دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

الجمعة ـ مثلا ـ يصحّ قول المجتهد بأنّا نستنبط وجوب صلاة الجمعة من الرواية ، وأمّا لو أحرزه من طريق الاستصحاب فلا يصحّ التعبير بأنّا نستنبطه من الاستصحاب ، فإنّ الحكم بوجوب صلاة الجمعة كان من مصاديق «لا تنقض اليقين بالشكّ» ، ولا يصحّ التعبير بأنّا نستنبط حكم الفرد من الكلّي ؛ لأنّه تطبيق الكلّي على المصاديق ، فلو قال المولى : «أكرم كلّ عالم» وأنت عند المواجهة مع الحسن العالم لا تقول : إنّا نستنبط وجوب إكرامه من «أكرم كلّ عالم» ، وإن أمكن ترتيب قياس ينتج حكما ثابتا لعنوان كلّي ، كما يقال : وجوب صلاة الجمعة قد شكّ في بقائه ، وكلّ ما شكّ في بقائه ، فهو باق ، فوجوب صلاة الجمعة باق ، إلّا أنّ المستنبط مصداق من مصاديق الحكم الاستصحابي الواقع كبرى للقياس المذكور ، فالاستصحاب الجاري في الشبهات الحكميّة خارج عن مسائل علم الاصول ، وهكذا سائر الاصول.

وهذان الإشكالان أوجبا عدول المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى تعريفه : بأنّه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام ، أو التي ينتهي إليها في مقام العمل ، أي علم الاصول صناعة يعرف بها القواعد التي لها إحدى الخصوصيّتين : إمّا وقوعها في طريق الاستنباط ، وإمّا انتهاء المجتهد إليها في مقام العمل بعد الفحص واليأس عن الدليل في المقام ، فيشمل هذا التعريف الظنّ الانسدادي على الحكومة ، فإنّ بعد تماميّة المقدّمات هو الذي ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل إن لم يترتّب عليه الحكم الواقعي أو الظاهري القطعي ، وهكذا في الاستصحاب وإن لم يصدق عليه الاستنباط إلّا أنّ المجتهد ينتهي إليه في مقام العمل.

وأوردوا على هذا التعريف إشكالات متعدّدة ومهمّة :

٨١

قال الإمام ـ دام ظلّه ـ (١) : أنّ هذا التعريف أسوأ التعاريف المتداولة ، ثمّ أورد عليه إشكالين : الأوّل : أنّ بعد عدم صحّة التعبير بالصناعة في مثل هذه العلوم لا ينطبق هذا التعريف إلّا على مبادئ المسائل ؛ لأنّ ما يعرف به القواعد الكذائية هو مبادئ المسائل ، ولم يذهب أحد إلى أنّ علم الاصول هو المبادئ فقط ، بل هو إمّا نفس المسائل أو هي مع مبادئها.

الثاني : أنّ هذا التعريف يشمل القواعد الفقهيّة مثل : «قاعدة كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» إذا شكّ في المبيع المأخوذ بعقد فاسد بأنّ فيه ضمان أم لا ، فيستنبط من هذه القاعدة الحكم بضمانه.

ولكنّ هذا الإشكال غير وارد ؛ لأنّ في هذا المثال يكون انطباق الحكم الكلّي على المصداق ، ولا يصدق عليه كلمة الاستنباط ؛ إذ القول : «بأنّ البيع يضمن بصحيحه ، وكلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، فالبيع يضمن بفاسده» يستفاد منه حكم الفرد من الكلّي ، لا الاستنباط.

وأورد المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (٢) على التعريف المذكور : بأنّك تقول : لا بدّ للقواعد الاصوليّة من إحدى الخصوصيّتين المذكورتين ، قلنا : هل الجامع بينهما موجود أم لا؟ إن قلت : بوجوده بينهما فلم لم تذكره في مقام التعريف ، وإن قلت : بعدم وجوده كما يستفاد هو من عدم ذكره فلا بدّ من الالتزام بترتّب الغرضين على الخصوصيّتين ، فإنّك قلت مرارا بأنّه : لا يؤثّر المؤثّران في أثر واحد بدون جامع مشترك ، وهذا الالتزام في علم الاصول مناف لما سبق من قولك ، مضافا إلى بعد ذلك بل امتناعه عادة.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ١٠ ـ ١١.

(٢) نهاية الدراية ١ : ٤٢.

٨٢

وربما يقال بوجود الجامع بينهما وأنّه القواعد التي تشخّص وظيفة المكلّف في مقام العمل ، أو أنّه القواعد التي ترفع التحيّر في مقام العمل. وكلّ منهما تشمل جميع القواعد الاصوليّة حتّى الظنّ الانسدادي على الحكومة ، والاصول العمليّة الجارية في الشبهات الحكميّة ، فإنّها ترفع التحيّر ، كما يرفعه خبر الواحد وسائر القواعد والأدلّة.

ولكن يرد عليه : أنّ هذا الجامع ليس بصحيح فإنّه يشمل القواعد الفقهيّة أيضا ؛ إذ المكلّف إن شكّ وتحيّر في ضمان بيع الفاسد يرتفع تحيّره وتتعيّن وظيفته في مقام العمل بقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» مثل الخبر الواحد وسائر القواعد ، فالإشكال في محلّه.

والإشكال المهمّ عليه في باب الأمارات الشرعيّة ، فإنّ الاصوليّين اختلفوا في معنى حجّيّة الأمارات الشرعيّة ، فالبعض قال : بأنّ معناه جعل الحكم الظاهري على طبق مؤدّاها وإن لم يكن في الواقع كذلك ، مثلا : إذا روى زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ صلاة الجمعة واجبة ، فيجعل الشارع بمقتضى حجّيّة خبر الثقة الوجوب حكما ظاهريّا لها ، سواء كانت بحسب الواقع واجبة أو لا ، ولذا قلنا : إنّ الاستنباط عندهم أعمّ من استنباط الحكم الظاهري والواقعي.

ولكن خالفهم المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) هاهنا ، فإنّه قال : إنّ كلمة «الحجّة» تارة تستعمل في الأمارات العقليّة ـ مثل قولك : القطع حجّة ـ وتارة تستعمل في الأمارات الشرعيّة ـ مثل قولك : خبر الواحد حجّة ـ ولا معنى للحجّيّة في كليهما إلّا المنجزيّة والمعذريّة بحسب إصابة الواقع ومخالفته ، فلا يكون هنا من جعل الحكم الظاهري خبر ولا أثر ، كما في الأمارات العقليّة ، ولكن حجّيّة

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٩ ـ ١٠.

٨٣

القطع ذاتيّة وعقليّة لا تنالها يد الجعل نفيا ولا إثباتا ، وحجّيّة خبر الواحد وأمثاله بجعل الشارع ، بمعنى : أنّ الحجّيّة الشرعيّة حكم من الأحكام الوضعيّة مجعولة للشارع كالملكيّة والزوجيّة.

إذا عرفت هذا فنقول : مع أنّ مبحث الحجّيّة في باب خبر الواحد من أهمّ المسائل ـ كما اعترف به ـ ولكن لا تشمله إحدى الخصوصيّتين المذكورتين في التعريف ، فإنّ زرارة إذا روى وجوب صلاة الجمعة عن الأئمّة عليهم‌السلام فخبره إن كان مطابقا للواقع يتنجّز الواقع ويترتّب عليه الثواب بعد الامتثال ، وإن كان مخالفا للواقع فلا يترتّب عليه العقاب ، بل هو معذور في ترك صلاة الظهر ، وهذا ليس من استنباط الأحكام بوجه ، كما أنّه لا يكون خبر الواحد وأمثاله من القواعد التي ينتهي إليها في مقام العمل ، فإنّا نرجع إليها في بادئ الأمر ، وبعد الفحص واليأس منها نتمسّك ونرجع إلى القواعد الأخر ، فهذا التعريف لا يشمل الأمارات الشرعيّة التي تكون من أهمّ المسائل.

قال المحقّق النائيني قدس‌سره (١) في المقام : «إنّ علم الاصول عبارة عن العلم بالكبريات التي لو انضمت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلّي».

أقول : مع قطع النظر عن ذكر كلمة العلم ـ كما ذكره المشهور في تعريفهم ـ يرد عليه إشكالان :

الأوّل : أنّ هذا التعريف يشمل عدّة من القواعد الفقهيّة ، فإنّ القواعد الفقهيّة تكون على قسمين : قسم منها بمنزلة النوع للماهيّة والمسائل الداخلة تحتها الأفراد والمصاديق ، وقسم منها بمنزلة الجنس للأنواع الداخلة تحته ، ولا نرتاب في أنّ القواعد التي تكون بمنزلة الجنس لأنواعه ـ مثل قاعدة ما يضمن

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣ ، فوائد الاصول ١ : ١٩.

٨٤

بصحيحه وعكسها ـ كانت من الكبريات التي لو انضمّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلّي ، فإنّ البيع ـ مثلا ـ نوع من الأنواع التي تكون تحتها ، فإذا شكّ في ضمان فاسده تقول : البيع يضمن بصحيحه وكلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، فالبيع بجميع أفراده ومصاديقه يضمن بفاسده ، وأمّا القواعد التي تكون بمنزلة النوع للأفراد لم يستنتج منها هذه النتيجة ، مثل قولك : «كلّ خمر حرام» فإنّه تستنتج منه «هذا حرام» وهو لا يكون حكما فرعيّا كلّيّا.

والثاني : أنّ الظاهر من هذا التعريف أنّ القواعد الاصوليّة هي الكبريات التي لو انضمّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلّي بلا توقّف على قواعد أخر ، مع أنّ مبحث «صيغة الأمر هل هي ظاهرة في الوجوب أم لا» كان من المباحث الاصوليّة قطعا ، ولكن لم يستنتج منه حكم فرعي كلّي بدون ضمّ ضميمة ، مثلا تقول : الصلاة معروضة لهيئة «افعل» ، وكلّ هيئة «افعل» ظاهرة في الوجوب ، فهيئة «افعل» العارضة على الصلاة ظاهرة في الوجوب ، ولا شكّ في أنّ الظهور في الوجوب ليس حكما فرعيّا كلّيّا ، بل الوجوب حكم فرعي كلّي ، واستنتاجه من هذا المبحث يحتاج إلى ضمّ قاعدة اخرى ، مثل : قاعدة «وكلّ ظاهر حجّة» ، وإلّا لا يستفاد منها وجوب صلاة الظهر. فهذا التعريف منقوض بالإشكالين المذكورين.

وقال الشيخ ضياء الدين العراقي قدس‌سره (١) في مقام التعريف : «إنّه القواعد الخاصّة التي تعمل في استخراج الأحكام الكلّيّة الإلهيّة ، أو الوظائف العمليّة الفعليّة ، عقليّة كانت أم شرعيّة ، ولو بجعل نتيجتها كبرى القياس في استنتاج الحكم

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ٢٠.

٨٥

الشرعي الواقعي».

وهذا التعريف متضمّن للخصوصيّتين المذكورتين في تعريف استاذه المحقّق الخراساني قدس‌سره ، ولكنّه أضاف في ذيل كلامه خصوصيّة اخرى حتّى يشمل عدّة اخرى من المسائل الاصوليّة أيضا ، وهي : وتوهّم استلزامه لخروج مثل مباحث العامّ والخاصّ أيضا مدفوع ، بأنّها وإن لم تكن واقعة في طريق استنباط ذات الحكم الشرعي ، إلّا أنّها باعتبار تكفّلها لإثبات كيفيّة تعلّق الحكم بموضوعه كانت داخلة في المسائل الاصوليّة.

ثمّ قال : وهذا بخلاف المسائل الأدبيّة ، فإنّها ممحّضة لإثبات موضوع الحكم بلا نظر فيها إلى كيفيّة تعلّق الحكم أصلا ، ومن ذلك البيان ظهر وجه خروج المشتقّات أيضا عن مسائل الاصول ، ولذا ذكروها في المقدّمة ؛ إذ لا بدّ فيها من المراجعة إلى اللغة فقط ولم يتشخّص فيها الحكم ، ولا كيفيّة تعلّق الحكم بالموضوع (١).

هذا ، ولكن ترد عليه إشكالات متعدّدة :

منها : ما أورده المحقّق الأصفهاني قدس‌سره على صاحب الكفاية : بأنّ الجامع بين هذه الخصوصيّات موجود أم لا؟ إن قلت : بوجود الجامع فلا بدّ من ذكره في التعريف ، وإن قلت : بعدم وجوده ـ كما هو الحقّ ـ فلا بدّ من الالتزام بترتّب الأغراض الثلاثة عليها ويمكن أن يلتزم هو بذلك.

ومنها : ما أورده الإمام ـ دام ظلّه ـ (٢) من أنّه : ليت شعري أيّ فرق بين مبحث المشتقّ ودلالة الفعل على الاختيار وما ضاهاهما من الأبحاث اللّغوية ،

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) تهذيب الاصول ١ : ١١ ، مناهج الوصول إلى علم الاصول ١ : ٥٠.

٨٦

وبين مبحث مفاد الأمر والنهي وكثير من مباحث العامّ والخاصّ التي يبحث فيها عن معنى الكلّ والألف واللام ، بل المفاهيم مطلقا ، حيث أخرج الطائفة الاولى وأدخل الثانية ، مع أنّ الجميع من باب واحد تحرز بها أوضاع اللّغة ، وتستنتج منها كيفيّة تعلّق الحكم بموضوعه ، مضافا إلى شموله للقواعد الفقهيّة أيضا ، فإنّه لم يذكر كلمة «الاستنباط» حتّى تخرجها منه. فهذا التعريف أيضا ليس بتامّ.

وقال بعض الأعلام في المقام على ما في كتاب المحاضرات (١) : «إنّه العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة الكلّيّة الإلهيّة من دون حاجة إلى ضميمة كبرى أو صغرى اصوليّة اخرى إليها».

أقول : يحتمل قويّا أن يكون ذكر كلمة صغرى في التعريف سهوا من المقرّر ، فإنّه في مقام توضيح هذا التعريف لا يكون في كلامه أثر ولا خبر من صغرى اصوليّة ، مع أنّا لا نجد في القواعد الاصوليّة صغرى اصوليّة أصلا.

ثمّ قال في مقام التوضيح ما ملخّصه : أنّ التعريف يرتكز على ركيزتين وتدور المسائل الاصوليّة مدارهما وجودا وعدما :

الركيزة الاولى : أن تكون استفادة الأحكام الشرعيّة الإلهيّة من المسألة من باب الاستنباط والتوسيط لا من باب التطبيق ـ أي تطبيق مضامينها بنفسها على مصاديقها ـ كتطبيق الطبيعي على أفراده.

والنكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الاصول هي الاحتراز عن القواعد الفقهيّة ، فإنّها قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعيّة الإلهيّة ، ولا يكون ذلك من باب الاستنباط والتوسيط ، بل من باب التطبيق ، وبذلك

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٨.

٨٧

خرجت عن التعريف.

ولكن ربما يورد بأنّ اعتبار ذلك يستلزم خروج عدّة من المباحث الاصوليّة المهمّة من علم الاصول ، كمباحث الاصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة ، والظن الانسدادي بناء على الحكومة ، فإنّ الاولى منها لا تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلّي ؛ لأنّ إعمالها في مواردها إنّما هو من باب تطبيق مضامينها على مصاديقها وأفرادها ، لا من باب استنباط الأحكام الشرعيّة منها وتوسيطها لإثباتها ، والأخيرتين منها لا تنتهيان إلى حكم شرعي أصلا ، لا واقعا ولا ظاهرا.

وبتعبير آخر : أنّ الأمر في المقام يدور بين محذورين ، فإنّ هذا الشرط على تقدير اعتباره في التعريف يستلزم خروج هذه المسائل عن مسائل هذا العلم فلا يكون جامعا ، وعلى تقدير عدم اعتباره فيه يستلزم دخول القواعد الفقهيّة فيها فلا يكون مانعا ، فإذا لا بدّ أن نلتزم بأحد هذين المحذورين : فإمّا أن نلتزم باعتبار هذا الشرط لتكون نتيجته خروج هذه المسائل عن كونها اصوليّة ، أو نلتزم بعدم اعتباره لتكون نتيجته دخول القواعد الفقهيّة في التعريف ، ولا مناص من أحدهما.

ثمّ قال في مقام الجواب عنه : والتحقيق في الجواب عنه هو أنّ هذا الإشكال مبتن على أن يكون المراد بالاستنباط المأخوذ ركنا في التعريف الإثبات الحقيقي بعلم أو علمي ؛ إذ على هذا لا يمكن التفصّي عن هذا الإشكال أصلا ، ولكنّه ليس بمراد منه ، بل المراد به معنى جامعا بينه وبين غيره ، وهو الإثبات الجامع بين أن يكون وجدانيّا أو شرعيّا أو تنجيزيّا أو تعذيريّا ، وعليه فالمسائل المزبورة تقع في طريق الاستنباط ؛ لأنّها تثبت التنجيز مرّة والتعذير

٨٨

اخرى ، فيصدق عليها حينئذ التعريف لتوفّر هذا الشرط فيها ، ولا يلزم إذا محذور دخول القواعد الفقهيّة فيه.

نعم ، يرد هذا الإشكال على التعريف المشهور ـ أي العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ـ فإنّ ظاهرهم أنّهم أرادوا بالاستنباط الإثبات الحقيقي ، وعليه فالإشكال وارد ، ولا مجال للتفصّي عنه ـ كما عرفت ـ ولو كان مرادهم المعنى الجامع الذي ذكرناه فلا وقع له أصلا كما مرّ.

توضيحه : أنّ جريان الاستصحاب وقاعدة لا تنقض اليقين في صلاة الجمعة ينجّز الوجوب إن كانت الصلاة في الواقع واجبا ، كما أنّه يوجب معذوريّة المكلّف إن كانت الصلاة في الواقع حراما ، فيكون لأمثال الاستصحاب عنوان المنجّز أو المعذّر حينما يجري في موارد مشكوكة ، بخلاف القواعد الفقهيّة فإنّ فيها عنوان الفرد والمصاديق بالنسبة إلى الطبيعي والكلّي ، فلا يكون فيها المنجزيّة والمعذّريّة.

الركيزة الثانية : أن يكون وقوعها في طريق الحكم بنفسها من دون حاجة إلى ضمّ كبرى اصوليّة اخرى ، وعليه فالمسألة الاصوليّة هي المسألة التي تتّصف بذلك.

ثمّ إنّ النكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الاصول أيضا هي ألّا تدخل فيه مسائل غيره من العلوم ، كعلم النحو والصرف واللغة والرجال والمنطق ونحوها ، فإنّها وإن كانت دخيلة في استنباط الأحكام الشرعيّة واستنتاجها من الأدلّة ؛ لأنّ فهم الحكم الشرعي منها يتوقّف على علم النحو ومعرفة قوانينه من حيث الإعراب والبناء ، وهكذا على سائر العلوم المذكورة ، ولكن كلّ ذلك بالمقدار اللازم في الاستنباط لا بنحو الإحاطة التامّة ، فلو لم يكن

٨٩

الإنسان عارفا بهذه العلوم كذلك أو كان عارفا ببعضها دون بعضها الآخر لم يقدر على الاستنباط ـ إلّا أنّ وقوعها ودخلها فيه لا يكون بنفسها وبالاستقلال ، بل لا بدّ من ضمّ كبرى اصوليّة ، وبدونها لا تنتج نتيجة شرعيّة أصلا ؛ ضرورة أنّه لا يترتّب أثر شرعي على وثاقة الراوي ما لم ينضمّ إليها كبرى اصوليّة وهي حجّيّة الرواية ، وهكذا.

وبذلك قد امتازت المسائل الاصوليّة عن مسائل سائر العلوم ، فإنّ مسائل سائر العلوم وإن كانت تقع في طريق الاستنباط ـ كما عرفت ـ إلّا أنّها لا بنفسها بل لا بدّ من ضمّ كبرى اصوليّة إليها. وهذا بخلاف المسائل الاصوليّة ، فإنّها كبريات لو انضمّت إليها صغرياتها لاستنتجت نتيجة فقهيّة من دون حاجة إلى ضمّ كبرى اصوليّة اخرى (١).

أقول : فيه : أوّلا : أنّ ذكر كلمة «العلم» في التعريف كما بيّناه مرارا لغو ، فإنّ علم الاصول عبارة عن مجموعة من القواعد الاصوليّة لا دخل للعلم بها وجودا وعدما.

وثانيا : أنّ شمول الاستنباط للتنجّز والتعذّر غير صحيح ، فإنّ على فرض كون الحجّيّة بمعنى المنجزيّة والمعذّريّة ـ كما قال به المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ لا يكون معناهما سوى القضيّتين الشرطيّتين ، مثلا : إذا روى زرارة وجوب صلاة الجمعة وأنت قلت بحجّيّة خبره فمعناه أنّه إن كان خبره مطابقا للواقع فالواقع منجّز علينا ، وإن كان مخالفا للواقع فنحن معذورون في مخالفة الواقع ، ومعلوم أنّ هاهنا لا يصدق الاستنباط ، ولا يصحّ القول : بأنّا نستنبط حكم صلاة الجمعة. ومن البديهي عدم دوران الحجّيّة مدار حصول الظنّ ، فإنّ خبر

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٩.

٩٠

زرارة حجّة لنا ولو لم يحصل منه الظنّ.

وثالثا : أنّ الغرض من التعريف إحراز الضابطة والمعيار للقواعد الاصوليّة ، ولا يخفى أنّا نحتاج إلى التعريف حينما كان لنا شيء مجهول ، فحينئذ تقييد التعريف بالكبرى الاصوليّة يوجب الدور ، فإنّ العلم بالتعريف ـ أي الضابطة ـ متوقّف على الكبرى الاصوليّة ؛ لأنّه جزء التعريف ، والعلم بالكبرى الاصوليّة متوقّف على التعريف ـ أي الضابطة ـ فإنّ المفروض أنّه مجهول عندنا ، وإلّا لا نحتاج إلى التعريف هاهنا.

وقال استاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ (١) في المقام : «هو القواعد الآليّة التي يمكن أن تقع كبرى استنتاج الأحكام الكلّيّة الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة».

وكان لهذا التعريف خصوصيّات : منها : ذكر كلمة الآليّة ، فتخرج بها القواعد الفقهيّة ؛ إذ المراد بها كونها آلة محضة ، ولا ينظر فيها بل ينظر بها فقط ، والقواعد الفقهيّة ينظر فيها ، فتكون استقلاليّة لا آليّة ؛ لأنّ قاعدة «ما يضمن» وعكسها مثلا حكم فرعي إلهي منظور فيها على فرض ثبوتها ، والبيع والإجارة وأمثال ذلك من أفراد هذه القاعدة ، وكذلك في سائر القواعد ، مثل : قاعدة «لا ضرر» و «لا حرج» و «لا غرر» ، فإنّها مقيّدات للأحكام ، مثل : «كتب عليكم الصيام» بنحو الحكومة ، فلا تكون آلة لمعرفة حال الأحكام.

وأمّا دليل الاستصحاب مثل : «لا تنقض اليقين بالشكّ» وإن كان ظاهره الاستقلاليّة بالنظر الابتدائي ـ مثل بقاء وجوب صلاة الجمعة ، فإنّ المنشأ فيه هو الرواية ـ ولكنّه في الواقع حكم آليّ غير استقلالي ، كما أنّ جعل الحجّيّة

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ١١.

٩١

لخبر الواحد حكم كلّي آليّ بجعل الشارع وإن كان من طريق بناء العقلاء وإمضاء الشارع ، ولكن مع هذا لا يمكن القول بأنّ حجّيّة خبر الواحد أمر استقلالي ، بل الغرض من الحجّيّة ترتّب الأثر على خبر زرارة فقط ، وهكذا في دليل الاستصحاب ، والأمر هنا سهل.

وأمّا الظاهر من دليل أصالة الحلّيّة ـ مثل : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» ـ وأصالة الطهارة ـ مثل : «كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» ـ فإنّهما استقلاليّتان ، كقاعدة «كلّ ما يضمن» وعكسها ، فانتقض التعريف بهما.

ولكن قال الإمام ـ دام ظلّه ـ (١) : «وأمّا خروج بعض الاصول العمليّة فلا غرو فيه على فرضه ، منها : ذكر كلمة ـ يمكن ـ في التعريف ، وقال : إنّما قلنا : يمكن أن تقع ... لأنّ مناط الاصوليّة هو الإمكان لا الوقوع الفعلي ، فالبحث عن حجّيّة القياس والشهرة والإجماع المنقول ، وخبر الواحد عند من لم يقل بحجّيّته ـ مثل السيّد علم الهدى وابن إدريس ـ بحث اصولي لإمكان وقوعها في طريق الاستنباط.

ومنها : ذكر كلمة «الكبرى» فيه ؛ كي يخرج به مباحث سائر العلوم ، مثل : اللّغة والرجال والدراية ، كما تقدّم في كلام بعض الأعلام.

ومنها : عدم تقييد الأحكام بالعمليّة فيه ؛ لعدم عمليّة جميع الأحكام ، مثل الأحكام الوضعيّة وكثير من مباحث الطهارة وغيرها ؛ إذ «الدم نجس» لا يكون مورد العمل ، بل يحتاج إلى حكم آخر ، مثل : كلّ نجس يجب الاجتناب عنه.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ١٢.

٩٢

ومنها : ذكر جملة «الوظيفة العمليّة» فيه ، كما ذكرها المحقّق الخراساني قدس‌سره لإدخال مثل الظنّ على الحكومة.

وذكر الإمام ـ دام ظلّه ـ في آخر كلامه نكتة وهي : أنّ المسائل المتداخلة بين هذا العلم وغيره من مباحث الألفاظ ، مثل : ما يبحث فيه عن الأوضاع اللّغوية ـ كدلالة طبيعة الأمر على الوجوب والنهي على الحرمة و... ـ يمكن إدخالها فيه وتمييزها عن مسائل سائر العلوم بكونها آلة محضة ، فالاصولي يبحث عنها بعنوان الآليّة والوقوع في كبرى الاستنتاج وغيره بعنوان الاستقلاليّة أو جهات أخر ، ويمكن الالتزام بخروجها عنه ، وإنّما يبحث الاصولي عنها لكونها كثيرة الدوران في الفقه ، ولذا لم يقنع بالبحث عنها في مباحث الفقه ، والأمر سهل.

أقول : هذا التعريف مع أنّه من أجود التعاريف من حيث الجامعيّة والمانعيّة ، ولكن يرد عليه بعض الإشكالات :

منها : عدم شموله لقاعدة الحلّيّة والطهارة ، كما أشار إلى دفعه بقوله : «وأمّا خروج بعض الاصول العمليّة فلا غرو فيه على فرضه» ولكن لازم هذا الدفع خروج البراءة الشرعيّة من مسائل علم الاصول ، ولزوم التفكيك بينها وبين البراءة العقليّة ، والالتزام به مشكل جدّا.

ومنها : ما أورده المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) على صاحب الكفاية ، وهو : أنّ لازم أخذ هذين الخصوصيّتين في التعريف ترتّب الغرضين على علم الاصول ، فإنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد ، ولا يؤثّر المؤثّران في أثر واحد.

ولكن هذا الإشكال لا يرد عليه ؛ لأنّه قائل بأنّ التأثير والتأثّر منوط

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٤٢.

٩٣

بالواقعيّات ، ولا ربط لهما في الامور الاعتباريّة. وهكذا ترد عليه بعض الإشكالات الغير المهمّة ، فهذا التعريف عندنا أجود التعاريف.

في الفرق بين المسألة الاصوليّة والقاعدة الفقهيّة

تكملة :

في التمايز بين المسألة الاصوليّة والقاعدة الفقهيّة والمعيار في تشخيص أحدهما من الآخر هاهنا بيان من المحقّق النائيني قدس‌سره (١) وهو : أنّ المائز بين المسألة الاصوليّة والقاعدة الفقهيّة بعد اشتراكهما في أنّ كلّ منهما يقع كبرى لقياس الاستنباط هو أنّ المستنتج من المسألة الاصوليّة لا يكون إلّا حكما كلّيّا ، بخلاف المستنتج من القاعدة الفقهيّة فإنّه يكون حكما جزئيّا وإن صلحت في بعض الموارد لاستنتاج الحكم الكلّي أيضا ، إلّا أنّ صلاحيّتها لاستنتاج الحكم الجزئي هو المائز بينها وبين المسألة الاصوليّة ، حيث إنّها لا تصلح إلّا لاستنتاج الحكم الكلّي.

وأمّا مثل قاعدة «ما يضمن» وعكسها وإن يستفاد منها حكم البيع الفاسد بعنوان الحكم الكلّي ، ولكنّها أيضا تجري في بيع الفاسد الشخصي ، بخلاف مسألة «لا تنقض اليقين» فإنّه يستفاد منها أحكام كلّيّة فقط ، مثل : وجوب صلاة الجمعة. وأمّا الاصول العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة فليست من مسائل علم الاصول ، فإنّ النتيجة الحاصلة منها حكم جزئيّ كحليّة هذا المائع ، كما يستفاد هذا من كلام الشيخ قدس‌سره (٢) في الفرائد.

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ١٩.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٥٤٤ ـ ٥٤٦.

٩٤

وللمحقّق النائيني قدس‌سره (١) بيان آخر في أوائل الاستصحاب ، ولكن يستفاد منه أنّ المائز بينهما عبارة عن جهتين :

إحداهما : أنّ النتيجة في القاعدة الفقهيّة تكون جزئيّة تتعلّق بعمل آحاد المكلّفين بلا واسطة ، أي لا تحتاج في تعلّقها بالعمل إلى مئونة اخرى. وهذا بخلاف النتيجة في المسألة الاصوليّة ، فإنّها تكون كلّيّة ولا تتعلّق بعمل آحاد المكلّفين إلّا بعد تطبيق خارجي ، فإنّ عمل المكلّف لا يتعلّق به كون خبر الواحد حجّة إلّا بعد ضميمة خبر زرارة إليه والمتضمّن بأنّ صلاة الجمعة واجبة.

ثانيتهما : نتيجة المسألة الاصوليّة إنّما تنفع المجتهد ، ولا حظّ للمقلّد فيها ، ومن هنا ليس للمجتهد الفتوى بمضمون النتيجة ، ولا يجوز له أن يفتي في الرسائل العمليّة بحجّيّة الخبر الواحد ـ مثلا ـ القائم على الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّ تطبيق النتيجة على الخارجيّات ليس بيد المقلّد ، بل هو من وظيفة المجتهد.

وأمّا النتيجة في القاعدة الفقهيّة فهي تنفع المقلّد ، ويجوز للمجتهد الفتوى بها ، ويكون تطبيقها بيد المقلّد.

واستشكل عليه بعض الأعلام : بأنّ ما أفاده قدس‌سره بالقياس إلى المسائل الاصوليّة تامّ ، فإنّ إعمالها في مواردها وأخذ النتائج منها من وظائف المجتهدين ، فلا حظّ فيه لمن سواهم ، إلّا أنّه بالإضافة إلى المسائل الفقهيّة غير تامّ على إطلاقه ؛ إذ ربّ مسألة فقهيّة حالها حال المسألة الاصوليّة من هذه الجهة ، كقاعدة نفوذ الصلح والشرط ، باعتبار كونهما موافقين للكتاب أو السنّة أو غير مخالفين لهما ، فإنّ تشخيص كون الصلح أو الشرط في مواردهما موافقا

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٣٠٨.

٩٥

لأحدهما أو غير مخالف ممّا لا يكاد يتيسّر للعامي ، وكقاعدتي «ما يضمن» و «ما لا يضمن» فإنّ تشخيص مواردهما وتطبيقهما عليها لا يمكن لغير المجتهد.

ولذا قال بعض الأعلام في مقام التمايز : إنّ استفادة الأحكام الشرعيّة من المسائل الاصوليّة من باب الاستنباط والتوسيط ، ومن القواعد الفقهيّة من باب تطبيق مضامينها بأنفسها على مصاديقها ، سواء كانت مختصّة بالشبهات الموضوعيّة ـ كقاعدة الفراغ واليد والحلّيّة ونحوها ـ أم كانت تعمّ الشبهات الحكميّة أيضا ـ كقاعدتي «لا ضرر» و «لا حرج» ، بناء على جريانهما في موارد الضرر أو الحرج النوعي.

واورد عليه بأنّ قاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكميّة ـ مثل إحراز حكم «المشروبات الكحوليّة» منها ـ لا يكون إلّا باستنباط حكمه منها مع أنّها من القواعد الفقهيّة.

وفيه : أوّلا : أنّا لا نسلّم أن تكون قاعدة الطهارة من القواعد الفقهيّة ، ولا فرق بينها وبين قاعدة الحلّيّة في أنّ كليهما من القواعد الاصوليّة ، ولا يجوز التفكيك بينهما بوجه.

وثانيا : أنّ تطبيق قاعدة الطهارة على شيء مشكوك فيه ـ مثل : المشروبات الكحوليّة ـ لا يكون إلّا كتطبيق قاعدة «ما يضمن» على البيع الفاسد ؛ إذ المشروبات الكحوليّة مصداق نوعي لشيء شكّ في طهارته ، فهذا الإيراد غير تامّ.

والرأي الآخر في المسألة : أنّ القواعد الاصوليّة يستفاد منها في أكثر أبواب الفقه ، ولا تختصّ بباب دون باب كالاستصحاب ، وأمّا القواعد الفقهيّة فيستفاد منها في باب واحد ، مثل : قاعدة «ما يضمن» ، فإنّها تجري في باب العقود التي

٩٦

كانت فيها المعاوضة فقط ، بخلاف أبواب النكاح والإرث وأمثال ذلك.

ولازم هذا الكلام ـ لو تمّ ـ خروج قاعدتي الطهارة والحلّيّة من المسائل الاصوليّة ، فإنّهما تجريان في مواردهما فقط.

والأولى في التمايز ما يستفاد من ذيل كلام استاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ وهو : أنّ للقواعد الاصوليّة عنوان الآليّة في الاستنباط ، بخلاف القواعد الفقهيّة فإنّ لها عنوانا استقلاليّا وإن وقعت في طريق استنباط الأحكام الكلّيّة وكانت كلتيهما بصورة كلّيّة الجنسيّة.

ولازم هذا الكلام كون الاصول العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة من المسائل الاصوليّة ، مثل : الاصول العمليّة الجارية في الشبهات الحكميّة ، كما هو الحقّ في المسألة ؛ إذ لا دليل للتفكيك بينهما كما سيأتي في محلّه.

ويبقى على هذا المبنى إشكال واحد ، وهو خروج قاعدتي الحلّيّة والطهارة ـ أي البراءة الشرعيّة ـ من المسائل الاصوليّة ؛ إذ لا معنى للآليّة فيهما. فتدبّر.

٩٧
٩٨

الأمر الثاني

تعريف الوضع وأقسامه

وقبل الورود في مبحث معنى الوضع لا بدّ من بيان كيفيّة الارتباط بين اللّفظ والمعنى ، فقد نسب إلى بعض العلماء أنّ منشأ دلالة الألفاظ على المعاني هي المناسبة الذاتيّة بينهما ، من دون أن يكون هناك وضع وتعهّد من أحد ، ولكنّه لم يذكر دليلا مستقلّا على مدّعاه. نعم ، استدلّ لنفي مدخليّة الوضع هنا ، ثمّ استفاد منه العلاقة الذاتيّة بين اللّفظ والمعنى.

أقول : هل المراد من العلاقة الذاتيّة هي العلاقة العلّيّة والمعلوليّة أو العلاقة الاقتضائيّة؟ وعلى كلا التقديرين هل المقصود من المعنى واقعيّة المعنى أو انتقال ذهن المستمع إلى المعنى؟ فلو كان المراد علّيّة تامّة وواقعيّة المعنى ـ يعني كون الألفاظ علّة موجدة لحقيقة المعاني ، مثل : كون وجود النار علّة موجدة لحقيقة الحرارة ـ فلا شكّ في بطلانه ثبوتا وإثباتا. وهكذا لو كان المراد العلاقة الاقتضائيّة وواقعيّة المعنى ، بأن يكون اللّفظ علّة موجدة لحقيقة المعنى ولو بنحو الاقتضاء ، فإنّا نرى بالبداهة تحقّق اللفظ بعد تحقّق المعنى ؛ إذ التسمية تكون بعد الاختراع وولادة المولود لو التزم بشمول أعلام شخصيّة أيضا.

أمّا لو كان المراد علّيّة تامّة لانتقال ذهن المستمع من اللفظ إلى المعنى

٩٩

فبطلانه من أوضح الواضحات ؛ لأنّ لازم ذلك تمكّن كلّ شخص من الإحاطة بتمام اللّغات ، فضلا عن لغة واحدة.

وأمّا لو كان المراد من المناسبة الذاتيّة أن يكون سماع اللّفظ مقتضيا لانتقال الذهن إلى معناه ففيه : أنّ ذلك وإن كان بمكان من الإمكان ثبوتا وقابلا للنزاع ، إلّا أنّه لا دليل على تحقّقها كذلك في مرحلة الإثبات ، فلا يمكن الالتزام بها.

ويستفاد من كلمات الأعاظم دليلان لإبطال هذا الاحتمال : أحدهما : من كلمات الإمام ـ دام ظلّه ـ ، والآخر : من كلمات بعض الأعلام.

قال الإمام ـ دام ظلّه ـ (١) : ثمّ إن دعوى وجود المناسبة الذاتيّة بين الألفاظ ومعانيها كافّة قبل الوضع ممّا يبطله البرهان المؤيّد بالوجدان ؛ إذ الذات البحت البسيط التي لها عدّة أسماء متخالفة من لغة واحدة أو لغات ، إمّا أن يكون بجميعها الربط بها ، أو لبعضها دون بعض ، أو لا ذا ولا ذاك. فالأوّل يوجب تركّب الذات وخروجها من البساطة المفروضة ، والأخيران يهدمان أساس الدعوى.

وقال بعض الأعلام (٢) : إنّه لا يعقل تحقّق المناسبة المذكورة بين جميع الألفاظ والمعاني ؛ لاستلزام ذلك تحقّقها بين لفظ واحد ومعاني متضادّة أو متناقضة ، كما إذا كان للفظ واحد معان كذلك ، كلفظ «جون» الموضوع للأسود والأبيض ، ولفظ «القرء» للحيض والطهر ، وغيرهما ، وهو غير معقول.

وأمّا الدليل الذي أقاموه لنفي مدخليّة الوضع فهو : لو لا هذه المناسبة بين

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ١٤.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٣٢ ـ ٣٣.

١٠٠