دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

الألفاظ والمعاني لكان تخصيص الواضع لفظا مخصوصا لكلّ معنى بلا مرجّح ، وهو محال كالترجح بلا مرجّح ، أي وجود حادث من دون سبب وعلّة.

وفيه : أوّلا : أنّ المحال هو الثاني دون الأوّل ؛ إذ لا إشكال في اختيارنا أحد أواني الماء ، مع أنّه ترجيح من غير مرجّح ، بل لا قبح فيه فضلا عن الاستحالة.

وثانيا : سلّمنا امتناع الترجيح بلا مرجّح ، إلّا أنّ المرجّح غير منحصر بالمناسبة المذكورة ، بل يكفي فيه وجود مرجّح ما كسهولة أداء اللفظ أو حسن تركيبه أو غير ذلك وإن كان أمرا اتّفاقيّا ؛ ضرورة أنّ العبرة إنّما هي بما لا يلزم معه الترجيح بلا مرجّح ، سواء كان ذاتيّا أو اتّفاقيّا ، فلا يكون الارتباط بين اللفظ والمعنى ارتباطا ذاتيّا.

إذا عرفت أنّ دلالة الألفاظ على المعاني لا تكون ذاتيّة ، بل تحتاج إلى وضع الواضع ، فنقول : إنّ العلماء اختلفوا من قديم الأيّام في أنّ الواضع هل هو الله تعالى أو البشر؟ وعلى الثاني هل هو واحد أو متعدّد؟ وأكثر علماء العامّة والمحقّق النائيني قائلون بأنّ الواضع هو الله تعالى ، ويستفاد من كلمات القائلين بهذا القول نوعان من الأدلّة ، يكون لأحدهما لسان الإثبات ، وللآخر لسان نفي الوضع من البشر ، والمهمّ من الأدلّة الإثباتيّة دليلان :

الأوّل : قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)(١).

وتقريب الاستدلال : أنّ لازم تعليم الأسماء سبق الوضع عليه ؛ إذ لا معنى للأسماء والمسمّيات قبل تحقّق الوضع ، وإذا استفيد تقدّم الوضع على التعليم فلا بدّ من تحقّق الوضع لجميع الأشياء قبل خلقة البشر بواسطة الله تعالى.

__________________

(١) البقرة : ٣١.

١٠١

وفيه : أنّ تفسير الآية بهذه السهولة غير صحيح ؛ إذ ذكر بعدها ضمير الجمع الذي يرجع إلى ذوي العقول ، وهو قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١) وإن كان تفسير الآية عند المفسّرين محلّ خلاف ، ولكن هذا المعنى ليس بمراد عندهم ، ويحتمل قويّا أن يكون المراد أسامي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام.

والثاني : قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ)(٢).

وتقريب الاستدلال بأنّ جعله تعالى اختلاف الألسنة من آياته دليل على أنّ الواضع هو الله تعالى ؛ إذ لو كان الواضع هو البشر فكيف يكون من آياته تعالى؟! مع أنّ عطف الألوان على الألسنة أقوى شاهد على أنّ اختلاف الألسنة مربوط به تعالى كاختلاف الألوان.

وفيه : أنّه إذا قلنا بأنّ واضع اللغات هو البشر ـ مثلا : المعروف عند العلماء أنّ واضع لغة العرب هو يعرب بن قحطان ـ مع أنّ البشر عين الربط لا وجود له سوى الربط وفانٍ في الله ، فكان أيضا من آياته تعالى. هذا تمام الكلام في النوع الأوّل من الأدلّة.

وأمّا النوع الثاني من الأدلّة فيستفاد من كلام المحقّق النائيني قدس‌سره (٣) دليلان :

أحدهما : أنّ الوضع مع أنّه من أهمّ مسائل البشر على وجه يتوقّف عليه حفظ نظامهم ؛ إذ التفهيم والتفهّم بينهم يكون بواسطة اللسان ، ولكن لا يعرف أنّهم عقدوا مجلسا لوضع الألفاظ.

__________________

(١) البقرة : ٣١.

(٢) الروم : ٢٢.

(٣) فوائد الاصول ١ : ٣٠.

١٠٢

وثانيهما : أنّ الألفاظ والمعاني غير متناهية ؛ إذ اللفظ يتركّب من الحروف ، وكلّما تركّب على كيفيّة تتصوّر فيه كيفيّة اخرى ، والمعاني أيضا كذلك ؛ إذ المعاني الممتنعة والواجبة أيضا تحتاج إلى وضع الألفاظ لها ، فكيف يمكن للبشر المتناهي وضع الألفاظ الغير المتناهيّة للمعاني كذلك؟! فلا بدّ من انتهاء الوضع إليه تعالى ، وهو على كلّ شيء قدير.

ثمّ ذكر تأييدا لهذا بأنّه لو سلّم إمكان ذلك للبشر فتبليغ ذلك التعهّد وإيصاله إلى عامّة البشر دفعة محال عادة.

ودعوى أنّ التبليغ والإيصال يكون تدريجا ممّا لا ينفع ؛ لأنّ الحاجة إلى تأدية المقاصد بالألفاظ ضروريّة للبشر على وجه يتوقّف عليه حفظ نظامهم ، فيسأل عن كيفيّة تأدية مقاصدهم قبل وصول ذلك التعهّد إليهم ، بل يسأل عن الخلق الأوّل كيف كانوا يبرزون مقاصدهم بالألفاظ ، مع أنّه لم يكن بعد وضع وتعهّد من أحد؟ وكيف كلّم يعرب بن قحطان ـ مثلا ـ الحاضرين لمجلس الوضع؟ إذ المفروض أنّهم لا يعلمون بوضع الألفاظ للمعاني ، فالواضع هو الله تعالى ، ولكن ليس وضعه تعالى للألفاظ كوضعه للأحكام على متعلّقاتها وضعا تشريعيّا ، ولا كوضعه الكائنات وضعا تكوينيّا ، فإنّ ذلك ممّا نقطع بخلافه ، بل المراد من كونه تعالى واضعا أنّ حكمته البالغة لمّا اقتضت تكلّم البشر بإبراز مقاصدهم بالألفاظ فلا بدّ من انتهاء كشف الألفاظ لمعانيها إليه تعالى شأنه بوجه ، إمّا بوحي منه إلى نبيّ من أنبيائه ، أو بإلهام منه إلى البشر ، أو بإيداع ذلك في طباعهم ، بحيث صاروا يتكلّمون ويبرزون المقاصد بالألفاظ بحسب فطرتهم حسب ما أودعه الله في طباعهم ، فدعوى أنّ مثل يعرب بن قحطان أو غيره هو الواضع ممّا لا سبيل إليه ؛ لما عرفت من عدم إمكان إحاطة البشر

١٠٣

بذلك.

أقول : للتأمّل في هذا المقال مجال من جهات مختلفة :

الأوّل : أنّه لو قلنا بأنّ الواضع هو الله تعالى وينتقل هذا إلى الناس بواسطة وحي إلى الأنبياء فإنّه كاشف عن أهمّيّة مسألة الوضع ، فلا بدّ من تصدّي التواريخ أو أحد الكتب السماويّة لضبطه ولو بصورة قصّة من قصص الأنبياء السالفة ، مع أنّه لم تذكر هذه المسألة في أيّ عصر وزمان ولم يرد في من تصدّى لها خبر ولا أثر.

الثاني : أنّ دعوى انتقال الوضع من الله تعالى إلى الناس بصورة الإلهام أو إيداع ذلك في طباعهم مدفوع ، بأنّ المراد من الإلهام أو الإيداع هل هو الإلهام أو الإيداع إلى كلّ النفوس إلى يوم القيامة ، أو إلى عدّة من الناس في أوّل الخلقة؟ فلو كان المراد هو الأوّل فلا يناسب هذا جهلنا باللّغات ، ولو كان المراد هو الثاني فلا يناسب هذا تكثّر اللغات.

وإن قلنا : إنّ مسألة تكثّر اللغات أيضا منتسب إلى الله تعالى ، بأنّ نبيّا من الأنبياء بلّغ أحكام الله باللسان العربي ، والآخر بلسان سرياني ، وهكذا في جميع اللغات والألسنة ، أو أنّ الله تعالى ألهم أو أودع إلى عدّة من الناس اللغة العربيّة ، وإلى عدّة اخرى اللغة الفارسيّة ، وهكذا في جميع اللغات.

ولكنّه لا يناسب غاية الوضع وغرضه الذي كان عبارة عن السهولة في التفهيم والتفهّم والسهولة في انتقال الأغراض والمقاصد ، ومعلوم أنّ أصل تكثّر اللّغات مبعّد عن هذا الغرض ، ولا يخفى على أحد أولويّة وحدة اللغة واللّسان في العالم ، وأنّ تكثّر اللغات أوجب التعب والألم الشديد للمحقّقين والتلامذة.

وأمّا قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ

١٠٤

أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ)(١) فلا يستفاد منه أنّ كلّ الآيات تكون نافعة للإنسان ، بل ربّ آية من آيات الله تكون ضرر على الإنسان ، كالمعصية التي كانت حاكية عن إعطاء القدرة لنا وهي من آياته تعالى ، فلا شكّ ولا ريب في أنّ مسألة تكثر اللغات مبعّد عن غاية الوضع ، فكيف ترتبط هذه بالله تعالى شأنه وجلّ جلاله؟!

والحاصل : أنّ الواضع لا يكون سوى البشر ، ولكنّه لا ينحصر بشخص واحد أو جماعة معيّنة ، بل كلّ مستعمل من أهل تلك اللغة واضع تدريجا ، فإنّا نرى بالوجدان أنّ المعاني الحادثة والمكتشفة التي يبتلى بها في ذلك العصر في التعبير عنها يكون الواضع فيها هو البشر ، ومن الواضح أنّ الغرض منه ليس إلّا أن يتفاهم بها وقت الحاجة ، ومن الظاهر أنّ حجم الغرض الداعي إليه يختلف سعة وضيقا بمرور الأيّام والعصور ، ففي العصر الأوّل كانت الحاجة إلى وضع ألفاظ قليلة بإزاء معان كذلك ؛ لقلّة الحوائج في ذلك العصر ، ثمّ ازدادت الحوائج مرّة بعد مرّة وقرنا بعد قرن ، بل وقتا بعد وقت.

وأمّا كيفيّة الوضع فقد تكون المعاني جزئيّة وقد تكون كلّيّة ، وإن كان المعنى جزئيّا ـ كالأعلام الشخصيّة ـ فلا شكّ في أنّ الشخص إذا أراد أن يضع اسما لولده ـ مثلا ـ يتصوّر أوّلا ذات ولده وثانيا لفظا يناسبه ، ثمّ يتعهّد في نفسه بأنّه متى قصد تفهيمه يخاطبه بذلك اللفظ. وأمّا إن كان المعنى كلّيّا يستعمل بعد التعهّد في فرد منه أوّلا ، وفي فرد آخر منه في استعمال آخر ، وهكذا ، فهذا يكشف أنّ مثل لفظ «الماء» ـ مثلا ـ وضع لجسم سيّال بارد بالطبع لا لفرد من أفراده ، بل لمفهوم كلّي ، فمسألة الوضع ومسألة تكثّر اللغات منوطة بالبشر.

__________________

(١) الروم : ٢٢.

١٠٥

في حقيقة الوضع

وفيه أقوال :

الأوّل : قال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : «الوضع نحو اختصاص اللفظ بالمعنى وارتباط خاصّ بينهما ناش من تخصيصه به تارة ومن كثرة استعماله فيه اخرى ، وبهذا المعنى صحّ تقسيمه إلى التعييني والتعيّني كما لا يخفى».

أقول : جملة «بهذا المعنى» تكون بمنزلة التعليل ؛ لعموميّة تعريف الوضع ، ومراده أنّ ماهيّة الوضع منقسمة إلى قسمين : تعييني وتعيّني ، والمقسم عبارة عن حقيقة وماهيّة الوضع ، مع أنّه ليس في الوضع التعيّني واضع في البين ، بل هو نتيجة قهريّة حاصلة من كثرة الاستعمال ، فإذا كان الوضع التعيّني مثل الوضع التعييني مشتركا في حقيقة الوضع فلا بدّ له من تعريف يشملهما معا ، وهو التعريف الذي ذكره قدس‌سره.

ولكن يرد عليه إشكالان :

الأوّل : أنّ بهذا التعريف لا تعرف ماهيّة الوضع وحقيقته ، بل هو إشارة إجماليّة ومعنى مبهم ، كقولنا في تحديد الإنسان ـ مثلا ـ : أنّه نحو موجود في الخارج.

الثاني : أنّ الاختصاص والارتباط المذكور من قبيل معاني أسماء المصادر ، فيعتبر كونه أمرا باقيا بين اللفظ والمعنى ، ولا محالة يكون لتحقّق هذا الارتباط منشأ وهو الوضع ، فليس الارتباط عين الوضع ، بل هو أمر مترتّب على الوضع ومتحصّل بسببه.

وبعبارة اخرى : المعرّف هو الوضع بمعنى المصدر وعمل الواضع ، والمعرّف

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٠.

١٠٦

توصيف للوضع بمعنى اسم المصدر ، والنتيجة الحاصلة من عمل الواضع.

إن قلت : إنّه لو كانت ماهيّة الوضع بمعنى المصدر معرّفا فلا معنى لهذا التقسيم أصلا وأبدا.

قلت : هذا التقسيم ظاهري ، ومعلوم أنّ كلّ ظاهر مأخوذ به ما لم تكن قرينة على خلافه ، ولنا قرينة على أنّ إطلاق كلمة الوضع على الوضع التعيّني مجاز ، وكثرة الاستعمال فيه يوجب صدق عنوان المعنى الحقيقي ، ومن البديهي أنّ كلّ معنى حقيقي لا يكون موضوعا له ، فلا تكون حقيقة الوضع في الوضع التعيّني موجودة.

القول الثاني : نسب إلى بعض الأعاظم ـ على ما في كتاب المحاضرات (١) ـ القول بأنّ حقيقة الوضع من الامور الواقعيّة ، لا بمعنى أنّها من إحدى المقولات ؛ ضرورة وضوح عدم كونها من مقولة الجوهر ؛ لانحصارها في خمسة أقسام : العقل والنفس والصورة والمادّة والجسم ، وهي ليست من إحداها ، وكذا عدم كونها من المقولات التسع العرضيّة أيضا ؛ لأنّها متقوّمة بالغير في الخارج ؛ لاستحالة تحقّقها في العين بدون موضوع توجد فيه ، فإنّ وجودها في نفسها عين وجودها لغيرها ، وهذا بخلاف حقيقة العلقة الوضعيّة ، فإنّها قائمة بطبيعي اللفظ والمعنى ومتقوّمة بهما ، فلا يتوقّف ثبوتها وتحقّقها على وجودهما في الخارج ، وهذا واضح.

ولذا يصحّ وضع اللفظ لمعنى معدوم ، بل مستحيل ، بل بمعنى أنّها عبارة عن ملازمة خاصّة وربط مخصوص بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له ، نظير سائر الملازمات الثابتة في الواقع بين أمرين من الامور التكوينيّة ، مثل : قولنا :

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٣٨ ـ ٣٩.

١٠٧

إن كان هذا العدد زوجا فهو منقسم إلى المتساويين ، وإن كان فردا فهو غير منقسم كذلك ، فالملازمة بين زوجيّة العدد وانقسامه إلى متساويين وبين فرديّته وعدم انقسامه كذلك ثابتة في نفس الأمر والواقع أزلا ، غاية الأمر أنّ تلك الملازمة ذاتيّة أزليّة ، وهذه الملازمة جعليّة اعتباريّة ، لا بمعنى أنّ الجعل والاعتبار مقوّم لذاتها وحقيقتها ، بل بمعنى أنّه علّة وسبب لحدوثها وبعده تصير من الامور الواقعيّة. وكونها جعليّة بهذا المعنى لا ينافي تحقّقها وتقرّرها في لوح الواقع ونفس الأمر ، وكم له من نظير.

وقد حققنا في محلّه أنّ هذه الملازمات ليست من سنخ المقولات في شيء كالجواهر والأعراض ، فإنّها وإن كانت ثابتة في الواقع في مقابل اعتبار أيّ معتبر وفرض أي فارض كقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(١) ، فإنّ الملازمة بين تعدّد الآلهة وفساد العالم ثابتة واقعا وحقيقة ، إلّا أنّها غير داخلة تحت شيء منها ، فإنّ سنخ ثبوتها في الخارج غير سنخ ثبوت المقولات فيه ، كما هو واضح.

وأشكل عليه بعض الأعلام بأنّه قدس‌سره إن أراد بوجود الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له وجودها مطلقا حتّى للجاهل بالوضع فبطلانه من الواضحات التي لا تخفى على أحد ، فإنّ هذا يستلزم أن يكون سماع اللفظ وتصوّره علّة تامّة لانتقال الذهن إلى معناه ، ولازمه استحالة الجهل باللغات ، مع أنّ إمكانه ووقوعه من أوضح البديهيّات.

وإن أراد قدس‌سره به ثبوتها للعالم بالوضع فقط دون غيره فيرد عليه : أنّ الأمر وإن كان كذلك ـ يعني : أنّ هذه الملازمة ثابتة له دون غيره ـ إلّا أنّها ليست

__________________

(١) الأنبياء : ٢٢.

١٠٨

بحقيقة الوضع ، بل هي متفرّعة عليها ومتأخّرة عنها رتبة ، ومحلّ كلامنا هنا تعيين حقيقة الوضع التي تترتّب فيها الملازمة بين تصوّر اللفظ والانتقال إلى معناه.

أقول : لا يخفى عليك أنّ أساس هذا الإشكال باطل ؛ إذ الواضع أوجد الملازمة بين اللفظ والمعنى واقعا ، ولا ربط له بالعالم والجاهل ، كالملازمة الواقعيّة التي بيّنها في الآية : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ، ولكن يبقى الإشكال بأنّه ليس في كلام بعض الأعاظم كلمة «الإيجاد».

نعم ، يمكن أن يكون مراده قدس‌سره هذا ، ولكنّ كلامه قدس‌سره مخدوش من جهة اخرى ، فإنّه لا يعقل لنا تصوّر الملازمة التي كانت لها من ناحية الحدوث سابقة العدم ، ومن ناحية البقاء واقعيّة أزليّة ، فكيف يمكن هذا مع أنّ نفس عمل الواضع له عنوان اعتباري؟! فلا بدّ من كونها إمّا حدوثا وبقاء أزليّة ، وإما حدوثا وبقاء اعتباريّة ، مع أنّه لا يوجد باعتبار معتبر واقعيّة أزليّة.

القول الثالث : وهو لجماعة من العلماء ، منهم صاحب كتاب منتهى الاصول (١) ، وهو : أنّ الوضع عبارة عن الهوهويّة والاتّحاد بين اللفظ والمعنى في عالم الاعتبار.

توضيحه : أنّ هذه الهوهويّة والاتّحاد ملاك للحمل في القضايا الحمليّة ، مثل : «زيد قائم» ؛ إذ لا يكون بينهما نسبة متحقّقة ، فإنّ كلاهما واحد ، ولكنّ هذه الهوهويّة والاتّحاد هاهنا واقعيّة ، بخلافها في مسألة الوضع فإنّها فيه اعتباريّة. ولا يخفى أنّ اتّحاد الواقعيّة لا يمكن أن توجد بصرف الإنشاء والتشريع ، وأمّا الاعتباريّة فلا مانع من إيجادها في عالم الاعتبار بصرف الإنشاء والجعل

__________________

(١) منتهى الاصول ١ : ١٥.

١٠٩

التشريعي ، وإلى هذا ترجع توسعة الموضوع في الحكومة الواقعيّة كقوله عليه‌السلام : «الطواف بالبيت صلاة» وقد قال شيخنا الاستاذ في فرائده بمثل ذلك في كيفيّة حجّيّة الأمارات : بأنّ المجعول فيها هو الهوهويّة ، بمعنى : أنّ المجعول فيها هو أنّ المؤدّى هو الواقع.

والحاصل : أنّ حال الهوهويّة الاعتباريّة هنا حال سائر الاعتباريّات في أنّ إيجادها بإنشائها بمكان من الإمكان.

وأمّا الدليل على أنّ الوضع بهذا المعنى فهو كما يلي : أوّلا : أنّه لا شكّ في أنّ إلقاء اللفظ إلقاء المعنى عند إلقاء المراد إلى الطرف ، ومعلوم أنّ إلقاء شيء ليس إلقاء شيء آخر ، إلّا فيما إذا كانت بينهما هوهويّة واتّحاد ، وإلّا لا يكون إلقاء أحدهما إلقاء للآخر.

وثانيا : قد تقرّر عند العلماء أنّ لكلّ شيء أربعة أنحاء من الوجودات ـ أي الوجود الحقيقي الخارجي ، الوجود الذهني ، الوجود الإنشائي ، الوجود اللفظي ـ فلو لم يكن ذلك الاتّحاد كيف يمكن أن يكون وجود شيء أجنبي عن شيء آخر وجودا له مع أنّ اللفظ من مقولة الكيف المسموع والمعنى من مقولة اخرى؟! ثمّ أيّده بأنّ لهذه الجهة أيضا يسري قبح المعنى وحسنه إلى اللفظ.

وأيضا : أنّ في مقام الاستعمال يكون اللفظ فانيا في المعنى لا استقلال له في قبال المعنى ، وهكذا في مسألة الوضع ، وهذا يكشف عن الاتّحاد الاعتباري بينهما.

أقول : هذا المعنى بعيد عن أذهان عامّة الواضعين ومخالف للوجدان ، فإنّنا من الواضعين ، ومسألة الوضع محلّ ابتلاء عامّة الناس ، فإذا ولد مولود أو اخترع أحد مخترعا أو صنّف كتابا فإنّه يضع له لفظا بعنوان الاسم ؛ ليدلّ عليه

١١٠

ويحكى به عنه وليس فيه من إيجاد الاتّحاد بين اللفظ والمعنى خبر ولا أثر ، وهكذا في وضع اللفظ للمفهوم الكلّي ، ولا فرق بينهما في صدق الوضع عليهما ، وأنّ كليهما من أقسام الوضع ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ فلا تكون حقيقة الوضع بهذه الدقّة التي تغفل عنها أذهان الخاصّة فضلا عن العامّة.

وجواب دليله الأوّل : أنّ أصل هذا الكلام صحيح ، ولكنّ العلّة فيه ليست الاتّحاد والهوهويّة ، بل الدليل أنّ المعاني في مقام التفهيم والتفهّم مقصودة بالأصالة ، والألفاظ آلة محضة لإبراز المعاني ومقصودة بالتبع ، ولذا يكون إلقاء اللفظ للمخاطب إلقاء للمعنى بلا توجّه منه إلى اللفظ.

وأمّا جواب دليله الثاني : فإنّ هذا الدليل لو تأمّل فيه دليل على المباينة بين اللفظ والمعنى ؛ إذ لا شكّ ولا ريب في أنّ كلّ قسم من أقسام المقسم قسيم للآخر ومباين له ، كمباينة البقر والبشر من أقسام الحيوان ، فيكون الوجود اللفظي للمعنى مباينا لوجوده الحقيقي كمباينته لوجوده الذهني ، فكيف يكون الاتّحاد والهوهويّة بين اللفظ والمعنى مع مباينة وجوده اللفظي مع وجوده الحقيقي؟! ومن البديهي أنّه لو كان بين «زيد» و «قائم» اتّحاد وهوهويّة وهكذا بين «زيد» و «عالم» للزم الاتّحاد والهوهويّة بين «القائم» و «العالم» ، فلك أن تقول : العالم قائم ، وهكذا في عالم الاعتبار ، فإذا اعتبر الاتّحاد والهوهويّة بين شيئين فإنّه يعتبر بين لوازمهما أيضا ، وإذا اعتبر بين اللفظ والمعنى اتّحاد وهوهويّة فلا معنى للمباينة بين وجوده اللفظي ووجوده الحقيقي ، بل تنفى نفس هذه المسألة الاتّحاد هاهنا.

هذا ، ولا يخفى أنّ أصل هذا التقسم أيضا كان نوعا من المسامحة ؛ إذ لا معنى للوجود اللفظي حقيقة وواقعا ، فهذا التفسير لحقيقة الوضع غير تام.

١١١

القول الرابع : ما عن بعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات (١) ، ومحصّل كلامه: أنّ حقيقة الوضع عبارة عن التعهّد بإبراز المعنى الذي تعلّق قصد المتكلّم بتفهيمه بلفظ مخصوص ، فكلّ واحد من الأفراد من أهل أيّ لغة كان متعهّدا في نفسه ، بأنّه متى أراد تفهيم معنى خاصّ أن يجعل مبرزه لفظا مخصوصا ، مثلا : التزم كلّ واحد من أفراد الامّة العربيّة بأنّه متى قصد تفهيم جسم سيّال بارد بالطبع أن يجعل مبرزه لفظ «الماء» وهكذا.

وممّا يدلّنا على ذلك بوضوح وضع الأعلام الشخصيّة ، فإنّ كلّ شخص إذا راجع وجدانه يظهر له أنّه إذا أراد أن يضع اسما لولده ـ مثلا ـ يتصوّر أوّلا ذات ولده ، وثانيا لفظا يناسبه ، ثمّ يتعهّد في نفسه بأنّه متى قصد تفهيمه يتكلّم بذلك اللفظ ، وليس هاهنا شيء آخر ما عدا ذلك ، فليس الوضع هو القول بأنّه وضع هذا اللفظ بإزاء هذا المعنى ، بل هو مبيّن للوضع والتعهّد النفساني.

ومن ذلك تبيّن ملاك أنّ كلّ مستعمل واضع حقيقة ، وأمّا إطلاق الواضع على الجاعل الأوّل دون غيره فلأسبقيّته في الوضع لا لأجل أنّه واضع في الحقيقة دون غيره.

ثمّ إنّ الوضع بذلك المعنى الذي ذكرناه موافق لمعناه اللغوي أيضا ؛ لأنّه كان في اللغة بمعنى الجعل والإقرار ، ومنه وضع اللفظ ، ومنه وضع القوانين في الحكومات الشرعيّة والعرفيّة ، فإنّه يكون بمعنى التزام تلك الحكومة بتنفيذها في الامّة.

وفيه : أوّلا : مع أنّ كون المستعمل واضعا مخالف للمرتكز الذهني فهو مخالف للواقع أيضا ؛ إذ الوجدان أقوى شاهد بأنّ الأب والمخترع والمصنّف أحقّ

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٤٤ ـ ٤٩.

١١٢

بتسمية ولده ومخترعه وكتابه ووضع اللّفظ لها ، والآخرون يستعملونه فيها اتّباعا لهم ، ولا يطلق عنوان الواضع عليهم في هذه الموارد ولا يشتركون في الوضع والتسمية منهم ، بل هذه الأحقّيّة تقتضي تبعيّتهم لهم في هذه الموارد الشخصية كما لا يخفى ، وهكذا في موارد وضع ألفاظ عامّة لمعان عامّة ؛ إذ لو كان الواضع هو الله تعالى ـ وهو الأحقّ بالوضع ويطلق عليه عنوان الواضع وعلى الآخرين عنوان المستعمل ـ كان له المزيّة التي أوجبت إقدامه على ذلك ، وهذا يقتضي أحقيّته وتبعيّة الآخرين له ، ولذا لا يصحّ إطلاق الواضع على كلّ مستعمل.

وثانيا : أنّ أصل مسألة الوضع بما ذا تتحقّق؟ فهل تكون الجملة : «وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى» محقّقة وموجدة للوضع ، أو تكون حاكية وكاشفة عنه؟ وهكذا في باب وضع القانون في الحكومات الشرعيّة والعرفيّة ، هل تكون جملة «أقيموا الصلاة» نفس القانون أم تحكى عن القانون؟ وسيأتي تفصيل هذا البحث في باب الأوامر إن شاء الله تعالى ، ولكن نقول هنا إجمالا : إنّ الوضع والقانون عبارة عن نفس هذه الجملات ، لا حاكية عنهما ، وأنّ الوضع أمر إنشائي يوجد بنفس هذه الكلمات كإيجاد الزوجيّة بنفس كلمة زوّجت ، وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لارتباط الوضع بالتعهّد والالتزام النفساني ، فإنّ هذا المعنى لا يتحقّق في مورد من الموارد المذكورة.

وثالثا : إنّ الاستعمالات لا تنحصر في المعاني الحقيقيّة ، بل الاستعمالات المجازيّة أكثر من الاستعمالات الحقيقيّة كما تحقّق في محلّه. ومن المعلوم أنّه لا يكون في هذه الاستعمالات تعهّد والتزام نفساني ، لا من الواضع ولا من المستعملين أصلا وأبدا.

١١٣

القول الخامس : ما اختاره المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) في حاشيته على الكفاية ، ولا يخفى أنّ أصل كلامه عندنا أصحّ كلام ، ولكنّ بعض جزئيّاته التي لا تخدش بأصل الكلام قابلة للمناقشة ، ومحصّل كلامه أنّه قال بعنوان المقدّمة :

إنّ حقيقة العلقة الوضعيّة لا تعقل أن تكون من المقولات الواقعيّة ، فإنّه لو كانت منها فلا بدّ أن تكون من المقولات العرضيّة ؛ إذ هي تحتاج في تحقّقه إلى اللّفظ والمعنى ، مثل احتياج العرض إلى المعروض ، وإن توهّم كذلك قلنا : هو مدفوع بدليلين :

الأوّل : أنّ المقولات العرضيّة تحتاج إلى موضوع محقّق في الخارج بداهة لزومه في العرض ، مع أنّ طرفي الاختصاص والارتباط ـ وهما اللفظ والمعنى ـ ليسا كذلك ، فإنّ الموضوع والموضوع له طبيعي اللفظ والمعنى دون الموجود منهما ، فإنّ طبيعي لفظ «الماء» موضوع لطبيعي ذلك الجسم السيّال ، وهذا الارتباط ثابت حقيقة ولو لم يتلفّظ بلفظ «الماء» ، ولم يوجد مفهومه في ذهن أحد.

والثاني : أنّ المقولات امور واقعيّة لا تختلف باختلاف الأنظار ولا تتفاوت بتفاوت الاعتبار ، ومع أنّه لا يرتاب أحد في أنّ طائفة يرون الارتباط بين لفظ خاصّ ومعنى مخصوص ، ولا يرونه بينهما طائفة اخرى بل يرونه بين لفظ آخر وذلك المعنى ، ولازم ذلك وقوع معنى واحد في آن واحد معروضا لعرضين ، وهو محال ، فالوضع لا يكون من المقولات الواقعيّة.

فإن قلت : لا ريب في صدق حدّ مقولة الإضافة على الملكيّة والاختصاص ونحوهما من النسب المتكرّرة.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٤٤ ـ ٤٥.

١١٤

قلت : فرق بين كون المفهوم من المفاهيم الإضافيّة وبين صدق حدّ مقولة الإضافة على شيء ، ألا ترى صدق العالميّة والقادريّة عليه تعالى ، مع تقدّس وجوده عن الاندراج في العرض والعرضي لمنافاة العروض مع وجوب الوجود ، بل تلك الإضافات إضافات عنوانيّة لا إضافات مقوليّة فكذلك الملكيّة والاختصاص.

فالتحقيق في أمثال هذه المفاهيم : أنّها غير موجودة في المقام وأشباهه بوجودها الحقيقي ، بل موجودة بوجودها الاعتباري ، بمعنى : أنّ الشارع أو العرف أو طائفة خاصّة يعتبرون هذا المعنى لشيء أو لشخص لمصلحة دعتهم إلى ذلك ، وأمّا نفس الاعتبار فهو أمر واقعي قائم بالمعتبر ، وأمّا المعنى المعتبر فهو على حدّ مفهوميّته وطبيعيّته ولم يوجد في الخارج.

ثمّ إنّ هذا المعنى قد يكون من الامور التسببيّة فيتسبّب المتعاقدان بالإيجاب والقبول الّذين جعلهما الشارع سببا يتوصّل به إلى اعتبار الشارع للملكيّة ، فالملكيّة توجد بوجودها الاعتباري من الشارع بالمباشرة ومن المتعاقدين بالتسبّب ، وقد لا يكون المعنى المعتبر تسببيّا كالاختصاص الوضعي ، فإنّه لا حاجة في وجوده إلّا إلى اعتبار من الواضع ، ومن الواضح أنّ اعتبار كلّ معتبر قائم به بالمباشرة لا بالتسبيب ، فتخصيص الواضع ليس إلّا اعتباره الارتباط والاختصاص بين لفظ خاصّ ومعنى خاصّ ، ولا فرق بين اللفظ والإشارة في هذا المعنى ؛ إذ الإشارة أيضا تدلّ على هذا المعنى باعتبار معتبر ، فلذا دلالة الإشارة على المعاني مختلفة بين الأقوام والملل.

وأشكل عليه : بأنّ تفسير الوضع بهذا المعنى على فرض صحّته في نفسه تفسير بمعنى دقيق خارج عن أذهان عامّة الواضعين ، مع أنّ حقيقة الوضع

١١٥

حقيقة عرفيّة سهلة التناول والمأخذ ، فلا تكون بهذه الدقّة التي تغفل عنها أذهان الخاصّة فضلا عن العامّة.

وجوابه : أنّ هذه الدقّة التي تراها بلحاظ اصطلاحات مأخوذة هنا ، ولا شكّ في أنّ لبّ هذا المعنى من المرتكز الذهني العرفي ، مع أنّه لا ربط لدركهم وعدم دركهم لواقعيّة المطلب ، وإلّا يجري هذا الإشكال في المعاملات أيضا.

ثمّ ذكر قدس‌سره تنظيرا لهذا المعنى وقال : ثمّ إنّه لا شبهة في اتّحاد حيثيّة دلالة اللفظ على معناه وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثيّة دلالة سائر الدوال كالعلم المنصوب على رأس الفرسخ ، غاية الأمر أنّ الوضع فيه حقيقي ، وفي اللفظ اعتباري ، بمعنى : أنّ كون العلم موضوعا على رأس الفرسخ واقعيّة خارجيّة ، وليس باعتبار معتبر (١).

وأشكل عليه بعض الأعلام (٢) بأنّ وضع اللفظ ليس من سنخ الوضع الحقيقي كوضع العلم ، والوجه في ذلك أنّ وضع العلم يتقوّم بثلاثة أركان : أوّلا : الموضوع وهو العلم ، ثانيا : الموضوع عليه وهي ذات المكان ، ثالثا : الموضوع له وهي الدلالة على كون المكان رأس الفرسخ.

وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ ، فإنّه يتقوّم بركنين : أوّلا : الموضوع وهو اللفظ، ثانيا : الموضوع له وهي دلالته على معناه ، ولا يحتاج إلى شيء ثالث ليكون ذلك الثالث الموضوع عليه ، وإطلاقه على المعنى الموضوع له لو لم يكن من الأغلاط الظاهرة ، فلا أقلّ من أنّه لم يعهد في الإطلاقات المتعارفة والاستعمالات الشائعة ، مع أنّ لازم ما أفاده قدس‌سره هو أن يكون المعنى هو

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٤٥.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٤٤.

١١٦

الموضوع عليه.

وجوابه : أنّ وضع اللفظ ووضع العلم على رأس الفرسخ كلاهما مشتركان في أنّ الموضوع له فيهما أمر اعتباري ، ودلالتهما على كون هذا المكان رأس الفرسخ ، وهذا المعنى لذلك اللفظ ، فلا فرق بين المشبّه والمشبّه به من هذه الحيثيّة ، فكما أنّ وضع اللفظ يكون من الامور الاعتباريّة ، وهكذا الإشارة ووضع العلم يكون كذلك بلا تفاوت وبلا إشكال ، فهذا الفرق وهذا الإشكال كلاهما في غير محلّه.

والحقّ في المسألة ما أفاده المرحوم الأصفهاني قدس‌سره ، أي اعتباريّة الوضع بتمامه ، مع ما بيّنا من التوضيح كما مرّ.

إذا عرفت هذا فلنشرع في مسألة تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيّني ، ونقول ابتداء : إنّ هذا التقسيم صحيح أو يكون الوضع على نهج واحد فقط؟ لا يخفى أنّ القول بكليهما خال عن الإشكال.

ويمكن أن يقال : إنّ هذا التقسيم مجازي إذ لا دليل على أن يكون الوضع على قسمين كما قلنا في جواب المحقّق الخراساني قدس‌سره. وإذا كانت كثرة الاستعمال في المعنى المجازي بحدّ لا يحتاج معه إلى القرينة حين الاستعمال فيكون هذا المعنى أيضا معنى حقيقيّا للفظ ، ولكنّه لا يكون معنى موضوعا له ، ولا منافاة بينهما ، فإنّ الوضع أخصّ من الحقيقة ، فيكون الوضع التعيّني خارجا عن حقيقة الوضع.

ويمكن أن يقال : إنّه إذا كانت كثرة الاستعمال في معنى مجازي بحدّ لا يحتاج معه إلى القرينة يعتبر نوع ارتباط واختصاص من طرف أهل هذه اللغة بين اللفظ والمعنى ، مثل اعتبار معتبر خاصّ بينهما ، فإنّا نرى بالوجدان في مسألة

١١٧

اعتبار الملكيّة والزوجيّة عدم اطّلاع كلّ العقلاء في كلّ فرد منهما ، بل تكون المسألة على أساس الملاك والضوابط ، وإذا كانت الضوابط موجودة يعتبرهما العقلاء ، وإذا لم تكن موجودة فلا يعتبرهما العقلاء ، وهكذا في ما نحن فيه ، فإذا كانت كثرة الاستعمال بحدّ لا يحتاج معه إلى القرينة يعتبر عقلاء أهل اللّغة الارتباط والاختصاص بين اللفظ والمعنى.

في تقسيم الوضع

لمّا كان الوضع فعلا اختياريّا للواضع بأيّ معنى من المعاني فسّر فيتوقّف تحقّقه على تصوّر اللفظ والمعنى ، وعلى هذا يقع البحث في مقامين : الأوّل : في المعنى. الثاني : في اللفظ.

أمّا المقام الأوّل : فنبحث فيه من جهات : الاولى : في معنى الأقسام الأربعة ، والثانية : في إمكانها عقلا ، الثالثة : في وقوعها خارجا ومصداقا.

وأمّا البحث في الجهة الاولى فقد مرّ أنّ الوضع عبارة عن اختصاص وملازمة بين اللفظ والمعنى ، بحيث لا نرتاب في أصالتهما هاهنا ، مثل : أصالة الزوج والزوجة في باب النكاح ، والبائع والمشتري أو الثمن والمثمن في باب البيع ، فإنّك ترى استقلالهما وأصالتهما من حيث اللحاظ والتصوّر بالبداهة في وضع الأعلام الشخصيّة ، فيكون كلاهما في مقام الوضع مستقلّا. وأمّا في مقام الاستعمال فيكون اللفظ فانيا وتابعا للمعنى ، وكان حال واضع اللفظ كحال صانع المرآة ومستعمله كمستعملها ، فكما أنّ صانع المرآة في مقام صنعها يلاحظها استقلالا من حيث الكم والكيف والوضع وفي مرحلة استعمالها تلاحظ آليّا ، وكذلك وضع اللفظ واستعمالاته من هذه الجهة ، فالمعنى حين يلاحظه الواضع في مقام الوضع قد يكون في نفسه كلّيّا وقد يكون جزئيّا.

١١٨

هذا في مقام اللحاظ والتصوّر ، وأمّا في مقام الوضع فقد يكون الوضع مطابقا للمعنى المتصوّر ، أي المتصوّر كلّي واللفظ أيضا وضع لذلك المعنى الكلّي ، أو أنّ المتصوّر جزئيّ واللفظ أيضا وضع لذلك المعنى الجزئي. فالأوّل يسمّى الوضع العامّ والموضوع له العامّ ، والثاني : الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ.

نكتة :

إذا كان المتصوّر معنى كلّيّا فلا يلزم تصوّره بالكنه والحقيقة ، بل يكفي تصوّره إجمالا ؛ إذ لا ربط للوضع بالتصوّر والعلم بحقيقة المعنى ، كما أنّا لا نعلم في مقام وضع الأعلام الشخصيّة لخصوصيّاتها الفرديّة.

هذا ، وقد يكون بين المعنى المتصوّر والموضوع له اختلاف ، وهذا على قسمين ؛ إذ قد يكون المعنى المتصوّر كلّيّا والموضوع له عبارة عن مصاديقه وأفراده ، ويسمّى هذا بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، وقد يكون المعنى المتصوّر جزئيّا والموضوع له المعنى بوصف الكلّيّة ، ويسمّى هذا بالوضع الخاصّ والموضوع له العامّ. هذا تمام الكلام في الجهة الاولى.

وأمّا الكلام في الجهة الثانية فلا إشكال ولا كلام في إمكان وقوع القسمين الأوّلين ، وإلّا يلزم المناقشة في أصل الوضع ، وإنّما الكلام في القسمين الأخيرين منها.

والمحقّق الخراساني قدس‌سره (١) فصّل بينهما وقال : إنّ الملحوظ حال الوضع إمّا أن يكون معنى عامّا فيوضع اللفظ له تارة ولأفراده ومصاديقه اخرى ، وإمّا أن يكون معنى خاصّا لا يكاد يصحّ إلّا وضع اللفظ له دون العامّ ، فتكون الأقسام

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٠ ـ ١٣.

١١٩

ثلاثة ، وذلك لأنّ العامّ يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك فإنّه من وجوهها ، ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه. بخلاف الخاصّ فإنّه بما هو خاصّ لا يكون وجها للعامّ ولا لسائر الأفراد ، فلا تكون معرفته وتصوّره معرفة له ولا لها أصلا ولو بوجه.

وبعبارة اخرى : الجزئي لا يكون كاسبا ولا مكتسبا. نعم ، ربّما يوجب تصوّره تصوّر العامّ بنفسه فيوضع له اللفظ ، فيكون الوضع عامّا كما كان الموضوع له عامّا.

والحاصل : أنّ الوضع إذا كان عامّا والموضوع له خاصّا فيمكن وقوعه ثبوتا ، وأمّا إذا كان الأمر بالعكس فلا يمكن وقوعه ثبوتا.

ولكن أشكل عليه استاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ (١) وبعض الأعاظم : بأنّهما مشتركان في الامتناع على وجه والإمكان على وجه آخر ، فإن كان المراد من لزوم لحاظ الموضوع له في الأقسام هو لحاظه بما هو حاك عنه ومرآة له ، فهما سيّان في الامتناع ؛ إذ العنوان العامّ ـ كالإنسان مثلا ـ لا يحكي إلّا عن الحيثيّة الإنسانيّة دون ما يقارنها من العوارض والخصوصيّات ؛ لخروجها عن حريم المعنى اللابشرطي ، والحكاية فرع الدخول في الموضوع له.

وإن كان المراد من شرطيّة لحاظه هو وجود أمر يوجب الانتقال إليه فالانتقال من تصوّر العامّ إلى تصوّر مصاديقه أو بالعكس بمكان من الإمكان ، فإنّا إذا تصوّرنا «زيد» نتصوّر الإنسان قهرا ، ولكنّه لا يكون تفصيلا ، بل يكون إجمالا كما لا يخفى.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ١٥ ـ ١٦.

١٢٠