دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

قابلا لجعله مستقلّا ، وبعضها لا يكون قابلا لجعله إلّا تبعا كالركوع والطهارة وعدم الاستدبار وسائر الموانع والأجزاء والشرائط للصلاة ؛ إذ لا يمكن جعل جزئيّة القيام للصلاة المأمور بها بما هي مأمور بها ، إلّا من طريق تعلّق الأمر بالمركّب الذي من جملته القيام ، فلا بدّ للشارع من القول بأنّه أيّها القادر على القيام صلّ مع القيام حتّى ينتزع عنه جزئيّته ، وهكذا.

ونظيره مرّ عنه قدس‌سره في مسألة قصد القربة بمعنى داعي الأمر ، فيكون التعدّد مربوطا بمقام الإثبات والتبيين ، والمطلوب في الحقيقة واحد ، إلّا أنّه لا يمكن تبيينه بأمر واحد ، فالضرورة تقتضي الالتزام بتعدّد الأوامر.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ لازم الاحتمال الثاني أيضا القول بالإجزاء ، فإنّ بعد إتيان الصلاة مع التيمّم وفرض صحّته ومشروعيّته ومطابقته للأمر لا شكّ في تحقّق الامتثال وسقوط الأمر ، ولا يكون بحسب الواقع أزيد من أمر واحد حتّى يحتاج إلى امتثال آخر بعد وجدان الماء.

وأمّا على الاحتمال الأوّل فإن احرز تعلّق الأمرين معا بهذا الشخص الفاقد فلا شكّ في عدم الإجزاء ، ولكنّه لم يحرز وليس بمسلّم ، وبناء على ذلك إذا صار الفاقد واجدا للماء في الوقت بعد إتيانه الصلاة مع التيمّم ، فيتوقّف القول بعدم الإجزاء بإطلاق دليل الواجد ؛ بأن يقول : الواجد للماء تجب عليه الصلاة مع الوضوء ، أي بلا فرق بين من أتى بها مع التيمّم أم لا. فالقول بعدم الإجزاء يتوقّف على تعدّد الأوامر أوّلا ، وكون منشأ التعدّد الاختلاف الماهوي في ماهيّة متعلّق الأمرين ثانيا ، وعدم تحقّق إجماع المذكور ثالثا ، وتحقّق الإطلاق لذاك الدليل رابعا ، فإن كان أحد هذه الامور مخدوشا تكون نتيجة المسألة الإجزاء ، وعرفت مناقشتنا في تعدّد الأوامر ، فمقتضى القاعدة بحسب مقام

٦٤١

الإثبات في الموضع الأوّل ـ أي الإعادة ـ الإجزاء.

ولا يتوهّم أنّ الإطلاق الذي ادّعي هاهنا معارض لدليل الفاقد ، أي الفاقد للماء تجب عليه الصلاة مع التيمّم ، سواء وجد الماء في آخر الوقت أم لا ، فإنّا نقول : إنّ هذا الإطلاق لا يساوق الإجزاء ، بل نهاية ما يستفاد منه عبارة عن مشروعيّة الصلاة مع التيمّم في أوّل الوقت ، ولا ينكره القائل بعدم الإجزاء أيضا ، فيمكن الجمع بين الإطلاقين.

الموضع الثاني : في القضاء وموضوع البحث هاهنا أن يكون العذر الموجب للتيمّم مستوعبا لتمام الوقت ، إذا صار واجدا للماء في خارج الوقت هل تجب عليه الصلاة مع الوضوء قضاء بعد إتيانها مع التيمّم في الوقت أم لا؟ والفرض الآخر أن يكون المكلّف واجدا للماء في أوّل الوقت ، ولكنّه أهمل ولم يأت بها حتّى صار فاقدا له في آخر الوقت هل تجب عليه القضاء أم لا؟

ولا يخفى أنّ القضاء يدور مدار عنوان الفوت بحكم «اقض ما فات» ، فإن تحقّق عنوان الفوت يوجب القضاء ، وإلّا فلا ، ويجري جميع ما ذكرناه في الإعادة من الفروض والمباني هاهنا أيضا ، وبناء على هذا فإن قلنا بوحدة الأمر كما هو الحقّ لا يجب عليه القضاء ؛ لأنّ بعد إتيان الصلاة مع التيمّم في الوقت وفرض صحّته ومشروعيّته يتحقّق الامتثال ويسقط الأمر ، فلا يبقى أمر حتّى يجب امتثاله ثانيا بعنوان القضاء.

وإن قلنا بتعدّد الأمر وتحقّق الإجماع على عدم وجوب صلاة بعنوان الأداء والقضاء معا ، فلا تجب الصلاة مع الوضوء قضاء بعد تحقّق الصلاة مع التيمّم أداء ؛ إذ بعد مشروعيّة الثانية وصحّتها يسقط الأمر ، ولا يجب الجمع بين الأداء والقضاء بحكم الإجماع.

٦٤٢

وهكذا في صورة عدم الإجماع وكون تعدّد الأمر منوطا بالاضطرار المذكور ، فالحكم في هذه الصور الثلاثة الإجزاء.

وأمّا إن كان تعدّد الأمر ناشئا من اختلاف متعلّقهما بحسب الماهيّة والحقيقة فيجب القضاء في خارج الوقت بشرط عدم الإجماع المذكور وتحقّق الإطلاق لدليل القضاء ، أي «اقض ما فات» بدون الفرق بين من أقام الصلاة مع التيمّم في الوقت أم لا ، فتكون النتيجة من حيث الإجزاء وعدمه في الإعادة والقضاء متساوية.

وإذا فرغنا من ذلك فتصل النوبة إلى الاصول العمليّة ؛ لعدم الدليل اللفظي المقتضي للإجزاء وعدمه ، أي لا يكون لدليل الصلاة مع التيمّم إطلاق حتّى يستفاد منه المشروعيّة لها في صورة وجدان الماء في الوقت أيضا ، كما أنّه لا يكون لدليل الصلاة مع الوضوء إطلاق حتّى يستفاد منه عدم الإجزاء في صورة إتيان الصلاة مع التيمّم أيضا ، وإن كان القدر المتيقّن من الدليل الأوّل هو استيعاب العذر لتمام الوقت ، والقدر المتيقّن من الدليل الثاني هي صورة ترك الصلاة رأسا ، ولكن مع ذلك يبقى الشكّ في بقية الصور ، مثلا : أقام الصلاة مع التيمّم رجاء بداعي احتمال المشروعيّة والمحبوبيّة وصار في آخر الوقت واجدا للماء ، ومقتضى الأصل العملي هو عدم الإجزاء ، فإنّ ذمّته في أوّل الوقت مشغولة بتكليف وجوبي قطعا ، وبراءة ذمّته بإتيان ما هو مشكوك المشروعيّة مشكوك بداهة ، فاشتغال الذمّة اليقينيّة تقتضي البراءة اليقينيّة ، ولا تجري أصالة البراءة عن وجوب الإعادة هاهنا ؛ إذ لا يتعلّق من الشارع حكم تكليفي مولوي لا نفيا ولا إثباتا على مسألة الإعادة ، بل العقل يحكم بالإعادة إن لم يتحقّق الامتثال ، ويحكم بعدم الإعادة إن تحقّق الامتثال.

٦٤٣

وما ورد في مثل صحيحة زرارة في جواب السائل من قوله عليه‌السلام : «يغسله ويعيد» أمر إرشادي لا مولوي ، فالعقل يحكم في ما نحن فيه بالإعادة ؛ إذ الإمام عليه‌السلام كأنّه قال : كانت الصلاة المأتي بها فاقدة للشرط ، وحينئذ يحكم العقل بعدم الإجزاء.

وهكذا في حديث (١) «لا تعاد» كأنّه قال عليه‌السلام : إن كان الإخلال بالأجزاء الركنيّة تكون الصلاة فاقدة لخصوصيّة معتبرة فيها ، وإن كان بالأجزاء الغير الركنيّة كفاتحة الكتاب ـ مثلا ـ لم تكن فاقدة لها ، فإنّ جزئيّتها في صورة التوجّه والالتفات فقط ، فالعقل يحكم بالإجزاء في الثانية بخلاف الاولى ، فلا يكون وجوب الإعادة حكما شرعيّا مولويّا حتّى تجري أصالة البراءة بالنسبة إليه ، فمقتضى الأصل العملي عدم الإجزاء على القول بوحدة الأمر.

وأمّا على القول بتعدّد الأمر فالحاكم أصالة البراءة ؛ إذ بعد فرض صحّة الصلاة مع التيمّم ، ومشروعيّتها قطعا أو احتمالا ، وإتيانها في أوّل الوقت يتحقّق الامتثال بالنسبة إلى أمرها ويسقط.

وأمّا توجّه التكليف بالصلاة مع الوضوء بعد وجدان الماء في آخر الوقت إليه فمشكوك ؛ إذ المفروض أنّه تكليف مستقلّ وليس له الإطلاق ، فيرجع الشكّ إلى توجّه التكليف الثاني إليه وعدمه ، والحاكم في مثل ذلك أصالة البراءة ، فما يستفاد من الأدلّة اللفظيّة من الإجزاء أو عدمه مغاير لما يستفاد من الاصول العمليّة.

وأمّا إن كان المكلّف فاقدا للماء في جميع الوقت وكان العذر مستوعبا وصلّى مع التيمّم ثمّ صار واجدا للماء في خارج الوقت ، فهل القضاء واجب

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣١٢ ، الباب ٩ من أبواب القبلة ، الحديث ١.

٦٤٤

بمقتضى الأصل العملي أم لا؟ لا يخفى أنّ مشروعيّة الصلاة مع التيمّم لا يكون قابلا للشكّ في هذه الصورة بعد أهميّة الوقت وتقدّمه على جميع الخصوصيّات والشرائط المعتبرة في الصلاة ، إلّا في صورة فقدان الطهورين عند بعض ، ولكنّه في عين المشروعيّة لا تنافي مع وجوب القضاء بعد الوقت كعدم منافاتها مع الإعادة في الوقت.

ومن المعلوم أنّه على القول بوحدة الأمر لا يبقى مورد لدليل وجوب القضاء ؛ لأنّه كما مرّ يدور مدار الفوت ، ولم يفت من المكلّف المأمور بالصلاة مع التيمّم شيء بعد إتيانها كذلك حتّى يتحقّق موضوع ل «اقض ما فات».

وهكذا على القول بتعدّد الأمر ، فإنّ الوظيفة الفعليّة المتنجّزة على المكلّف في الوقت عبارة عن الصلاة مع التيمّم ، ويسقط أمرها بعد الإتيان قطعا ، ولم يتوجّه الأمر بالصلاة مع الوضوء إليه في الوقت بلحاظ الفاقديّة ، وشمول دليل القضاء لهذه الصورة مجرّد تخيّل ، والفرض كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره ، بل هو يشمل لما فات من الفريضة المتنجّزة الفعليّة في الوقت فقط. هذا تمام الكلام في الأمر الاضطراري.

في الأوامر الظاهريّة

وأمّا البحث في الأوامر الظاهريّة ـ وهذا التعبير كان تبعا لصاحب الكفاية ـ فقد يقع في الأمارات الشرعيّة ، وقد يقع في الاصول العمليّة ، ولكن لا بدّ لنا في بادئ الأمر من تحرير محلّ النزاع هاهنا ، وهو يتصوّر على ثلاثة أنحاء :

الأوّل : أن يكون المأمور به مركّبا من الأجزاء والشرائط ، ومفاد الأصل أو الأمارة عبارة عن الحكم بتحقّق ما اخذ في لسان دليل المأمور به بعنوان الجزء أو الشرط بعد الشكّ في تحقّقه ، مثلا : إن شككنا في بقاء الطهارة حين

٦٤٥

الزوال فالاستصحاب يحكم بعدم نقض اليقين بالشكّ ، كأنّه يقول : أنت على طهارتك فيجوز لك الدخول في الصلاة ، وهكذا إذا قامت البيّنة على طهارة الثوب المسبوق بالنجاسة ، ولكن انكشف خلاف ما حكم به الاستصحاب أو البيّنة ، فبعد إتيان الصلاة مطابقا لحكمهما هل يجب الإعادة في الوقت أو القضاء في خارج الوقت أم لا؟

الثاني : أن يكون المأمور به أيضا مركّبا من الأجزاء ومقيّدا بالشرائط وكان الشكّ في تعداد الأجزاء والشرائط كالشكّ في جزئيّة السورة أو شرطيّة شيء آخر للصلاة ، ودلّت رواية صحيحة معتبرة على عدم جزئيّة السورة أو حكم الاستصحاب على ذلك ، أو تدلّ الرواية على عدم شرطيّة ما شكّ في شرطيّته ، والمكلّف أقام الصلاة مدّة مديدة بدون السورة مستندا إلى الأمارة أو الاستصحاب ثمّ انكشف الخلاف ، هل يجب الإعادة في الوقت أو القضاء في خارج الوقت أم لا؟ ولا يخفى أنّ التمثيل بالصلاة هاهنا يكون مع قطع النظر عن الحديث المسمّى بحديث «لا تعاد» الذي يقتضي عدم الإعادة في مثل ذلك الموارد.

الثالث : أن تدلّ الأمارة أو الأصل على تحقّق تكليف معيّن للمكلّف في وقت معيّن ثمّ انكشف الخلاف بعد إتيان المكلّف بالتكليف المذكور مثل دلالة حديث صحيح على وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة ، أو جريان الاستصحاب عليه ، وبعد إتيان المكلّف بها مدّة مديدة انكشف عدم وجوبها أصلا حتّى على سبيل التخيير ، وأنّ الواجب التعييني في هذا اليوم عبارة عن صلاة الظهر.

ولا يخفى أنّ هذا الفرض على القول بوحدة الأمر خارج عن محلّ النزاع ،

٦٤٦

فإنّه لم يأت بما هو التكليف والمأمور به ، بل أتى بغير المأمور به ، ومحلّ البحث في هذه المسألة ـ كما مرّ في عنوان البحث ـ عبارة عن إتيان المأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟ فلا شكّ في خروج هذا الفرض عن محلّ النزاع.

وأمّا على القول بتعدّد الأمر وجعل حكم آخر مطابقا لمفاد الأمارة أو الأصل الدالّ على وجوب صلاة الجمعة ، فيقع هذا الفرض أيضا في محلّ النزاع.

ولكن البحث من حيث الإجزاء وعدمه قد يقع في الأمارات ، وقد يقع في الاصول ، وفي الأمارات أيضا قد يقع على القول بالطريقيّة ، وقد يقع على القول بالسببيّة.

ومعنى الطريقيّة أنّ الأمارة من حيث هي ليست فيها مصلحة إلّا الهداية إلى الواقع ؛ إذ الاتّكاء بالقطع فقط في امور المعاش والمعاد يوجب اختلال النظام ، بل لا يمكن تحصيل القطع في بعض الموارد ، ولذا اعتبر العقلاء الأمارة طريقا ظنّيا إلى الواقع في موارد عدم إمكان تحصيل القطع.

ومعنى السببيّة على ما هو المعقول وخاليا عن الإشكال عبارة عن تصديق عملي عادل تتحقّق فيه المصلحة التي توجب جبران المصلحة الواقعيّة الفائتة على فرض مخالفة الأمارة للواقع ، وكأنّه لم يفت شيئا.

ونبحث الآن على مبنى الطريقيّة والكاشفيّة ، ويتحقّق على هذا المبنى بحث آخر ، وهو أنّ حجّيّة الأمارة عند الشارع هل تكون بنحو الإمضاء والتأكيد أو بنحو التأسيس؟ ويمكن أن يكون بين الأمارات من هذه الجهة اختلافا.

ومعنى الحجّيّة الإمضائيّة عبارة عن اعتبار العقلاء في امور معاشهم

٦٤٧

الأمارات ـ مثل خبر الثقة ـ ومعاملتها معاملة القطع ، والشارع أيضا أمضاها ولو بصورة عدم الردع.

ومعنى الحجّيّة التأسيسيّة عبارة عن جعل الشارع الحجّيّة مستقلّا للأمارات مثل الشهرة الفتوائيّة ، كما أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره (١) جعل الحجّيّة من الأحكام الوضعيّة التي تكون قابلة لتعلّق الجعل الاستقلالي بها.

وأمّا على القول بالحجّيّة التأكيديّة والإمضائيّة فيكون الحكم عند العقلاء عدم الإجزاء ، وهكذا عند الشارع ؛ إذ العقلاء يعاملون خبر الثقة معاملة القطع بالعدم عند انكشاف خلافه ، فيحسبون ما عمل مطابقا لمفاده كالعدم ، كأنّه لم يتحقّق شيئا فلا يجزي عن شيء ، وهكذا في الشرع بعد فرض إمضاء الشارع طريق العقلاء في مسألة الحجّيّة ، فإذا أخبرنا زرارة بعدم كون السورة جزء للصلاة وصلّينا زمانا كثيرا بدونها ـ استنادا إلى هذا الخبر ـ ثمّ انكشف الخلاف فلا معنى للإجزاء هاهنا. وهكذا على القول بالحجّية التأسيسيّة يكون الحكم عدم الإجزاء ؛ بأنّ الشارع في مقام جعل الحجّيّة لخبر الثقة ، كأنّه قال : جعلت خبر الثقة حجّة ؛ لأنّه كاشف عن الواقع وطريق إليه في حدّه ، وإذا بيّن العلّة فمن المعلوم أنّها تعمّم الحكم وتخصّصه وترفع الإبهام عن وجهه ، كقوله : «الخمر حرام لأنّه مسكر» ، فإن زال الإسكار يزول الحكم أيضا.

وبناء على هذا إذا دلّ الخبر على أنّ السورة ليست من أجزاء الصلاة ـ مثلا ـ وصلّينا مدّة مديدة بدونها ـ استنادا إلى هذا الخبر ـ ثمّ انكشف خلافه فالقاعدة تقتضي عدم الإجزاء ؛ إذ لا معنى لكشف الخلاف ، إلّا أنّه لم يكن طريقا إلى الواقع ، بل نحن توهّمنا طريقيّته وكاشفيّته ، كما أنّ هذا هو الحال في

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٣٣.

٦٤٨

الكشف التامّ ـ أي القطع ـ فنفهم بعد كشف خلاف ما اتّصف بالكاشفيّة الناقصة أيضا أنّه كان فاقدا لوصف الطريقيّة والكاشفيّة ، فلم يكن من أوّل الأمر حجّة ، فمع أنّ المركّب ينتفي بانتفاء بعض أجزائه لا معنى للإجزاء ، إلّا أنّه لا يستحقّ المكلّف العقاب ؛ لتوهّمه أنّه طريق إلى الواقع ، فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري إذا كان مفاد الأمارة لا يكون مجزيا عن الأمر الواقعي.

في الاصول العمليّة

ويبقى الكلام في الاصول العمليّة ، منها : أصالة الطهارة التي لا شكّ في اعتبارها ، وهي كما تجري في الشبهات الموضوعيّة ـ كالشكّ في طهارة الثوب ونجاسته ـ كذلك تجري في الشبهات الحكميّة كالشكّ في طهارة الحيوان المتولّد من الكلب والغنم ـ مثلا ـ ونجاسته ، ولا يخفى أنّ جريان الاصول العمليّة في الشبهات الحكميّة مطلقا مشروط بالفحص واليأس عن الدليل ، بخلاف الشبهات الموضوعيّة كما يدلّ الإجماع ورواية زرارة على عدم لزوم الفحص فيها.

وتستفاد هذه القاعدة من قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (١) ، وأمثال ذلك.

وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره في ضمن أدلّة الاستصحاب : إنّ المراد من الطهارة في هذه الروايات الطهارة الواقعيّة ، فيكون هذا الحكم حكما كلّيّا بالنسبة إلى جميع الأشياء ، ولكنّه ربما يخصّص بتخصيص واحد أو متعدّد مثل الأعيان

__________________

(١) انظر : المستدرك ٢ : ٥٨٢ ، الباب ٣٠ من أبواب النجاسات والأواني.

٦٤٩

النجسة ، والموضوع فيها عبارة عن العناوين الأوّلية وذوات الأشياء ، والغاية فيها عبارة عن العلم بالنجاسة ، فيكون مفادها أنّ طهارة الأشياء تستمرّ باستمرار ظاهري حتّى يتحقّق العلم بالخلاف ، ونعبّر عنه بالاستصحاب ، وقال عليه‌السلام في دليل الاستصحاب أيضا : «لا تنقض اليقين بالشكّ ولكنّك تنقضه بيقين آخر» ، ولذا جعل قدس‌سره هذه الروايات من أدلّة الاستصحاب ، فلا بدّ من اعتباره قاعدة الطهارة من طريق الإجماع أو إنكارها رأسا.

وقال المشهور : إنّ جعل العلم غاية فيها كان بمنزلة بيان خصوصيّة الموضوع ، ويستفاد منه أنّ الشيء الذي وقع موضوعا للحكم بالطهارة لا يكون الشيء بعنوانه الأوّلي ، بل هو الشيء بما أنّه مشكوك الطهارة والنجاسة ، فمعناها أنّ كلّ شيء شكّ في طهارته ونجاسته فهو طاهر ، فيكون مفاد مجموع الغاية والمغيّا الحكم بالطهارة في الأشياء المشكوكة ، سواء كانت الشبهة حكميّة أو موضوعيّة ، وعلى هذا تكون قاعدة الطهارة مستندة إلى هذه الروايات.

وعلى مشي المشهور لا بدّ لنا من ملاحظة عدّة خصوصيّات قبل الانتهاء إلى النتيجة من الإجزاء وعدمه :

الاولى : أنّ موضوع الحكم في هذه القاعدة عبارة عن الشيء الذي ليس له طريق معتبر إلى الواقعيّة أعمّ من النجاسة والطهارة ، وتجعل القاعدة مع حفظ عدم الطريقيّة إلى الواقع طهارة في مرحلة الظاهر فقط فلا طريقيّة لها إلى الواقع أصلا.

الخصوصيّة الثانية : أنّ الشكّ المتحقّق في مجرى القاعدة عبارة عن مطلق الشكّ ، لا الشكّ المستمرّ إلى الأبد ، فإنّه قلّما يتّفق للإنسان ، مع أنّ القاعدة وضعت بعنوان التسهيل على الناس وامتنانا عليهم في الامور المبتلى بها.

٦٥٠

ولا يتوهّم أنّ احتمال بقاء الشكّ متحقّق ، فلا بدّ قبل إجراء القاعدة من جريان استصحاب بقاء الشكّ إلى الأبد ، فإنّ هذا التوهّم يجري في الشكّ المتحقّق في مجرى الاستصحاب أيضا ، فالموضوع هو شيء شكّ في طهارته ونجاسته ، سواء كان الشكّ بحسب الواقع باقيا إلى الأبد أم لا.

الخصوصيّة الثالثة : أنّ المقصود من الطهارة في قاعدة الطهارة الظاهريّة ، فلا تعارض بين كلّ شيء طاهر ، ودليل النجاسة الواقعيّة «كلّ دم نجس وما يلاقيه فهو متنجّس» إذ يمكن الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي كما سيأتي إن شاء الله في محلّه.

الخصوصيّة الرابعة : أنّه لا شكّ في ترتّب الآثار المتعدّدة على الطهارة الواقعيّة كالأكل والشرب ، مثلا : يقول الشارع : يشترط في المأكول والمشروب أن يكون طاهرا ، وكالدخول في الصلاة بقوله : يشترط طهارة الثوب والبدن للمصلّي وأمثال ذلك ، وهل تترتّب هذه الآثار على الطهارة الظاهريّة التي جعلت تسهيلا وامتنانا على الامّة بمفاد قاعدة الطهارة أم لا؟ فلا بدّ لنا من القول بترتّب جميع الآثار المترتّبة على الطهارة الواقعيّة ، وإلّا فما الذي يترتّب عليها من الآثار والفائدة؟ وبناء على هذا يكون طريق الجمع بين مفاد دليل الطهارة الظاهريّة ـ أي يجوز لك الصلاة مع الثوب والبدن المشكوك الطهارة ـ وبين دليل شرطيّة الطهارة الواقعيّة ـ أي يشترط في الصلاة طهارة الثوب والبدن بحسب الواقع ـ بالتبيين والتفسير ؛ بأنّ الأدلّة المذكورة في نفسها وإن كانت ظاهرة في الطهارة الواقعيّة إلّا أنّ دليل القاعدة يكون حاكما عليها ، ويدلّ على أنّه ليس مراد الشارع منها الطهارة الواقعيّة ، بل هو أعمّ منها ومن الطهارة الظاهريّة ، فما صلّينا كذلك يكون واجدا للشرط وإن كان الثوب

٦٥١

بحسب الواقع نجسا.

ومن هنا يظهر الحكم بالإجزاء في هذه المسألة بأنّه إذا صلّينا مدّة مديدة مع الطهارة الظاهريّة للثوب أو للبدن ثمّ انكشف أنّه كان نجسا من الابتداء ، فهذا لا يكشف عن عدم جريان القاعدة ؛ إذ قلنا : إنّ موضوعها لا يكون عبارة عن الشكّ الاستمراري إلى آخر العمر ، وقلنا أيضا : إنّ دليلها حاكم على أدلّة شرطيّة الطهارة الواقعيّة ، وإنّها أعمّ من الظاهري والواقعي ، فهي جارية في ظرفها قطعا ، فلا نقص في الصلاة حتّى نحكم بالإعادة أو القضاء.

ولكن أشكل عليه المحقّق النائيني قدس‌سره (١) : أوّلا : بأنّ الأحكام الظاهريّة في الحقيقة أحكام عذريّة ، والمكلّف مأمور بترتيب آثار الواقع عليها حين الجهل به ، وإنّما يكون معذورا في ترك الواقع ما دام بقاء الجهل والشكّ ، وإذا ارتفع يرتفع عذره ، فإذن بطبيعة الحال تجب الإعادة أو القضاء.

وجوابه : أنّه سلّمنا أنّ هذه القاعدة قاعدة عذريّة وبقاءها يدور مدار بقاء الشكّ فقط ، ولكن مفادها جعل الطهارة الظاهريّة لترتّب آثار الطهارة الواقعيّة ، فلا نقص في الصلاة المأتي بها بطهارة ظاهريّة ، ولا محلّ للإعادة أو القضاء.

وثانيا : بأنّ الحكومة والتوسعة للقاعدة متوقّفة على دلالتها على جعل الطهارة الظاهريّة أوّلا ، وعلى دلالة دليل على أنّ ما هو الشرط في الصلاة أعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة ، والمفروض أنّه لم يقم دليل سوى ما دلّ على جعل الطهارة الظاهريّة.

وجوابه : أنّ المعيار في تشخيص التعارض وعدمه وتفسير أحد الدليلين

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٢٤٩.

٦٥٢

للآخر وعدمه عبارة عن نظر العرف والعقلاء ، ولا شكّ في أنّ طريق الجمع عندهم منحصر بالحكومة هاهنا ، فإنّ بعد نفي لغويّة جعل الحكم الظاهري وهكذا نفي التعارض بين قاعدة الطهارة وبين ما يكون الظاهر عنه الطهارة الواقعيّة ـ مثل صلّ مع الطهارة ـ بتعيّن الحكومة ، ولا تحتاج حاكميّة القاعدة على الدلالة على الأمرين ، بل العقلاء يحكمون بالحاكميّة بعد الدلالة على الأمر الأوّل.

وثالثا : بأنّ الحكومة على قسمين : حكومة ظاهريّة وحكومة واقعيّة ، وإجمال الفرق بينهما أنّ الموضوع في الثانية عبارة عن الواقعيّة في الدليل الحاكم والمحكوم ، ويكون حكم الخاصّ مجعولا واقعيّا في عرض جعل الحكم العامّ من دون أن يكون بينهما طوليّة وترتّب ، كما في مثل قوله عليه‌السلام : «لا شكّ لكثير الشكّ» (١) ، حيث يكون حاكما على مثل قوله عليه‌السلام : «إن شككت فابن على الأكثر» (٢) ، ويوجب دليل الحاكم التضييق في دليل المحكوم ، وأضاف إليه قيدا. ونتيجة الدليلين : أنّه إذا شككت بين الثلاث والأربع ولم تكن كثير الشكّ فابن على الأكثر.

وأمّا الموضوع في الحكومة الظاهريّة فلا شكّ في أنّه في دليل الحاكم عبارة عن الشكّ في دليل المحكوم ، والمجعول فيها إنّما هو في طول المجعول الواقعي وفي المرتبة المتأخّرة عنه ، مثل قاعدة الطهارة حيث تكون حاكمة على مثل : البول نجس ، فمفاد قاعدة الطهارة في قبال البول نجس هو أنّه إذا شككت في طهارة شيء ونجاسته فهو طاهر ، ونعبّر عن هذه ب «الحكومة الظاهريّة» ، وهي

__________________

(١) انظر : الوسائل ٨ : ٢٢٨ ، الباب ١٦ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل ٨ : ٢١٢ و ٢١٣ ، الباب ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ١ و ٣.

٦٥٣

لا توجب تصرّفا من حيث التوسعة والتضييق في دليل المحكوم ، فإنّ الحكم في دليل الحاكم متأخّر برتبتين عن الحكم في دليل المحكوم ؛ إذ لا شكّ في أنّ الحكم في دليل الحاكم متأخّر عن موضوعه ، وقلنا : إنّ موضوعه عبارة عن الشكّ في دليل المحكوم ، فلا بدّ من تحقّق دليل المحكوم أوّلا وتحقّق الشكّ فيه ثانيا حتّى يتحقّق موضوع دليل الحاكم ، فكيف يمكن إيجاد التوسعة أو التضييق من دليل الحاكم في دليل المحكوم؟! فلا معنى للإجزاء استنادا إلى قاعدة الطهارة ، فالحكومة ظاهريّة ولفظيّة ، ويترتّب على ذلك جواز ترتيب آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف ، فإذا انكشف ينكشف عدم وجدان العمل لشرطه ، ويكون مقتضى القاعدة هو عدم الإجزاء.

وجوابه : مع أنّا ما سمعت حكومة ظاهريّة في محدودة الألفاظ : أنّ قاعدة الطهارة لا تلاحظ مع مثل «البول نجس» ، فإنّهما كانا حكمين ظاهري وواقعي ، والبحث في إمكان اجتماعهما وعدمه في محلّه ، ونلاحظ في ما نحن فيه قاعدة الطهارة مع قوله عليه‌السلام : «صلّ مع الطهارة» الذي يكون الظاهر منه في بادئ النظر الطهارة الواقعيّة ، ويجمع العقلاء بين ما هو ظاهر شرطيّة الطهارة الواقعيّة وبين قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء شكّ في طهارته ونجاسته فهو طاهر» بالحكومة ، بعد نفي التعارض بينهما ونفي لغويّة جعل الطهارة ظاهريّة.

ورابعا : بأنّه لو كانت الطهارة المجعولة بأصالة الطهارة أو استصحابها موسّعة للطهارة الواقعيّة لكان اللازم الحكم بطهارة ملاقي مستصحب الطهارة ، وعدم القول بنجاسته بعد انكشاف الخلاف وكون الملاقي نجسا من الابتداء ؛ لأنّه حين الملاقاة كان طاهرا بمقتضى التوسعة التي جاء بها الاستصحاب ، وبعد انكشاف الخلاف لم تحدث ملاقاة اخرى توجب نجاسة الملاقي ، فينبغي

٦٥٤

القول بطهارته ، مع أنّه لم يلتزم به أحد ، أي القول بأنّ الشكّ في الملاقي يوجب الحكم بعدم نجاسة الملاقي بحسب الواقع.

وجوابه : أوّلا : أنّه لو سلّمنا تحقّق ملاك الحكومة في قوله : «كلّ ما يلاقي النجس فهو متنجّس» ، كتحقّقه في قوله : «صلّ مع الطهارة» ، ولكنّه ما يرتبط منهما في مبحث الإجزاء هو الثاني ، وحكومة القاعدة وعدمها على مثل دليل الأوّل أجنبيّة عمّا نحن فيه ، أو أنّ ملاك حكومة القاعدة على مثله متحقّق ، إلّا أنّه يمنع مانع ـ مثل الإجماع أو ضرورة الفقه وأمثال ذلك ـ عنها ، وهو لا يتحقّق في مثل «صلّ مع الطهارة» ، فلا دليل لرفع اليد عن مقتضى الحكومة والحكم بالإجزاء في ما نحن فيه ، فتحقّق المانع الأوّل وعدمه في الثاني يوجب القول بالتفصيل بينهما ، وإن تحقّق الملاك في كليهما.

وثانيا : أنّه لا شكّ في أنّ الحكومة مسألة عقلائيّة ، ولكنّه لا بدّ من الارتباط والسنخيّة بين الدليل الحاكم والمحكوم ، ومن البديهي تحقّقه بين قاعدة الطهارة والأدلّة التي تترتّب الآثار على الطهارة الواقعيّة ظاهرا ، مثل : قوله : «صلّ مع الطهارة» ، ويشترط في المأكول والمشروب أن يكون طاهرا ، وأمثال ذلك ، ولذا تتحقّق حكومة القاعدة عليها.

وأمّا الأدلّة التي يكون الحكم فيها عبارة عن النجاسة كقوله : كلّ ما يلاقي النجاسة فهو متنجّس ـ مثلا ـ فلا ارتباط بينها وبين القاعدة أصلا ، بل يكون بينهما التخالف والتضادّ ؛ إذ تكون إحداهما في مقام جعل النجاسة ، والاخرى في مقام جعل الطهارة الظاهريّة ، وطريق الجمع بينهما طريق الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي لا الحكومة ، فالإشكالات غير واردة على المبنى ، وبالنتيجة يكون الحكم الإجزاء هاهنا.

٦٥٥

ولا يخفى أنّ التعبير بكشف الخلاف هاهنا مسامحة ، وليس بصحيح ؛ إذ لا يحصل لنا بعد جريان قاعدة الطهارة العلم بالواقع ، وليس لنا طريق إليه حتّى نعبّر بكشف الخلاف بعد وضوح حقيقة الحال ، بل القاعدة توجب توسعة دائرة الطهارة التي تترتّب عليها الآثار تسهيلا وامتنانا على الامّة. ويجري جميع ما ذكرناه في قاعدة الطهارة من النزاع والنتيجة في قاعدة الحلّيّة أيضا.

بيان ذلك : أنّ قوله : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» معناه على القول المشهور أنّه كلّ شيء شكّ في حلّيّته وحرمته فهو لك حلال ظاهرا ، والغاية تبيّن خصوصيّة الموضوع ، فإن لاحظنا هذه القاعدة مع قوله : لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه ـ الظاهر في أنّ ما يكون مانعا عن الصلاة عبارة عمّا كان محرّم الأكل بحسب الواقع ـ تكون القاعدة حاكمة عليه وتوجب التضييق في دائرة المانعيّة ، فإن صلّينا في جزء حيوان المشكوك الحلّيّة والحرمة بعد جريان قاعدة الحلّيّة فيه ، ثمّ انكشف حرمته لا يجب القضاء ولا الإعادة ؛ إذ الصلاة تتحقّق مع الطهارة الظاهريّة ، فلا مانع من صحّتها ، فيستلزم الحكومة في هذه القاعدة تضييق دليل المحكوم وفي قاعدة الطهارة توسعته ، وكلاهما مناسب مع التسهيل والامتنان. إلى هنا تمّ بحث الأصلين من الاصول العمليّة.

والبحث في أصل البراءة قد يقع في البراءة العقليّة ، وقد يقع في البراءة الشرعيّة ، ولا شكّ في أنّ البراءة العقليّة أجنبيّة عن مسألة الإجزاء وعدمه ، فإنّ دليلها عبارة عن قبح العقاب بلا بيان ، ولا يكون مفاده نفي التكليف بحسب الواقع ، بل يكون مفاده نفي استحقاق العقوبة فيما خالفه المكلّف ؛ لعدم تحقّق البيان من المولى ، فإن صلّينا بدون السورة استنادا إلى هذا الأصل ، ثمّ انكشف الخلاف يجب القضاء في الوقت والإعادة في خارج الوقت ، وغاية ما

٦٥٦

تدلّ عليه البراءة العقليّة هو نفي المؤاخذة فقط ، وهو لا يستلزم الإجزاء قطعا.

إنّما المهمّ البراءة الشرعيّة ، ومستندها حديث الرفع مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن امّتي تسع ... ومنها ما لا يعلمون» (١) ، والموصول فيه عامّ يشمل جميع ما يكون رفعه ووضعه بيد الشارع من الأحكام التكليفيّة ـ كالوجوب والحرمة ـ والوضعيّة ، كالحجّيّة والجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة وأمثال ذلك ، فإن شككنا في جزئيّة السورة ـ مثلا ـ فلا شكّ في عدم وصول النوبة إلى البراءة الشرعيّة إلّا بعد الفحص واليأس عن الدليل اللفظي في جانب النفي أو الإثبات حتّى في صورة الإطلاق ، والقول بأنّ مثل (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) يكون في مقام بيان أصل المشروعيّة لا في مقام بيان كيفيّة الصلاة ، ولذا لا يمكن التمسّك بإطلاقه لنفي الجزئيّة ؛ لفقدانه شرائط التمسّك به. والحكم هاهنا كما في قاعدة الطهارة عبارة عن الإجزاء ، ولكنّه يحتاج إلى الدقّة والتأمّل.

بيان ذلك : أنّ مفاد حديث الرفع ليس نفي المؤاخذة فقط ، بل مفاده عبارة عن نفي جزئيّة السورة المشكوك في جزئيّتها ، ولا يكون مفاده نفي الجزئيّة لغير العالم بالجزئيّة ، فإنّه يوجب التقدّم والتأخّر الدوري المحال ، ولا أقلّ من التصويب الباطل ؛ إذ القول باختصاص الحكم الواقعي بالعالم بالواقع لا للجاهل تصويب مجمع على بطلانه.

على أنّ الروايات الكثيرة تدلّ على أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما يشترك فيه الجاهل والعالم ، ومعلوم أنّ الظاهر من الحكم أعمّ من الحكم التكليفي والوضعي ، فكيف رفعت جزئيّة المشكوكة بعد اشتراكهما في أصل الجزئيّة؟!

ولا بدّ لنا من حلّ المسألة بأنّ المستفاد من ضمّ (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) إلى ما

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٦٥ من أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، الحديث ١.

٦٥٧

يدل على جزئيه السورة بحسب الواقع أنّ طريق امتثال هذا الأمر في الخارج منحصر بإتيان الصلاة مع السورة ، ولكنّ المجتهد بعد الفحص وعدم الظفر على الدليل المذكور التمسّك بحديث الرفع، فمفاده لا محالة يكون في هذه الحالة عبارة من تجويز الشارع إتيان الصلاة للجاهل بالجزئّية بدون السورة امتناناً ، وإذا أجاز له بإتيانها بهذه الكيفيّة فهو لا يكون قابلاً للجمع مع لزوم الإعادة أو القضاء بعد علمه بحقيقة الحال ، فالحكم في البراءة الشرعيّة أيضاً عبارة عن الإجزاء.

وأمّا أصالة الاشتغال فلا شكّ في خروجها عن موضوع البحث، فإنّا نبحث فيما تحقّق عبادة مع فقدان بعض الأجزاء أو الشرائط ، ومورد جريان هذا الأصل عبارة عمّا اُتى بمحتمل الشرطية والجزئية وترك ما يحتمل المانعيّة ، وذا لا يصحّ التعبير بأنّ أصالة الاشتغال مقتضية للإجزاء ، فإنّ بعد إتيان الصلاة ـ مثلاً ـ مع السورة وكشف عدم جزئيتها وكونها بعنوان المستحبّ ، أو شيء غيرقادح في صحّة الصلاة ، فلا نقص فيها حتّى نبحث ونعبّر بالإجزاء.

وأمّا أصالة التخير التي تجري في دوران الأمر بين المحذورين بعنوان أصل عقلي فموردها قد يكون عبارة عن عمل يدور أمره بين الوجوب والحرمة فلا معنى للإجزاء ههنا ؛ إذ المكلّف إمّا يأتى به أو يتركه ، وعلى التقديرين إمّا يكشف عن الخلاف إمّا لا يكشف ، وإن أتى به ثمّ انكشف أنّه كان محرّماً فلا يعقل التعبير بالإجزاء ، وهكذا إن تركه ثمّ انكشف أنّه كان واجباً بحسب الواقع ، فإنّه كان تاركاً للمأمور به رأساً ، فلابدّ من إتيانه ولو قضاءً لأنّه لم يأت بشيء أصلاً.

وقد يكون موردها عبارة عن أجزاء المأمور به كالشكّ في أنّ للسورة

٦٥٨

ـ مثلاً ـ جزئية أو مانعيّة ، فحينئذٍ إن كان المأمور به قابلاً للتكرار فلا مورد لأصالة التخيير أصلاً ، والحاكم عبارة عن أصالة الاشتغال،ومفادها تكرار المأمور به تارة مع وجود الشيء المشكوك مانعيّنه أو جزئيته ، واُخرى بدونه لحصول العلم بتحقّق المأمور به في الخارج.

وأمّا إن كان الأمر دائراً بين المانعيّة والجزئية والمأمور به غير قابل للتكرار ، فهو يرتبط ببحث الإجزاء فإنّ بعد حكم العقل بالتخيير ورعاية المكلّف جانب الجزئية حين العمل وانكشاف المانعيّة يجري البحث بأنّ أصالة التخيير تقتضي الإجزاء أم لا؟ ويجري هنا ما مرّ في البراءة العقليّة من أنّ العقل بعد دوران الأمر بين المحذورين وعدم الترجيح يحكم بالتخيير ، فإن تركه المكلّف أو أتى به في مقام العمل لا يستحقّ المؤاخذة في صورة كشف الخلاف ، ولا حكم للعقل بالإجزاء وعدمه ، بل هو ينفي المؤاخذة فقط ، والقاعدة تقتضي عدم الأجزاء فإنهّ إن كان جزء ترك وإن كان مانعاً اُتي به.

وأمّا الاستصحاب فالتحقيق أنّه أصل شرعي كما عليه المحقّقون، ومستنده عبارة عن عدّة روايات متضمّنة لجملة : «لا تنقض اليقين بالشك» ، فإن شكّ المكلّف في طهارة ثوبه أو بدنه واستصحب الطهارة وصلّى ، ثمّ انكشف أنّ الصلاة وقعت في الثوب المتنجّس ، هل هي مجزية أم لا؟ فإذا لاحظنا أدلّة شرطيّة الطهارة في الصلاة ، مثل «لا صلاة إلاّ بطهور» و «صلّ مع طهارة الثوب والبدن». فلا شكّ في أنّ الظاهر منها الطهارة الواقعيّة ، بحيث إن انكشف فاقديّة الصلاة لها كانت فاقدة للشرط فهي لا تكون مأموراً بها ولا تُجزي عنه.

وأمّا إذا لاحظنا دليل الاستصحاب فهو في مورد الشكّ يقول : إذا شككت

٦٥٩

في الوضوء وكنت على يقين من وضوئك السابق فأنت باقٍ على يقينك تعبّداً لا وجداناً بل ظاهراً ، أو أنّ الشارع يحسبك المتيقّن من حيث ترتّب آثار الیقین ، أي بجوز لك الدخول في الصلاة بهذا الثوب والبدن المشكوك طهارتهما ومع الوضوء المشكوك بقاؤه.

ومن البديهي أنّ العقل بعد ملاحظة هذين الدليلين لا يحكم بالتعارض بينهما ، بل يحكم بأنّ دليل الاستصحاب مفسّر للأدلّة المذكورة ومبيّن لمرادها الواقعي ، فهو حاكم عليها ولازمه الإجزاء في صورة كشف الخلاف.

وأمّا قاعدة الفراغ والتجاوز ففي الابتداء بحث في أنّهما قاعدتان مستقلّتان ، إحداهما : تبيّن وظيفة الشاكّ في أثناء العمل والاُخرى : تبيّن وظيفته بعد الفراغ من العمل ، أو أنّهما قاعدة واحدة فقال بعض بالأوّل ، وقال آخرون ـ مثل الإمام قدس سره (١) ـ بالثاني ، وأنّ القاعدة هي قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ من مصاديقها ، وتحقيق البحث في محله.

فإن لم يراع جزء أو شرطاً استناداً إلى هذه القاعدة ثم انكشف الخلاف كما لو وقعت الصلاة بدون الوضوء أو بدون الركوع ـ مثلاً ـ فهل يجب القضاء أو الإعادة أم لا؟ ولكن لابدّ لنا في بادئ الأمر من تحقيق أنّ هذه القاعدة هل تكون من القواعد العقلانيّة والشارع أكّدها وأمضاها في ضمن الروايات الواردة في هذه المقولة ، أم تكون من القواعد الشرعيّة؟ وعلى فرض كونها قاعدة عقلانيّة فهل تكون عندهم بعنوان الأمارة والطريق إلى الواقع ـ كحجيّة خبر الثقة وأماريّته ـ أم لا؟ وكلتا الجهتين محلّ للبحث ، ويحتمل أن تكون من الاُصول التعبّديّة العقلانيّة من دون أن تكون لها أماريّة وكاشفيّة ، ونظيره

__________________

(١) تهذيب الاُصول ١ : ١٩٣.

٦٦٠