دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

تدوين علمين وتسميتهما باسمين ...

هذا ، ولكن الحقّ أنّه لا دليل على امتناعه عادة. هذا أوّلا.

وثانيا : بأنّ الغرض الواحد الذي يترتّب على مسائل العلوم إمّا أن يكون واحدا شخصيّا وحقيقيّا ، مثل قولك : «زيد واحد» ف «زيد» واحد شخصي وحقيقي لا يقبل التعدّد والتكثّر. وإمّا أن يكون واحدا نوعيّا ، مثل قولك : «الإنسان واحد» ف «الإنسان» واحد نوعي ؛ لأنّه نوع له مصاديق وأفراد متعدّدة مشتركة جميعا في الإنسانيّة. وإمّا أن يكون واحدا عنوانيّا ، وهو قد يتحقّق في امور اعتباريّة شرعيّة ، مثل قولك : «الصلاة واحدة» ففيها اجتمعت المقولات المختلفة المتباينة التي جعلها اعتبار الشرع شيئا واحدا ، وقد يتحقّق في امور اعتباريّة عرفيّة ، مثل قولك : «السكنجبين واحد». ومنه عنوان أهل البيت عليهم‌السلام الذي يكون مصداقا لآية التطهير ، وهم : «عليّ وفاطمة وبنيها» ، كما تحقّق في محلّه.

وعلى أيّ تقدير لا تكشف وحدة الغرض عن وجود جامع ماهوي وحداني بين تلك المسائل ، فإنّ الواحد في القاعدة التي ذكرناها في المقدّمة الثانية ـ أي الواحد لا يصدر إلّا من الواحد ـ واحد شخصي وحقيقي بلا شبهة وإشكال ، بمعنى أنّ المعلول الذي يكون له وحدة حقيقيّة شخصيّة لا معنى بأن يكون معلولا لعلّتين أو علل متعدّدة.

إن قلت : إنّ الواحد في المقدّمة الاولى أيضا واحد شخصي تبعا للمقدمة الثانية ، بل لا بدّ منه ؛ لأنّها قضيّة منطقيّة ، ولا بدّ فيها من وحدة حدّ الوسط للاستنتاج ، فإن كان الواحد في المقدّمة الاولى نوعيّا أو عنوانيّا فلا يناسب الواحد الشخصي الذي يكون في الثانيّة ، فلا يستفاد من القضيّة نتيجة ،

٢١

كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.

قلنا : إنّ الغرض الواحد يترتّب على مجموع المسائل من حيث المجموع ، لا على كلّ مسألة مسألة بحيالها واستقلالها ، كما أنّ الغرض المترتّب على علم النحو ـ أي صون اللسان عن الخطأ في المقال ـ متّصف بوحدة شخصيّة ، ومعلوم أنّ المؤثّر في تحقّق هذا الغرض ليس قاعدة من قواعد النحو ، بل المؤثّر فيه المجموع من حيث هو مجموع ، فتكون كلّ مسألة منها جزء السبب لا تمامه ، نظير ما يترتّب من الغرض الواحد على المركّبات الاعتباريّة الشرعيّة ، كترتّب المعراجيّة على الصلاة ـ مثلا ـ فإنّ المؤثّر فيها مجموع الأجزاء المركّبة بما هو مجموع ، لا كلّ جزء جزء منها ، ولذا لو انتفى أحد أجزائها انتفى الغرض ، فوحدة الغرض بهذا النحو لا تكشف عن وجود جامع وحداني بين المسائل بقاعدة عدم صدور الواحد إلّا من الواحد ، فإنّ استناد الغرض إلى المجموع بما هو هو لا يكون مخالفا لتلك القاعدة حتّى نستكشف عن وجود الجامع ؛ لأنّ سببيّة المجموع من حيث هو سببيّة واحدة شخصيّة ، فالاستناد إليه استناد معلول واحد شخصي إلى علّة واحدة شخصيّة لا إلى علل كثيرة.

ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ المؤثّر في الغرض الذي يترتّب على مجموع القضايا والقواعد هو المجموع من حيث المجموع ، لا كلّ واحدة واحدة منها ، فحينئذ لا سبيل لنا إلى استكشاف وجود جامع ذاتي بين المسائل ، فإنّ نسبة الغرض إلى المسائل نسبة الكلّ إلى الجزء ، لا نسبة الكلّي إلى مصاديقه وأفراده ، يعني نسبة الغرض إلى المسائل نسبة «زيد» إلى أجزائه ، لا نسبة إنسان إلى مصاديقه ، وهذا هو الفرق بين الجامع والمجموع.

وبالجملة ، إن كان الواحد في المقدّمة الاولى واحدا شخصيّا فلا ربط له

٢٢

بالجامع الذاتي أصلا ، وإن كان الواحد فيها واحدا نوعيّا ـ بأن يكون الغرض كليّا ذا أفراد متعدّدة ، ويترتّب كلّ فرد منها على كلّ مسألة من المسائل بالاستقلال كما هو الصحيح ـ فالأمر واضح ؛ إذ لو فرض أنّ لعلم النحو ـ مثلا ـ ثلاثة مسائل نحو : الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، والمضاف إليه مجرور ، والغرض منه صون اللسان عن الخطأ في المقال ، فحينئذ لو كان المجموع من حيث المجموع مؤثّرا في الغرض فلازم ذلك أنّه لو علم شخص كلّ مسائل علم النحو ما عدا مسألة واحدة لا يحصل الغرض المذكور ، كالصلاة التي لا تصحّ في صورة عدم صحّة جزء من أجزائها ، مع أنّه لو علم شخص مسألة واحدة من علم النحو لحصل له الغرض بالنسبة إليها وتحقّق مصداق من مصاديقه ، فيكون الغرض المترتّب على علم النحو واحدا نوعيّا.

ومن هنا يعلم أنّ لكلّ مصداق من الغرض ربطا بمسألة من مسائل علم النحو ، فصون اللسان عن الخطأ في المقال في باب الفاعل مربوط ب «الفاعل مرفوع» ، وفي باب المفعول مربوط بمسألة «المفعول منصوب» ، وهكذا ، فيترتّب على كلّ مسألة غرض خاصّ غير الغرض المترتّب على مسألة اخرى ، ويتعدّد الغرض بتعدّد المسائل والقواعد ، وإذا كان الأمر كذلك فلا طريق لنا إلى إثبات جامع ذاتي وحداني بين موضوعات هذه المسائل ؛ إذ البرهان المذكور لو تمّ إنّما يتمّ في الواحد الشخصي البسيط لا فيما كان الواحد الشخصي ذا جهتين أو ذا جهات متعدّدة ، فضلا عن كونه واحدا نوعيّا ، فإذا فرضنا الغرض واحدا نوعيّا لا يكشف إلّا عن جامع واحد نوعي.

وأمّا صون اللسان عن الخطأ في المقال وإن كان جامعا بين الأغراض إلّا أنّه لا يكون جامعا ذاتيّا وحدانيّا ، فلا يناسب المقدّمة الثانية التي كان الواحد

٢٣

فيها واحدا شخصيّا بسيطا من جميع الجهات.

وإن كان الواحد في المقدّمة الاولى واحدا عنوانيّا فالحال فيه أوضح من الواحد النوعي، فإنّ القاعدة المذكورة لو تمّت إنّما تتمّ في الواحد الحقيقي لا في الواحد العنواني ، والمفروض أنّ الغرض في كثير من العلوم واحد عنواني لا واحد حقيقي ، فإنّ الاقتدار على الاستنباط في علم الاصول وصون اللسان عن الخطأ في المقال في علم النحو ، ... ليس واحدا بالذات ، بل واحد بالعنوان الذي انتزع من مجموع الأغراض المتباينة المتعدّدة بتعدد القواعد المبحوث عنها في العلوم ليشار به إلى هذه الأغراض ، فكلّ قاعدة منها منوطة بغرض من الأغراض المتباينة ، فحينئذ كيف يكشف مثل هذا الواحد عن جامع ذاتي؟! فلا يكشف الواحد العنواني إلّا عن واحد عنواني. فالدليل الذي أقامه المشهور لأصل احتياج العلوم إلى الموضوع ليس بتامّ.

وأقاموا أيضا دليلا آخر لاحتياج العلم إلى الموضوع وهو : أنّ من المسائل التي تبحث في المقدّمة مسألة تمايز العلوم.

وقال بعض المحقّقين ـ كالمحقّق الخراساني (١) والمحقّق العراقي (٢) وآخرين ـ : إنّ تمايز العلوم يكون بتمايز الأغراض ، فإذا كان الغرض واحدا فيكون العلم أيضا واحدا ، وإذا كان الغرض متعدّدا فيكون العلم أيضا متعدّدا.

ولكنّ المشهور بين العلماء أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، والظاهر من هذا القول أنّ العلوم تحتاج إلى الموضوع ، وإلّا كيف يكون تمايز العلوم بتمايز الموضوعات؟! وهذا دليل على أنّ أصل الاحتياج عندهم كان من المسلّمات.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٥.

(٢) نهاية الأفكار ١ : ٧.

٢٤

ولا يخفى عليك ضعفه ، فإنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات غير مسلّم ، مع مخالفة فحول الفن كالمحقّق الخراساني وتلميذه العراقي قدس‌سرهما وغيرهما ؛ لاحتمال الثالث الذي اشير إليه في الكفاية ، وهو : أن يكون تمايز العلوم بتمايز المحمولات ، هذا أوّلا.

وثانيا : لا نعلم اعتقاد المشهور ابتداء بذلك حتّى يستفاد منه احتياج العلوم إلى الموضوع ، بل يمكن أن تكون المسألة بالعكس بأن تكون مسألة تمايز العلوم بالموضوعات فرع مسألة احتياج العلوم إلى الموضوع ، والمناسب لهذا الدليل أن يكون تمايز العلوم بالموضوعات أصلا في البحث والاعتقاد.

بقي هنا جوابان مهمّان على استدلال المشهور لاحتياج العلوم إلى الموضوع :

الأوّل : أنّ الغرض المترتّب على العلوم كترتّب المعلول على العلّة هل يترتّب على نفس المسائل الواقعيّة وقواعدها النفس الأمريّة؟ فمثلا : الغرض المترتّب على علم النحو ـ أي صون اللسان عن الخطأ في المقال ـ يترتّب على وجود كلّ فاعل مرفوع وكلّ مفعول منصوب ونحوهما ، ولازم ذلك حصول الغرض لكلّ من كان عنده كتب كثيرة من علم النحو ، بل اللازم تكلّم الناس كلاما صحيحا من ابتداء تدوينها ؛ إذ المسائل التي تكون علّة لوجود ذلك الغرض كانت موجودة.

وبطلانه واضح ؛ إذ من المعلوم أنّ حصول الغرض يتوقّف على ثلاث مقدّمات : إحداها : وجود المسائل في الكتب ، ثانيتها : الاطّلاع عليها ، ثالثتها : رعايتها حين التكلّم. ويحصل من جميع ذلك صون اللسان عن الخطأ في المقال ، فلا يكون المؤثّر في الغرض الجامع بين الموضوعات ولو قلنا بوجوده.

٢٥

الثاني : أنّ الطريق الذي اختاره المشهور للاستدلال يستفاد منه أنّ الجامع بين النسب مؤثّر في الغرض ؛ إذ النسبة وإن كانت مؤخّرة عن الموضوع والمحمول من حيث الرّتبة إلّا أنّ المحور والقوام في القضيّة الحمليّة هي النسبة والرّبط ، كما هو الظاهر ؛ إذ معنى «زيد عالم» : أنّي اخبرك بعالميّة زيد ، بل ليس المراد من قولهم : وحدة الغرض تكشف عن جامع واحد إلّا جامع بين النسب ، فإنّ الجامع بين الموضوعات عبارة عن الكلمة والكلام التي هي الموضوع لعلم النحو ، ولا ربط لها بالغرض ، ومن البديهي أنّ الجامع بين النسب هو مرفوعيّة الفاعل ومنصوبيّة المفعول ونحوهما ، وذلك لا يكون موضوعا لعلم النحو.

والحاصل : أنّه لا يثبت بدليل المشهور احتياج العلوم إلى الموضوع ، كما لا يثبت بالدليل الذي ذكرناه بعده.

نعم ، يوجد طريق آخر لإثباته ذكره سيّدنا الاستاذ (١) في التهذيب لغرض آخر ، واستفدنا منه احتياج العلوم إلى الموضوع ، وهو :

إنّا نرى نوعا من السنخيّة الذاتيّة بين مسائل العلم وإن اختلفت من حيث الموضوع والمحمول ، فإنّا نرى بين مسألة الفاعل مرفوع والمفعول منصوب نوع من الارتباط الذي لا نراه بين مسألة الفاعل مرفوع ومسألة صيغة الأمر دالّة على الوجوب ، ومن العجب أنّ المسائل الاصوليّة مع أنّ قسما منها مباحث لفظيّة وقسما آخر مباحث عقليّة ولكن نرى بينهما بالبداهة سنخيّة لا تكون بين مسائل هذا العلم وعلوم أخر.

إن قلت : إنّ هذه السنخيّة التي تكون بين مسائل العلم سرّها وحدة الغرض فقط.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٩.

٢٦

قلنا : إنّه لو فرضنا عدم ترتّب غرض على علم أصلا مع ذلك نرى السنخيّة الذاتيّة بين نفس المسائل ، وهذا يكشف عن وجود الموضوع ووحدته ، وما يوجب تحقّق هذه العلقة بين المسائل شيء نسمّيه بالموضوع ، ومن المعلوم أنّه شيء واحد.

فتحقّق إلى هنا احتياج العلوم إلى الموضوع ، وأنّه في كلّ علم واحد. إلى هنا تمّ الكلام حول المطلبين الأوّل والثاني.

٢٧
٢٨

المطلب الثالث

في تعريف الموضوع

ذكر المنطقيّون تعريفا للموضوع وتبعهم الآخرون في ذلك ، وهو : أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة. وإنّا نبحث هاهنا بعون الله تعالى في جهتين : الاولى : ما هو المقصود من العرض الذاتي؟ والثانية : هل أنّ تعريف المنطقيّين صحيح أم لا؟

أمّا البحث في الجهة الاولى فإنّه قد تحقّق في المنطق أنّ العرض يستعمل في قبال الذات والذاتيّات ، وأنّ الكلّيّات الخمسة ثلاثة منها ترتبط بالذات والذاتيّات ، وهي : النوع والجنس والفصل ، واثنان منها ترتبط بالعرض ، وهما : العرض الخاصّ والعرض العامّ ، وهذا أحد التقسيمات للعرض. والتقسيم الآخر له يكون إلى عرض مفارق وعرض لازم ، وللعرض اللازم تقسيم إلى اللازم البيّن واللازم غير البيّن ، واللازم البيّن ينقسم إلى البيّن بالمعنى الأخصّ ، والبيّن بالمعنى الأعمّ ، والمقصود هنا تقسيمه الثالث ، وهو أنّ العرض قد يكون ذاتيّا وقد يكون غريبا ، وذكروا لتنقيح البحث صورا للعرض.

وعند المشهور بعضها عرض ذاتي بلا إشكال ، وبعضها عرض غريب بلا ريب ، وبعضها مختلف فيه ، وقالوا : إنّ العرض على ثمانية أقسام :

٢٩

الأوّل : أن يكون العرض عارضا على المعروض بلا واسطة أصلا ، لا ثبوتا ولا عروضا ؛ إذ كان العرض بديهيّا ، بل ربما كان من لوازم ماهيّة المعروض مثل : الأربعة زوج.

إن قلت : إنّ الدليل على زوجيّة الأربعة موجود ، وهو أنّها منقسمة إلى المتساويين.

قلنا : هذا معنى الزوجيّة لا دليلها ، وإن أبيت قلنا : إنّ انقسام الأربعة إلى المتساويين لا يحتاج إلى العلّة ، مع أنّها عرض للأربعة.

إن قلت : إنّ هذه ماهيّة الأربعة لا عرضها.

قلنا : إن كانت هي ماهيّة لها فلم تنقسم الستّة والثمانية والعشرة إلى المتساويين؟! فهذا دليل على عدم كونها ماهيّة لها ، فالزوجيّة والانقسام إلى المتساويين عارضان على الأربعة بلا واسطة وبلا علّة ، مع أنّهما غير مرتبطين بماهيّة الأربعة.

الثاني والثالث : أن يكون العرض عارضا على المعروض بواسطة داخليّة ، يعني : أن تكون الواسطة جزء لماهيّة المعروض ، وأجزاء الماهيّة ليست أزيد من اثنين ، أحدهما : الجزء الأعمّ ـ أي الجنس ـ وثانيهما : الجزء المساوي ـ أي الفصل ـ والجزء الأخصّ للماهيّة ليس بموجود ، فإنّ الماهيّة مركّبة من الجنس والفصل ولا ثالث لهما.

وأمّا إن كان العروض بواسطة داخليّة أعمّ ، مثل : الإنسان ماشي ؛ لأنّه حيوان ، فإنّ المشي عارض على الإنسان بواسطة جزء ماهيّة الأعمّ ، يعني : الحيوانيّة التي هي أعمّ من الإنسان وغيره. وأمّا إن كان العروض بواسطة داخليّة مساوية ، مثل : الإنسان عالم ؛ لأنّه ناطق ، أي مدرك للكلّيّات ، فإنّ

٣٠

عنوان العالميّة عارض على الإنسان بواسطة داخليّة مساوية ؛ إذ النطق مع أنّه جزء لماهيّة الإنسان لكنّه مساو له.

وأمّا الأقسام الخمسة الباقية فلها جهة مشتركة ، وهي : أنّ الواسطة في الجميع خارجيّة.

توضيح ذلك : أنّ الواسطة قد تكون مساوية للمعروض ، وقد تكون أعمّ منه ، وقد تكون أخصّ منه ، وقد تكون مباينة للمعروض ، والمباينة على قسمين.

وأمّا إن كان العرض عارضا على المعروض بواسطة خارجيّة مساوية للمعروض فهو مثل : الإنسان ضاحك ؛ لأنّه متعجّب ، فالمتعجّب وإن كان خارجا عن ذات الإنسان إلّا أنّه مساو له ، فإنّ كلّ إنسان متعجّب ، وكلّ متعجّب إنسان.

وأمّا إن كانت الواسطة الخارجيّة أعمّ من المعروض فهو مثل : الإنسان الذي أصابه التعب والألم لأنّه ماش ، فالمشي واسطة خارجيّة أعمّ من المعروض ؛ إذ المشي لا يختصّ بالإنسان.

وأمّا إن كانت الواسطة الخارجيّة أخصّ من المعروض كأن عرض عارض على النوع وحملناه على الجنس بصورة قضيّة مهملة لا بصورة قضيّة كلّيّة ، مثل : الحيوان ناطق لأنّه إنسان ، فإنّا إذا لاحظنا الإنسان يكون الحيوان جزء لماهيّته ، بينما لاحظنا الحيوان فليس الإنسان جزء ماهيّته ، فحمل الناطق على الحيوان عرضيّ بواسطة خارجيّة هي أخصّ من المعروض ؛ أي الإنسان.

وأمّا إن كانت الواسطة مباينة للمعروض فمعلوم أنّه لا يكون المراد من المباينة خارجا عن ماهيّة المعروض ، بل المراد أنّه لا يكون في الخارج فرد

٣١

ومصداق للمعروض والواسطة معا ، حتّى يكون هو مصداقا للمتباينين ويصدق كلاهما عليه ، وقد مرّ آنفا أنّ العرض بواسطة مباينة على قسمين : قد يكون عرضا حقيقيّا للمعروض ، وقد يكون عرضا مجازيّا له.

القسم الأوّل : مثل الماء حار لمجاورته للنار ، فمجاورة النار واسطة خارجيّة مباينة للماء ، اتّصف الماء بالحرارة بواسطة خارجيّة مباينة بلا مجاز وعناية ؛ إذ المجاورة توجب الارتباط الحقيقي بين الماء والحرارة.

القسم الثاني : بأن تحقّق عروض العرض أوّلا وبالحقيقة للواسطة ، وثانيا وبالعرض ينسب إلى المعروض عناية ومجازا ؛ للارتباط بينهما ، مثل : جالس السفينة متحرّك ، فالتحرّك ثابت للسفينة بالحقيقة والأصالة ، ولكن بواسطة ارتباط الحالّ والمحلّ ، والرابطة الركوبيّة تنسب إلى الإنسان بالمجاز والعناية.

ولا يخفى أنّ الواسطة في العروض تتصوّر في الواسطة الخارجيّة المباينة فقط ، ولا يكون في بقية الأقسام الأخر محلّا لهذا التعبير ، فترجع كلّ القضايا الحمليّة إلى هذه الصور الثمانية.

هذا ، وعند المشهور ثلاثة منها عرض ذاتي بلا إشكال وبلا خلاف ، وأربعة منها عرض غريب كذلك ، وواحد منها محلّ خلاف.

أمّا الصور التي تكون عندهم من الأعراض الذاتيّة فهي :

الاولى : ألّا تكون واسطة في البين أصلا ، مثل : الأربعة زوج.

الثانية : أن تكون الواسطة جزء داخليّا مساويا للمعروض مثل : الإنسان عالم لأنّه ناطق.

الثالثة : أن تكون الواسطة خارجيّة مساوية للمعروض ، مثل : الإنسان ضاحك لأنّه متعجّب.

٣٢

وأمّا الصورة التي اختلفوا فيها فهي أن تكون الواسطة جزء داخليّا أعمّ من المعروض ، مثل : الإنسان ماشي لأنّه حيوان.

وأمّا الصّور التي تكون من الأعراض الغريبة وخارجة عن العنوان فهي ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، وفسّر المرحوم صدر المتألّهين في كتاب الأسفار العرض الذاتي عند المشهور بقوله : «إنّه ما يلحق الشيء لذاتيّه أو لأمر يساويه» (١).

ومراده ما يعرض الشيء من دون واسطة أو بواسطة مساوية للمعروض ، داخليّة كانت أو خارجيّة ، ومعلوم أنّ هذا التفسير يقتضي انطباقه على الثلاثة التي ذكرناها آنفا أيضا.

ثمّ قال قدس‌سره : فأشكل الأمر عليهم لما رأوا أنّه قد يبحث في العلوم عن الأحوال التي يختصّ ببعض أنواع الموضوع ، بل ما من علم إلّا ويبحث فيه عن الأحوال المختصّة ببعض أنواع موضوعه.

وقد مرّ أنّ النوع لا يكون داخلا في الجنس ، فلا مدخليّة للإنسان في ماهيّة الحيوان ، لا بعنوان الجنسيّة ولا بعنوان الفصليّة ، ولذا إن عرض شيء على الإنسان ـ كالتعجّب مثلا ـ وحملناه على الحيوان لم يكن عرضا ذاتيّا له ، فإنّ التعجّب لا يكون من العوارض الذاتيّة للحيوان ، ولا تكون الواسطة ـ أي الإنسان ـ مساوية له ، مثلا : موضوع علم النحو الكلمة والكلام ومسائله : الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، والمضاف إليه مجرور ، ومعلوم أنّ المرفوعيّة التي تكون من عوارض الفاعل هي نوع من الكلمة وأخصّ منه ، فلا تكون من العوارض الذاتيّة للكلمة والكلام ، بل هي من العوارض الغريبة للموضوع

__________________

(١) الأسفار ١ : ٣٠.

٣٣

عند المشهور بلا إشكال.

ثمّ قال : فاضطرّوا تارة إلى إسناد المسامحة إلى رؤساء العلم في أقوالهم بأنّ المراد من العرض الذاتي للموضوع في كلامهم هو أعمّ من أن يكون عرضا ذاتيّا له أو لنوعه ـ يعني : إن كانت المرفوعيّة عرضا ذاتيّا للفاعل كانت عرضا ذاتيّا للكلمة أيضا ـ وتارة إلى الفرق بين محمول العلم ومحمول المسألة كما فرّقوا بين موضوعيهما ، بأنّ محمول العلم ما ينحلّ إليه محمولات المسائل على طريق الترديد ، إلى غير ذلك من الهوسات التي ينبو عنها الطبع السليم ، ولم يتفطّنوا بأنّ ما يختصّ بنوع من أنواع الموضوع ربّما يعرض لذات الموضوع بما هو هو.

والظاهر من كلامه أنّه إن اختصّ عرض بنوع من الموضوع ـ أي الفاعل مثلا ـ ربّما عرض بالموضوع ـ أي الكلمة والكلام ـ بما هو هو ، يعني : بلا واسطة.

وفيه : أوّلا : أنّ المراد من كلمة «ربّما» يكون أحيانا واتّفاقا ، فعلى هذا لا يدفع الإشكال.

وثانيا : أنّ في كلامه صدرا وذيلا تناقضا ظاهرا ؛ إذ كيف يعرض على الموضوع بلا واسطة ما اختصّ بالنوع؟!

وبالجملة ، إن كان مراده قدس‌سره هو هذا الظاهر فالإشكال الوارد على المشهور في محلّه ، فلا بدّ من حمل كلام صاحب الأسفار على ما قال به المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ، وإن كان هذا الحمل خلاف الظاهر لكنه أولى من التناقض ، وهو أنّ المراد من العرض الذاتي ما يعرض للمعروض بلا واسطة في

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢.

٣٤

العروض ، وما ينسب العرض إليه حقيقة بلا عناية ومجاز.

ولا يبعد أن يكون مراده قدس‌سره هذا ، فإنّ المحقّق السبزواري قدس‌سره أيضا قال مثل ذلك ، حيث قال : «إن كان العرض وصفا للموصوف كان العرض ذاتيّا ، وإن كان وصفا لمتعلّق الموصوف كان العرض غريبا». ومن البديهي أنّه إذا نسب الوصف الذي يكون لمتعلّق الموصوف إلى نفس الموصوف كانت هذه النسبة بالمجاز والعناية.

والحاصل : أنّ الإشكال يندفع على مبنى المحقّق الخراساني ؛ إذ المرفوعيّة كما تعرض على الفاعل حقيقة تعرض على الكلمة كذلك ، فكما يقال : الفاعل مرفوع كذلك يقال : كلمة «زيد» مرفوع. ومن المعلوم أنّ هذا عرض ذاتيّ ، وعلى هذا تكون كلّ الصور الثمانية عرضا ذاتيّا إلّا الأخيرة ، وإن كانت الواسطة خارجيّة ومباينة للمعروض ، مثل الماء حارّ لمجاورته للنار ، فإنّ الماء اتّصف بالحرارة حقيقة.

ولكنّ العلّامة الطّباطبائي قدس‌سره (١) ضيّق دائرة العرض الذاتي وانحصر فيما لا تكون واسطة في البين.

وحاصل كلامه في حاشية الأسفار (٢) : أنّ الاقتصار في العلوم على البحث عن الأعراض الذاتيّة لا يبتني على مجرّد الاصطلاح والمواضعة ، بل هو ممّا يوجبه البحث البرهاني في العلوم البرهانيّة ، على ما بيّن في كتاب البرهان من المنطق.

وتوضيح ذلك : أنّ البرهان لكونه قياسا منتجا لليقين يجب أن يتألّف من

__________________

(١) حاشية الأسفار ١ : ٣٠ ـ ٣٣.

(٢) الأسفار ١ : ٣٠.

٣٥

المقدّمات اليقينيّة ، والمقدّمة اليقينيّة يجب أن تكون ضروريّة في الصدق وإن كانت ممكنة بحسب الجهة ، مثل : الإنسان موجود بالفعل ، مع أنّ نسبة الوجود إلى الإنسان نسبة إمكانيّة ؛ إذ الوجود ليس ضروريّا له ، ولكنّه ضروري الصدق في الخارج. ويجب أيضا أن تكون المقدّمة اليقينيّة دائمة في الصدق بحسب الأزمان ، وأن تكون كلّيّة في الصدق بحسب الأحوال ، وأن يكون الحمل ذاتيّا للموضوع بحيث يوضع المحمول بوضع الموضوع ويرفع برفعه مع قطع النظر عمّا عداه ، وإذا لم يكن كذلك لا يحصل اليقين ، ولا ينتج نتيجة يقينيّة ، والظاهر منه أنّه اختصّ بالصورة التي لم تكن واسطة في البين أصلا.

وفيه : أنّه لا دليل لانحصار العرض الذاتي بهذه الصورة ، فإنّا لا نرتاب في حصول نتيجة يقينيّة ولو كانت الواسطة داخليّة أعمّ ، فضلا من أن تكون الواسطة داخليّة أو خارجيّة مساوية للمعروض.

ولا يخفى أنّ نسبة موضوع العلم إلى موضوع مسائله لا تكون دائما نسبة الجنس والنوع ، بل قد يكون موضوع العلم أخصّ من موضوعات مسائله. والعمدة في المسألة أنّه قد تكون موضوعات المسائل أعمّ من موضوع العلم ، مثل أكثر مسائل علم الاصول فإنّ موضوعه الأدلّة الأربعة مع وصف الدليليّة ، أو مع قطع النظر عن دليليّتها ، أو كان موضوعه الحجّة في الفقه ، كما سيأتي بيانه.

وإنك تقول في باب الأوامر : إنّ صيغة الأمر هل تدلّ على الوجوب أم لا؟ ومعلوم أنّ المراد من صيغة الأمر أعمّ من أن تكون في الكتاب أو السنّة ، فإنّا نتمسّك بدلالتها على الوجوب في اللغة وببناء العقلاء وأنّها تدلّ عليه ولو لم يكن الكتاب والسنّة. وهكذا في صيغة النهي.

٣٦

فهذه المسائل مع كونها من أهمّ مسائل علم الاصول يكون موضوعها أعمّ من موضوع العلم ، فإنّا بعد ثبوت دلالة صيغة الأمر على الوجوب نقول : إنّ أوامر الكتاب والسنّة تدلّ على الوجوب بهذا الملاك.

والأهمّ منها المباحث العقليّة ، مثل البحث في مقدّمة الواجب ، من أنّ وجوب المقدّمة ملازمة لوجوب ذي المقدّمة أم لا؟ فهذه مسألة عقليّة كلّيّة لا تختصّ بمسائل الكتاب والسنّة ، ولكنّه إذا تحقّقت هذه الملازمة استفدنا في المسائل الشرعيّة من وجوب الصلاة ـ مثلا ـ الوجوب الغيري للوضوء ولسائر المقدّمات والشرائط ، فيكون موضوع العلم نوعا من أنواع مسائله ، وموضوع المسائل أعمّ منه ، وهذه الصورة التي تكون بين المشهور مختلف فيها ، من حيث كونها عرضا ذاتيّا أو عرضا غريبا. وهذه إشكالات واردة على مبنى المشهور.

وأمّا على مبنى المحقّق الخراساني قدس‌سره فتندفع جميع الإشكالات المذكورة ؛ لأنّ كلّ هذه الصّور عنده عرض ذاتي بلا ريب ، ولكن يستفاد من كلمات استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره إشكال على هذا المبنى أيضا ، وهو : إنّا نرى بعض العلوم أنّ نسبة موضوعه وموضوعات مسائله نسبة الكلّ والجزء ، مثل : علم الجغرافيا فإنّ موضوعه عبارة عن مطلق الأرض ويبحث فيه عن العوارض الذاتيّة للأرض ، وأمّا موضوع مسائله فهو عبارة عن أرض إيران مثلا ، ونسبتها إلى مطلق الأرض نسبة الجزء إلى الكلّ ، وإذا نسب العرض الثابت للجزء إلى الكلّ تكون هذه النسبة على سبيل المجاز والعناية ، بل يمكن ألّا يكون صحيحا أصلا ، فهذه واسطة في العروض.

واعلم أنّ الأساس في البحث إثبات أصل العرض ـ «ثبّت العرش ثمّ

٣٧

انقش» ـ بأنّ المحمولات عرض أم لا؟ وأنّ العرض الذاتي بما فسّره أهل المنطق والفلسفة ـ من أنّه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ـ يختصّ بالواقعيّات أو يشمل الامور الاعتباريّة أيضا؟ لا شكّ في أنّ المراد من العرض عندهم الموجود الذي له واقعيّة خارجيّة ، لكنّه غير مستقلّ في الوجود ، ويحتاج في وجوده إلى المحلّ ، مثل ألوان الأجسام ، وإذا كان كذلك فكيف يجري هذا في العلوم الاعتباريّة ـ كالفقه والاصول وأمثال ذلك ـ مع أنّه لا يكون للعرض بهذا المعنى فيها أثر ولا خبر؟!

ويشكل عليهم مع هذا أنّ بعض العلوم واقعيّة محضة لا يتصوّر فيه هذا النحو من العرض ، مثل علم الكلام والعرفان ، كقولك : الله تعالى عالم ، لا شكّ في أنّه واقع محض ، مع أنّ علمه تعالى عين ذاته ، ولا يعقل التعبير عن علمه تعالى بالعرض ، وإنّا نبحث عن العوارض الذاتيّة لله تعالى!

وأمّا الإشكال الأهمّ فإنّه يكون في العلوم الاعتباريّة ، فإنّك تقول في علم الفقه ـ مثلا ـ : الصلاة واجبة ، ونسأل هل الصلاة معروضة للوجوب والوجوب عرض لها؟ وعلى فرض كونها معروضة له هل يكون وجودها الخارجي معروضا له أو وجودها الذهني أو ماهيّتها؟ وكلّها لا يعقل أن تكون معروضا له ؛ إذ لو كان وجودها الخارجي معروضا لا بدّ من إيجاده أوّلا ثمّ يعرض الوجوب عليه ثانيا ، مع أنّ وجود الصلاة يوجب سقوطه ، ولو كان وجودها الذهني معروضا له فيوجب تصوّرها الذهني سقوط التكليف في مقام الامتثال ، وهو كما ترى. ولو كانت ماهيّتها معروضة له قلنا : المطلوب للمولى هو وجودها الخارجي لا ماهيّتها ، مع أنّ نفس الوجوب من الامور الاعتباريّة التي تنتزع من صيغة الأمر.

٣٨

بيان ذلك : أنّ لفظ العرض في المنطق والفلسفة قد يطلق في باب إيساغوجي في مقابل الذات والذاتيّات ، مثل : العرض العامّ والخاصّ في الكلّيّات الخمس ، وقد يطلق في باب البرهان في مقابل الجوهر. والعرض في الإطلاق الثاني يشترك مع الجوهر من جهة ، وهي أنّهما ذا واقعيّة حقيقيّة ولهما ما بإزائهما في الخارج ، ويفترق معه من جهة اخرى ، وهي أنّ الجوهر مستقلّ في الوجود ولا يحتاج إلى الغير ، بخلاف العرض ؛ إذ مع كونه واقعيّة من الواقعيّات يحتاج في وجوده الخارجي إلى الجوهر والمعروض ، مثل : البياض الذي له واقعيّة ، ولكن في عين واقعيّته يحتاج إلى الجسم في وجوده الخارجي.

وأمّا العرض الذي يطلق في باب إيساغوجي في مقابل الذات والذاتيّات فقد يكون جوهرا ، وقد يكون مقابله ، أي من المقولات العرضيّة ، وهذا القسم من العرض لا يطلق على الامور الاعتباريّة ، بل يطلق على الامور الواقعيّة.

والظاهر أنّ المراد من العرض في عبارة المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ـ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ـ هو العرض الذي يطلق في باب إيساغوجي في مقابل الذات والذاتيّات ، وإذا كان الأمر كذلك ننظر في الفقه ومسائله ، وأنّ العرض بهذا المعنى هل يجري فيه أم لا؟ ومن البديهي أنّه يبحث في الفقه إمّا عن الأحكام الوضعيّة ـ مثل الدم نجس والبول نجس وأمثال ذلك ـ وإمّا عن الأحكام التكليفيّة ـ مثل : الصلاة واجبة ، الصوم واجب ـ ومن المعلوم أنّ الوجوب والنجاسة من الامور الاعتباريّة ـ كالملكيّة والزوجيّة ـ التي اعتبرها العقلاء والشارع ، والنجاسة أيضا لم تكن عبارة عن وجوب الاجتناب فقط ، بل للشارع فيها حكمان :

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢.

٣٩

الأوّل حكم ابتدائي وضعي بأنّ هذا نجس ، والثاني : حكم تكليفي في طوله ، وهو أنّ النجس يجب اجتنابه ، وهكذا في باب الزوجيّة. وفي طوله يقول الشارع : يجوز النظر إلى الزوجة والاستمتاع بها.

ولا إشكال ولا خلاف في كونها من المسائل الفقهيّة ، مع أنّ النجاسة وهكذا الوجوب لا يكونا عرضا للدم أو الصلاة ، بل هما من الامور الاعتباريّة. وهكذا في باب البيع ، فلو قلنا : «البيع مملّك» لا شكّ في أنّ الملكيّة أمر اعتباري ، ولا يكون عرضا للبيع فضلا من كونه ذاتيّا أو غريبا.

وهكذا في باب الأحكام التكليفيّة مثل : الصلاة واجبة ، فنقول : هل الموضوع للوجوب هو الصلاة الموجودة في الخارج؟ ولا شكّ في كونها ظرفا لسقوط التكليف ، وإذا تحقّقت الصلاة في الخارج سقط الوجوب ، فلا تكون الصلاة في الخارج معروضا للوجوب ، أو الموضوع والمعروض له هو الصلاة الموجودة في الذهن ، وإذا كان كذلك هل هي الصلاة الموجودة في ذهن المكلّف أو الموجودة في ذهن المولى؟ إن كان المراد هو الأوّل فمجرّد الالتفات إلى الصلاة وتصوّرها يكفي في مقام الامتثال. وهو كما ترى.

ولو كان المراد هو الثاني ففيه : أوّلا : أنّ الصلاة تتحقّق في ذهن المولى بمجرّد تصوّرها ، ولا يحتاج إلى تحقّقها في الخارج من المكلّف. وثانيا : أنّ الصلاة بوصف وجودها الخارجي ليست قابلة للامتثال في الخارج ، أو أنّ الموضوع والمعروض له هي ماهيّة الصلاة مع قطع النظر عن الوجودين المذكورين.

وفيه : أنّ المطلوب للمولى وجود الصلاة لا ماهيّتها.

والحاصل : أنّ المراد من العرض الذاتي ـ سواء كان بمعنى المشهور أو بالمعنى الذي ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ لا يخلو عن إشكال ، والإشكال المهمّ بالنسبة

٤٠