دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

الغير الركنيّة وبعض الشرائط ، مثل : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (١) و «لا صلاة إلّا بطهور» (٢) ، ونحوهما.

وأمّا تقريب الاستدلال بالطائفة الاولى حسب ما يستفاد من كلام صاحب الكفاية : أنّه جعل ماهيّة الصلاة ـ مثلا ـ موضوعا ، وآثار وجودها الخارجي ـ كالمعراجيّة ـ محمولا في القضيّة ، مع أنّا نرى ترتّب أمثال هذا العنوان على خصوص الصلاة الصحيحة فقط لا الأعمّ ، فلا بدّ إمّا من الالتزام بإضمار كلمة «صحيحة» فيها والقول بأنّ حقيقة القضيّة أنّ الصلاة الصحيحة معراج المؤمن ، وإمّا من الالتزام بأنّ ماهيّة الصلاة ومسمّاها مساوق للصلاة الصحيحة ، فالموضوع في الواقع هو الصلاة الصحيحة ، والمحمول لوازمها ، والأوّل خلاف الظاهر ، والثاني هو الحقّ ، فيستفاد منها أنّ الموضوع له لكلمة «الصلاة» هي الصلاة الصحيحة.

ولكنّ هذا الاستدلال ليس بتامّ ؛ لأنّ المعراجيّة وأمثال ذلك وإن كان من اللوازم والآثار للأفراد الصحيحة ـ والمراد من الصلاة في القضيّة المذكورة هو خصوص الصلاة الصحيحة ـ إلّا أنّ استعمالها فيها بنحو الحقيقة غير معلوم هنا ، بل لقائل أن يقول : إنّها استعملت فيها بنحو المجاز بقرينة العلم بكون المحمول في هذه الموارد من لوازم الوجود الخارجي ، فإنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة على المشهور.

نعم ، لو قلنا بأنّ الأصل في الاستعمال هي الحقيقة في مورد الشكّ ـ كما قال به السيّد المرتضى قدس‌سره ـ فيتمّ الاستدلال ، ولم يقل به المحقّق الخراساني قدس‌سره. هذا هو

__________________

(١) المستدرك ٤ : ١٥٨ ، الباب ١ من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث ٥.

(٢) الوسائل ١ : ٣٦٥ ، الباب ١ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

٣٠١

التقريب الأوّل للاستدلال بهذه الأخبار.

التقريب الثاني للاستدلال بهذه الطائفة من الروايات : تظهر من نفس هذه التعبيرات قاعدة كلّيّة ، وهي أنّ كلّ ما هو مسمّى باسم الصلاة يكون معراجا للمؤمن ، ويكون قربانا لكلّ تقي ونحوهما ، ويضاف إليها ما هو المسلّم عند الصحيحي والأعمّي من أنّ الصلاة الفاسدة ليست موضوعة لشيء من هذه الآثار.

ثمّ نشكّ في أنّ خروج الصلاة الفاسدة عن عموم «الصلاة معراج المؤمن» هل يكون بنحو التخصّص أو بنحو التخصيص؟ ومن المعلوم أنّ الصحيحي يقول : إنّ خروجها عنها يكون بنحو التخصّص ؛ لأنّ الصلاة الفاسدة ليست بصلاة عنده ، والأعمّي يقول : إنّ خروجها عنها يكون بنحو التخصيص ؛ إذ الصلاة الفاسدة عنده تكون من مصاديق الصلاة.

فيستدلّ الصحيحي على مدّعاه بأنّه إذا دار الأمر بين التخصّص والتخصيص فلا شكّ في أنّ التخصّص مقدّم على التخصيص ، فإنّ لازمه بقاء العامّ على عموميّته ، بخلاف التخصيص فإنّه يوجب تضييق العامّ ، فإذا كان التخصّص أولى يتمّ الاستدلال حسبما استفدنا من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الصلاة معراج المؤمن» (١) فإنّ كلّ ما هو مسمّى بهذا الاسم يكون معراجا للمؤمن ، فيكون المسمّى والموضوع له لكلمة الصلاة عبارة عن الصلاة الصحيحة لا الأعمّ.

ولكنّ هذا الاستدلال أيضا ليس بتامّ ؛ لأنّ مسألة تقدّم التخصّص على التخصيص ممّا لا شبهة فيه ولكنّه في مورده ، فلا بدّ لنا من توضيح ذلك بذكر مثالين هنا ، فلو قال المولى : «أكرم كلّ عالم» ، ثمّ قال في دليل منفصل آخر :

__________________

(١) الاعتقادات للمجلسي : ٢٩.

٣٠٢

«لا تكرم زيدا» وكان في الخارج زيدان أحدهما عالم والآخر ليس بعالم ، فلو شكّ في أنّ المراد من زيد منهيّ الإكرام هو زيد العالم أو غير العالم؟ فإن كان مراد المولى هو الأوّل فهذا يوجب تخصيص العامّ ، وإن كان مراده هو الثاني فهذا حكم مستقلّ لا يوجب التخصيص في العامّ ، بل كان خروج «زيد» عن العامّ بنحو التخصّص ، وفي هذا المورد يحكم العقلاء بتقدّم التخصّص على التخصيص وأنّ مراد المولى هو «زيد» الجاهل ، والخصوصيّة الموجودة في هذا المورد هو وقوع ترجيح التخصّص في طريق استكشاف مراد المولى.

وأمّا لو قال المولى : «أكرم كلّ عالم» ثمّ قال في دليل منفصل آخر : «لا تكرم زيدا» وكان في الخارج زيد واحد ، ولا نعلم أنّه عالم أو غير عالم ، وحينئذ لا ترديد في مراد المولى ، بل الترديد في أنّه هل يكون عالما حتّى يكون خروجه عن «أكرم كلّ عالم» على نحو التخصيص أم يكون جاهلا حتّى يكون خروجه عنه بنحو التخصّص؟ فهذا الأمر أيضا دائر بين التخصّص والتخصيص ، ولكن لا وجه لتقدّم التخصّص على التخصيص في هذا المورد ؛ إذ لا ترديد في مراد المولى حتّى يكون المخاطب في صدر استكشافه ، بل الغرض من تقديمه ارتفاع الجهل عن نفسه ، ولا يحكم العقلاء في هذا المورد بتقدّمه ، ولا أقلّ من الشكّ في عدم تقدّمه ، وليست هناك قاعدة كلّيّة تنصّ على أنّه إذا دار الأمر بين التخصّص والتخصيص فالترجيح مع التخصّص ، بل مورده وقوعه في طريق استكشاف مراد المولى فقط.

والظاهر أنّ ما نحن فيه يكون من قبيل المثال الثاني ؛ إذ لا نشكّ في مراد المولى من قوله : «الصلاة» هو : «الصلاة معراج المؤمن» سيّما بعد إضافة القاعدة الكلّيّة المذكورة إليه ، ولا شكّ في أنّ الصلاة الفاسدة ليست معراجا للمؤمن ،

٣٠٣

سواء كان خروجها عن العموم بنحو التخصّص أو التخصيص ، ولا نعلم أنّ الصلاة الفاسدة هل تكون مسمّاة باسم الصلاة أم لا ، فهذا الاستدلال مبتن على تحقّق قاعدة كلّيّة تنصّ على أنّه كلّما دار الأمر بين التخصيص والتخصّص كان التخصّص مقدّما على التخصيص. وهو كما ترى.

مع أنّ أصل الاستدلال بهذه الطائفة من الأخبار مخدوش ؛ بأنّ هذا الدليل لا ينطبق على ما ادّعاه الصحيحي في محلّ النزاع من أنّ جميع الأجزاء وشرائط القسم الأوّل داخل في محلّ النزاع بخلاف شرائط القسم الثاني والثالث ، مع أنّ الصلاة ما لم تكن واجدة لجميع الأجزاء والشرائط لم تكن معراجا للمؤمن ، فكيف ينطبق الدليل على هذا المدّعى؟!

فلو قلت : الصلاة الصحيحة من حيث الأجزاء وشرائط القسم الأوّل مؤثّرة في المعراجيّة.

قلنا : لا شكّ في أنّ الصلاة بدون قصد القربة لا تكون معراجا للمؤمن.

وإن قلت : الصلاة مقتضية لأن تكون معراجا للمؤمن.

قلنا : هذا بعينه ما ادّعاه الأعمّي.

فالاستدلال بهذه الأخبار مبتن على أن يكون المدّعي في محلّ النزاع الصحّة من حيث الأجزاء وجميع الشرائط.

وأمّا الاستدلال بالطائفة الثانية من الأخبار التي كانت لها ظهور في نفي الماهيّة لفقدان بعض الشرائط والأجزاء غير الركنيّة ، مثل : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (١) ، وأمثال ذلك بأنّه لا شكّ في دخالة فاتحة الكتاب في صحّة الصلاة ، وأنّ تركها عمدا يوجب فساد الصلاة قطعا عند الصحيحي والأعمّي ، فمع

__________________

(١) المستدرك ٤ : ١٥٨ ، الباب ١ من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث ٥.

٣٠٤

ملاحظة هذا المعنى لا بدّ لنا في مقام استكشاف المراد من الجملة المذكورة إمّا من تقدير كلمة «صحيحة» فيها ، أي لا صلاة صحيحة إلّا بفاتحة الكتاب ، ولو كان معناها كذلك فلا فائدة في الاستدلال بها ، فإنّ توقّف صحّة الصلاة عليها ممّا اتّفق عليه الصحيحي والأعمّي معا ، ولكنّ التقدير خلاف الظاهر ، مع أنّ الطريق لا ينحصر به.

وإمّا من القول بأنّ الظاهر منها نفي الماهيّة والمسمّى بدون فاتحة الكتاب ، وهذا لا ينطبق إلّا على القول الصحيحي ، فإنّه يقول بأنّ الموضوع له والمسمّى لكلمة الصلاة هي الصلاة الصحيحة لا غيرها ، ويعامل جميع الأجزاء معاملة الأجزاء الركنيّة في دخالتها في المسمّى ، بخلاف الأعمّي.

إن قلت : إنّا نشاهد في أشباه ونظائر هذا التركيب أنّه لا بدّ من الالتزام بالتقدير والحذف ، مثل : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» (١) ، فإنّا نعلم بعدم دخالة وقوعها في المسجد في صحّتها أصلا ، ولم يقل أحد بفساد صلاة جار المسجد ما لم يصلّ فيه ، فاستعمل هذا التركيب في نفي الصفة ، مثل الكمال ونحوه ، لا نفي الماهيّة والحقيقة ، فتقديره : لا صلاة كاملة لجار المسجد إلّا في المسجد ، وإذا كان الأمر هنا كذلك فيقتضي اتّحاد السياق بين الجملتين أن تكون في نوع هذه التعبيرات كلمة تناسبه محذوفة ، نحو كلمة «صحيحة» في جملة «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب».

قلنا : إنّ نفي الصفة ممنوع حتّى في مثل : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» ، بل استعملت كلتا الجملتين في نفي الماهيّة والحقيقة ، إلّا أنّ نفي الماهيّة تارة يكون على وجه الحقيقة ، مثل : «لا صلاة إلّا

__________________

(١) المستدرك ٣ : ٣٥٦ ، الباب ٢ من أبواب أحكام المساجد ، الحديث ١ و ٢.

٣٠٥

بطهور» (١) ، واخرى على وجه الادّعاء والمبالغة ، مثل : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» كما قال به السكّاكي في باب الاستعارة من المجازات.

والشاهد عليه أنّه لو فرضنا تقدير كلمة مثل : «كاملة» فإنّه لا يدلّ على المبالغة ، ولا حسن في هذا الكلام ، مع أنّ الغرض فيه إلقاء نكتة مهمّة بأنّه لا بدّ من شدّة الارتباط بين المسجد وجاره ، بحيث لو لم يصلّ في المسجد لما كانت صلاته بصلاة ، وإلّا فلم لا يقال من الابتداء : لا كمال لصلاة جار المسجد إلّا في المسجد ، ولم لا يقال في زيد أسد : زيد كثير الشجاعة. هذا تمام الكلام في استدلاله بهذه الطائفة من الأخبار.

ولكن يرد عليه : سلّمنا أنّ نفي الحقيقة قد يكون على وجه الحقيقة وقد يكون على وجه الادّعاء والعناية ، وأنّ نفي الحقيقة في جملة : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» يكون على نحو العناية والادّعاء ، إلّا أنّ الكلام في أنّه ما الدليل على أن يكون نفي الحقيقة في جملة : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» على نحو الحقيقة؟ ويمكن أن يقال : إنّه أيضا يكون على نحو العناية.

نعم ، يصحّ الاستدلال بهذه الرواية لو أثبتنا من الخارج مع قطع النظر عن هذه الأخبار أنّ كلمة الصلاة وضعت لماهيّة الصحيحة ، ولكنّ المفروض إنّا نستدلّ به بنفس هذه العبارة.

ويمكن أن يقال في مقام الدفاع عن صاحب الكفاية : إنّ السكاكي وإن قال في باب الاستعارة : إنّه لا يكون فيها استعمال في غير ما وضع له أصلا ، سواء اريد من كلمة «الأسد» الحيوان المفترس أم اريد به الرجل الشجاع ، وأمّا إن استعملت عنده جملة : «رأيت أسدا» بغير القرينة ، فلا شكّ في أنّه يحملها على

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٥ ، الباب ١ من نواقض الوضوء ، الحديث ١.

٣٠٦

المعنى الحقيقي بحكم أصالة الحقيقة.

وبعبارة اخرى : أنّ الاستعارة وإن لم تكن استعمالا في غير ما وضع له إلّا أنّه لا بدّ لها من القرينة ، وإلّا تحمل على الفرد الحقيقي ، وهكذا في ما نحن فيه بأنّ النفي في جملة : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» يحمل على نفي الحقيقة الادّعائيّة بمقتضى القرينة ، وأمّا في جملة : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» فلا قرينة حتّى يحمل عليه ، ولذا يحمل النفي فيها على نفي الحقيقة حقيقة بحكم أصالة الحقيقة.

ولا يخفى أنّ هذا الكلام ليس بتامّ ؛ لأنّ جريان هذا الأصل مختصّ بموارد الشكّ في مراد المتكلّم ، كما في مثل : «رأيت أسدا» ، وأمّا في مثل : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» فلا شكّ في مراد المتكلّم ، وأنّ فاتحة الكتاب دخيلة في الصحّة كما هو أساس الاستدلال على ما مرّ ، إنّما الشكّ في دخالة فاتحة الكتاب وأمثالها في المسمّى وعدمها ، وهذا ليس محلّ التمسّك بأصالة الحقيقة.

وأمّا الدليل الرابع للصحيحي ـ على ما ذكره في الكفاية ـ فهو : إنّا نقطع بأنّ طريقة المخترعين من العقلاء إذا اخترع أحدهم مركّبا ذا أجزاء وشرائط ـ كالسيارة ـ فإنّهم يضعون اللفظ للمركّب الصحيح التامّ الأجزاء والشرائط ؛ لأنّ حكمة الوضع ـ أي التفهيم والتفهّم بسهولة ـ مترتّبة على التامّ الأجزاء والشرائط ؛ لأنّه منشأ الآثار ومحطّ الأغراض ومورد احتياج الناس في محاوراتهم.

ولا يتوهّم أنّ الاحتياج لا يختصّ باستعمال الألفاظ في المركّب الصحيح حتّى يدّعي وضعها له ، بل الحاجة إلى استعمالها في الفاسد أيضا موجودة ، فالداعي إلى وضعها للأعمّ متحقّق.

٣٠٧

فإنّا نقول : إنّ الحاجة المذكورة لم تكن بحدّ تقتضي كون الاستعمال في الناقص على وجه الحقيقة ليثبت بها الوضع للأعمّ ؛ لإمكان أن يكون استعمالها في الناقص بالعناية والمجاز وتنزيل الفاقد منزلة الواجد ، وإذا كان الأمر في المركّبات المخترعة كذلك فمعلوم أنّ الشارع لم يتخطّ هذه الطريقة ، بل سلك مسلكهم ووضع الألفاظ لخصوص الصحيح.

وفيه : أوّلا : أنّ صريح الوجدان يحكم بعدم كون إطلاق كلمة «السيارة» على فاقد جزء من الأجزاء على وجه العناية والمجاز ، بل يطلق على الواجد والناقص بنحو الحقيقة ، كما نشاهده في محاورات الناس.

وثانيا : أنّ الحاجة للاستعمال في الفاقد والفاسد أوفر وأكثر من الحاجة للاستعمال في الصحيح ؛ لأنّ للفاسد أبعادا مختلفة بتعداد الأجزاء والشرائط ، ويؤيّده كثرة السؤال والجواب عن العبادات الفاسدة في الاستفتاءات ونحوها ، وأمّا للصحيح فبعد واحد ، ولا احتياج فيه إلى السؤال كما هو معلوم ، فلعلّ الأعمّي يتمسّك به واستفاد منه لإثبات قوله ، وأنّ هذا دليل لوضع الألفاظ للأعمّ ؛ بأنّ حكمة الوضع عبارة عن حاجة الاستعمال ، وهي تقتضي وضعها للأعمّ.

مع أنّ أساس القول بالصحيح مبتن على تخطّ الشارع عن طريقة العقلاء في مقام الوضع والتسمية ، فإنّ العقلاء حين الوضع يلاحظون جميع الأجزاء والشرائط ، ويضعون اللفظ لجميعها.

وأمّا الصحيحي فيدّعي أنّ الشارع وضع اللفظ للأجزاء وشرائط القسم الأوّل ، وأمّا شرائط القسم الثاني والثالث فلا دخل لهما في المسمّى والموضوع له ، وهذا يستلزم أن يكون استعمال لفظ الصلاة في الصلاة الفاقدة لقصد القربة

٣٠٨

على وجه الحقيقة ، واستعماله في الصلاة الفاقدة لفاتحة الكتاب على وجه العناية والمجاز ، وهو كما ترى. هذا تمام الكلام في أدلّة القائلين بالصحيح وجوابها.

الكلام في أدلّة القول بالأعمّ

اعلم أنّ الأعمّي استدلّ بوجوه ، وأوّل ما يصلح أن يكون دليلا له ما ذكرناه آنفا في ذيل الجواب عن الصحيحي من أنّه لو قلنا بأنّ المسمّى والموضوع له عبارة عن المركّب الواجد لجميع الأجزاء والشرائط بلا فرق بين شرائط القسم الأوّل والثاني والثالث بحيث إن تحقّق المسمّى في الخارج بلا زيادة ونقيصة من حيث الأجزاء والشرائط الدخلية فيه يتّصف بعنوان الصحّة فله وجه.

وأمّا لو قلنا : بأنّ المسمّى عبارة عن المركّب الواجد لجميع الأجزاء وشرائط القسم الأوّل فقط ، فلو تحقّق جميع ما له دخل في المسمّى بلا زيادة ونقيصة فهل يتّصف بالصحّة أم يتّصف بالفساد؟ ومعلوم أنّ من شرائط صحّة الصّلاة إتيانها مع قصد القربة عند الكلّ ، وعدم ابتلائها بالمزاحم الأقوى كالإزالة ـ على قول ـ مع أنّهما من شرائط القسم الثاني والثالث. وهذا عين ما يدّعيه الأعمّي من أنّ لفظ الصلاة ـ مثلا ـ وضع للأعمّ من الصحيح والفاسد ، ولكن بشرط أن تكون الأركان موجودة فيها ، فإنّ الصحيحي قائل بالتفكيك بين الأجزاء وبعض الشرائط ؛ بأنّ الصلاة إذا كان فسادها لأجل فقدان فاتحة الكتاب فهي ليست بصلاة ، وأمّا إذا كان فسادها لأجل فقدان قصد القربة فهي صلاة ، وهذا لا يوجب الفرق في أصل الوضع للأعمّ ، مع أنّ صريح الوجدان يمنع عن هذا الكلام ؛ إذ لا شكّ في صحّة الصلاة في صورة نسيان فاتحة الكتاب ، فضلا عن صدق لفظ الصلاة عليها ، بخلاف قصد القربة فإنّها

٣٠٩

روح العبادة ، والصلاة بدونه باطلة قطعا.

ومن الوجوه التي ذكروها للقول بالأعمّ حديث «لا تعاد» الذي يشتمل على المستثنى والمستثنى منه ، وهو قوله عليه‌السلام : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس : الطهور والوقت والقبلة والرّكوع والسّجود» (١).

وأمّا الاستدلال به فيتوقّف على ذكر مقدّمة ، وهي : أنّه لا يصحّ إضافة كلمة «الإعادة» إلى الصلاة الصحيحة وإسنادها إليها ؛ إذ لا معنى لإعادتها بعد مطابقة المأتي به مع المأمور به ، وهكذا لا يصحّ إضافتها إلى الصلاة الفاسدة أيضا ؛ إذ لا تكون الإعادة فيها إلّا بتكرار تلك الفاسدة ، ولا أثر في تكرار الصلاة الفاسدة أصلا ، ولا تصير الصلاة صحيحة بإعادة الصلاة الفاسدة ، فلا محالة استعملت كلمة «الصلاة» هاهنا في المعنى الأعمّ من الصحيحة والفاسدة حتّى تضاف إليها الإعادة وعدمها معا ، فيستفاد منه أنّ كلمة «الصلاة» استعملت هاهنا في المعنى الأعمّ.

إن قلت : سلّمنا أنّ كلمة «الصلاة» قد تستعمل في المعنى الأعمّ ، وأمّا استعمالها فيه فلا يكون بنحو الحقيقة ، بل يكون بنحو المجاز ، وإنّما الشكّ في كيفيّة الاستعمال لا في مراد المتكلّم حتّى يتمسّك بأصالة الحقيقة.

قلنا : إنّ هذا المعنى ممّا لا إشكال فيه ، ومعلوم أنّ الاستعمالات المجازيّة تكون من محسّنات الاستعمال ، إلّا أنّ لها محلّا خاصّا وموردا مخصوصا ، ولا حسن فيها في جميع الموارد ، بل توجب الفساد والقبح في بعض الموارد ، مثل استعمالها من قبل القاضي في مقام القضاء ، وجريان أنواع العقود بها سيّما عقد النكاح. وهكذا في ما نحن فيه ، فإنّ هذا الحديث كان قابلا للاستناد في موارد

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٦٨٣ ، الباب ١ من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث ١٤.

٣١٠

كثيرة من الفقه ، وموردا لاحتياج الفقهاء في طول الزمان ، فكيف تناسب المقام هذه المجازيّة والاستعارة؟! فلا تصل النوبة بعد الاستعمال في الأعمّ إلى السؤال بأنّ هذا الاستعمال يكون على نحو المجاز أم لا.

ويمكن الإشكال على الاستدلال المذكور بأنّ أساس هذا الاستدلال مبتن على أنّ في الحديث جملتين : إحداهما : جملة نافية ـ أي «لا تعاد الصلاة من غير هذه الخمسة» ـ والثانية : جملة مثبتة ـ أي «تعاد الصلاة لهذه الامور الخمسة» ـ وأنّ كلمة «الصلاة» في كلتا الجملتين على معنى واحد ؛ لوحدة السياق ، ولكن في الجملة الاولى نسبة عدم الإعادة إلى الصلاة لا نفس الإعادة ، ولا مانع من نسبة عدم الإعادة إلى الصلاة الصحيحة كما هو المعلوم ، فيكون المراد من الصلاة فيها الصلاة الصحيحة.

وأمّا في الجملة الثانية فلم تذكر كلمة «تعاد» مضافة إلى كلمة «الصلاة» ، بل المذكور فيها كلمة «إلّا» واستفيد منها هذا المعنى ، فكيف يحكم بأنّه قد استعملت في الرواية كلمة «تعاد» مضافة إلى «الصلاة» وأنّ الإمام عليه‌السلام قد أضاف الإعادة إليها ، مع أنّ المحور في العلوم الأدبيّة هو اللفظ لا المعنى ، ولا تكون كلمة «إلّا» قائمة مقام جملة «تعاد الصلاة» من حيث اللفظ والمعنى معا؟!

ثمّ أضاف إلى ذلك أنّ لوحدة السياق موردا مخصوصا وهو صورة استعمال الجملتين متعاقبا ، مثل : «قام زيد» و «قام عمرو» فتقتضي وحدة السياق أن تكون كلمة «قام» في كلتا الجملتين بمعنى واحد.

وأمّا إذا لم يكن كذلك بل عطفت إحداهما على الاخرى وإن كان العطف بالواو ـ مثل قام زيد وعمرو ـ فلم تكن بينهما وحدة سياق ؛ لإمكان أن يكون المراد من كلمة «قام» في الاولى القيام بعد القعود ، وفي الثانية القيام بالسيف.

٣١١

وقد انقدح من ذلك أنّه لم يكن بين المستثنى والمستثنى منه وحدة سياق أصلا.

وجوابه : أوّلا : إنّا لا نسلّم عدم تحقّق وحدة السياق في المثال المذكور ، وإلّا يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، أو كون المثال مجملا ؛ مع أنّ العرف يمنع من أن يكون بين المثالين فرقا من حيث المعنى.

وثانيا : على فرض تسليم الفرق بينهما أنّ كلمة «إلّا» إذا كانت مسبوقة بكلمة «لا» و «ما» فتكون من العناوين الحصريّة ، بل كانت من أهمّها ، وأنّه يقال في تعريف المفهوم المخالف : أنّه عبارة عن الجملة التي تكون مغايرة للمنطوق في النفي والإثبات ، فيستفاد منهما أنّ المفهوم مرتبط بكلام المتكلّم وكأنّه صرّح به ، ويؤيّده ما يقال في باب التعادل والترجيح من تعارض المنطوق والمفهوم ، كما في قوله عليه‌السلام : «إذا خفي الأذان فقصّر» (١) وقوله عليه‌السلام : «إذا خفي الجدران فقصّر» (٢).

ولكن اختلفوا في تحقّق المفهوم وعدمه في القضايا ، بخلاف أداة الحصر فإنّ تحقّق المفهوم فيها ممّا اتّفق عليه الكلّ ، والاختلاف في أنّه جزء المنطوق أم لا ، فلا تكون جملة المستثنى في الحديث بمعنى تفسير كلمة «إلّا» ، بل هي ممّا صرّح به المتكلّم ، وكلمة «إلّا» قامت مقامها من حيث اللفظ ، وحينئذ إذا كان المعنى في جملة «تعاد الصلاة» أعمّ من الصحيح والفاسد ، فيقتضي وحدة السياق أن يكون في جملة «لا تعاد» أيضا كذلك.

هذا. ومن الوجوه التي استدلّ بها الأعمّي استعمال الصلاة وغيرها في غير واحد من الأخبار في الفاسدة كقوله عليه‌السلام : «بني الإسلام على خمس : الصلاة

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٧٠ ، الباب ٦ من صلاة المسافر.

(٢) المصدر السابق.

٣١٢

والزكاة والحجّ والصوم والولاية ، ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بالأربع وتركوا هذه» (١).

وتقريب الاستدلال بأنّه لا يخفى أنّ المراد من كلمة «لم يقبل» في ذيل الحديث عبارة عن عدم الصحّة ، وأنّ الولاية شرط صحّة العبادات ، فلا بدّ أن تكون ألفاظ العبادات موضوعة للأعمّ ليصدق أخذهم بالأربع ، وإلّا لما كانوا آخذين بالأربع ، وعلى الوضع للصحيح لا يصحّ القول بأنّهم آخذون بالأربع.

وأجاب عنه صاحب الكفاية (٢) : أوّلا : بأنّه لو تمّ الاستدلال المذكور فغايته إثبات استعمال الألفاظ المذكورة في الفاسدة ، وهو غير مثبت للوضع للأعمّ الذي هو المدّعى ، فإنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، ويمكن أن يكون الاستعمال بنحو المجاز.

ولكنّه ليس بتامّ ؛ لأنّ للاستعمال المجازي موردا مخصوصا ـ كما مرّ ـ وليس هذا الحديث موردا له ، فإنّه عليه‌السلام كان في مقام بيان عظمة مرتبة الولاية ، فلو كان المراد من الأربع : «الصلاة والصوم ...» المجازي فلا عظمة للولاية ، فلا محالة يكون معنى الحديث أنّه لو أنّ أحدا صام نهاره بالصوم الحقيقي ... لم يقبل له صوم ولا صلاة.

وثانيا : بأنّه لا نسلّم أن يكون الاستعمال في الحديث للأعمّ ؛ إذ لا شكّ في أنّ المراد من الأربع في صدر الرواية هو الصحيح بقرينة بناء الإسلام عليها ، فلا بدّ من أن يحمل الأربع في الذيل وقوله عليه‌السلام : «صام نهاره ...» أيضا على الصحيح ، فإنّا نعلم أنّ المراد من الأربع في ذيل الحديث هو الأربع المذكورة في الصدر ؛

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٨ ، الحديث ٣.

(٢) كفاية الاصول ١ : ٤٧ ـ ٤٨.

٣١٣

لأنّ الألف واللام في كلمة الأربع للعهد الذكري ، فاستعمل الأربع هاهنا في الصحيح ، غايته هو الصحيح باعتقادهم دون الصحيح الواقعي النفس الأمري ، فيكون الاختلاف بيننا وبينهم في معنى الصحّة نظير اختلاف فقهائنا فيه ، فالألفاظ لم تستعمل إلّا في الصحيح ، إلّا أنّ تاركي الولاية أخطئوا في تطبيق الصحيح على عباداتهم.

ومن الأخبار المذكورة قوله عليه‌السلام : «دعي الصلاة أيّام أقرائك» (١).

وتقريب الاستدلال به يكون على نحوين على حسب احتمالين :

الأوّل : أن يكون النهي في الحديث مولويّا ؛ بأن تكون صلاة الحائض مبغوضة عند المولى بحيث لو ارتكبتها استحقّت العقاب ، فالاستدلال على هذا الاحتمال بأنّه لا شكّ في اعتبار القدرة في متعلّق النهي والأمر ، وكون التكليف مقدورا عليه ، فنستكشف من توجّه التكليف إلى الحائض وأنّها تقدر عليه ، مع أنّ الصلاة الصحيحة ليست مقدورة لها ، فلا بدّ من الوضع للأعمّ ، وإلّا يستلزم النهي عن الأمر الغير المقدور. فهذا الحديث يدلّ على الوضع للأعمّ.

وجوابه : أنّ هذا المعنى يستلزم أن يكون إتيان الصلاة محرّما على الحائض ذاتا وإن لم تقصد به القربة ، ولا أظنّ أن يلتزم به أحد حتّى المستدلّ بالرواية ، فلم تستعمل الصلاة هاهنا إلّا في الصلاة الصحيحة مع قطع النظر عن الحيض ، فالصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط سوى الطهارة من الحيض محرّمة على الحائض وتوجب العقوبة ، فهذه ليست بصلاة عند الصحيحي ، ولا تنطبق على ما ادّعاه الأعمّي ، فإنّ الطهارة من الحيض دخيلة في التسمية عند الصحيحي ؛ لكونها من شرائط القسم الأوّل ، ولا ينحصر الموضوع له بالفاسد

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٨٧ ، الباب ٧ من أبواب الحيض ، الحديث ٢.

٣١٤

من حيث الطهارة عند الأعمّي. فهذا التقريب ليس بتامّ.

وأمّا الاحتمال الثاني فإن يكون النهي في الحديث إرشاديّا ، بأن يكون الخلو من الحيض من شرائط الصحّة عند الشارع ، مثل قوله عليه‌السلام : «لا تبع ما ليس عندك» (١) ، فلا يكون معناه حرمة البيع رأسا ، بل معناه عدم وقوع البيع لغير المالك ، فإنّه مشروط بأن يكون البائع مالكا أو مأذونا في البيع ، وهكذا في ما نحن فيه ؛ لأنّ صلاة الحائض مشتملة على المانع ، فتكون الصلاة في حال الحيض باطلة ، وأمّا إتيانها بعنوان المأمور به فيوجب إسناد ما ليس من الشارع إليه ، فتكون الحرمة من حيث التشريع لا من جهة نفس العمل.

وأمّا تقريب الاستدلال على هذا الاحتمال بأنّه يشترط في التكليف ـ سواء كان مولويّا أو إرشاديّا ـ أن يكون متعلّقه مقدورا للمكلّف ، فحينئذ لو قال الشارع : الحيض مانع من الصلاة أو يشترط في الصلاة الخلو عن الحيض ، فلا شكّ في أنّ المراد من الصلاة هنا هي الصلاة الصحيحة ، ولا يكون قابلا للاستدلال.

وأمّا لو قال : «دعي الصلاة أيّام أقرائك» ، فلازمه أن تكون الصلاة مقدورة للمكلّف من حيث الفعل والترك ، ومعلوم أنّ الصلاة الصحيحة ليست مقدورة لها ، فلا محالة يكون متعلّق النهي ما هو الأعمّ من الصحيح والفاسد حتّى يكون المكلّف قادرا على إيجاده وتركه ، وهذا لا يستلزم أن تكون للصلاة حرمة ذاتيّة ؛ إذ النهي إرشادي بمعنى عدم وقوع صلاتك صحيحة.

ومن الوجوه التي استدلّ بها الأعمّي أنّه لا شبهة ولا إشكال في صحّة تعلّق النذر بترك الصلاة في مكان تكره فيه ـ كالحمّام مثلا ـ بأن يقال : لله عليّ ألّا

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٤٧ ، الباب ٧ من أبواب أحكام العقود ، الحديث ٢.

٣١٥

اصلّي في الحمّام ، وأيضا لا إشكال في حصول الحنث بفعلها فيه ، فيستفاد منهما أنّ كلمة «الصلاة» وضعت للأعمّ ؛ إذ الصلاة في الحمّام بعد تعلّق النذر بها تكون منهيا عنها ، ومعلوم أنّ النهي في العبادة يقتضي الفساد ، فلا محالة تكون الصلاة فيه بعد النذر فاسدة ومع ذلك يوجب الحنث فيه ، فيستكشف أنّ معنى الصلاة في عقد النذر هو الأعمّ من الصحيح ، وإلّا لم يحصل الحنث بها أصلا ، مع أنّ من شرائط انعقاده ألّا يوجب النذر سلب القدرة عن الناذر ، ولا شكّ في أنّه لو كان المراد من الصلاة في العقد الصلاة الصحيحة فلا يقدر الناذر على إتيانها ، بل هو قادر على إتيان الصلاة بالمعنى الأعمّ فقط.

ولكن هذا الاستدلال مردود لوجوه :

الأوّل : أنّ غاية ما يستفاد منه على فرض التماميّة هو استعمال كلمة «اصلّي» في المعنى الأعمّ حسبما يقتضيه الدليلان المذكوران ، ومن المعلوم أنّ هذا المعنى لا ينطبق على ما ادّعاه الأعمّي من أنّ كلمة «الصلاة» وضعت للأعمّ ؛ إذ يمكن أن يكون الاستعمال هنا مجازيّا ، فإنّه لم تكن قاعدة فقهيّة كلّيّة ، بل هو استعمال صدر من المكلّف ، ولا مانع من كونه مجازيّا.

الثاني : أنّ الأعمّي يدّعي استعمال كلمة «اصلّي» في معنى الأعمّ ، وهكذا يدّعى أنّ ألفاظ العبادات تشمل جميع ما تصدق عليه هذه الألفاظ من الصحيح والفاسد ، ولكن تسأل بأنّ الناذر إذا صلّى أربع ركعات للظهر في الحمّام بدون طهارة ، هل يحصل الحنث بها أم لا؟

إن قلت : بالحنث بها.

قلنا : لم يلتزم به أحد من الفقهاء.

وإن قلت : بالفرق بين فساد الصلاة في الحمّام من ناحية تعلّق النذر بتركها

٣١٦

وبين فسادها فيه من ناحية فقدان الطهارة أو فقدان بعض الأجزاء والشرائط ، وتحكم بصدق الصلاة عليها في الأوّل دون الثاني.

قلنا : هذا يوجب الاستهزاء بين الناس ، مع أنّه لا رجحان في ترك الصلاة الفاسدة في الحمّام حتّى تعلّق النذر بها.

الثالث : أنّه لو سلّمنا جميع ما ذكره الأعمّي هنا فلا ريب في أنّ الإشكالين المذكورين مشتركا الورود على الصحيحي والأعمّي ؛ إذ لو قال الناذر : «لله عليّ ألّا اصلّي صلاة صحيحة في الحمّام» ، فلا شكّ في صحّة هذا النذر عند الصحيحي والأعمّي ، فإنّ ترك الصلاة الصحيحة في الحمّام راجح عند الكلّ ، وهكذا لا شكّ في أنّه لو صلّى في الحمّام يوجب الحنث عند الكلّ مع كونها فاسدة ، ومع أنّ هذا النذر موجب لسلب القدرة عن الناذر ، فكيف الحلّ في هذا المثال حتّى نلتزم به في مثل : «لله عليّ ألّا اصلّي في الحمّام»؟ فهذا الاستدلال ليس بتامّ.

وأمّا حلّ المسألة وكيفيّة انعقاد النذر بما أشار إليه المحقّق العراقي والمرحوم الحائري قدس‌سرهما وكمّله استاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ وهو : أنّ النذر على نحوين ؛ إذ الناذر قد يقول : «لله عليّ ألّا اصلّي في الحمّام» ، فهذا مطلق ، وكان له مصداقان : أحدهما : ترك الصلاة في الحمّام فقط ، وثانيهما : ترك الصلاة رأسا ؛ إذ يصدق عليه أنّه لم يصلّ في الحمّام ، كما أنّه يصدق عليه أنّه لم يصلّ في المسجد والدار ، وإذا كان النذر بهذه الكيفيّة فهو باطل ولم ينعقد أصلا ، فإنّ أحد مصداقي النذر لو لم يتحقّق بترك الصلاة رأسا فلا رجحان فيه ، فلم ينعقد النذر كما هو معلوم.

وقد يقول : «لله عليّ ألّا اصلّي صلاتي الواجبة في الحمّام» ، فإذا كان العنوان

٣١٧

كذلك فيكون متعلّق النذر بحسب الواقع وقوع الصلاة في الحمّام لا نفس الصلاة ، بل خصوصيّة من خصوصيّاتها.

وبعبارة اخرى : يكون متعلّق النذر تأيّن الصلاة في الحمّام واتّصاف وقوعها في الحمّام ، فالمنهي بعد النذر هو الوصف والخصوصيّة ، لا نفس الصلاة ، فلا مانع من صحّة الصلاة في ما نحن فيه ، ونظيره نذر المستحبّات ، مثل صلاة الليل ؛ لأنّ الواجب هو الوفاء بالنذر ، لا صلاة الليل ، وكذلك في ما نحن فيه. ومن المعلوم أنّ الأمر أو النهي إذا تعلّق بعنوان لم يمكن أن يتجاوز عنه إلى غيره ولو كان بينهما ملازمة واتّحاد من حيث الوجود.

وبعبارة أوضح : أنّ متعلّق النذر هو متعلّق الكراهة ، ومعلوم أنّ للصلاة في الحمّام حيثيّتين : إحداهما : الحيثيّة الصلاتيّة ، وهي في مقابل ترك الصلاة ، والثانية : حيثيّة إيقاعها وإيجادها في الحمّام ، وهي في مقابل إيقاعها في الدار أو في المسجد ، والكراهة والمرجوحيّة متعلّقة بهذه الحيثيّة ، ولذا لا يصحّ التعبير بأنّ الصلاة في الحمّام من العبادات المكروهة ، فإنّ معناه تعلّق الكراهة بنفس الصلاة ، كما أنّه لا يصحّ القول : بأنّ الكراهة هنا تكون بمعنى أقلّيّة الثواب ، فإنّ إيقاع الصلاة في الحمّام تكون من المكروهات الواقعيّة ، فيكون النذر بترك الصلاة في الحمّام بمعنى النذر بترك المكروه والمرجوح ، وهي عبارة عن تأيّنها وتحيّثها فيه. وقد أشرنا إلى أنّ تجاوز الأحكام من دائرة متعلّقها ليس بممكن ، ولا معنى لدخل ملازمات الوجود الخارجي في مقام تعلّق الحكم ؛ لأنّ مرحلة تعلّق الحكم مقدّم على مرحلة الوجود الخارجي ، ومن هنا نرى أنّ الأعاظم من تلامذة المحقّق الخراساني قدس‌سره قالوا بجواز اجتماع الأمر والنهي ؛ بأنّ الأمر متعلّق بعنوان الصلاة ، ولم يتجاوز عنه إلى عنوان آخر ، وهكذا النهي متعلّق

٣١٨

بعنوان الغصب ، وإن جمع أحد في مقام الامتثال بين العنوانين وأتى بالصلاة في الدار المغصوبة فلا دخل له بمقام تعلّق الأحكام ، فإنّ الاتّحاد الوجودي متأخّر عن مرحلة تعلّق الأحكام.

فيكون لإتيان الصلاة في الحمّام بعد النذر عنوانان : أحدهما : عنوان الصلاة بما أنّها صلاة ، وهو ليس إلّا المأمور به. وثانيهما : عنوان وقوعها وتحيّثها فيه ، وهو المكروه ، ويعرضه الحرمة بعد النذر حسب ما يقول به الأعمّي ، فهو المنهي عنه ، فلم يتجاوز الأمر والنهي المتعلّق بأحدهما إلى الآخر ، ولازم ذلك أن يكون إتيان الصلاة بعده فيه مع حرمته صحيحا. وعلى هذا يحصل حنث النذر بالصلاة الصحيحة لا الفاسدة ، ولا يسلب القدرة عن الناذر أصلا.

والحاصل : أنّه يتوجّه إلى هذا الناذر ثلاثة أدلّة :

الأوّل : دليل وجوب الصلاة ، مثل : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ)، ومتعلّقه عبارة عن ماهيّة الصلاة ، ولا يتعدّاها إلى العناوين المتّحدة معها في الخارج ، فلا دخل للوقت والمكان وسائر الخصوصيّات في المتعلّق ، فإنّ تمام المتعلّق هو نفس ماهيّة الصلاة.

الثاني : دليل كراهية إتيان الصلاة في الحمّام ، ومتعلّقه خصوصيّة من خصوصيّات الصلاة ، وهي حيثيّة وقوعها في الحمّام ، ومقابلها حيثيّة وقوعها في مكان آخر لا تركها رأسا ، وهو أيضا لا يتعدّى عن متعلّقه إلى عناوين أخر حتّى إلى نفس الصلاة.

الثالث : دليل وجوب الوفاء بالنذر ، مثل : «أوفوا بالنذور» ومتعلّقه عبارة عن العنوان الكلّي ، وهو وجوب الوفاء بالنذر ، وهو أيضا لا يتعدّى منه إلى مصاديقه ، فإذا قال المولى : «أكرم إنسانا» لم يصحّ القول بأنّه : أوجب إكرام زيد

٣١٩

ـ مثلا ـ فإنّه إنسان مع الخصوصيّات الفرديّة ، ومتعلّق الحكم عبارة عن الإنسان الكلّي ، وهكذا في ما نحن فيه ؛ فإنّ لعنوان الوفاء بالنذر مصاديقا متعدّدة ، مثل : نذر إعطاء الصدقة إلى الفقراء ، ونذر إتيان صلاة الليل ، ونذر ترك الصلاة في الحمّام. ولا يصحّ القول بأنّ المولى حيث أوجب الوفاء بالنذر فأوجب علينا إتيان صلاة الليل المنذورة ؛ إذ الواجب هو عنوان الوفاء بالنذر ، وصلاة الليل باقية على استحبابها ، فالتعبير بأنّ الحجّ ـ مثلا ـ قد يجب بالنذر لا يخلو عن مسامحة ، فإنّ دليل الوفاء بالنذر لا يسري عن متعلّقه إلى غيره أصلا ، فلا يجب بالنذر إلّا الوفاء به ، مع أنّ البرهان يقتضي عدم وجوب المستحبّ بالنذر ؛ إذ لو فرضنا وجوبه بعده هل يبقى الاستحباب أم لا؟ فعلى الأوّل : يلزم أن تكون صلاة الليل ـ مثلا ـ في آن واحد معروضا للحكمين ، وهو كما ترى.

وعلى الثاني : يلزم انهدام ما هو مصحّح النذر ومقوّم وجوب الوفاء به ـ أي الاستحباب والرجحان بواسطة الوجوب ـ وهو غير معقول ، فإنّ انهدام الاستحباب يستلزم انهدام الوجوب وزواله ، فالاستحباب باق على حاله ، والواجب هو الوفاء بالنذر ، كما لا يخفى.

ومن المعلوم أنّ من شرائط انعقاد النذر وصحّته أن يكون المنذور فعل عمل راجح أو ترك عمل مرجوح ، وما نحن فيه من القسم الثاني ، فيجب الوفاء به بعد انعقاده ، بدليل : «أوفوا بالنذور» ، وهو تكليف وجوبي ، ولم يعقل تبدّل التكاليف الوجوبيّة بالتكاليف التحريميّة ، ولا دليل على حرمة مخالفة النذر ، فليس هاهنا تكليف تحريمي أصلا ، ولذا لم يعاقب تارك الصلاة ـ مثلا ـ عقوبتين ، عقوبة على ترك إتيان الواجب ، واخرى على ارتكاب المحرم ، وهكذا

٣٢٠