دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

الفصل الثاني

فيما يتعلّق بصيغة الأمر

أي هيئة افعل وما يشابهما ، وفيه مباحث :

المبحث الأوّل

في معاني الصيغة

أنّه ربّما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها ، وقد عدّ منها الترجّي والتمنّي ، والتهديد كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)(١) ، والإنذار والإهانة كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)(٢) ، والاحتقار والتعجيز كقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(٣) ، والتسخير كقوله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(٤) إلى غير ذلك.

وهو كما ترى ؛ ضرورة أنّ الصيغة لم تستعمل في واحد منها ، بل لم تستعمل

__________________

(١) فصّلت : ٤٠.

(٢) الدخان : ٤٩.

(٣) البقرة : ٢٣.

(٤) البقرة : ٦٥.

٥٠١

إلّا في إنشاء الطلب ـ أي الطلب الإنشائي في مقابل الطلب الحقيقي لا إنشاء الطلب ؛ إذ الإنشائيّة والإخباريّة كالاستقلاليّة والآليّة عن المعنى الاسمي والحرفي خارجتان عن المعنى المستعمل فيه ـ إلّا أنّ الداعي إلى ذلك كما يكون تارة هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي ، ويكون اخرى أحد هذه الامور كما لا يخفى.

وقصارى ما يمكن أن يدّعى أن تكون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك ، لا بداع آخر منها ، فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة وإنشاؤه بها تحديدا مجازا ، وهذه غير مستعملة في التحديد وغيره فلا تغفل. هذا تمام الكلام لصاحب الكفاية قدس‌سره (١).

ولكنّه يصحّ على القول باتّحاد الطلب والإرادة في جميع المراحل ؛ إذ لا فرق بين أن يقول : مفاد هيئة «افعل» هو إنشاء الطلب أو إنشاء الإرادة.

وأمّا على القول بتغايرهما وكونهما واقعتين مستقلّتين : إحداهما قائمة بالنفس والاخرى عبارة عن السعي المشاهد والمحسوس في الخارج ، فلا يكون كلّ منهما قابلا للإنشاء ، بل لا بدّ من أن يكون المنشأ أمرا اعتباريّا ، بناء على الضابطة التي حكيناها عن المرحوم البروجردي قدس‌سره ، مع أنّه لا شكّ في أنّ مفاد هيئة «افعل» هو المعنى الإنشائي ، فما الذي ينشأ بصيغة «افعل» بعد ألّا يكون الطلب قابلا للإنشاء؟

ولا بدّ لنا من التحقيق في هذه المسألة المبتلى بها والشائعة بين الناس ، فنقول : إنّ استعمال هيئة «افعل» قد يكون بداعي البعث والتحريك وتحقّق المأمور به في الخارج ، وقد يكون بسائر الدواعي كالتمنّي والترجّي والتعجيز

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٠٢.

٥٠٢

وأمثال ذلك.

وأمّا إذا كان بداعي البعث والتحريك كقولنا : «جئني بماء» فلا شكّ في تحقّق الواقعيّة النفسانيّة للمستعمل ، وهي علاقة وصوله إلى المأمور به وتمكّنه منه ، وإن لم تكن بين العلاقة والأمر ملازمة إلّا أنّ الأمر كاشف عن تحقّقها في النفس. ولا يخفى أنّ الأمر ليس بعلّة تامّة لتحقّق المأمور به في الخارج ، ولذا لا يوجب العصيان التغيير في ماهيّة الأمر وحقيقته.

وقد مرّ في الفصل السابق أنّ البعث والتحريك كما يحصلان بالتحريك العملي والتكويني ـ بأن يأخذ الطالب من المأمور ويجرّه نحو العمل المقصود ـ كذلك يحصلان بالتحريك القولي ، ولكن لا يتصوّر العصيان في الأوّل بخلاف الثاني ، فإنّ المأمور به قد يتحقّق بعده وقد لا يتحقّق.

إذا عرفت هذه المقدّمة فيستفاد منها أنّ البعث والتحريك على قسمين : أحدهما : البعث والتحريك الواقعي التكويني ، وهو لا يكون قابلا للإنشاء. وثانيهما : البعث والتحريك الاعتباري وهو ينشأ بصيغة «افعل» وتترتّب عليه آثار متعدّدة ، منها : أنّ العبد إذا وافقه وعمل على مفاده يستحقّ المثوبة ، وإلّا يستحقّ العقوبة عند العقلاء ، كما أنّ الملكيّة والزوجيّة بعد إنشائهما يترتّب عليهما الآثار ، فيتحقّق بواسطة هيئة «افعل» البعث والتحريك الاعتباري في عالم الاعتبار.

ويمكن أن يقال : إنّه لا فرق بين هذا القول وما قال به المحقّق الخراساني قدس‌سره إلّا في التعبير والتسمية ، فإنّه قائل بأنّ متعلّق الصيغة هو الطلب الإنشائي ، وعبّر في هذا القول عنه بالبعث والتحريك الاعتباري ، فالنزاع بينهما لفظيّ.

وجوابه : أنّ الطلب هو السعي في الخارج للإيصال إلى المطلوب ولا شكّ في

٥٠٣

أنّه واقعيّة من الواقعيّات المحسوسة ، وهو لا يكون قابلا للإنشاء ، إلّا أنّ الآمر يوجد مصداقا للطلب بسبب الإنشاء ؛ إذ الأمر نوع من الطلب كما مرّ ، فنفس إصدار الأمر مصداق للطلب ، ولا بحث فيه ، والبحث في المرحلة السابقة عليه ، وهي : أنّ الذي يتعلّق به الإنشاء والذي ينشأ بصيغة «افعل» ما هما؟ فيكون متعلّق الإنشاء والطلب القولي هو البعث والتحريك الاعتباري ، وهما مغايران للطلب الذي هو أمر واقعي ، مع أنّه ليس لنا طلب اعتباري أصلا ، فلا يمكن تسمية البعث والتحريك بالطلب.

ويؤيّده اختلاف الطلب مع البعث في المشتقّات ؛ لأنّ مادّة الطلب لا تحتاج إلى تعدّد الشخص ، بخلاف مادّة البعث فإنّها تحتاج إلى شخصين الباعث والمبعوث ، بخلاف الطالب كما ترى في طالب العلم وطالب الدنيا وأمثالهما.

نعم ، قد يعبّر عن المأمور والمبعوث بالمطلوب منه ، ولكن ليس له أساس في اللغة ، بل هو جعل للسهولة في التعبير.

على أنّه لو كان له أساس فهو أقوى شاهد على المغايرة بينهما ؛ إذ المراد من المطلوب منه هو المبعوث ، والمراد من المطلوب هو المبعوث إليه ، فكيف يمكن أن يكون النزاع مع صاحب الكفاية قدس‌سره نزاعا لفظيّا مع ملاحظة هذه الاختلافات في المشتقّات؟!

والحاصل : أنّ هيئة «افعل» وضعت للبعث والتحريك الاعتباري كما اشير إليه في كلام استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره.

وأمّا إذا كان استعمال الهيئة بدواعي أخر ـ كالتعجيز والتهديد والتسخير وأمثال ذلك ـ فلا بأس في القول بكون المستعمل فيه عبارة عن البعث والتحريك الاعتباري في هذه الموارد أيضا ، لكنّه لغرض التعجيز والتسخير

٥٠٤

وأمثالهما ، كما مرّ في باب المجاز أنّ المجاز ليس التلاعب بالألفاظ ، بل المستعمل فيه في الاستعمالات المجازيّة عبارة عن المعنى الحقيقي والموضوع له ، كما قال به السكّاكي في خصوص الاستعارة ـ أي المجاز بعلاقة المشابهة ـ إلّا أنّ المعنى الحقيقي قد يثبت الذهن فيه ولا يتجاوز إلى غيره ، وقد يجعل معبرا للتجاوز عنه إلى المصداق الادّعائي.

ومن المعلوم أنّ الاستعمالات المجازيّة إذا كانت بهذه الكيفيّة تكون جامعة للمحسّنات البيانيّة ، بخلاف ما قال به المشهور ، كقول الشاعر :

قامت تظلّني ومن عجب

شمش تظلّلني عن شمس

فإنّ التعجّب من أنّ الشمس كيف تكون حائلة بينه وبين الشمس ، ولا معنى للتعجّب إذا كان المراد من الشمس معشوقته وهذا نظر ابتكره الشيخ محمّد رضا الأصفهاني صاحب كتاب وقاية الأذهان استاذ الإمام قدس‌سرهما.

كذلك في صيغة «افعل» فإنّها وضعت للبعث والتحريك الاعتباري ، أمّا إذا كان استعمالها بداعي تحقّق المبعوث إليه في الخارج يكون الاستعمال على نحو الحقيقة ، وأمّا إذا كان بدواعي أخر كالتعجيز والتسخير والتمنّي والترجّي ، مثل قول أمرئ القيس :

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فيكون الاستعمال فيها على نحو المجاز ، ولكنّ المستعمل فيه هو المعنى الحقيقي الذي جاوزنا عنه إلى هذه الأغراض.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ذكر بحثا لدفع المشكلة القرآنيّة ؛ بأنّا نرى في القرآن استعمال أدوات الاستفهام والتمنّي والترجّي ، كقوله تعالى : (وَما تِلْكَ

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٠٢ ـ ١٠٣.

٥٠٥

بِيَمِينِكَ يا مُوسى)(١) ، وكقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(٢)(يَهْتَدُونَ)(٣) وأمثال ذلك ، مع أنّ ثبوت هذه المعاني مستلزم للجهل والعجز المستحيلين في حقّه تعالى.

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره في مقام الجواب عنها : إنّ المستحيل في حقّه تعالى هو الاستفهام والتمنّي والترجّي الحقيقيّة دون إنشائها الذي يكون بمجرّد قصد حصوله بالصيغة كما عرفت ، ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الإنشائيّة الإيقاعيّة أيضا ، لا لإظهار ثبوتها حقيقة ، بل لأمر آخر حسبما يقتضيه الحال من إظهار المحبّة أو الإنكار أو التقرير إلى غير ذلك.

وأمّا حلّ الإشكال على المبنى الذي ذكرناه فإنّ أدوات الاستفهام والتمنّي والترجّي استعملت في معانيها الحقيقيّة في جميع الموارد ، إلّا أنّ لاستعمالها في مورد الجاهل والعاجز والاستعمالات الحقيقيّة خصوصيّة ، وهي خصوصيّة الثبوت والبقاء في معانيها الحقيقيّة ، بخلاف استعمالها في مورد العالم والقادر والاستعمالات المجازيّة ؛ إذا المعاني الحقيقيّة في هذا المورد تكون بمنزلة المعبّر عن الأغراض الأصليّة. ويؤيّده ما مرّ منا من أنّ الإنشاء لا يتعلّق بامور واقعيّة ، ولا شكّ في أنّ الاستفهام والتمنّي والترجّي تكون من الامور الواقعيّة.

__________________

(١) طه : ١٧.

(٢) البقرة : ٢١.

(٣) الأنبياء : ٣١.

٥٠٦

المبحث الثاني

في أنّ الصيغة هل هي حقيقة في الوجوب أو الندب

أو في المشترك بينهما؟

وذكروا في ذلك وجوه بل أقوال ، ولا بدّ لنا قبل الورود في البحث من ذكر امور :

الأوّل : أنّه قد تقدّم في مقام الفرق بين الوجوب والاستحباب أنّ التغاير بينهما يكون بالشدّة والضعف ، ولكن بعد أن تحقّق أنّ الطلب أجنبيّ عن مفاد هيئة «افعل» لا بدّ من القول بأنّ للبعث والتحريك الاعتباري مرتبتين :إحداهما : المرتبة الشديدة وهي الوجوب ، والثانية : المرتبة الضعيفة وهي الاستحباب.

الثاني : أنّه لا شكّ في تحقّق المراتب للبعث والتحريك الحقيقي والواقعي ، فإنّه قد يقع مع كمال الشدّة والسرعة والقوّة ، وقد يقع بدون ذلك ، فلا يكون له مرتبة واحدة كما يشهد عليه الوجدان ، وهكذا لا شكّ في تحقّق المراتب الشديدة والضعيفة للإرادة ـ أي صفة الواقعيّة القائمة بالنفس ـ فإن كان مراد صاحب الكفاية قدس‌سره من تعريفها ـ بأنّها عبارة عن الشوق المؤكّد المستتبع

٥٠٧

لتحريك العضلات نحو المراد ـ أنّه ليس لها سوى المرتبة الواحدة فهو مخالف لما نحسّه ونراه بالوجدان ، إلّا أن يلتزم بتحقّق المراتب للشوق المؤكّد من التأكّد الضعيف والشديد.

وأمّا الكاشف عن شدّة الإرادة وضعفها فقد يكون ما يتحقّق بعد تحقّقها في النفس من الأعمال والأفعال ، فإنّ بين إرادة نجاة الغريق مغايرة وإرادة إصلاح اللّحية ـ مثلا ـ فرق واضح ؛ إذ الاولى لا تكون قابلة للزوال بل تجرّ المريد بالشدّة والسرعة نحو المراد ، بخلاف الثاني ، وقد تكون عوامل دخيلة في تكوين الإرادة ، والمهمّ منها مقدار إدراك المريد أهمّيّة المراد وعظمته ، فكلّما كان إدراك الأهميّة أقوى تكون إرادة الإيصال إليه أقوى ، فإنّا نعبد الله تعالى عن إرادة ـ مثلا ـ والأئمّة عليهم‌السلام أيضا يعبدون الله تعالى عن إرادة ، ولكن بين إرادتنا وإرادتهم عليهم‌السلام بالنسبة إلى تحقّق العبادة في الخارج فرق واضح ؛ للفرق بين إدراكنا وإدراكهم عليهم‌السلام عن عظمته تعالى وأهمّيّة عبادته تعالى.

ومن هنا نشير بالمناسبة إلى مسألة العصمة ، فإنّ المعصوم لا يمكن صدور المعصية منه مع أنّه قادر على فعلها. ومن عوامل العصمة الإدراك الكامل والعلم المحيط بالنسبة إلى قبح المعاصي وشناعتها ، فالأئمّة عليهم‌السلام بلحاظ علمهم بالآثار وعواقب المعاصي والمحرّمات كانوا معصومين منها ، مع أنّهم ليسوا مجبورين على تركها ، كما أنّ العصمة تتحقّق لأكثر المتشرّعة بالنسبة إلى بعض المعاصي ـ مثل كشف العورة في الملأ العامّ والزنا مع المحارم ـ بلحاظ علمهم بشناعتهما مع قدرتهم على فعلهما.

الثالث : أنّ كلّ فعل اختياري بمعنى الأعمّ يدلّ بدلالة عقليّة على وجود الإرادة في النفس ، فالقول أيضا فعل اختياريّ للقائل وكاشف عن الإرادة

٥٠٨

ومسبوق بها ، ولا بدّ لكلّ إرادة من المبادئ والمقدّمات ومن العنايات الإلهيّة إهداء خلّاقيّة الإرادة إلى نفس الإنسان ، فإنّه إذا تكلّم ساعة لا بدّ له من إرادة كلّ واحد من الألفاظ وإرادة معناه وهيئته وتركيبه مع لفظ آخر ، وكلّ ذلك يتحقّق سريعا بلحاظ خلّاقيّة النفس ، فيكون صدور هيئة «افعل» عن المولى فعلا اختياريّا له ومسبوقا بالإرادة.

إذا عرفت هذا فنرجع إلى أصل المسألة ، وأنّ هيئة «افعل» وضعت للبعث والتحريك الوجوبي ، أو الأعمّ منه ومن الندبي ، أو وضعت لكليهما بنحو الاشتراك اللفظي.

واستدلّ للأوّل بوجوه : الأوّل : التبادر ، قال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) : لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة.

الثاني : الانصراف الناشئ من كثرة الاستعمال.

الثالث : الاستفادة من الإطلاق ومقدّمات الحكمة ، وأنّ نتيجة الإطلاق الحمل على الوجوب ، فإنّه عبارة عن البعث والتحريك الاعتباري بدون قيد زائد ، بخلاف الندب ، كما مرّ عن المحقّق العراقي قدس‌سره في مادّة الأمر.

الرابع : أنّ هيئة «افعل» كانت إمارة عقلائيّة لكونها مسبوقة بالإرادة الحتميّة التي لا يرضى المولى بمخالفتها ، وهذا معنى الوجوب.

الخامس : أنّ صدور هيئة «افعل» من قبل المولى حجّة تامّة على الوجوب بحكم العقل والعقلاء ، فلا بدّ من إجابته بالإطاعة والامتثال.

وأمّا التبادر فنبحث فيه في مقامين : أحدهما : مقام الثبوت ، والآخر مقام الإثبات ، فنقول : هل يمكن وضع هيئة «افعل» في مقام الوضع للبعث

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٠٢.

٥٠٩

والتحريك الوجوبي أم لا؟ ويستفاد من كلام استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) الاستحالة إلّا في بعض الصور ، ولكن لا بدّ لنا من ذكر مقدّمة توضيحا لكلامه قدس‌سره ، وهي :

أنّه قد مرّ في باب الحروف أنّ الوضع في الحروف عامّ ، وأمّا الموضوع له والمستعمل فيه فكانا خاصّين فيها ، بخلاف ما قاله به صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ كلّ واحد من المستعمل فيه والموضوع له فيها كالوضع عامّ ، وقلنا : إنّ هذا من المشترك اللفظي الذي يكون اللفظ الواحد لمعاني لا تعدّ ولا تحصى ، فكلمة «من» وضعت لمصاديق الابتداء لا لمفهومه الكلّي ، ومرّ أيضا أنّ المعاني الحرفيّة واقعيّات محتاجة إلى شيئين ، وكان مقام وجودها أدنى من مقام وجود الأعراض ، ولكنّ الحروف على قسمين : أحدهما : الحكائيّة مثل «من» و «إلى» و «في» ، وثانيهما : الإيجاديّة مثل «واو القسم» و «ياء النداء» وكما أنّ الحروف الحكائيّة لا تحكي إلّا عن المعاني الجزئيّة كذلك الحروف الإيجاديّة لا يوجد بها إلّا المعاني الجزئيّة. ويلحق بالحروف في خصوصيّة المعنى وجزئيّته وسائر أحكام الهيئات ، وهي أيضا على قسمين : الحكائيّة كهيئة فعل الماضي والإيجاديّة كهيئة «افعل» ، فعلى هذا وضعت هيئة «افعل» لمصاديق البعث والتحريك الاعتباري لا لمفهومه الكلّي ، ومعلوم أنّ مفاد هيئة «افعل» متقوّم بشيئين ـ أي الباعث والمبعوث ـ فتعامل معها معاملة الحروف.

ثمّ قال الإمام قدس‌سره بعد ما عرفت من المقدّمة : إنّ هيئة «افعل» لو دلّت على الوجوب بالدلالة الوضعيّة يتصوّر لها ثلاث صور : إحداها : أن يقيّد البعث والتحريك الاعتباري بمفهوم الإرادة الحتميّة ، وهو مستحيل ، فإنّك عرفت أنّ

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ١٣٧ ـ ١٤١.

٥١٠

مفاد الهيئة جزئيّ فكيف يمكن تقييد المعنى الجزئي بالمفهوم الكلّي؟! والثانية : أن يقيّد البعث والتحريك الاعتباري بوجود ومصداق الإرادة الحتميّة ، وهو أيضا مستحيل ، فإنّه تقييد المعلول بعلّته ؛ إذ البعث والتحريك معلول للإرادة ولو بمراتب ، فلو تقيّد البعث بوجوده الخارجي بوجود الإرادة الحتميّة لزم كون المتقدّم متأخّرا أو المتأخّر متقدّما.

نعم ، هناك تصوير آخر وإن كان يدفع به الاستحالة في مقام الثبوت ، إلّا أنّ التبادر والتفاهم في مقام الإثبات على خلافه ، فإنّه قد مرّ آنفا أنّ الوضع في باب الحروف عامّ والموضوع له خاصّ بأنّ الواضع حين الوضع يتصوّر معنى عامّا كلّيّا فيضع اللفظ لمصاديقه. إنّما الكلام في أنّ هذا المعنى العامّ الكلّي المتصوّر هل يكون معنى حرفيّا حتّى يكون جامعا ذاتيّا للمصاديق أو يكون معنى اسميّا حتّى يكون جامعا عرضيّا لها؟ ولا بدّ من القول بكونه معنى اسميّا ؛ لأنّ تصوّر هذا المفهوم العامّ لا يحتاج إلى شيئين ، مع أنّ المعنى الحرفي الجزئي لا يقبل الجامعيّة ، فيكون هذا المعنى العامّ معنى اسميّا وجامعا عرضيّا للمعاني الحرفيّة ، فيتصوّر الواضع حين الوضع معنى كلّيّا اسميّا بعنوان جامع عرضي للمعاني الحرفيّة ، وهكذا في باب هيئة «افعل» يتصوّر الواضع مفهوم الكلّي للبعث والتحريك الاعتباري ووضع الهيئة لمصاديقه ، فإذا كان المتصوّر أمرا كلّيّا فلا إشكال في تقييده ، فالمتصوّر عبارة عن البعث والتحريك الاعتباري الناشئ من الإرادة الجدّيّة والحتميّة ، فالكلّي قد قيّد بكلّي آخر ، ولا استحالة في مقام الثبوت ، ولكنّ المتبادر من الهيئة لدى العرف في مقام الإثبات هو كلّي البعث والتحريك الاعتباري لا المقيّد. هذا تمام كلام الإمام قدس‌سره مع توضيحه.

ولكن يستفاد من كلامه قدس‌سره صدرا وذيلا ما لا يكون قابلا للالتزام ، وهو أنّ

٥١١

البعث والتحريك في نفسه لا ينقسم إلى قسمين ، بل الانقسام يكون باعتبار المنشأ والعلّة ؛ بأنّ الإرادة إن كانت قويّة وشديدة يكون البعث والتحريك وجوبيّا ، وإن كانت ضعيفة يكون البعث والتحريك استحبابيّا ، مع أنّ ماهيّة البعث والتحريك الاعتباري تنقسم إلى قسمين مع قطع النظر عن المنشأ والعلّة ، كما أنّ البعث والتحريك التكويني والخارجي يكون كذلك.

على أنّ وجود الاختلاف والانقسام في المنشأ والعلّة لا يدلّ على عدمه في المعلول.

ويؤيّده أنّ المولى إذا قال لعبده : «اشتر اللحم وإلّا عاقبتك» ، وإمّا إذا قال : «وإن شئت اشتر الخبز» فلا شكّ في أنّ العرف والعقلاء يفهمون منهما نوعان من البعث والتحريك بدون الالتفات إلى المنشأ والعلّة ، فالبعث والتحريك الاعتباري كالإرادة ينقسم إلى قسمين ، وحينئذ لا يبعد ادّعاء تبادر نوع واحد من البعث والتحريك الاعتباري من الهيئة في مقام الإثبات.

فالحقّ في مقام الثبوت مع استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره ، وأمّا في مقام الإثبات فمع المحقّق الخراساني قدس‌سره ، فإذا كان البعث والتحريك منقسما إلى قسمين لا يبعد القول : بأنّ المتبادر من الهيئة هي المرتبة الشديدة من البعث والتحريك. هذا تمام الكلام في مسألة التبادر.

وأمّا دعوى الانصراف الناشئ من كثرة استعمال اللّفظ في معنى وتحقّق الارتباط والاستئناس بين اللفظ والمعنى بحيث ينسبق هذا المعنى إلى الذهن عند إطلاق اللفظ فيدّعي في المقام أنّ هيئة «افعل» كثير ما استعملت في الوجوب وهو يوجب الانصراف إليه في جميع الموارد هل هو صحيح أم لا؟

وكان لصاحب المعالم قدس‌سره (١) كلام يوجب التزلزل في الانصراف ، وهو أنّه بعد

__________________

(١) معالم الدين : ٥٣.

٥١٢

إقامة الأدلّة لكونها حقيقة في الوجوب قال : يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام أنّ استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعا في عرفهم ؛ بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجّح الخارجي ، فيشكل التعلّق والتمسّك في إثبات وجوب الأمر بمجرّد ورود الأمر به منهم عليهم‌السلام.

والحاصل : أنّ المجاز الراجح والمشهور يوجب التقدّم على المعنى الحقيقي ، ولا أقلّ من التوقّف وعدم الحمل على خصوص أحدهما ، فهذا الادّعاء معارض لادّعاء الانصراف إلى الوجوب.

وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) في مقام جواب صاحب المعالم : إنّ كثرة الاستعمال في الندب في الكتاب والسنّة وغيرهما لا توجب نقله إليه أو حمله عليه ؛ لكثرة استعماله في الوجوب أيضا ، مع أنّ الاستعمال وإن كثر فيه إلّا أنّه كان مع القرينة المصحوبة ، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا يوجب صيرورته مشهورا فيه ليرجّح أو يتوقّف ، على الخلاف في المجاز المشهور. فلذا دعوى الانصراف إلى الندب بعنوان المجاز المشهور غير صحيح.

والتحقيق : أنّ هذا يكفي في مقام جواب صاحب المعالم قدس‌سره ، ولكن لا يثبت به ادّعاء الانصراف إلى الوجوب كما لا يخفى. فلا دليل لهذا الادّعاء.

وأمّا الاستفادة من مقدّمات الحكمة كما مرّ تفصيله في مادّة الأمر عن المحقّق العراقي قدس‌سره (٢) بأنّ المولى إذا كان في مقام البيان لا في مقام الإجمال أو الإهمال ولم ينصب قرينة على الندب ولم يكن قدر متيقّن في مقام التخاطب فلا بدّ من حمل

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٠٤.

(٢) نهاية الأفكار ١ : ١٦٠ ـ ١٦٣.

٥١٣

الهيئة على الوجوب ، فإنّ الوجوب عبارة عن الطلب فقط ، ولا يحتاج إلى قيد ومئونة زائدة ، بخلاف الندب فإنّه عبارة عن الطلب أو البعث والتحريك مع قيد زائد وهو الإذن في الترك ، فيستفاد من مقدّمات الحكمة الإطلاق ، ونتيجته الحمل على الوجوب ، كما أنّ نتيجة الإطلاق وجريان مقدّمات الحكمة في مثل «اعتق رقبة» هو الحمل على مطلق الرقبة ، وعدم دخالة قيد الإيمان فيها.

وجوابه : أوّلا : ما ذكرناه في بحث مادّة الأمر ، وهو أنّه لا يعقل أن يكون القسم عين المقسم ، فإذا كان الطلب أو البعث والتحريك مقسما للوجوب والندب ، فلا يعقل أن يكون أحد القسمين ـ أي الوجوب مثل البعث والتحريك ـ مقسما ، بلا قيد زائد ، بل لا بدّ في كلّ قسم من خصوصيّة زائدة على المقسم.

وثانيا : أنّ نتيجة الإطلاق ـ في مثل اعتق رقبة ـ وهو الحمل على الموضوع له وماهيّة الرقبة بعد القطع بأنّ الموضوع له هو مطلق الرقبة بدون دخالة قيد الإيمان فيه أصلا ، وأمّا جريان مقدّمات الحكمة في هيئة «افعل» فمتفرّع على عدم قبول التبادر والانصراف ، وإلّا لا مجال للتمسّك بالإطلاق ، فإنّ التبادر والانصراف قرينتان للتقييد بالوجوب ، وهكذا متفرّع على إحراز الموضوع له قبل التمسّك بالإطلاق ، وإلّا لا مجال للتمسّك به ، فلا بدّ من القول بأنّ الموضوع له هو مطلق البعث والتحريك ، وأنّ هيئة «افعل» وضعت لمطلق البعث والتحريك ، فنتيجة الإطلاق وجريان مقدّمات الحكمة هو الحمل على مطلق البعث والتحريك ـ أي القدر المشترك ـ لا الحمل على الوجوب.

ومعلوم أنّه لا إجمال هنا ، كما أنّه لا إجمال فيما إذا قلنا بالمشترك المعنوي ، ووضع اللفظ للقدر المشترك بين المعنيين ، فهذا الاستدلال أيضا ليس بتام.

٥١٤

وأمّا الاستفادة من نفس الاستعمال ؛ بأنّ له كاشفيّة عقلائيّة وأماريّة عرفيّة لكونه ناشئا عن الإرادة الحتميّة ، فلا محالة يكون مفادها البعث والتحريك الوجوبي.

وفيه : أوّلا : أنّ هذا ادّعاء بلا دليل.

وثانيا : أنّ الكاشفيّة العقلائيّة والأماريّة العرفيّة متفرّعة على ثبوت وضعها للبعث والتحريك الوجوبي بأدلّة أخر كالتبادر والانصراف ؛ إذ لا معنى لها بدون منشأ وضعي أو انصرافي ، وحينئذ لا تصل النوبة إلى هذا الوجه ، بل يثبت المدّعى قبل التمسّك به ، فهذا يرجع إلى التبادر والانصراف ، وأمّا مع إنكار أدلّة أخر ـ كما هو المفروض ـ لا يكون منشأ للكشف المذكور ، فإنّ مفاد الهيئة ـ أي مطلق البعث والتحريك ـ يناسب الإرادة الحتميّة وغيرها ، فلا دلالة لصدور هيئة «افعل» على أنّ مفادها هو البعث والتحريك الوجوبي.

نعم تحقّق هنا دلالة عقليّة اخرى ، وهي أنّ صدور كلّ فعل اختياري عن الإنسان يدلّ بدلالة عقليّة على كونه مسبوقا بالإرادة.

قلت : نعم هو مسبوق بنفس الإرادة ، لا الإرادة الحتميّة ، ومعلوم أنّ بين الإرادتين فرق من حيث المراد ، فإنّ هذه الإرادة متعلّقة بنفس هذا الفعل الاختياري وهو صدور الكلام منه ، وأمّا الإرادة الحتميّة فمتعلّقة بتحقّق المأمور به في الخارج من المأمور ، فالكاشفيّة متحقّقة بالنسبة إلى إرادة صدور هيئة «افعل» ، وهي متغايرة مع الإرادة الحتميّة المتعلّقة بتحقّق المأمور به من العبد ، فهذا الطريق أيضا ليس بتامّ.

وأمّا الوجه الأخير الذي اختاره استاذنا السيّد الإمام والاستاذ الأعظم المرحوم البروجردي قدس‌سرهما فتوضيحه : أنّ العقل يحكم بلزوم إطاعة الأوامر

٥١٥

الصادرة من المولى ، وأنّ صدور هيئة «افعل» من قبل المولى حجّة على العبد التي لا يقبل معها عذره من احتمال كونها صادرة عن الإرادة الغير الحتميّة أو ناشئا عن المصلحة الغير الملزمة ؛ إذ العقل يحكم بأنّ بعث المولى لا يترك بغير جواب ، فتمام الموضوع لحكم العقل والعقلاء بوجوب الطاعة والامتثال هو نفس البعث ما لم يرد فيه الترخيص.

وقال المرحوم البروجردي قدس‌سره (١) : بل يمكن أن يقال : إنّ الطلب البعثي مطلقا منشأ لانتزاع الوجوب ، ويكون تمام الموضوع لحكم العقلاء باستحقاق العقوبة على تركها ، وأنّه معنى لا يلائمه الإذن في الترك بل ينافيه ؛ لوضوح عدم إمكان اجتماع البعث والتحريك نحو العمل مع الإذن في الترك المساوق لعدم البعث.

وحينئذ يجب أن يقال : إن الصيغ المستعملة في الاستحباب لا تكون مستعملة في الطلب البعثي إلّا بداعي الإرشاد إلى وجود المصلحة الراجحة في الفعل ، وببالي أنّ صاحب القوانين (٢) أيضا اختار هذا المعنى فقال : إنّ الأوامر الندبيّة كلّها للإرشاد. وهو كلام جيّد.

وفيه : أوّلا : أنّ هذا الوجه متفرّع على إنكار الوجوه السابقة ، وحاصله : أنّ الوجوب اخذ في ماهيّة البعث ، ولذا لا يلائم الإذن في الترك حتّى من قبل المولى. والإشكال أنّه لا شكّ في أنّ مفاد هيئة «افعل» هو البعث والتحريك الاعتباري ، فإذا كان البعث مستلزما للوجوب ، فالمتبادر من الهيئة هو البعث والتحريك الوجوبي ولا تصل النوبة إلى هذا الوجه ، فإنّ البعث لا يكون إلّا وجوبيّا على هذا المبنى.

__________________

(١) نهاية الاصول ١ : ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) قوانين الاصول ١ : ٨٤.

٥١٦

وثانيا : أنّ الإمام قدس‌سره صرّح بجواز الترخيص في الترك من قبل المولى ، فهيئة «افعل» عنده تجتمع مع الإذن في الترك ، وكذا تجتمع مع التهديد على الترك والمنع منه ، فإذا كانت الهيئة معرّاة من كلا القيدين فما الدليل والملاك على الحمل على القسم الثاني؟ وأنّ المراد منها هو البعث والتحريك الوجوبي حتّى يحتاج إلى الجواب بالامتثال والإطاعة ، فلا يمكن المساعدة على هذا الوجه أيضا ، فلا يبقى دليل سوى التبادر للدلالة على الوجوب.

٥١٧
٥١٨

المبحث الثالث

دلالة الجملة الخبريّة على الطلب والوجوب

إنّا نرى في كثير من الروايات بيان الحكم بصورة الجمل الخبريّة المضارعيّة كقولهعليه‌السلام في جواب السائل : «يعيد صلاته ويغسل ثوبه ويتوضّأ» (١) ، وأمّا استعمال الجمل الخبريّة الماضويّة في هذا المقام فليس إلّا فيما إذا وقعت جزاء لشرط كقوله عليه‌السلام : مثلا «من تكلّم في صلاته أعاد» ، وإنّما البحث والكلام في أنّه بعد المفروغيّة من عدم حملها على المعنى الحقيقي ، أي الحكاية عن وقوع النسبة في المضارع أو تحقّقها في الماضي فهل تدلّ على الوجوب أم لا؟

قال المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) : الظاهر الأوّل ، بل تكون أظهر من الصيغة ، ولكنّه لا يخفى أنّه ليست الجمل الخبريّة الواقعة في ذلك المقام ـ أي الطلب ـ مستعملة في غير معناها ، بل تكون مستعملة فيه ، إلّا أنّه ليس بداعي الإعلام ، بل بداعي البعث بنحو آكد ، حيث إنّه أخبر بوقوع مطلوبه إظهارا بأنّه لا يرضى إلّا بوقوعه ، فيكون آكد في البعث من الصيغة ، كما هو الحال في الصيغ الإنشائيّة ، على ما عرفت من أنّها أبدا تستعمل في معانيها الإيقاعيّة لكن

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٦ ، ٤٧٧ ، ٤٧٩ و ٤٨٢ ، الباب ٣٧ ، ٤١ ، ٤٢ و ٤٤ من أبواب النجاسات.

(٢) كفاية الاصول ١ : ١٠٤.

٥١٩

بدواع أخر كما مرّ.

ثمّ أشكل على نفسه بأنّه كيف تكون الجمل الخبريّة مستعملة في معناها الإخباري دون الإنشائي ، مع أنّه مستلزم للكذب غالبا ؛ لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج ، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علوّا كبيرا.

وأجاب عنه بقوله : إنّما يلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الإخبار والإعلام لا لداعي البعث ؛ إذ كيف يكون الإخبار بداعي البعث مستلزما للكذب؟! ولو كان كذلك لزم الكذب في غالب الكنايات ، فمثل «زيد كثير الرماد» أو «مهزول الفصيل» لا يكون كذبا إذا قيل كناية عن جوده ولو لم يكن له رماد وفصيل أصلا ، وإنّما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد وإن كان له رماد كثير ، فيكون الطلب بصورة الخبر في مقام التأكيد أبلغ من الطلب بالصيغ الإنشائيّة ، فإنّه مقال بمقتضى الحال.

فأثبت قدس‌سره إلى هنا أظهريّة الجمل في الوجوب ، ثمّ أقام دليلا لظهورها فيه.

وتوضيحه : أنّ مقدّمات الحكمة تقتضي حلمها على الوجوب ؛ إذ المفروض أنّ الإمام عليه‌السلام حين سأله زرارة كان في مقام البيان لا في مقام الإهمال والإجمال ، ولم ينصب قرينة على الندب ، فاستفاد زرارة من جملة «يعيد صلاته» الوجوب ، بقرينة سؤاله عن مسألة اخرى ولشدّة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب ، وتلك النكتة إن لم تكن موجبة لظهورها فيه فلا أقل من كونها موجبة لتعيّنه من بين محتملات ما هو بصدده. هذا تمام كلام صاحب الكفاية قدس‌سره في مقابل القول بالتوقّف وإنكار أصل الظهور ، وأنّ استعمالها في الإنشاء ـ سواء كان وجوبيّا أو استحبابيّا ـ مجاز ، ولا يحمل بدون القرينة على الوجوب.

٥٢٠