّق القطع لازم المتابعة ، فالقاطع بوجوب صلاة الجمعة يلزمه إتيانها في الخارج ، كما هو الظاهر من كلامه ، وعلى هذا لا يصحّ أن يكون المراد من لزوم المتابعة اللزوم الشرعي ؛ إذ لا يتحقّق هنا حكمان وجوبيّان حتّى

__________________

(١) الرسائل : ٢.

١٨

يكون أحدهما متعلّقا بصلاة الجمعة والآخر متعلّقا بمتابعته ليترتّب على مخالفة القطع عقابان، فلا محالة يكون اللزوم هنا لزوما عقليّا ، ولا يرتبط بالشرع.

وأمّا عنوان الحجّيّة فيكون بمعنى المنجّزيّة في صورة مطابقة القطع للواقع ، والمعذّريّة في صورة مخالفته له. وقد مرّ عن صاحب الكفاية أنّ للحكم أربعة مراحل : ١ ـ الاقتضاء. ٢ ـ الإنشاء. ٣ ـ الفعليّة. ٤ ـ التنجّز. يعني استحقاق العقوبة على مخالفته ، وقلنا : إنّ التنجّز ليس من مراحل الحكم ، بل هو من آثاره ؛ بأنّ القطع إذا تعلّق بوجوب صلاة الجمعة وكانت في الواقع أيضا كذلك يحكم العقل بترتّب استحقاق العقوبة على مخالفته ، وهكذا في المعذّريّة. ولا يخفى أنّ إسناد المنجّزيّة والمعذّريّة إلى القطع لا يخلو عن مسامحة وتجوّز ، فإنّ بحسب الواقع إيصال التكليف إلى المكلّف وعدم إيصاله إليه يكون منجّزا ومعذّرا.

وأمّا عنوان كاشفيّة القطع عن الواقع وطريقيّته إليه فهو كما يستفاد من ظاهر كلام صاحب الكفاية قدس‌سره وصريح كلام النائيني قدس‌سره (١) يكون من لوازم ذات القطع كزوجيّة الأربعة ، فكما أنّ الزوجيّة تكون من لازم ماهيّة الأربعة كذلك الكاشفيّة والطريقيّة تكون من لازم ماهيّة القطع ، ولا يمكن الانفكاك بينهما ، ولا يكون ذلك بجعل جاعل ؛ لعدم إمكان الجعل التكويني التأليفي حقيقة بين الشيء ولوازمه ، فإنّه يتصوّر في المحمولات المفارقة ، كالقائم والعادل المحمولين على زيد ـ مثلا ـ وأمّا جعل اللازم فيكون بالعرض والمجاز ، وبتبع جعل الشيء الملزوم بسيطا ، أي إيجاده بمفاد «كان» التامّة لا بمفاد «كان» الناقصة.

والتحقيق : أنّ الكاشفيّة والطريقيّة لا تكون لازم ماهيّة القطع ، فإنّا نرى

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٦.

١٩

الانفكاك بينهما أحيانا ، مثل : تعلّق القطع بوجود ما لا واقعيّة له ، فكيف يمكن أن يكون القطع هنا طريقا إلى الواقع وكاشفا عنه؟!

وإذا قيل : إنّ كاشفيّة القطع وطريقيّته تكون بحسب اعتقاد القاطع ، وهو بنظره لا يرى إلّا الواقع.

قلنا : إنّ هذا دليل للفرق بين مسألة كاشفيّة القطع ومسألة لازم الماهيّة ، فإنّ الزوجيّة ـ مثلا ـ من لازم ماهيّة الأربعة في كلّ وعاء وعند جميع الأنظار والأشخاص ، ولا يتصوّر الانفكاك بينهما ، فلا تكون كاشفيّة القطع قابلة للمقايسة معها.

ولكنّك قد لاحظت في المنطق تعريف العلم بأنّه إن كان إذعانا للنسبة فتصديق ، وإلّا فتصوّر ، أي كما أنّ التصديق علم كذلك التصوّر علم ، وقد عرفت مرارا أنّ في مورد تحقّق العلم يتحقّق معلومان : أحدهما معلوم بالذات وهو الصورة الحاصلة عند النفس ، والآخر معلوم بالعرض وهو الموجود الخارجي.

ولا يتحقّق في العلم والقطع معلوم بالعرض في بعض الموارد بحسب الواقع ، كما إذا كان القطع بمجيء زيد من السفر مخالفا للواقع مع وجود العلم والمعلوم بالذات ، فإن كانت كاشفيّة القطع وطريقيّته بالنسبة إلى معلوم بالعرض فلا يصحّ المقايسة بينها وبين لازم الماهيّة ؛ لتحقّق الانفكاك بينهما كما عرفت ، وإن كانت الكاشفيّة والطريقيّة بالنسبة إلى معلوم بالذات فتصحّ المقايسة بينهما ؛ إذ لا يمكن الانفكاك بين القطع والمعلوم بالذات.

ويؤيّده ما صرّح به المحقّق النائيني قدس‌سره بعد المقايسة بينهما بقوله : بل بوجه يصحّ أن يقال : إنّها عين القطع. ويستفاد منه جعله قدس‌سره ملاك الكاشفيّة عبارة

٢٠