دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

وربّما يتوهّم أنّ بعض المشتقّات لا يكون متلبّسا بالمبدإ كالمعدوم والممتنع ، فإنّ الذات فيهما تكون متلبّسة بالعدم ، إلّا أنّ ثبوت التلبّس بالعدم للذات متوقّف على ثبوت الذات ؛ للقاعدة الفرعيّة ؛ بأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، مع أنّ تحقّق الذات والتلبّس بالعدم من الممتنعات التي لا تنكر.

وجوابه : أنّ القاعدة الفرعيّة تجري إذا تحقّقت الذات واقعا ، ثمّ تلبّسها بالمبدإ ، فإن قلنا بتركّب معنى المشتقّ بأنّ معنى المعدوم عبارة عن ذات ثبت له العدم فيلزم هذا الإشكال ، وأمّا إن قلنا ببساطة معنى المشتقّ ـ كما سيأتي ـ فلا مجال لجريان القاعدة المذكورة ، فالتلبّس بالمبدإ متحقّق في جميع المشتقّات ، إلّا أنّ تلبّس كلّ شيء بحسبه ، حتّى في مثل المعدوم والممتنع مع ملاحظة جهتين فيهما : الاولى : أنّ للمشتق معنى تصوريّا ومفردا ، الثانية : أنّ له معنى بسيطا غير مركّب. هذا إذا لوحظ كلّ من الممتنع والمعدوم مجرّدا ومفردا.

وأمّا إذا قلنا بصورة القضيّة مثل «زيد معدوم» و «شريك الباري ممتنع» فهل تجري القاعدة الفرعيّة فيهما أم لا؟ ومن المعلوم أنّ الحمل فيهما حمل شائع صناعي ، وملاكه الاتّحاد في الوجود ، فيتّحد شريك الباري مع الممتنع في الوجود ، وهكذا في «زيد معدوم» ، وحينئذ تحكم القاعدة المذكورة بأنّ ثبوت الامتناع لشريك الباري فرع ثبوت شريك الباري ، فلا بدّ من تحقّقه ووجوده حتّى يحمل الممتنع عليه ، فيلزم انقلاب العدم بالوجود والامتناع بالإمكان.

وأجاب عنه المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) تبعا لصدر المتألّهين (٢) : أنّ صدق

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ١٩٢.

(٢) الأسفار ١ : ٣٤٧.

٤٠١

المشتقّ على شيء بالحمل الشائع الذي مفاده الاتّحاد في الوجود على أنحاء ، فإنّ الوجود خارجي وذهني ، وكلّ منهما بتّي وتقديري ، ففي قولنا : «زيد كاتب» يكون الاتّحاد في الخارج بتّا ، وفي قولنا : «الإنسان نوع» يكون الاتّحاد في الذهن بتّا ، وفي قولنا : «كذا ممتنع» يكون الاتّحاد في الخارج تقديرا إن كان النظر إلى الخارج وإلّا ففي الذهن ، فإنّ العقل بتعمّله واقتداره يقدّر ويفرض لعنوان المعدوم والممتنع وأشباههما فردا ما بحيث تكون ذاته محض الهلاك وعين البطلان ، فيحكم عليه وبه بمرآتيّة العنوان ، فيتّحد هذا الفرد الفرضي مع الممتنع في الوجود ، فالاتّحاد في الوجود أعمّ من أن يكون بحسب الواقع أو بتعمّل العقل واختراعه.

وأشار استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) إلى ما هو الأولى في الجواب عن الإشكال ، وهو : أنّ قضيّة «شريك الباري ممتنع» وإن كانت على الظاهر قضيّة حمليّة موجبة إلّا أنّها في الواقع والباطن قضيّة سالبة محصّلة ، ولا تكون محتاجة إلى وجود الموضوع ، فإنّها تصدق مع انتفاء الموضوع كصدقها مع انتفاء المحمول ، كقولنا : «زيد ليس بقائم» فإنّه يصدق مع وجود «زيد» وانتفاء القيام وعدم اتّصافه بالقيام ، وهكذا يصدق مع عدم وجود «زيد» رأسا ، فلا يكون هاهنا محلّ جريان قاعدة فرعيّة ، وإن أبيت قلنا : إنّ القاعدة الفرعيّة تجري فيما كان للمحمول واقعيّة وحقيقة ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ـ كالمعدوم والممتنع ـ فهو خارج عن القاعدة بالتخصيص أو التخصّص ، كما يستفاد ذلك من لفظ «شيء» في عنوان القاعدة.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ١١٢.

٤٠٢

الأمر السادس

لا اصل في المسألة

وأنّه إذا لم تنته الأدلّة في باب المشتقّ إلى النتيجة بأنّه وضع لخصوص المتلبّس أو للأعمّ منه ، بل نبقى في حال الشكّ ، فهل يمكن تعيين الموضوع له بالأصل أم لا؟

قال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : «لا أصل في نفس هذه المسألة يعوّل عليه عند الشكّ» ، ثمّ أجاب عن شبهة مقدّرة وهي : أنّ الخاصّ عبارة عن العامّ مع خصوصيّة زائدة ، فالشكّ في المسألة يرجع إلى أنّ الواضع لاحظ هذه الخصوصيّة الزائدة أم لا؟ فتجري أصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة ، فيستفاد أنّ المشتقّ وضع للأعمّ.

وحاصل جوابه عنها : أوّلا : هذه معارضة لأصالة عدم ملاحظة العموم ؛ إذ النزاع في باب المشتقّ يكون في المفهوم التصوّري لا في المصاديق والأفراد ، ومن المعلوم أنّ مفهوم الإنسان متضاد مع مفهوم الحيوان وإن كان من حيث المصداق بينهما عموما وخصوصا مطلقا ، فيسقط الأصلان بالمعارضة.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٦٧ ـ ٦٨.

٤٠٣

وثانيا : لا دليل على اعتبار هذا الأصل في تعيين الموضوع له. فإن قلنا : إنّ منشأه هو بناء العقلاء فهذا ممّا يحتاج إلى الإثبات ، ولا دليل لإثباته ؛ لأنّ الثابت عند العقلاء اعتبار الأصل المذكور في تعيين المراد ـ مثل أصالة عدم القرينة إذا شكّ في إقامتها بعد قوله: «رأيت أسدا» لا في كيفيّة الإرادة وتشخيص الموضوع له مع العلم بالمراد.

وإن قلنا : إنّ منشأه عبارة عن الأدلّة الشرعيّة مثل «لا تنقض اليقين بالشكّ» فلا مانع منه ، إلّا أنّ الإشكال من ناحية اخرى ، وهو : أنّ من شرائط الاستصحاب أن يكون المستصحب أثرا شرعيّا أو موضوعا له ، وإن لم يكن كذلك بل كان لازما عقليّا له أو عرفيّا يترتّب عليه الأثر الشرعي ، فلا يجري الاستصحاب إلّا على القول بالأصل المثبت ، والمستصحب في ما نحن فيه ـ أي عند عدم ملاحظة الخصوص ـ لا يكون أثرا شرعيّا ولا موضوعا له. نعم يترتّب الأثر الشرعي على ملاحظة العموم ، لكنّه لازم عقلي له.

ثمّ قال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : «وأمّا الأصل العملي فيختلف في الموارد».

توضيح كلامه : أنّ تشريع الحكم قد يكون بعد انقضاء المبدأ كما إذا قال : «أكرم كلّ عالم» بعد انقضاء العلم عن الذات المتّصفة به ، وقد يكون قبل انقضائه عنها ، فإن كان بعده فمقتضى أصل البراءة عدم الوجوب ؛ لأنّ المشتقّ إن كان حقيقة في الأعمّ فوجوب إكرامه ثابت ، وإن كان حقيقة في خصوص حال التلبّس فإكرامه غير واجب ، فالشكّ في معنى المشتقّ يوجب الشكّ في أصل التكليف وحدوث الوجوب ، ومقتضى أصالة البراءة عدمه.

وأمّا إن كان تشريعه قبل انقضاء العلم عنها فمقتضى الاستصحاب بقاء

__________________

(١) المصدر السابق.

٤٠٤

وجوبه ؛ إذ المفروض القطع بوجوب إكرامه قبل زوال العلم عنه ، فبعده يشكّ في ارتفاع الوجوب ؛ إذ على تقدير وضع المشتقّ للأعمّ فالحكم باق ، وعلى تقدير وضعه للأخصّ فالحكم مرتفع ، وحيث إنّ الحكم مشكوك فيه فالاستصحاب يقتضي بقاءه ، فمع أنّ منشأ الشكّ في كلتا المسألتين واحد لكنّ الأصل الجاري في كلّ منهما غير الآخر كما لا يخفى.

وقال بعض الأعلام (١) : إنّ ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره أوّلا من أنّه لا أصل هنا ليعوّل عليه عند الشكّ في الوضع ، فهو صحيح ، وأمّا ما أفاده ثانيا من أنّه لا مانع من الرجوع إلى الأصل الحكمي في المقام ، وهو أصالة البراءة في موارد الشكّ في الحدوث ، والاستصحاب في موارد الشكّ في البقاء ، فلا يمكن المساعدة عليه ؛ إذ المرجع في كلا الموردين هو أصالة البراءة دون الاستصحاب ؛ لأنّ الاستصحاب لا يجري في موارد الشبهات المفهوميّة ـ كما أشار إليه شيخنا العلّامة الأنصاري قدس‌سره ـ لا حكما ولا موضوعا ، أمّا الاستصحاب الحكمي فإنّه لم يحرز فيه الاتّحاد المعتبر بين القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، فإذا شكّ في بقاء وجوب الصوم بعد استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة المشرقيّة عن قمّة الرأس من جهة الشكّ في مفهوم المغرب ، وأنّ المراد به هو الاستتار أو ذهاب الحمرة؟ فعلى الأوّل كان الموضوع ـ وهو جزء النهار ـ منتفيا ، وعلى الثاني كان باقيا ، وبما أنّا لم نحرز بقاء الموضوع فلم نحرز الاتّحاد بين القضيتين ، وبدونه لا يمكن جريان الاستصحاب.

وأمّا الاستصحاب الموضوعي ـ أي النهاريّة ـ فلعدم الشكّ في شيء خارجا مع قطع النظر عن وضع اللفظ وتردّد مفهومه بين الأعمّ والأخصّ ،

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٢٤٢ ـ ٢٤٥.

٤٠٥

فإنّ استتار القرص حسّي معلوم لنا بالعيان ، وذهاب الحمرة غير متحقّق كذلك ، فما هو المستصحب؟ وما نحن فيه من هذا القبيل بعينه ، فإنّ الشبهة فيه مفهوميّة ، والموضوع له مردّد بين خصوص المتلبّس أو الأعمّ منه ومن المنقضي ، فإذا كان «زيد» عالما وتشريع الحكم أيضا كان في زمانه تلبّسه بالعلم ، ففي زمان انقضائه عنه ما ذا يستصحب؟ فإن قلنا بالاستصحاب الحكمي ـ يعني زيد كان واجب الإكرام فبعد الشكّ يستصحب وجوب إكرامه ـ فهو مردود ؛ بأنّ وجوب الإكرام في السابق كان بلحاظ تلبّسه بالعلم قطعا ، وجريان الحكم فيه بعد الانقضاء ليس إلّا بمعنى جريان حكم متيقّن العالميّة في حقّ مشكوك العالميّة ، وهو كما ترى. فإن قلنا : بالاستصحاب الموضوعي ـ أي العالميّة ـ فهو أيضا مردود ؛ بأنّا لا نشكّ في أمر خارجي ؛ إذ لا شكّ في أنّ زيدا كان متلبّسا بالعلم في الأمس وانقضائه عنه الآن ، بل الشكّ في مفهوم العالم ، وجريان الاستصحاب فيه كما ترى.

ويردّ على كلام صاحب الكفاية قدس‌سره أيضا : أنّ القول بجريان الاستصحاب في الفرض الثاني ـ أي تشريع الحكم قبل الانقضاء ـ يستلزم جريانه في الفرض الأوّل ـ أي تشريع الحكم بعد الانقضاء ـ أيضا ؛ إذ لا فرق بين تشريعه قبل الانقضاء وبعده بعد القول بجريان الاستصحاب في الشبهة المفهوميّة ؛ بأنّ تلبّس زيد ـ مثلا ـ بالعلم وانقضاءه عنه كان متيقّنا ، فإذا صدر الحكم بإكرام كلّ عالم نشكّ في صدق هذا العنوان عليه وعدمه ؛ للشكّ في وضع المشتقّ لخصوص المتلبّس أو أعمّ منه ، فتستصحب العالميّة ، فيجري الاستصحاب في كلا الفرضين على مبناه هذا قدس‌سره.

٤٠٦

الأقوال في مسألة المشتق

وإذا فرغنا ممّا ذكرنا من المقدّمات فيقع البحث في أصل النزاع في باب المشتقّ. قال المحقّق الخراساني قدس‌سره في هذا المقام : إنّ الأقوال في المسألة وإن كثرت إلّا أنّها حدثت بين المتأخّرين بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدّمين ؛ لأجل توهّم اختلاف المشتقّ باختلاف مبادئه في المعنى ـ كما فصّل صاحب الفصول (١) بين ما كانت مادّته فعلا لازما ، وبين ما كانت مادّته فعلا متعديا ؛ بأنّ الأوّل حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدإ ، والثاني حقيقة في الأعمّ منه ـ أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال ، مثل كونه محكوما عليه أو محكوما به ، فقال بعضهم باشتراط البقاء في الثاني دون الأوّل ، وقد مرّت الإشارة إلى أنّه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده ، ويأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار ، وهو اعتبار التلبّس في الحال ؛ وفاقا لمتأخّري الأصحاب والأشاعرة ، وخلافا لمتقدّميهم والمعتزلة.

وقد مرّ في ضمن بيان المقدّمات أنّ النزاع في باب المشتقّ يكون في المعنى اللغوي وتعيين ما هو الموضوع له لهيئة المشتقّ ، وأنّ الأساس في باب المشتقّ والفارق بين المشتقّات هي الهيئات ، وأنّ الملاك لدخول المشتقّ في محلّ النزاع

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٦٠.

٤٠٧

أن يجري على الذات ويحمل عليها وإن لم يكن مشتقّا نحويّا كالحرّ والعبد والزوج والزوجة.

ومن هنا يستفاد أنّ التفصيلات المذكورة في المسألة أجنبيّة عمّا نحن فيه ، فإنّها ترجع إلى المبادئ ، مع أنّ الواضع حين الوضع لم يتوجّه إلى المبادئ واختلافاتها أصلا ، كما أنّه لا دخل لوقوع المشتقّ مسندا أو مسندا إليه في وضع هيئته ، فالبحث في المعنى التصوّري للمفرد ، سواء كان محكوما به أو محكوما عليه ، أو غير ذلك ، فلا بدّ من البحث حول القولين الأصليّين هاهنا. وهما القول بكون المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدإ ومجازا في غيره ، والقول بكونه حقيقة في الأعمّ منه وممّا انقضى عنه المبدأ.

ولا يخفى أنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) أقام لمختاره ثلاث أدلّة ، ولكنّها ترجع إلى التبادر كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ولا ريب في أنّ المتبادر من الهيئات هو خصوص المتلبّس بالمبدإ ، وقد قرر في محلّه أنّ التبادر علامة الحقيقة.

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) : «إنّ عدم صحّة السلب والاطّراد أيضا من علائم الحقيقة».

وقلنا : إنّ الطريق لإثبات الحقيقة منحصر بالتبادر وتصريح الواضع ، ولا فائدة في شيء آخر حتّى التنصيص من أهل اللغة. وأمّا صحّة الحمل وعدم صحّة السلب فيرجع إلى التبادر ، فإنّ حمل المعنى المرتكز في الذهن على اللفظ يحتاج إلى اللحاظ ، فتكشف الحقيقة حين اللحاظ بالتبادر قبل الحمل ، فلا يكون عدم صحّة السلب دليلا مستقلّا في مقابل التبادر.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٦٨.

(٢) المصدر السابق.

٤٠٨

ثمّ ذكر قدس‌سره مؤيّدا لصحّة السلب عمّا انقضى عنه المبدأ ، وحاصل ما ذكره قدس‌سره : أنّه لا ريب في مضادة الصفات المأخوذة من المبادئ المتضادّة ، كالقائم والقاعد المأخوذين من القيام والقعود ، فهما متضادّان بحسب معناهما المرتكز في الذهن ، فلو كان المشتقّ موضوعا للأعمّ لزم صدق الصفة المنقضية على الذات حين اتّصافهما بضدّها ، كصدق القائم على من انقضى عنه القيام حين اتّصافها بالقعود ، وهذا علامة كونها صفات متخالفة لا متضادّة ، وهو خلاف ما ارتكز في الذهن ، فالتضادّ بين الصفات كالتضادّ بين المبادئ دليل على أنّ المشتقّ وضع لخصوص المتلبّس بالمبدأ.

ولكنّه أيضا يرجع إلى التبادر ؛ إذ المتبادر من القائم هو خصوص المتلبّس بالمبدإ ، ولذا يكون بينه وبين القاعد مضادة ، ولو لم يكن التبادر يمكن القول بعدم المضادّة بين القائم والقاعد ، وهكذا بين الأسود والأبيض ، فالعمدة من الأدلّة ـ وهو التبادر وغيره ـ إمّا لا أساس له ، وإمّا أن يرجع إلى التبادر كما هو المعلوم.

وأمّا القائل بالأعمّ فلا بدّ لنا من البحث معه في مقام الثبوت قبل مقام الإثبات ، وهو أنّ الاشتراك قد يكون معنويّا وقد يكون لفظيّا ، والمشترك اللفظي قد يتحقّق بتعدّد الوضع ـ مثل وضع لفظ «عين» لمعان متعدّدة ـ وقد يتحقّق بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، وهو أن يلاحظ معنى كليّا ، ثمّ وضع اللفظ لمصاديقه بحيث يكون كلّ مصداق معنى مستقلّا له ، فيكون الموضوع له متعدّدا بوضع واحد ، والاشتراك المعنوي ما يتحقّق بوضع واحد للموضوع له الواحد الجامع بين المعنيين أو المعاني.

والقائل بالأعمّ يدّعي في ما نحن فيه اشتراكا معنويا ، فلا بدّ له من مفهوم

٤٠٩

جامع بين المتلبّس والمنقضي حتّى يكون الموضوع له اللفظ المشتقّ ، وحينئذ لا شكّ في أنّه لا يتحقّق جامع ذاتي بينهما ، فإنّ المتلبّس واجد ومرتبط بالمبدإ فعلا ، والمنقضي فاقد وغير مرتبط بالمبدإ فعلا ، ولا اشتراك بين الواجديّة الفعليّة والفاقديّة الفعليّة من حيث الماهيّة والذات.

وأمّا الجامع الانتزاعي فلا بدّ له من ثلاث خصوصيّات : الاولى : أن لا يكون للزمان دخل في معنى المشتقّ.

الثانية : أن لا يكون معنى المشتقّ معنى مركّبا ؛ لأنّه بسيط على ما حقّقه المحقّقون.

الثالثة : أن ينسبق إلى الذهن من سماع هيئة المشتقّ.

ولا ريب في أنّ الجامع الانتزاعي مع حفظ هذه الخصوصيّات لا يكون قابلا للتصوّر أصلا ، وعلى هذا لا محلّ للبحث مع الأعمّي في مقام الإثبات ، ولكنّ الإشارة إلى أدلّته لا تخلو من فائدة.

أدلّة القول بالأعمّ

احتجّ القائل بالأعمّ بعدّة وجوه :

الأوّل ـ التبادر : بأنّ المنسبق عن المشتقّ هو المعنى العامّ الشامل للمتلبّس بالمبدإ والمنقضي عنه. وقد عرفت أنّ المتبادر منه خصوص المتلبّس بالمبدإ دون الأعمّ مع ملاحظة دليل التضادّ.

الثاني : عدم صحّة سلب المقتول والمضروب بملاحظة المعنى المرتكز في الذهن عمّن انقضى عنه المبدأ ، فيصحّ أن يقال : «بكر مضروب زيد» أو «مقتوله» ، بدون رعاية علاقة ، وعدم صحّة السلب علامة الحقيقة.

وفيه : أوّلا : أنّ اسم المفعول خارج عن محلّ النزاع عند بعض الأجلّة

٤١٠

كالمحقّق النائيني (١) وصاحب الفصول قدس‌سرهما (٢).

وثانيا : أنّ إطلاق المشتقّ إن كان بلحاظ حال التلبّس فيكون حقيقة بلا إشكال ولو كان الجري بعد الانقضاء ، مثل قولك : «زيد كان مضروب بكر أو مقتوله» ، وأمّا إن كان الإطلاق بعد الانقضاء بلحاظ حال النسبة والجري ـ مثل قولك : «زيد مضروب بكر في هذا اليوم» ـ فلا يكون حقيقة ولا يخلو عن مسامحة.

وثالثا : أنّه لا يصحّ التفكيك بين اسم الفاعل والمفعول مع أنّهما متضايفان ، فإن كان إطلاق المضروب بعد الانقضاء بنحو الحقيقة يكون إطلاق الضارب بعد الانقضاء أيضا كذلك. فهذا الدليل باطل.

الثالث : دلالة آية حدّ السارق والسارقة والزاني والزانية على الأعمّ ؛ بأن تصدق عليهم هذه العناوين بنحو الحقيقة حين إجراء الحدّ ؛ لأنّ الحدّ منوط بصدق هذه العناوين ، وإن قلنا بعدم صدقها بعد الانقضاء بنحو الحقيقة فهو مخالف لصريح الآية الشريفة ، فيستفاد منها أنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ ، كما استدلّ بها أيضا المفصّل بين المحكوم عليه والمحكوم به.

وفيه : أوّلا : أنّا نعلم خارجا أنّ آيات الحدود منوطة بأصل تحقّق المبادئ لا بصدق العناوين بنحو الحقيقة ، فالموجب للحدّ هو تحقّق الزنا والسرقة ، سواء صدقت عليه العناوين بنحو الحقيقة أو المجاز.

وثانيا : أنّ إطلاق هذه العناوين بعد الانقضاء يكون بلحاظ حال التلبّس ، مثلا : السارق يعني من كان متلبّسا بالسرقة في ظرف تحقّق السرقة ، والزاني

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ١٢٤ ـ ١٢٧.

(٢) الفصول الغروية : ٦٠.

٤١١

يعني من كان متلبّسا بالزنا في ظرف تحقّق الزنا ، ولا شكّ في أنّ استعمال المشتقّ بلحاظ حال التلبّس في موارد الانقضاء حقيقة.

وثالثا : أنّ الاستعمال في المنقضي في القضايا الحقيقيّة غير معقول ، بل يكون الاستعمال فيها دائما في المتلبّس ، فإنّ القضيّة إن كانت خارجيّة ـ مثل زيد ضارب ـ يتصوّر لها حالتي التلبّس والانقضاء ، وأمّا إن كانت حقيقيّة فلا يعقل فيها حال الانقضاء ؛ إذ الموضوع فيها عبارة عن الأفراد المقدّرة الوجود والمحقّقة الوجود ، ولا يختصّ بالأفراد المحقّقة الوجود وحدها ، كما في قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)(١) ، وقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(٢) ، فإنّ المراد منهما أنّ كلّ شخص يفرض تلبّسه بالزنا أو السرقة فهو محكوم عليه بجلدة أو بقطع يده ، فالمشتق في كلتا الآيتين استعمل في المتلبّس ؛ إذ الموضوع فيهما هو كلّ إنسان يفرض تلبّسه بالزنا أو السرقة في الخارج ، ومعلوم أنّه لا يتصوّر له حالتي التلبّس والانقضاء ، بل عنوان الزاني أو السارق صادق دائما فيمن تلبّس بالمبدإ. هذا ما قال به بعض الأعلام.

الرابع : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) وهو استدلال الأئمّة عليهم‌السلام بقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فقال الخليل سرورا بها : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) قال الله عزوجل : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(٤) على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا لمنصب الإمامة والخلافة تعريضا بمن تصدّى لها ممّن عبد الصنم

__________________

(١) النور : ٢.

(٢) المائدة : ٣٨.

(٣) كفاية الاصول ١ : ٧٤.

(٤) البقرة : ١٢٤.

٤١٢

مدّة مديدة.

ومن الواضح توقّف الاستدلال على كون المشتقّ موضوعا للأعمّ ، وإلّا لما صحّ التعريض ؛ لانقضاء تلبّسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حين التصدّي للخلافة ، فلا بدّ من وضع المشتقّ للأعمّ ؛ ليصدق عليهم عنوان الظالم فعلا فيندرجوا تحت الآية.

وجوابه : ـ كما قال المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ : أنّ المشتقّات التي تؤخذ في موضوعات الأحكام تكون على ثلاثة وجوه :

الأوّل : أن تكون لمحض الإشارة إلى ما هو الموضوع من دون دخل لها في موضوعيّته أصلا ، فالعنوان الملحوظ يكون مشيرا إلى الموضوع ومعرّفا له ، كقوله عليه‌السلام : «عليك بهذا الجالس» (١) ، وأشار إلى زرارة. وقولك : «أكرم من في الدار» ، ونحو ذلك.

الثاني : أن تكون للإشارة إلى عليّة المبدأ للحكم ، بحيث يكون اتّصاف الذات به آناً ما كافيا في تشريع الحكم من دون دورانه مدار المبدأ بقاء ، فصدق المشتقّ على الذات كاف في الحكم حدوثا وبقاء ، نظير موضوعيّة السارق والزاني والجاني ونحو ذلك لوجوب الحدّ.

الثالث : أن تكون للإشارة إلى علّيّة المبدأ للحكم حدوثا وبقاء ، بحيث يكون الحكم منوطا بوجود المبدأ وبقائه ، نظير العالم والعادل في دوران الحكم من جواز التقليد والاقتداء وغيرهما مدار وجود العلم والعدالة ، وعدم كفاية وجودهما آناً ما في بقاء الحكم.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ أخذ العنوان في الآية الشريفة يكون على النحو

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٤٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٩.

٤١٣

الثاني ؛ بقرينة صدر الآية ، وأنّها في مقام بيان جلالة منصب الإمامة ، وأنّها من أعظم المناصب الشامخة الإلهيّة التي لا يليق بها كلّ أحد ، فمن اتّصف في آن من آنات عمره برذيلة من الرذائل لا يليق بأن تناله الخلافة ، فلا يتمّ استدلال القائلين بالأعمّ بالآية الشريفة ، فالمشتق حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدإ كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) بعد نقل أدلّة القولين في المسألة والنقض والإبرام فيها نبّه على امور :

بساطة مفهوم المشتق

الأوّل : في أنّ مفهوم المشتقّ ومعناه التصوري بسيط أم مركّب؟

ولا شكّ في أنّ صدق عنوان الاشتقاقي متوقّف على تحقّق الذات والمبدأ والارتباط بينهما ، وإنّما البحث في أنّ ما ينسبق من سماع لفظ المشتقّ إلى الذهن هل هو معنى بسيط أو مركّب؟ ولا يخفى أنّ معنى البساطة بحسب المفهوم ـ كما قال صاحب الكفاية قدس‌سره ـ وحدته إدراكا وتصوّرا ، بحيث لا يتصوّر عند تصوّره إلّا شيء واحد لا شيئان وإن انحلّ بتعمّل من العقل إلى شيئين كانحلال مفهوم الشجر أو الحجر إلى شيء له الحجريّة أو الشجريّة مع وضوح بساطة مفهومهما.

واعلم أنّ أصل كلامه في مفهوم البسيط في كمال الصحّة والمتانة ، إلّا أنّ التشبيه المذكور ليس بصحيح ؛ إذ المراد من التحليل العقلي في باب المشتقّ ما يرتبط بمقام الدلالة والموضوع له للهيئة ، وأمّا تحليل الحجر بشيء له الحجريّة

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٨٢.

٤١٤

فلا يرتبط بهذا المقام ، بل هو مربوط بواقعيّة الحجر أو الشجر.

وإذا كان هذا معنى البسيط فالتركيب هو ما ينسبق إلى الذهن معنيان من سماع اللّفظ مثل ما ينسبق إليه من سماع اللفظين ، نحو «ابن زيد» ؛ إذ لا شكّ في انسباق المعنيين إلى الذهن من سماع لفظ المضاف والمضاف إليه وإن كانت النسبة ناقصة ، فالتركيب هاهنا ـ يعني انسباق المعنيين إلى الذهن ـ من لفظ الضارب ـ مثلا ـ نحو ذات ثبت له الضرب.

وقال بعض الأعلام (١) : «هذا المعنى غريب من المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره ؛ لأنّ مورد النزاع هو البساطة والتركيب بحسب التحليل والواقع لا بحسب الإدراك والتصوّر ، وذلك لأنّ البساطة الإدراكيّة تجتمع مع تركّب المفهوم حقيقة ؛ ضرورة أنّ المتفاهم في مرحلة التصوّر من كلّ لفظ مفرد عند الإطلاق معنى بسيط ، سواء كان في الواقع أيضا بسيطا أم كان مركّبا ، فلا معنى لأن يجعل مركز البحث البساطة والتركيب بحسب التصوّر والإدراك».

ثمّ حكى عن الفلاسفة والمتأخّرين من الاصوليّين قولهم ببساطة المفاهيم الاشتقاقيّة ، وأنّهم قد أصرّوا على أنّه لا فرق بين المشتقّات ومبادئها حقيقة وذاتا ، وإنّما الفرق بينهما بالاعتبار ولحاظ الشيء مرّة «لا بشرط» ، ومرّة اخرى «بشرط لا» ، فيكون معنى الضارب هو معنى الضرب الذي يجري ويحفظ في جميع المشتقّات ، يعني نفس الحدث الذي يعبّر عنه بالفارسي ب «كتك» ، إلّا أنّ المبدأ إذا لوحظ «بشرط لا» فلا يكون قابلا للحمل على الذات ، مثل : «زيد ضرب» ، وإذا لوحظ «لا بشرط» فيكون قابلا له مثل «زيد ضارب» فلا فرق بين الضارب والضرب من جهة المعنى أصلا ، فكما أنّ

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

٤١٥

معنى الضرب لا يكون قابلا للانحلال فمعنى الضارب أيضا كذلك.

ولكنّ بطلانه أظهر من الشمس ، فإنّه كما قلنا في المعاني الحرفيّة أنّها واقعيّات وحقائق تحتاج في تحقّقهما إلى تحقّق الظرف والمظروف والنسبة بينهما ، وهكذا في المعنى الاشتقاقي كالضارب فلا بدّ في تحقّقه من وجود الذات والمبدأ وتلبّسها به ؛ إذ لا شكّ في أنّ صرف الاعتبار واللحاظ لا يوجب تحقّقه أصلا ، فيكون لفظ الضارب في جملة «زيد ضارب» حاكيا عن الواقعيّة وهي تلبّسه بالمبدإ ، بخلاف لفظ «الضرب» في قولك : «زيد ضرب» ، فاعتبار المبدأ وتخيّله «لا بشرط» أو «بشرط لا» لا يوجب إيجاد الواقعيّة أو تغييرها في الخارج ، فكيف يكون معنى الضارب هو معنى الضرب؟! ومعلوم أنّ معنييهما متغايران ، كما يستفاد من تعبير المحقّق الشريف عن معنى المشتقّ بالمعنى البسيط المنتزع عن الذات المتلبّس بالمبدإ حين الاستدلال لبساطته ، فالمنتزع غير المنتزع منه.

فالأولى أن يكون المراد من البساطة والتركيب بحسب الإدراك والتصوّر لا بحسب التحليل العقلي حتّى لا يفضي الكلام إلى هذا القول الباطل.

إلّا أنّ بعض الأعلام قال بأنّه : لو كان المراد البساطة والتركيب بحسب الإدراك فلا نحتاج إلى إقامة البرهان الذي أقامه المحقّق الشريف على البساطة ، والظاهر أنّ إثبات البساطة اللحاظيّة لا يحتاج إلى مئونة الاستدلال وإقامة البرهان ، فإنّ المرجع الوحيد لإثباتها فهم أهل العرف أو اللّغة ، ولا إشكال في أنّهم يفهمون من المشتقّ معنى واحدا كما يفهمون من غيره من الألفاظ المفردة ذلك.

وجوابه متوقّف على نقل بيان المحقّق الشريف وإيراد شارح المطالع (١) على

__________________

(١) شرح المطالع : ١١.

٤١٦

التعريف الذي ذكره الماتن للفكر ، وهو : أنّ الفكر : ترتيب امور معلومة لتحصيل أمر مجهول. ثمّ استشكل عليه الشارح بأنّه لا يشمل التعريف بالفصل وحده أو بالخاصّة وحدها ، مثل تعريف الإنسان بالحدّ الناقص أو بالرسم الناقص كقولنا : الإنسان ناطق أو ضاحك ، ولا شكّ في تجويز المنطقيّين لهذين التعريفين للإنسان ، فلا ضرورة لترتيب امور ، بل يكفي أمر واحد معلوم لتحصيل أمر مجهول.

فأجاب عنه بأنّ التعريف بالمفردات إنّما يكون بالمشتقّات ، والمشتقّ وإن كان في اللفظ مفردا إلّا أنّه من حيث المعنى مركّب ، فيكون معنى الناطق شيء له النطق ، ومعنى الضاحك شيء له الضحك ، فيتحقّق في التعريف بالفصل ، أو الخاصّة أيضا ترتيب امور معلومة بحسب دقّة النظر.

وأورد المحقّق الشريف في حاشيته (١) على شرح المطالع بما ملخّصه : أنّ الشيء الذي هو جزء معنى المشتقّ إن اريد به مفهومه لزم منه دخول العرض العامّ في الفصل المقوّم للذات ؛ لأنّ مفهوم الشيء من الأعراض العامّة ؛ لصدقه على الامور المتباينة من جميع الجهات كالواجب والممكن والممتنع ، وهو محال. وإن اريد به مصداقه لزم انقلاب القضيّة الممكنة ضروريّة ؛ لاستلزامه حمل الشيء على نفسه وهي الضرورة ، فإنّ قولنا : «الإنسان ضاحك» قضيّة ممكنة بالإمكان الخاصّ ، والمصداق الذي له الضحك هو عين الإنسان ، فيرجع معناه إلى قولنا : «الإنسان إنسان له الضحك» ، ومن المعلوم أنّ حمل الشيء على نفسه ضروري ، فانقلبت جهة الإمكانيّة إلى الضروريّة ، وهو أيضا محال ، فلا بدّ من الالتزام ببساطة المشتقّ ؛ لئلّا يلزم شيء من هذين المحذورين.

__________________

(١) المصدر السابق.

٤١٧

هذا ، والمستفاد من كلام شارح المطالع أنّ معنى الناطق وإن كان بالنظر البدوي مفردا لكنّه بحسب دقّة النظر مركّب ، ولكن هل هو نفس المعنى الذي ذكره صاحب الكفاية بأنّ المقصود من البسيط هاهنا البساطة في مقام الإدراك والتصوّر؟ وهذا لا ينافي التركّب عند التحليل ، والمراد من التحليل في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره هو دقّة النظر في كلام شارح المطالع حتّى لا يكون بينهما فرق إلّا بالتسمية ، بأنّ شارح المطالع سمّاه مركّبا ، وصاحب الكفاية سمّاه بسيطا.

والتحقيق : أنّ قول شارح المطالع في التركيب هاهنا يشبه تركيب «غلام زيد» إلّا أنّ معنى «غلام زيد» مركّب بحسب بادئ النظر ، ومعنى «ضاحك» مركّب بحسب دقّة النظر ، فلا فرق بين «الضاحك» و «غلام زيد» في مقام الإدراك والتصوّر من حيث تركّب المعنى أصلا ، بخلاف ما قال به المحقّق الخراساني قدس‌سره ، فإنّه لا تركّب في معنى «الضاحك» و «الناطق» في مقام الإدراك والتصوّر عنده أصلا.

على أنّ البساطة التي ادّعاها المحقّق الشريف هي البساطة عند الإدراك والتصوّر بحسب دقّة النظر (١) ، فإنّه إذا كان معنى «الناطق» و «الضاحك» بحسب النظر الدقّي التصوّري مفردا فلا يستلزم أخذ العرض العامّ في الفصل وتبديل القضيّة الممكنة بالضروريّة وإن كان بحسب التعمّل والتحليل مركّبا.

__________________

(١) لا يخفى أنّ المراد من المركّب بحسب الإدراك والتصوّر أن يكون المعنى المتبادر إلى الذهن مركّبا في الواقع مثل المعنى المتبادر من «غلام زيد» ، والبسيط بعكسه ، والمراد من المركّب بحسب التحليل أن لا يكون المعنى المتبادر إلى الذهن كذلك ، بل كان في الواقع واحدا ، ولكنّ العقل بالتعمّل والتعقّل ، والتحليل يجعله مركّبا ، والبسيط بعكسه ، ولا يذهب عليك أنّ دقّة النظر في العبارة غير التحليل العقلي ، والمقصود منه أن يكون المعنى مركّبا في الواقع ولكنّه في بادئ النظر يتصوّر بسيطا ، ومع دقّة النظر يكشف الحال.

٤١٨

ومن مجموع ذلك يتبيّن أنّ محلّ النزاع هو البساطة والتركيب بحسب الإدراك والتصوّر ، لا بحسب التحليل العقلي ، بعكس ما يقول به بعض الأعلام ، والدليل العمدة للبساطة أو التركيب في معنى المشتقّ مثل أصل معناه هو التبادر ، إلّا أنّ المحقّق الشريف بلحاظ كونه منطقيّا استدلّ بالبرهانين المذكورين.

ولا يخفى أنّ البرهانين المذكورين على فرض صحّتهما لا يثبتان أن يكون معنى المشتقّ بسيطا ؛ إذ يمكن أن يكون مفهوم ومعنى المشتقّ مركّبا بدون دخالة الشيء مفهوما ولا مصداقا فيه خصوصا مع القول بعدم الفرق بين المبدأ والمشتقّ إلّا بالاعتبار ، فيمكن أن يقال : إنّ معنى المشتقّ مركّب من المبدأ ونسبته إلى الذات ، ولا ينفى هذا بالبرهانين المذكورين.

والتحقيق : أنّ برهان المحقّق الشريف مخدوش من أصله.

واجيب عن برهانه الأوّل بأنّ الشيء ليس بعرض عامّ ، وقد ذكرنا فيما تقدّم أنّ ذلك لا يكون قابلا للإنكار بعد صدقه على المقولات العشر المتباينة والواجب والممتنع والممكن ، حتّى على القول بأنّ الشيء هو الوجود ؛ إذ الوجود أيضا لا يكون من ذاتيّات الإنسان كالجنس والفصل.

والجواب الصحيح عنه ـ كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وجماعة من الفلاسفة المتأخّرين منهم السبزواري (٢) في حاشيته على منظومته ـ : أنّ «الناطق» ليس بفصل حقيقيّ ، بل هو لازم ما هو الفصل وأظهر خواصّه ؛ إذ لا يمكن وصول أحد إلى حقائق الأشياء وفصولها الحقيقيّة ما عدا الباري سبحانه

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) يستفاد هذا من حاشيته على الأسفار ٢ : ٢٥.

٤١٩

وتعالى ، ولذا وضعوا مكان الفصل لازمه وخاصته ، فالناطق ليس بفصل حقيقي للإنسان ، بل هو فصل مشهوري وضع مكانه ، فإنّ النطق إمّا أن يكون بمعنى الإدراك والعلم وهو من مقولة الكيف النفساني أو الإضافة أو الانفعال على الخلاف في ماهيّة العلم ، وإمّا أن يكون بمعنى التكلّم فهو من مقولة الكيف المسموع ، وعلى التقديرين يكون النطق عرضا ، فكيف يكون مقوّما للجواهر؟! فلا يلزم من أخذ مفهوم الشيء في معنى المشتقّ إلّا دخول العرض العامّ في الخاصّة ، بمعنى دلالة هيئة المشتقّ على العرض العامّ المقرون بالخاصّة.

ويشهد له أنّه ربّما يجعلون اللازمين مكان فصل واحد كالحساس والمتحرك بالإرادة في تعريف الحيوان ، مع أنّه لا يعقل أن يتقوّم الشيء الواحد بفصلين قريبين في رتبة واحدة ، وحينئذ لا بأس بأخذ مفهوم الشيء في مثل الناطق ، فإنّ مفهوم الشيء وإن كان عرضا عامّا لجميع الأشياء الخارجيّة والمعقولات الثانية ، إلّا أنّه بعد تقييده بالنطق صار من أظهر خواصّ الإنسان ؛ لاختصاص الشيء الذي له النطق بالإنسان.

وأجاب صاحب الفصول (١) عن برهانه الثاني : أنّ المحمول في مثل قولنا : «زيد ضاحك» ليس مصداق الضاحك وهو الإنسان مطلقا لتنحلّ القضيّة إلى قولنا : «الإنسان إنسان» فتكون ضروريّة ، بل المحمول هو الإنسان المقيّد بالضحك ، يعني إنسان له الضحك ، وإثباته للإنسان لا يكون ضروريّا ، فتبقى جهة الإمكانيّة بعد هذا التحليل أيضا.

وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) في مقام الدفاع عن الانقلاب المذكور : إنّ عدم

__________________

(١) الفصول الغروية : ٦١.

(٢) كفاية الاصول ١ : ٧٩ ـ ٨٠.

٤٢٠