دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

١
٢

٣
٤

خاتمة

في شرائط الاصول

٥
٦

حسن الاحتياط مطلقا

وبعد تماميّة البحث في الاصول الثلاثة ـ أي البراءة والتخيير والاحتياط ـ يذكرون شرائط جريانها قبل بحث الاستصحاب ، وليس للاستصحاب حكم خاصّ وشرائط خاصّة في قبالها.

فنقول : إنّه لا يعتبر في حسن الاحتياط عقلا شيء زائد على تحقّق موضوعه وعنوانه.

يمكن أن يتوهّم : أنّ الاحتياط إن كان موجبا لاختلال النظام لا يكون حسنا ، بل لعلّه يكون قبيحا.

ولكنّه ليس بصحيح ، فإنّ الاحتياط بما هو احتياط وبعنوانه الاحتياطي حسن على كلّ حال ، وما هو قبيح عنوان آخر ، وهو اختلال النظام ، ولا معنى لسراية الحكم من متعلّقه وعنوانه إلى متعلّق آخر ، مثل عدم سراية الوجوب عن عنوان الوفاء بالنذر إلى عنوان صلاة الليل بعد تعلّق النذر بها ، فصلاة الليل مستحبّة أبدا ، والواجب هو الوفاء بالنذر ، فلذا يلزم في مقام الامتثال إتيانها بداعي الأمر التعبّدي الاستحبابي لا بداعي الأمر الوجوبي المتعلّق بالنذر لكونه أمرا توصّليّا.

على أنّه لا تتحقّق الملازمة النوعيّة والدائميّة بين الاحتياط واختلال النظام.

نعم ، هنا إشكالات لا بدّ من التعرّض لها ، والجواب عنها ، بعضها يرجع إلى

٧

مطلق الاحتياط ولو كان في الشبهات البدويّة ، وبعضها إلى الاحتياط في خصوص الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، وبعضها إلى الاحتياط فيما إذا قامت الحجّة المعتبرة على خلافه.

أمّا الإشكال الراجع إلى مطلق الاحتياط في الامور التعبّديّة ، فهو أنّه يعتبر في العبادات صدق عنوان الإطاعة وتحقّقه ، والإطاعة عبارة عن الانبعاث عقيب بعث المولى وأن تكون إرادة العبد تبعا لإرادة المولى بانبعاثه عن بعثه ، والحال أنّ الاحتياط في الشبهات البدويّة يكون باحتمال الوجوب وتحقّق الأمر ، واحتمال البعث عبارة عن الحالة التصوريّة الذهنيّة للمكلّف لا يرتبط بالمولى ، فلا تتحقّق الإطاعة.

ويمكن توسعة دائرة هذا الإشكال بالقول بأنّ الانبعاث لا يكون عن البعث ولو في موارد العلم بالبعث ؛ لأنّ المحرّك والباعث ليس هو البعث بوجوده الواقعي ، وإلّا لكان اللازم ثبوت الملازمة بينهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر ، مع أنّ الضرورة قاضية بخلافه ؛ لأنّه كثيرا ما لا يتحقّق الانبعاث مع تحقّق البعث في الواقع ونفس الأمر ، وكثيرا ما ينبعث المكلّف مع عدم وجود البعث في الواقع ، فهذا دليل على أن المحرّك والباعث ليس هو نفس البعث ، بل الصورة الذهنيّة الحاكية عنه باعتقاد المكلّف ، فوجود البعث وعدمه سواء.

وهذا لا يختصّ بالبعث ، بل يجري في جميع أفعال الإنسان وحركاته ؛ ضرورة أنّ المؤثّر في الإخافة والفرار ليس هو الأسد بوجوده الواقعي ، بل صورته الذهنيّة المعلومة بالذات المنكشفة لدى النفس. ولا فرق في تأثيرها بين كونها حاكية عن الواقع واقعا وبين عدم كونها كذلك ؛ لعدم الفرق في حصول الخوف بين العالم وبين الجاهل بالجهل المركّب ، ولو كان المؤثّر هو

٨

الأسد بوجوده الواقعي لكان اللازم عدم تحقّق الخوف بالنسبة إلى الجاهل ، مع أنّ الوجدان يشهد بخلافه.

فانقدح ممّا ذكر أنّ الانبعاث عن بعث المولى لا يتوقّف على وجوده في الواقع ، بل يتحقّق في صورة الجهل المركّب به ، والسرّ أنّ الانبعاث إنّما هو عن البعث بصورته الذهنيّة المعلومة بالذات ، وإلّا يلزم عدم انفكاك الانبعاث عن البعث ، فلا يتحقّق الانبعاث بدونه ، ولا البعث بدون الانبعاث ، ولازمه عدم تحقّق العصيان أصلا.

وحينئذ يظهر عدم إمكان تحقّق الإطاعة أصلا ولو في صورة العلم بعد كون المعتبر في حقيقتها هو كون الانبعاث مستندا إلى نفس البعث بوجوده الواقعي.

ويمكن تصوير ذلك بصورة البرهان بنحو الشكل الأوّل الذي هو بديهي الإنتاج بأن يقال : إنّ الإطاعة هو الانبعاث ببعث المولى ، ولا شيء من الانبعاث ببعث المولى بممكن التحقّق ، ينتج : فلا شيء من الإطاعة بممكن.

والجواب عن هذا الإشكال : أوّلا : أنّه لا دليل لاعتبار صدق الإطاعة في العبادات ، ولا منشأ له حتّى تصل النوبة إلى البحث عن المراد ، والمقصود من الإطاعة المأمور بها في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ ...)(١) إلى آخره ، ليس إلّا مجرّد الموافقة وعدم المخالفة ، والدليل عليه أنّ إطاعة الرسول واولي الأمر لا بدّ ، وأن يكون المراد منها ذلك ، كما لا يخفى ، فاتّحاد السياق يقضي بكون المراد من إطاعة الله أيضا ليس إلّا مجرّد الموافقة.

وثانيا : أنّه لا يعتبر في تحقّق الإطاعة بنظر العرف والعقلاء إلّا وجود البعث

__________________

(١) آل عمران : ٣٢.

٩

والعلم به ـ أي الانطباق المعلوم بالذات مع المعلوم بالعرض لا الجهل المركّب ـ فإذا تحقّق البعث وصار موجودا واقعا وعلم به المكلّف بتوسّط صورته الذهنيّة فامتثل بداعي ذلك يتحقّق حينئذ عنوان الإطاعة بدون أيّ مسامحة في البين.

ودعوى : أنّ الانبعاث لم يكن مسبّبا عن البعث ، بل يكون مسبّبا عن الصورة الذهنيّة لتحقّقه في صورة الجهل المركّب أيضا ؛ مدفوعة : بأنّ الصورة الذهنيّة حيث كانت كاشفة عن الواقع وحاكية له يكون الانبعاث معها مستندا إلى الواقع ، وهي وسيلة إلى النيل به والوصول إليه ، فالباعث في الحقيقة هو نفس البعث لا الصورة الذهنيّة ، كيف؟ وهذه الصورة مغفول عنها غير متوجّه إليها ؛ لأنّ العالم بالبعث لا يرى إلّا نفس البعث ، ولا يتوجّه إلى صورته المعلومة بالذات أصلا ، ومن هنا نرى إظهار الندامة والاشتباه من المكلّف إذا كان انبعاثه مستندا إلى تخيّل البعث والصورة الذهنيّة فقط عند كشف الخلاف ، فإذا كانت الصورة الذهنيّة مطابقة للواقع يتحقّق استناد الانبعاث إلى المعلوم بالعرض والمعلوم بالذات معا ، ولا أقلّ من ذلك ، ففي صورة العلم يكون الانبعاث مستندا إلى البعث بالتبع دائما.

وأمّا الإشكال الذي يختصّ بالاحتياط في الشبهات البدويّة والانبعاث عن احتمال البعث ، فالجواب عنه : أنّه لا شكّ في تحقّق عنوان الإطاعة هنا ، بل المنبعث عن البعث الاحتمالي يكون في مرتبة عالية من الإطاعة ممّن ينبعث عن العلم بالبعث فقط.

وأمّا الإشكال الذي يختصّ بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، فتارة من جهة التكرار ، واخرى من أجل اعتبار قصد القربة والوجه ونظائرهما

١٠

في العبادة.

أمّا الجهة الاولى فمحصّلها : أنّ تكرار العبادة مع إمكان تحصيل العلم التفصيلي يعدّ لعبا بأمر المولى ، واللعب والبعث ينافي العبوديّة التي هي غاية الفعل العبادي ، بل نقول : إنّ حصول اللعب بالتكرار لا يختصّ بالعبادة ، بل يجري في غيرها.

ألا ترى أنّه لو علم عبد بأنّ المولى طلب منه إحضار شخص مردّد بين عدّة أشخاص ، وكان قادرا على تحصيل العلم التفصيلي بمطلوب المولى ، ولكن اكتفى بالامتثال الإجمالي ، فاحضر عدّة من العلماء وعملة المولى وجماعة من الصنوف المختلفة ، يعدّ لاعبا بأمر المولى ، وأنّه في مقام الاستهزاء والسخرية ، فيستفاد منه أنّ التكرار لعب بأمر المولى فلا يجوز.

وجوابه : أوّلا : أنّ المدّعى هو كون التكرار مطلقا لعبا بأمر المولى ، وهو لا يثبت بكونه لعبا في بعض الموارد كما في مثل المثال ؛ لأنّ كثيرا من موارد التكرار لا يكون فيه لعب أصلا.

ألا ترى أنّه لو كان له ثوبان أحدهما طاهر والآخر نجس ، وكان قادرا على غسل أحدهما ، ولكن كان ذلك متوقّفا على تحمّل المشقّة وصرف وقت كثير ، فصلّى فيهما معا ، هل يعدّ هذا الشخص لاعبا ولا غيا؟ وكذا لو دار الواجب في يوم الجمعة بين الظهر وصلاة الجمعة وكان قادرا على السؤال من الفقيه ـ مثلا ـ ولكن كان له محذور عرفي في السؤال ، إمّا من ناحيته ، أو من ناحية الفقيه ، فجمع بينهما ، هل يعدّ لاعبا؟ كلّا. وبالجملة ، فالمدّعى لا يثبت بما ذكره.

وثانيا : لو فرض كون التكرار لعبا وعبثا ، لكن نقول : إنّ المعتبر في صحّة العبادة أن يكون أصل الإتيان بها بداعي تعلّق الأمر بها من المولى ، وأمّا

١١

الخصوصيّات الخارجة عن حقيقة العبادة ـ كالمكان والزمان ونحوهما في مثل الصلاة ـ فلا يعتبر أن يكون الإتيان بها بداعي الأمر ، بل لا وجه له بعد كونها خارجة عن متعلّق الأمر ، كيف؟ ولو اعتبر الإخلاص فيها يلزم عدم صحّة شيء من العبادات ، مثل إتيانها في فصل الحرارة في المكان البارد ، وفي فصل البرودة في المكان الحارّ ، ونحو ذلك.

والحاصل : أنّ المراد بكون التكرار لعبا إن كان هو اللعب بأمر المولى فذلك ممنوع جدّا ؛ لأنّه ليس لعبا إلّا في كيفيّة الإطاعة ، وإن كان هو اللعب ولو في خصوصيّات العمل فنمنع كون هذا اللعب مؤثّرا في البطلان.

وأمّا الجهة الثانية فمحصّلها : أنّه يعتبر في العبادة قصد القربة والوجه والتمييز والجزم بالنيّة ، ولا يتحقّق ذلك إلّا مع العلم التفصيلي بالمأمور به.

وجوابها : أنّه لا مانع من تحقّق قصد القربة والوجه والتمييز في الامتثال أيضا ، بصورة التعليق ، والقول بأنّي اصلّي صلاة الجمعة لوجوبها إن كانت واجبة ، وكفاية احتمال المقرّبيّة لقصد القربة وإتيان العمل بداعي احتمال المقرّبيّة لا يكون قابلا للإنكار.

نعم ، الجزم بالنيّة لا يتحقّق إلّا مع العلم التفصيلي ، ولكن لا دليل على اعتباره في العبادة ، لعدم الدليل عليه لا عقلا ولا شرعا.

أمّا عقلا فواضح ، وأمّا شرعا فلخلوّ النصوص عن الدلالة على اعتباره ، ومن الواضح أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي إلّا مجرّد الإتيان في الخارج ، فإطلاق دليل الأمر دليل على العدم ، بناء على ما حقّقنا في مباحث الألفاظ من إمكان تلك الامور كلّها في متعلّق الأمر ، وعلى تقدير القول بعدم الإمكان فحيث إنّه لا سبيل للعقل إلى تشخيص كونها معتبرة ، بل اللازم أن يبيّنه الشارع ،

١٢

والمفروض عدم دليل شرعي على اعتبارها ، فلا وجه للقول به قبل جريان أصالة البراءة. ومن هذه الجهة أيضا لا فرق في جريانها بين أجزاء الصلاة وبين الامور المذكورة.

نعم ، قد يستدلّ بالإجماع على بطلان العمل بالاحتياط ، كما ادّعاه السيّد الرضي (١) على بطلان صلاة من صلّى ولا يعلم أحكامها ، ومقتضى عمومه بطلان صلاة المحتاط ، وكما أنّه قد ادّعى الإجماع على بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط ، ولكنّ الإجماع المنقول بالخبر الواحد فاقد للحجّيّة والاعتبار كما ثبت في محلّه ، فلا إشكال في صحّة عبادة المحتاط.

فالإشكالات الواردة على الاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي وإن كان مستلزما لتكرار العبادة قابلة للدفع.

وأمّا الإشكال الراجع إلى الاحتياط فيما إذا كان على خلافه حجّة شرعيّة فهو ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله ومحصّله : أنّه يعتبر في حسن الاحتياط إذا كان على خلافه حجّة شرعيّة أن يعمل المكلّف أوّلا بمؤدّى الحجّة ، ثمّ يعقّبه بالعمل على خلاف ما اقتضته الحجّة إحرازا للواقع ، وليس للمكلّف أن يعمل بالعكس إلّا إذا لم يستلزم الاحتياط استئناف جملة العمل وتكراره.

والسرّ في ذلك : أنّ معنى اعتبار الطريق إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملا وعدم الاعتناء به ، والعمل أوّلا برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع ينافي إلقاء احتمال الخلاف ، فإنّ ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف ، وهذا بخلاف ما إذا قدّم العمل بمؤدّى الطريق ، فإنّه حيث قد أدّى المكلّف ما هو الوظيفة وعمل بما يقتضيه الطريق ، فالعقل يستقلّ بحسن الاحتياط لرعاية إصابة الواقع. هذا ،

__________________

(١) ذكري الشيعة ٤ : ٣٢٥ ، فرائد الأصول ٢ : ٥٠٨.

١٣

مضافا إلى أنّه يعتبر في حسن الطاعة الاحتماليّة عدم التمكّن من الطاعة التفصيليّة ، وبعد قيام الطريق المعتبر يكون المكلّف متمكّنا من الامتثال التفصيلي بمؤدّى الطريق ، فلا يحسن منه الامتثال الاحتمالي (١). انتهى.

وجوابه : أوّلا : أنّ تقدّم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاحتمالي ممنوع ، بل الظاهر كونهما في عرض واحد ورتبة واحدة ، فمع التمكّن من تحصيل العلم يجوز له الاقتصار على الامتثال الاحتمالي.

والسرّ : أنّه لا يعتبر في تحقّق الإطاعة أزيد من الإتيان بالمأمور به مع جميع القيود المعتبرة فيه ولو بداعي احتمال الأمر ، ولا فرق بينهما في نظر العقل أصلا.

وثانيا : أنّ معنى حجّيّة الأمارة واعتبارها ليس إلّا مجرّد وجوب العمل على طبقها وترتيب آثار الواقع عليها في مقام العمل ، وأمّا دلالة دليل الحجّيّة على لزوم إلقاء احتمال الخلاف فلم نعرف لها وجها ، فإنّ مفاد بناء العقلاء الذي هو الدليل المهمّ لحجّيّة الخبر ليس إلّا بناء العمل على طبقه وترتيب الأثر عليه عملا ، ولا يستفاد منه إلقاء احتمال الخلاف في مقام العمل ، وعلى فرض استفادته منه لا فرق في تحقّق الاعتناء باحتمال الخلاف بين تقدّم العمل بمؤدّى الطريق وتأخّره.

فانقدح من جميع ما ذكرنا : أنّه لا يعتبر في حسن الاحتياط شيء زائد على تحقّق موضوعه وهو احتمال التكليف ، هذا كلّه في الاحتياط.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٢٦٥.

١٤

اعتبار الفحص في جريان البراءة

وأمّا أصالة البراءة فيعتبر في جريانها في الشبهات الحكميّة الفحص ، والكلام فيه تارة يقع في أصل اعتبار الفحص ووجوبه ، واخرى في مقداره ، وثالثة فيما يترتّب على العمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والأحكام.

أمّا الكلام في أصل اعتبار الفحص ووجوبه فقد يقع في البراءة العقليّة ، وقد يقع في البراءة الشرعيّة.

أدلّة وجوب الفحص

أمّا البراءة العقليّة التي مدركها قبح العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان فلا إشكال في اعتبار الفحص فيها ؛ لأنّها متفرّعة على عدم البيان ، والمراد به وإن كان هو البيان الواصل إلى المكلّف جزما ، إلّا أنّ مناط الوصول ليس هو أن يعلم المولى كلّ واحد من المكلّفين بحيث يسمعه كلّ واحد منهم ، بل وصوله يختلف حسب اختلاف الموالي والعبيد.

فالمولى المقنّن للقوانين العامّة الثابتة على جميع المكلّفين إنّما يكون إيصاله للأحكام من الأوامر والنواهي بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، ثمّ الأحاديث المرويّة عن أنبيائه وأوصيائهم المحفوظة في الكتب التي بأيدي المكلّفين ، بحيث يتمكّن كلّ واحد منهم من الرجوع إليها والاطّلاع على أحكام الله جلّ شأنه.

١٥

وحينئذ فالملاك في تحقّق البيان الذي لا يقبح العقاب والمؤاخذة معه هو أن أمر الله تعالى رسوله بتبليغه ، وقد بلّغه الرسول على نحو المتعارف ، وصار مضبوطا في الكتب المعدّة له ، ومع فقدان أحد هذه الشروط يصدق عدم البيان ويقبح العقاب معه ، وحينئذ فمع احتمال المكلّف ثبوت التكليف المبيّن الواصل بحيث لو فحص لظفر به لا يجوز الاعتماد على البراءة التي مدركها قبح العقاب بلا بيان ، كما أنّ العبد العرفي لو وصل إليه مكتوب من ناحية مولاه واحتمل أن يكون المكتوب متضمّنا لبعض التكاليف لا يجوز له القعود عنه بعدم مراجعته استنادا إلى أنّ المولى لم يبيّن حكمه ، ولا يكون مثل هذا العبد معذورا عند العقلاء جزما ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه قد يستشكل في وجوب الفحص وعدم جريان البراءة قبله بأنّ الحكم ما لم يتّصف بوصف المعلوميّة لا يكون باعثا ومحرّكا ؛ ضرورة أنّ البعث بوجوده الواقعي لا يصلح للمحرّكيّة ، وإلّا لكان اللازم تحقّق الانبعاث بالنسبة إلى الجاهل به المعتقد عدمه ، بل قد عرفت سابقا أنّه لا يعقل أن يكون الانبعاث مسبّبا عن البعث الواقعي ، بل الانبعاث دائما مسبّب عن البعث بوجوده العلمي الذي هو الصورة الذهنيّة الكاشفة عنه ، والأوامر إنّما تتّصف بالباعثيّة والمحرّكيّة بالعرض ، كما أنّ اتّصافها بوصف المعلوميّة أيضا كذلك ؛ ضرورة أنّ المعلوم بالذات إنّما هو نفس الصورة الحاضرة عند النفس ، كما حقّق في محلّه.

والحاصل : أنّ البعث الواقعي لا يكون باعثا ما لم يصر مكشوفا ، والكاشف عنه إنّما هو العلم ونحوه ، وأمّا الاحتمال فلا يعقل أن يكون كاشفا ، وإلّا لكان اللازم أن يكشف عن طرفي الاحتمال ـ أي الوجود والعدم ـ فمع الاحتمال

١٦

لا يكون البعث الواقعي محرّكا وباعثا ، وبدون الباعثيّة لا يمكن أن يكون منجّزا ، ومع عدم التنجّز لا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفته ، ولا فرق في هذا بين كون المكلّف قادرا على الفحص وعدمه.

ويرد عليه : أوّلا : النقض بما إذا قامت الحجّة المعتبرة من قبل المولى على ثبوت التكليف وفرض عدم إفادتها الظنّ ، بل كان التكليف مع قيام الأمارة أيضا مشكوكا أو مظنون الخلاف ، فإنّه يجري فيه هذا الإشكال ، ومقتضاه حينئذ عدم ثبوت العقاب على مخالفته على تقدير ثبوته في الواقع ، مع أنّه واضح البطلان ، وإلّا يلزم لغويّة اعتبار الأمارة ، كما هو واضح. مضافا أنّه لا يلتزم به المستشكل أيضا.

وثانيا : الحلّ بأنّه لا نسلّم أن تكون المنجزيّة متفرّعة على الباعثيّة ؛ لأنّ المنجّزيّة الراجعة إلى صحّة عقوبة المولى على المخالفة والعصيان حكم عقلي ، وقد عرفت أنّ العقل يحكم بعدم المعذّريّة ، وبصحّة العقوبة لو بيّن المولى التكليف بنحو المتعارف ، بحيث كان العبد متمكّنا من الاطّلاع عليه بالمراجعة إلى مظانّ ثبوته ولم يراجع ، فخالف اعتمادا على البراءة كما عرفت في مثال المكتوب الواصل من المولى إلى العبد ، ويحتمل اشتماله على بعض التكاليف ، والظاهر أنّ هذا من الوضوح بمكان ، فلا مجال لهذا الإشكال.

ثمّ إنّه قد يقرّر وجوب الفحص بوجه آخر ، ومحصّله : أنّ ارتكاب التحريم قبل الفحص ومراجعة مظانّ ثبوته ظلم للمولى ، والظلم قبيح محرّم خصوصا ظلم المولى ، فلو اقتحم في المشتبه قبل الفحص يستحقّ العقوبة لأجل ظلم المولى ، كما أنّه في موارد التجرّي يستحقّ العقوبة عليه وإن كان لا يستحقّ العقوبة على مخالفة الواقع في المقامين.

١٧

ويرد عليه : أنّ تحقّق عنوان الظلم في المقام ليس إلّا من جهة احتمال حصول المخالفة بالاقتحام في المشتبه ؛ ضرورة أنّه مع العلم بعدم وجود التكليف في البين لا يكون مجرّد ترك الفحص من مصاديق ذلك العنوان ، فترك الفحص وارتكاب محتمل التحريم إنّما يكون ظلما لأجل احتمال تحقّق المخالفة التي هي قبيحة موجبة لاستحقاق العقوبة.

وحينئذ نقول : بعد جريان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ولو قبل ترك الفحص ـ كما هو المفروض ـ لا يبقى مجال لاحتمال تحقّق المخالفة القبيحة أصلا ، ومع انتفاء هذا الاحتمال يخرج المقام عن تحت عنوان ظلم المولى ، كما هو الواضح.

ومن هنا يظهر الفرق بين المقام وبين مسألة التجرّي ، فإنّ الموضوع للحكم بالقبح والحرمة هناك على تقدير ثبوته هو نفس عنوان التجرّي ، الراجع إلى الطغيان على المولى والخروج عن رسم العبوديّة ، وهذا لا يتوقّف تحقّقه على ثبوت التكليف ، بل يصدق على كلا التقديرين ، بخلاف المقام ، فإنّ تحقّق عنوان الظلم يتوقّف على عدم حكم العقل بقبح العقاب ولو قبل الفحص ، والمفروض حكمه بذلك مطلقا ، فتأمّل.

هذا ، وقد يقرّر حكم العقل بوجوب الفحص بوجه ثالث ، وهو : أنّ كلّ من التفت إلى المبدا والشريعة يعلم إجمالا بثبوت أحكام فيها ، ومقتضى العلم الإجمالي هو الفحص عن تلك الأحكام.

ولا يخفى ضعف هذا الوجه ؛ لأنّ الكلام إنّما هو في شرائط جريان أصل البراءة بعد كون المورد المفروض مجرى لها ، وقد عرفت أنّ مجراها هو الشكّ في أصل التكليف وعدم العلم به ، لا إجمالا ولا تفصيلا. فلو فرض ثبوت العلم

١٨

الإجمالي فإنّه يخرج المورد عن مجراها ، فلا يبقى مجال للتمسّك بالعلم الإجمالي لاعتبار وجوب الفحص في جريانها ، كما لا يخفى ، ولكن حيث إنّه وقع موردا للنقض والإبرام بين الأعلام فلا مانع من التعرّض لحاله بما يسعه المقام ، فنقول :

قد نوقش في الاستدلال بالعلم الإجمالي لوجوب الفحص ، تارة بأنّه أخصّ من المدّعى ؛ لأنّ المدّعى هو وجوب الفحص والاستعلام في كلّ مسألة تعمّ بها البلوى ، وكل مورد يرجع إلى البراءة ، وهذا الاستدلال إنّما يوجب الفحص قبل استعلام جملة من الأحكام بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيه ؛ لانحلال العلم الإجمالي بذلك ، لا زائدا من هذا المقدار.

واخرى بأنّه أعمّ من المدّعى ؛ لأنّ المدّعى هو الفحص عن الأحكام في خصوص ما بأيدينا من الكتب ، والمعلوم بالإجمال معنى أعمّ من ذلك ؛ لأنّ متعلّق العلم هي الأحكام الثابتة في الشريعة واقعا ، لا خصوص ما بأيدينا ، والفحص فيما بأيدينا من الكتب لا يرفع أثر العلم الإجمالي ، بل العلم باق على حاله ، ولو بعد الفحص التامّ عمّا بأيدينا.

هذا ، وأجاب المحقّق النائيني رحمه‌الله عن المناقشة الاولى بأنّ استعلام مقدار من الأحكام يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيها لا يوجب انحلال العلم الإجمالي ؛ لأنّ متعلّق العلم تارة يتردّد من أوّل الأمر بين الأقل والأكثر ، كما لو علم بأنّ في هذا القطيع من الغنم موطوء ، وتردّد بين كونه عشرة أو عشرين ، واخرى : يكون المتعلّق عنوانا ليس بنفسه مردّدا بين الأقلّ والأكثر من أوّل الأمر ، بل المعلوم بالإجمال هو العنوان بماله في الواقع من الأفراد ، كما لو علم بموطوئيّة البيض من هذا القطيع ، وتردّدت البيض بين كونها عشرا أو عشرين ، ففي

١٩

الأوّل ينحلّ العلم الإجمالي ، وفي الثاني لا ينحلّ ، بل لا بدّ من الفحص التامّ عن كلّ ما يحتمل انطباق العنوان المعلوم بالإجمال عليه ؛ لأنّ العلم الإجمالي يوجب تنجيز متعلّقه بما له من العنوان.

ففي المثال : العلم الإجمالي تعلّق بعنوان البيض بما له من الأفراد في الواقع ، فكلّ ما كان من أفراد البيض واقعا قد تنجّز التكليف به ، ولازم ذلك هو الاجتناب عن كلّ ما يحتمل كونه من أفراد البيض ، والمقام من هذا القبيل ؛ لأنّ المعلوم بالإجمال في المقام هي الأحكام الموجودة فيما بأيدينا من الكتب ، فقد تنجّزت بسبب هذا العلم الإجمالي جميع الأحكام المثبتة في الكتب ، ولازم ذلك هو الفحص التامّ عن جميع الكتب التي بأيدينا ، ولا ينحلّ العلم الإجمالي باستعلام جملة من الأحكام يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيها.

ألا ترى أنّه ليس للمكلّف الأخذ بالأقلّ لو علم باشتغال ذمّته لزيد بما في الطومار ، وتردّد ما في الطومار بين الأقلّ والأكثر ، بل لا بدّ له من الفحص التامّ في جميع صفحات الطومار ، كما عليه بناء العرف والعقلاء ، وما نحن فيه يكون بعينه من هذا القبيل.

وعن المناقشة الثانية بأنّه وإن علم إجمالا بوجود أحكام في الشريعة أعمّ ممّا بأيدينا من الكتب ، إلّا أنّه يعلم إجمالا أيضا بأنّ فيما بأيدينا من الكتب أدلّة مثبتة للأحكام مصادفة للواقع بمقدار يحتمل انطباق ما في الشريعة عليها ، فينحلّ العلم الإجمالي العامّ بالعلم الإجمالي الخاص ، ويرتفع الإشكال بحذافيره ويتمّ الاستدلال لوجوب الفحص ، فتدبّر جيّدا (١). انتهى.

وأورد استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله عليه : ـ أوّلا : أنّ ما ذكره من الفرق في

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

٢٠