دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

الأمر الخامس

وضع الألفاظ لذوات المعاني

واختلفوا في أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة أم المرادة؟ بحيث أن يكون للإرادة دخل فيها شرطا أو شطرا؟ فلا بدّ لنا ابتداء من تحرير محلّ النزاع ، وبيانه يتوقّف على ذكر أقسام الإرادة فاعلم أنّ الإرادة على أقسام :

أحدها : مفهوم الإرادة وما وضع له لفظ الإرادة ، ويعبّر عنه بالشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو المراد ، وهذا هو الموضوع له لكلمة «الطلب» على فرض الاتّحاد بينهما ، وهذا هو ماهيّة الإرادة.

وثانيها : وجود الإرادة ، ومعلوم أنّ الوجود على قسمين ؛ إذ الماهيّة قد تتحقّق في الذهن ، وتحقّقها في الذهن عبارة عن التفات النفس إليها ولحاظ معناها. وقد تتحقّق في الخارج ، وتحقّقها في الخارج ووجودها الحقيقي عبارة عن الشوق الواقعي القائم بالنفس الذي هو محرّك للعضلات نحو المراد ، ولكنّ هذه الواقعيّة تكون من سنخ المعاني الحرفيّة ؛ لأنّها متقوّمة بالطرفين ، أعني المريد والمراد.

وثالثها : الإرادة الإنشائيّة أو الطلب الإنشائي على فرض اتّحادهما ، بأنّ المتكلّم ينشئ ويقصد به تحقّق ماهيّة الطلب.

٢٠١

إذا عرفت أقسام الإرادة فنقول : إنّ المراد من الإرادة في ما نحن فيه هي الإرادة الواقعيّة والحقيقيّة ، وهل للإرادة الجزئيّة الواقعيّة دخل في معنى الإنسان ـ مثلا ـ بعنوان الجزء أو القيد أم لا؟ قيل : لها دخل. وذكر المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) وبعض آخر وجوها لإبطال دليل من يقول بدخلها في الموضوع له :

أحدها : التبادر ، فإنّ سماع كلمة «زيد» من وراء الجدار يوجب انتقال الذهن إلى الهيكل الخارجي ، فتكون ذوات المعاني تمام الموضوع له في الأعلام الشخصيّة ، وهكذا في أسماء الأجناس.

وثانيها : إيجاد الإشكال في القضايا الحمليّة لو قلنا به ، فإنّ الملاك فيها الاتّحاد والهوهويّة ، مثل «زيد قائم» ، فلو كانت الإرادة جزء معنى «زيد» و «القائم» لكانت إرادة «زيد» غير إرادة «القائم» ، فلا يكن بينهما اتّحاد ، ولا يصحّ الحمل بدون تجريدهما عن الإرادة ، وحيث إنّه لا نحتاج إلى التجريد في تشكيل القضايا نستكشف أنّه لا دخل للإرادة في المعنى الموضوع له.

وثالثها : أنّ لازم ذلك ألّا يكون في العالم وضع العامّ والموضوع له العامّ أصلا ، ويلزم كون وضع عامّة الألفاظ عامّا والموضوع له خاصّا ؛ لأنّه إذا كان الحيوان الناطق المقيّد بإرادة معنى الإنسان ، ومعلوم أنّ الإرادة جزئيّة ، فيلزم أن يكون المعنى الموضوع له جزئيّا.

وأمّا دليل من يقول بدخلها فبيانه يحتاج إلى ذكر مقدّمتين :

الاولى : أنّ العلّة الغائيّة في الأفعال والحركات الاختياريّة وإن كانت متأخّرة بوجودها العيني والخارجي عن نفس الأفعال والحركات ولكنّها

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٢ ـ ٢٣.

٢٠٢

مؤثّرة في تحريك الفاعل بوجودها الذهني ، بل هي المهمّ في سلسلة العلل.

الثانية : أنّ المعلول بما أنّه رشحة من رشحات العلّة فلا استقلال له ؛ لأنّه عين الربط بعلّته ، فهو لا محالة يتضيّق تضيّقا ذاتيّا بضيقها ، ولا يمكنه أن يكون أوسع منها ، فكلّ معلول محدود ومضيّق بالعلّة الغائيّة.

وبالنتيجة : العلّة الغائيّة في باب الوضع عبارة عن السهولة في التفهيم والتفهّم ، يعني إظهار المقاصد وبيان ما تتعلّق به الإرادة ، فيكون تعلّق الإرادة بالمعاني جزء العلّة الغائيّة ، فتضيّق المعلول ـ أي دائرة الوضع ـ بالمعاني المقصودة ، ولذا لو سمعت لفظا من لافظ بلا شعور لا وضع له ؛ إذ لم يكن فيه القصد والإرادة.

ولكنّ التحقيق : أنّ الوضع بعد عدم تحقّق علقة ذاتيّة بين اللفظ والمعنى عبارة عن جعل علقة اعتباريّة بينهما ، وثمرته دلالة اللفظ على المعنى بحيث إنّه إذا سمع سامع اللفظ ينتقل ذهنه إلى المعنى ، ودلالة اللفظ على المعنى لا يكون زائدا على دلالة إشارة عمليّة على المشار إليه ؛ لأنّ وضع اللفظ لسهولة فهم المعنى وجعله علامة له ، ولا دخل للإرادة فيها أصلا. هذا أوّلا.

وثانيا : لو سلّمنا إيجاد التضييق في الوضع من ناحية العلّة الغائيّة ، ولكن ليس معناه مدخليّة حقيقة الإرادة في الموضوع له شطرا أو شرطا ، بل معناه أنّ مورد تحقّق العلاقة الوضعيّة عبارة عمّا تحقّقت فيه الإرادة ، ولو لا الإرادة لما تحقّق الوضع.

ونظيره نزاع صاحب المعالم وصاحب القوانين في مسألة استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد ، فقال صاحب المعالم (١) : «إنّ كلّ لفظ وضع

__________________

(١) معالم الدين : ٣٩.

٢٠٣

للمعنى بقيد الوحدة ، بحيث لو استعمل في أكثر من معنى واحد يلزم استعمال اللفظ في غير الموضوع له».

وقال صاحب القوانين (١) : «إنّ حين وضع لفظ العين للعين الباكية كانت العين مقرونة بالوحدة ، فلا دخل لها في الموضوع له».

وهكذا في ما نحن فيه ، فحين تتحقّق الإرادة يتحقّق الوضع ، وأمّا مدخليّتها في الموضوع له بعنوان الجزء أو الشرط فممنوع ، وعليه فالدليل المذكور أعمّ من المدّعى ، فإنّ الدليل يضيّق الوضع والمدّعى المدخليّة في الموضوع له كما لا يخفى.

ولكن حكي عن العلمين الشيخ الرئيس (٢) والمحقّق الطوسي (٣) من أنّهما قالا : إنّ الدلالة تتبع الإرادة ، وتوهّم من ذلك أنّه لو لم تكن الإرادة داخلة في الموضوع له لما كان لهذا القول وجه.

وأجاب عنه صاحب الكفاية قدس‌سره (٤) وحاصل كلامه : أنّ الدلالة على قسمين : أحدهما : الدلالة التصوّريّة ، وهو خطور المعنى في الذهن عند سماع اللفظ ، فهي تحتاج إلى شعور السامع والوضع والعلم به ، وأمّا من طرف اللافظ فلا حاجة إلى شيء سوى تلفّظه ولو كان بلا شعور. والآخر : الدلالة التصديقيّة وهو تصديق السامع بكون المتكلّم مريدا لهذا المعنى من اللفظ ، وهي تحتاج مضافا إلى ما ذكر إلى شعور المتكلّم وكونه مريدا له ، فلا بدّ له من إحراز هذا المعنى منه.

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) الشفاء ، قسم المنطق ١ : ٤٢.

(٣) جواهر النضيد في شرح التجريد : ٤.

(٤) كفاية الاصول ١ : ٢٣.

٢٠٤

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ مراد العلمين من الدلالة التي حكما بتبعيّتها للإرادة الدلالة التصديقيّة ، ولا يكون كلامهما ناظرا إلى الدلالة التصوّرية ، وكون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة ، وكلامهما هاهنا ليس قابلا للإنكار ومسلّم عند الكلّ ، ولكنّه خارج عن محلّ النزاع.

ولكن اعترض على صاحب الكفاية عدّة من الأعاظم بأنّه لا وجه لحمل الدلالة في كلامهما على الدلالة التصديقيّة ، فإنّ تبعيّتها للإرادة في الواقع ونفس الأمر واضحة فلا مجال للكلام فيها أصلا ، فإنّ عبارة العلّامة ـ في «جواهر النضيد» التي نقلها عن استاذه وشيخه المحقّق الطّوسي ـ صريحة في الدلالة الوضعيّة التصوريّة.

فيكون مراد العلمين من هذا الكلام أنّ العلقة الوضعيّة مختصّة بصورة إرادة المعنى ، وليس مرادهما من ذلك أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له شطرا أو شرطا.

والحاصل من كلامهما : أنّ للإرادة دخلا في الوضع ، وهي توجب التضييق فيه ؛ بحيث لو لم تكن الإرادة لم تتحقّق الدلالة الوضعيّة.

ولا يخفى أنّه كان لصاحب المحاضرات (١) كلام في هذا المقام ، حيث قال : قد وقع الكلام بين الأعلام في أنّ الدلالة الوضعيّة هل هي الدلالة التصوريّة أو أنّها الدلالة التصديقيّة؟ فالمعروف والمشهور هو الأوّل بتقريب أنّ الانتقال إلى المعنى عند تصوّر اللفظ لا بدّ أن يستند إلى سبب ، وذلك السبب عبارة عن الوضع. وذهب جماعة من المحقّقين إلى الثاني ـ أي انحصار الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقيّة ـ والتحقيق حسب ما يقتضيه النظر الدقيق هو القول الثاني.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ١٠٤ ـ ١٠٩.

٢٠٥

والوجه فيه على ما سلكناه في باب الوضع من أنّه عبارة عن التعهّد والالتزام فواضح ؛ ضرورة أنّه لا معنى للالتزام بكون اللفظ دالّا على معناه ولو صدر عن لافظ بلا شعور واختيار ، بل ولو صدر عن اصطكاك حجر بآخر ، وهكذا ، فإنّ هذا غير اختياري ، فلا يعقل أن يكون طرفا للتعهّد والالتزام.

وعليه فلا مناص من الالتزام بتخصيص العلقة الوضعيّة بصورة قصد تفهيم المعنى من اللفظ وإرادته ، سواء كانت الإرادة تفهيميّة محضة واستعماليّة أم جدّيّة ، فإنّه أمر اختياري ، فيكون معلّقا للالتزام والتعهّد.

وبالجملة ، أنّ اختصاص الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقيّة لازم حتمي للقول بكون الوضع بمعنى التعهّد والالتزام. وأمّا الدّلالة التصوّرية ـ وهي الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ ـ فهي غير مستندة إلى الوضع ، بل هي من جهة الانس الحاصل من كثرة الاستعمال أو من أمر آخر ، ومن ثمّة كانت هذه الدلالة موجودة حتّى مع تصريح الواضع باختصاص العلقة الوضعيّة بما ذكرناه ، فيكون مراد العلمين من الدلالة الدلالة التصديقيّة الوضعيّة ، ولا ربط للدلالة التصوّريّة بباب الوضع أصلا.

ولكنّ التحقيق : أنّه ـ مع أنّ أصل مبناه مردود عندنا ، وانحصار الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقيّة مخالف للمشهور كما اعترف به ـ مخالف للواقع ، فإنّه إن سمّي مولود باسم «عليّ» وقال أحد بعد لحظات : جئني ب «عليّ» ومعلوم أنّ القول بعدم الانتقال إليه مخالف للوجدان ، وأمّا انتقال الذهن إليه فليس مستندا إلى كثرة الاستعمال ، فلا محالة يستند إلى الوضع والتسمية ، وإذا كان الأمر كذلك فما الدليل على خروج الدلالة التصوريّة عن الدلالة الوضعيّة؟ فلا بدّ من كونها أيضا من هذا الباب ، وكان كلام العلمين أيضا ناظرا إلى هذا المعنى.

٢٠٦

الأمر السادس

وضع المركّبات

لا يخفى أنّ هذا النزاع إنّما يأتي فيما إذا كان للمركّب وضع غير وضع المفردات التي هي الهيئة التركيبيّة ، مثلا : في قولنا : «زيد قائم» قد وضعت كلمة «زيد» لمعنى خاصّ ، وكلمة «قائم» هيئة ومادّة لمعنى آخر ، والهيئة القائمة بهما لمعنى ثالث ، فلا إشكال في كلّ واحد من تلك الأوضاع الثلاثة ، وإنّما الكلام والإشكال في وضع مجموع المركّب من هذه المواد على حدة.

وامّا وضع هيئة الجملة فلا كلام في وضعها للنسبة أو الهوهويّة كما مرّ ، ومنشأ هذا النزاع قول بعض النحويّين بأنّه كما أنّ للمفرد وضعا كذلك للمركّب وضع ، وإن احتمل بعض أنّ مراد القائل بالوضع وضع هيئة المركّب لا هو بنفسه ، فيكون النزاع لفظيّا ، ولكنّ صريح كلام بعض آخر منهم يأبى عن هذا الاحتمال ، وهو أنّ مفاد مجموع المركّب هو معنى هيئة الجملة الخبريّة.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ الصحيح هو أنّه لا وضع للمركّب بما هو مركّب ، واستدلّ له بدليلين :

الأوّل : أنّ الواضع لمّا رأى تحقّق الحقائق الكلّيّة والجزئيّة في العالم وأنّه لا يمكن الإشارة العمليّة إليها ، أو ممكن ولكنّها توجب العسر والحرج ، ولذا وضع

٢٠٧

لكلّ واحد منها لفظا حتّى يحكي عنها ، فيكون غرضه من الوضع إفادة المعاني الواقعيّة ، فلو لم تكن الواقعيّة لم يتحقّق الوضع أصلا.

ويمكن أن يقال : إنّ لنا عناوين وألفاظا مع أنّها ليست لها واقعيّة وحقيقة ، ولكنّها تحكي عن المعاني ، فلا تكون دائرة الوضع محدودة بالواقعيّات ، مثلا : عنوان «شريك الباري» و «اجتماع النقيضين» ، وأمثال ذلك بعد إقامة البرهان على استحالة كلّ واحد من هذه العناوين لا واقعيّة لها ، ولكنّها تدلّ على المعاني.

وجوابه : أوّلا : بأنّ كلمة «الباري» وضعت لذات واجب الوجود ، وهكذا كلمة «الشريك» وضعت لمطلق الشركة ، وأمّا تلفيق المضاف والمضاف إليه فيكون من عمل القائل بداعي جعلهما موضوعا لحمل كلمة «محال» عليه ، لا وضعه لها ، وهكذا في جملة «اجتماع النقيضين محال».

إن قلت : لو سلّمنا هذا المعنى في المركّبات فكيف التوفيق في المفردات التي لا واقعيّة لها ، وتدلّ على المعاني ، مثل كلمة «ممتنع» و «محال»؟

قلنا : إنّ الواضع لا يكون له وضع لهيئة كلمة الممتنع ومادّتها ملفّقين ، بل لمادّتها وضع ولهيئتها وضع آخر ، وكلّ منهما يحكي عن المعنى ، وتلفيق الهيئة والمادّة يكون من عمل القائل ، وليس التلفيق في لسان الواضع.

وثانيا : أنّ المقصود من الواقعيّة ليس التحقّق والعينيّة الخارجيّة ، بل المراد منها ما يقبل الإيجاب والسلب والإثبات والنفي ، بل لو كان ممّا اتّفق الكلّ على عدمه ـ مثل اجتماع النقيضين ـ كان له واقعيّة باعتبار وقوعه موضوعا لكلمة «محال» ، ولأنّه لو لم تكن محاليّة اجتماع النقيضين لا يمكن إثبات واقعيّة من الواقعيّات ، فيكون لاجتماع النقيضين وشريك الباري معنى ، ولكنّه ممتنع ومحال.

٢٠٨

ولو سلّمنا الوضع فيهما فهو لمحاليّة مفادهما ، لا أنّه ليس لهما معنى أصلا ، وهكذا في كلمة «ممتنع» أيضا كان له معنى ومفاد ، ولكنّه لا يعقل أن يتحقّق في الخارج.

وحينئذ نقول : لا حاجة لنا إلى وضع المركّبات ، فإنّ لكلّ جزء من أجزاء الجمل وضعا ، مثلا في جملة «زيد قائم» يكون وضع لكلمة «زيد» ووضعان لكلمة «قائم» من حيث المادّة والهيئة ، ووضع للهيئة القائمة بالجملة ، ومن الواضح أنّ هذه الأوضاع الأربعة وافية لإفادة الغرض المتعلّق بالمركّب ، ولا يبقى هنا غرض آخر حتّى لا تكون تلك الأوضاع وافية لإفادته حتّى نحتاج إلى وضع المركّب بما هو على حدة لإفادة ذلك الغرض ، فلا يوجد غرض بصورة «شريك الباري» ومفاد كلمة «ممتنع».

وبعبارة اخرى : أنّ وضع المركّب على حدة إمّا أن يكون لغرض آخر غير الغرض المترتّب على وضع المفردات ، وهو مفقود وجدانا ؛ إذ الغرض حاصل منه ، فيلزم تحصيل الحاصل ، وهو محال. وإمّا بلا غرض فيلزم اللغويّة ، وهي قبيحة.

ولذا لما التفت إلى هذا المعنى بعض النحويّين قال في مقام التوجيه : إنّ مفاد مجموع المركّب هو مفاد الجملة الخبريّة ، وأنّ النسبة أو الهوهويّة مدلول لهما ، نظير الألفاظ المترادفة التي تدلّ على معنى واحد.

ولكنّ هذا التوجيه باطل لوجهين :

الأوّل : لأنّ أصل الترادف محلّ للإشكال ؛ لأنّ عدّة من المحقّقين قائلة : بأنّ لكلّ لفظ من الألفاظ المترادفة خصوصيّة لم تكن هي في غيره ، وهو قريب ؛ لأنّ الذوق الارتكازي يحكم بأنّ مورد استعمال أحدها غير مورد استعمال الآخر.

٢٠٩

الثاني : لو سلّمناه ولكن الغرض منه تسهيل الأمر للمستعملين في التعبير عن المعنى الموضوع له ، بلحاظ كثرة ابتلاء الناس بهذا المعنى ، ولذا اقتضت المصلحة أن يحكي أكثر من لفظ واحد عن هذا المعنى ، ولا يخفى أنّ هذا الغرض ليس موجودا في ما نحن فيه ، فإنّ هيئة المركّب ومجموع المركّب أمران متلازمان غير قابلين للتفكيك ، فيلزم اللّغوية.

مضافا إلى أنّ هذا الوضع يستلزم إفادة المعنى الواحد مرّتين والانتقال إليه بانتقالين ؛ لأنّ تعدّد الوضع يقتضي تعدّد الإفادة والانتقال ، بحيث كان انتقال الثاني في عرض انتقال الأوّل ؛ لتحقّق كلّ من الدالّين في عرض تحقّق الآخر ، وهذا مخالف للوجدان.

وأمّا الدليل الثاني فهو ما قال به ابن مالك ، وهو : أنّه لو كان لمجموع مركّب «زيد قائم» وضع على حده ، فلا محالة لا يكون وضعا نوعيّا ؛ إذ كلّ واحد من المركّب كان مباينا للآخر ، ولذا لا يتصوّر أن يكون الوضع نوعيّا ، فيكون الوضع فيه شخصيّا ولكنّه مردود لوجهين :

الأوّل : أنّ المركّب لا يعدّ ولا يحصى باعتبار الزمان والأشخاص ، واللّغات ، فلا يمكن الوضع فيه.

الثاني : بأنّ وضع المركّب يوجب تعطيل الخطابة وابتكار الكلام وتشكيل الجملات الذوقيّة ، فإنّ المتكلّم لا بدّ له أن يلاحظ كلّ جملة بأنّ لها وضعا أم لا ، فانقدح من ذلك أنّ أصل الوضع فيه مردود ، كما لا يخفى على المتفطّن.

٢١٠

الأمر السابع

علامات الحقيقة والمجاز

وقد ذكروا للحقيقة علائم :

منها ـ التبادر :

لا يخفى أنّ المتقدّمين من الاصوليّين عدّوا إحدى العلامات تنصيص أهل اللّغة ، ولكنّ المتأخّرين منهم لم يتعرّضوا له ، ولعلّه لعدم حجّيّته عند الأكثر ، وأمّا التبادر فلا بدّ لنا من البحث فيه في جهات :

الاولى ـ في معنى التبادر : وهو خطور المعنى في الذهن بمجرّد سماع اللفظ من غير قرينة وتقرّره فيه ، لا سبقة حصول المعنى في الذهن بالنسبة إلى معنى آخر وإتيان الآخر بعده.

الجهة الثانية ـ في مورد التبادر : واعلم أنّه لا ينحصر في الاستعمالات الدائرة بين الحقيقة والمجاز أو الصحّة والبطلان ، بل يعرف منه المعنى الحقيقي ولو لم يكن استعمال ، فإذا كان أحد جاهلا باستفادة معنى اللفظ منه ـ كما لو شكّ في كون الماء موضوعا للجسم السيّال البارد بالطبع ـ فيكون التبادر طريقا لإثباته ، فيقول لأهل اللّغة العربيّة في مقام الاستعلام : «جئني بماء» ويلاحظ ما يتبادر عنده ، فهو الموضوع له ، فتكون موارد الاستفادة من التبادر وسيعة.

٢١١

الجهة الثالثة ـ في ثمرة التبادر : هل ينتج منه المعنى الموضوع له أو المعنى الحقيقي؟ إذ الرابطة الاعتباريّة كما تحصل بالوضع كذلك تحصل بكثرة الاستعمال حتّى يصير حقيقة ، وقد ذكرنا فيما تقدّم أنّ تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيّني ليس بصحيح ، فتكون الحقيقة أعمّ مطلقا من الموضوع له ؛ إذ كلّ موضوع له حقيقة ، وليس كلّ حقيقة موضوع له ، فتكون ثمرة التبادر إثبات كون المعنى المتبادر حقيقة ، لا كونه موضوعا له.

الجهة الرابعة ـ في علّة كون التبادر علامة للحقيقة : وبيانه : أنّ اللفظ والمعنى لو لم يكن بينهما ارتباط حقيقي لم يتبادر من بين المعاني المتعدّدة المحتملة هذا المعنى ؛ إذ لا يتصوّر خصوصيّة للانسباق سوى ذلك ، فهذه الخصوصيّة علّة للتبادر.

الجهة الخامسة ـ في الإشكالات والتفصّيات : فقد يورد أنّ علاميّة التبادر تستلزم الدور ؛ إذ لا معنى للتبادر عند الجاهل ، فإنّه لا يدرك سوى الأصوات والألفاظ ، فلا محالة يتبادر عند العالم بالمعنى الحقيقي ، فالتبادر متوقّف على العلم بالمعنى الحقيقي ، والمفروض أنّ العلم به متوقّف على التبادر.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني (١) بوجهين : الأوّل : أنّ التبادر عند العالم بالوضع علامة الحقيقة للجاهل به ، فالمستعلم يرجع في ذلك إلى العالم بالوضع ، فيكون علم الجاهل متوقّفا على التبادر ، ولكنّ التبادر متوقّف على علم العالم ، وبذلك يندفع الدور كما لا يخفى.

الثاني : أنّ التبادر وإن كان متوقّفا على العلم بالمعنى الحقيقي ، إلّا أنّ ذلك العلم ارتكازي مكنون في خزانة النفس ، من دون التفات تفصيلي إليه ،

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٥.

٢١٢

فالتبادر يوجب العلم تفصيلا به ، فالعلم التفصيلي بكونه معنى حقيقيّا موقوف على التبادر ، ولكنّ التبادر موقوف على العلم الإجمالي الارتكازي ، فارتفع الدور من البين.

وأجاب عنه بعض المحقّقين بأنّه يكفي في ارتفاع الدور تغاير العلمين شخصا ، فإنّ العلم الشخصي الحاصل من التبادر مغاير مع العلم الشخصي الذي يتوقّف التبادر عليه وإن كان كلاهما علما تفصيليّا ، فيكون أحد الفردين متوقّفا على التبادر ، ولكنّه متوقّف على الفرد الآخر ، ولا مانع من توقّف أحد الفردين على الآخر.

ولكنّه مردود بأنّ العلم من امور ذات الإضافة ، له إضافة إلى العالم وإضافة إلى المعلوم ، وتعدّده متوقّف على تعدّد أحد طرفيه أو تعدّدهما ، ولا يعقل العلم التفصيلي في حال واحد لشخص واحد على شيء واحد مرّتين ، مثل قول القائل مثلا : «لنا عشرة علوم تتحقّق اليوم».

الجهة السادسة : في اشتراط علاميّة التبادر بكونه مستندا إلى حاقّ اللفظ لا إلى القرينة ، هذا إذا احرز انسباق المعنى إلى الذهن من نفس اللفظ ، وإنّما الكلام في صورة الشكّ واحتمال استناد ظهور اللفظ إلى وجود قرينة داخليّة أو خارجيّة ، فهل لنا طريق مضبوط أو قاعدة مضبوطة لإثبات هذا المعنى أم لا؟

ربّما يقال : إنّ الاطّراد يدلّ على كون التبادر مستندا إلى حاقّ اللفظ ، وهو أنّ تبادر المعنى من اللفظ لا يختصّ بمورد دون مورد ، بل كلّما اطلق لفظ «صعيد» يتبادر منه التراب الخالص ، وهذا دليل على كونه مستندا إلى الوضع.

وجوابه : أنّ الاطّراد إن كان موجبا للعلم فلا إشكال فيه ، بل هو خارج عن محلّ البحث ، وإن كان حجّة في مورد التبادر مع عدم حصول العلم منه فلا

٢١٣

دليل على حجّيّته أصلا ؛ إذ لم يثبت لنا من العقلاء التمسّك به.

وأيضا يمكن التمسّك لإثبات هذا المعنى بأصالة عدم القرينة.

ولكنّه أيضا مردود ، فإنّه إن كان دليل هذا التمسّك بناء العرف على عدم الاعتناء باحتمال القرينة فيردّه أنّ بناء العرف إنّما يختصّ بما إذا شكّ في مراد المتكلّم ، ولم يعلم أنّه المعنى الحقيقي أو المجازي ؛ لاحتمال أن يكون في الكلام قرينة قد خفيت علينا. وأمّا إذا علم المراد وشكّ في أنّ المعنى المتبادر مستند إلى حاقّ اللفظ أو إلى القرينة فلا بناء من أبناء المحاورة على عدم الاعتناء باحتمال القرينة ، أو يحتمل عدم بنائهم هاهنا ، ففي صورة عدم إحراز بناء العقلاء لا معنى لجريان هذا الأصل.

وأمّا لو كان دليل هذا التمسّك أخبار الاستصحاب وكان الأصل شرعيّا فنقول : إنّ اللفظ ما لم يكن موجودا لم يكن محفوفا بالقرينة ، وبعد وجوده نشكّ في محفوفيّته بالقرينة ، فيستصحب عدم المحفوفيّة المتيقّنة.

ويردّه : أنّ هذا الاستصحاب كاستصحاب عدم قرشيّة المرأة ، وعدم التزكية لا يجري ، فإنّ القضيّة المتيقّنة والمشكوكة غير متّحدتين عرفا ؛ لأنّ القضيّة المتيقّنة سالبة بانتفاء الموضوع ، والمشكوكة سالبة بانتفاء المحمول ، مع أنّ من شرائط جريان الاستصحاب اتّحاد القضيّتين.

ويمكن أن يقال : إنّا نجري استصحاب عدم القرينة بأنّ القرينة لم تكن سابقا ، ونشكّ في أنّها حدثت مقارنة للكلام أم لا ، فيستصحب عدم القرينة السابقة.

ويردّه بأنّ من شرائط الاستصحاب كون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا ذا أثر شرعي ، واستصحاب عدم القرينة يثبت به استناد التبادر إلى

٢١٤

نفس اللفظ ، ويستفاد منه أنّ التراب الخالص المتبادر من لفظ «الصعيد» يكون معنى حقيقيّا له ، وينتج أنّ الحكم الشرعي ـ أي التيمّم ـ يتعلّق به ، فيكون أصلا مثبتا ، وهو ليس بحجّة ، إلّا أن تكون الواسطة خفيّة ، بحيث لا يراها العرف واسطة ، فلا يكون طريقا في موارد الشكّ بأنّ التبادر مستند إلى الوضع أم لا.

الجهة السابعة ـ في أنّ عدم التبادر علامة للمجاز أم لا : والظاهر من عدم تعرّض صاحب الكفاية لهذه الجهة أنّه ليس علامة له عنده ، ولكنّ الظاهر من المشهور أنّه كما أنّ التبادر يكون علامة للحقيقة كذلك عدمه يكون علامة للمجاز.

واورد عليه بأنّه منقوض بالألفاظ المشتركة ؛ لأنّه إذا قال المتكلّم : «رأيت عينا» ولم ينصب قرينة معيّنة لا يتبادر منه شيء ، مع أنّ هذا الاستعمال كان حقيقيّا.

وقال صاحب الفصول وصاحب القوانين وبعض آخر ـ للتفصّي عن هذا الإشكال ـ : إنّ تبادر الغير علامة للمجاز ، بأن يكون المحتمل عندنا أنّ المعنى الحقيقي لكلمة «صعيد» مطلق وجه الأرض ، ولكن تبادر منه التراب الخالص ، وهذه قرينة على كون المعنى المحتمل معنى مجازيّا له.

واورد عليهم بأنّ هذا المعنى منقوض بقول القائل : «رأيت عينا» إذا استعملها في المعنى المجازي سوى المعاني الحقيقيّة ، فإنّه لم يكن هاهنا تبادر الغير أصلا.

واجيب بأنّ التبادر إذا كان علامة للحقيقة فليس معناه كلّما تحقّقت الحقيقة يتحقّق التبادر أيضا ، بل معناه كلّما يتحقّق التبادر تحقّقت الحقيقة ، وكذلك في

٢١٥

ما نحن فيه أنّه كلّما كان تبادر الغير متحقّقا تتحقّق المجازيّة ، لا أنّ كلّما كانت المجازيّة متحقّقة فيتحقّق تبادر الغير ، فيندفع هذا الإشكال ، فكما أنّ التبادر علامة للحقيقة كذلك تبادر الغير علامة لكون هذا اللفظ مجازا في هذا المعنى.

ومنها ـ عدم صحّة سلب اللّفظ عن المعنى :

وهو المعبّر عنه بصحّة الحمل أيضا ، قيل : بكونه علامة للحقيقة ، كما أنّ صحّة سلبه عنه بقول مطلق المعبّر عنه بعدم صحّة الحمل يكون من علائم المجاز.

وقال المحقّق الخراساني (١) : إنّ عدم صحّة السلب عنه وصحّة الحمل عليه بالحمل الأوّلي الذاتي الذي كان ملاكه الاتّحاد مفهوما علامة لكونه نفس المعنى ، وبالحمل الشائع الصناعي الذي ملاكه الاتّحاد وجودا بنحو من أنحاء الاتّحاد علامة لكونه من مصاديقه وأفراده الحقيقيّة ، كما أنّ صحّة سلبه علامة أنّه ليس منها ... الخ.

نكتة :

تقسيم القضايا الحمليّة إلى الحمل الأوّلي الذاتي والشائع الصناعي منحصر في القضايا الموجبة ، أو يجري في القضايا السالبة أيضا؟ بأن تكون القضيّة السالبة على نوعين : أحدهما : ينفي الاتّحاد في الماهيّة ، مثل : الإنسان ليس ببقر ، وثانيهما : ينفي الاتّحاد في الوجود ، مثل : زيد ليس ببقر ؛ إذ «زيد» ليس من مصاديق تلك الماهيّة.

ولكنّ التحقيق : أنّ في ناحية الإيجاب خصوصيّة تقتضي التنوّع فيها ، وهي خصوصيّة التحقّق والإثبات التي تقتضي السؤال عن كيفيّتها ، فإنّه إذا قلنا :

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٨.

٢١٦

«الإنسان في المدرسة» يمكن السؤال بأنّه عالم أم لا ، وكذلك إذا قلنا : بالاتّحاد بين الموضوع والمحمول يمكن السؤال عن نحو الاتّحاد الوجودي والماهوي ، بخلاف ناحية السلب فإنّه إذا قلنا : «الإنسان ليس في المدرسة» لا معنى للسؤال بأنّه عالم أو غير عالم ، وكذلك إذا قلنا : بسلب الهوهويّة بينهما لا محلّ للسؤال عن نوع الاتّحاد الغير المحقّقة ، ولذا لم يكن التنوّع فيها ، فإنّ ملاك السلب عدم الاتّحاد ، ولا يتحقّق ذلك إلّا بعد عدمه مفهوما ووجودا ، فللحمل قسمان وللسلب قسم واحد.

ولكنّ الظاهر من كلام صاحب الكفاية أنّه كما أنّ صحّة حمل اللفظ على المعنى بالحمل الأوّلي علامة على كونه عين الموضوع له ، وبالحمل الشائع علامة على كونه من أفراده ، وكذلك في طرف السلب فصحّة سلب اللفظ عنه بالسلب الأوّلي علامة على عدم كونه عين الموضوع له ، وبالسلب الشائع علامة على عدم كونه من أفراد الموضوع له ، ولذا يصدق «زيد إنسان» بالحمل الشائع ، وليس بإنسان بالسلب الأوّلي.

وقال عدّة من المنطقيّين للتفصّي من هذا التناقض : إنّ الوحدات الثمانية لا تكفي لحصول التناقض ما لم يضف إليها وحدة الحمل ، فيشترط في تحقّق التناقض وراء الوحدات الثمانية وحدة الحمل والسلب بمعنى كونهما معا أوّليّين أو صناعيّين.

وأمّا جوابه ـ كما قال به استاذنا المرحوم السيّد البروجردي ـ فإنّ تقسيم الحمل إلى قسمين صحيح ، ولكنّ السلب على قسمين ، فإنّ الملاك لصحّة الحمل هو الاتّحاد ، فإن كان الاتّحاد بحسب المفهوم كان الحمل أوّليّا ذاتيّا ، وإن كان بحسب الوجود الخارجي كان شائعا صناعيّا. وأمّا السلب فملاكه عدم

٢١٧

الاتّحاد ، وعدم الطبيعة بعدم جميع أفرادها ، فما دام يوجد نحو من الاتّحاد بين الموضوع والمحمول لا يصحّ سلبه عنه ، وصدق السلب في المثال بعد تحقّق نحو الاتّحاد بين الموضوع والمحمول ممنوع جدّا. فتكون قضيّة «زيد ليس بإنسان» كاذبة محضة ، ولو لم يكن في مقابل قضيّة «زيد إنسان» فللحمل قسمان وللسلب قسم واحد.

وقد اورد على التبادر باستلزامه الدور المحال.

وجوابه هو الجواب هناك ، من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتفصيل ، أو الإضافة إلى المستعلم والعالم.

ولا يخفى أنّ هاهنا إشكالا غير قابل للذبّ ، سواء كان الحمل أوّليّا ذاتيّا أو شائعا صناعيّا ، أمّا إذا كان الحمل أوّليّا ـ بأنّ صحّة حمل اللفظ على المعنى كان علامة على أنّ المعنى هو المعنى الحقيقي ـ فنقول : إنّ المحمول في هذه القضيّة هو اللفظ أو المعنى أو كلاهما ، وجميعها يوجب الإشكال ، ولو شكّ ـ مثلا ـ أنّ المعنى الحقيقي لكلمة «الصعيد» هو مطلق وجه الأرض أم لا ، فيقال في مقام تشكيل القضيّة الحمليّة بالحمل الأوّلي الذاتي : مطلق وجه الأرض صعيد ، فإن كان المحمول فيها لفظ «صعيد» فهو باطل ، فإنّ اللفظ والمعنى تكون بينهما مغايرة مقوليّة ، ولا يتحقّق بينهما نحو من الاتّحاد ، فكيف تتحقّق القضيّة الحمليّة؟! وهكذا في سائر القضايا ، فإذا كان معنى مطلق وجه الأرض موضوعا فلا معنى لحمل لفظ «الصعيد» عليه.

ومن هنا يستفاد بطلان كون اللفظ والمعنى معا محمولا ؛ إذ لو لم يكن جزء المحمول قابلا للاتّحاد مع الموضوع فالمجموع أيضا لم يكن قابلا له ، فيتعيّن كون المعنى محمولا على الموضوع ، وحينئذ لا بدّ من كون المحمول معلوما عند

٢١٨

المتكلّم ، ولا معنى لجهله به ، فإنّه يدّعى الاتّحاد بين الموضوع والمحمول ، فإذا كان المعنى معلوما بالتفصيل عنده فلا احتياج إلى تشكيل قضيّة حمليّة حتّى تكون صحّة الحمل علامة للحقيقة.

وأمّا إذا كان المعنى معلوما بالإجمال فحينئذ قد يكون المعنى مغفولا عنه ، وقد يكون موردا للالتفات ، فالأوّل يرجع إلى الجهل ، والثاني إلى العلم التفصيلي ؛ إذ معناه هو الالتفات والتوجّه كما مرّ ، فلا فائدة في تشكيل القضيّة أصلا.

وكذلك في الحمل الشائع فإنّه بعد العلم بأنّ التراب الخالص هو المعنى الحقيقي لكلمة «الصعيد» أو داخل في معناه ، فلو شكّ في مصداقيّة الحجر له فيقال في مقام تشكيل القضيّة : الحجر صعيد ، فالإشكال عينا جار هاهنا ، بأنّ اللفظ أو اللفظ والمعنى ليس محمولا بلا كلام ، فيتعيّن كون المعنى المعلوم محمولا ، وإذا كان الأمر كذلك فيسأل : أنّ المعنى المعلوم عند المتكلّم هل يشمل الحجر أم لا؟ فلو قلت بشموله له فلا فائدة لتشكيل القضيّة ، ولو قلت بعدم شموله أو بعدم العلم بشموله فلا يصحّ هذا الحمل ، وصحّة القضيّة الحمليّة بالحمل الشائع متوقّفة على علم المتكلّم بأنّ للصعيد معنى عامّا شاملا للحجر ، وحينئذ فلا احتياج إلى تشكيل القضيّة الحمليّة بالحمل الشائع حتّى تكون علامة للحقيقة.

والظاهر أنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) التفت إلى هذا الإشكال ، ولذا عبّر للتفصّي عنه بأنّ عدم صحّة سلب اللفظ بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن إجمالا عن معنى تكون علامة كونه حقيقة فيه.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٨.

٢١٩

ولكن بهذا التعبير أيضا لا يندفع الإشكال ؛ إذ لو كان مراده كون اللفظ والمعنى معا محمولا فقد مرّ آنفا أنّه غير متصوّر ، ولو كان مراده كون المعنى محمولا فمع أنّه مخدوش ـ كما ذكر ـ مخالف لصريح كلامه.

ويحتمل أن يكون مراده أنّ اللفظ بما هو مندكّ وفان في المعنى وصورة له ، فاللفظ بهذه الصورة يكون محمولا على الموضوع ، ولكنّه أيضا لعب بالكلمات ، ولا يوجب تعيين المحمول في القضيّة بدون إشكال ؛ إذ لا بدّ من كون اللفظ أو المعنى أو كليهما محمولا فيها ، وكلّ ذلك مردود كما لا يخفى ، فالإشكال في محلّه.

والحاصل : أنّ ما ذكر في التبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه لا يجري هاهنا ، ولا يدفع الإشكال. وأمّا ما ذكر فيه من التغاير بالإضافة إلى المستعلم والعالم فهو جار في ما نحن فيه أيضا ؛ لأنّ صحّة الحمل عند العالم علامة الحقيقة للمستعلم ، وكذلك في جانب عدمه.

واستشكل في علاميّة صحّة الحمل المحقّق العراقي قدس‌سره (١) بأنّ مجرّد صحّة الحمل لا يكون من علائم الحقيقة ، فإنّنا نرى صحّة الحمل في موارد مع أنّه لا شبهة في كونه مجازا ، حيث لا يصحّ استعمال اللفظ الموضوع لأحد المفهومين في المفهوم الآخر على الحقيقة كقولك : «الإنسان حيوان ناطق» ، حيث إنّهما مع كونهما متّحدين ذاتا ووجودا لا يصحّ استعمال أحدهما في الآخر ؛ نظرا إلى ما بين المفهومين من التغاير ، وكونه في أحدهما بسيطا وفي الآخر مركّبا ؛ لأنّ المدار في الحقيقة وصحّة الاستعمال إنّما هو على وحدة المفهوم منها كما في الإنسان والبشر ، وصحّة الحمل ـ ولو بالحمل الذاتي فضلا عن الشائع الصناعي الذي مداره الاتّحاد في الوجود ـ لا يقتضي وحدة المفهوم الموجبة

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ٦٧ ـ ٦٨.

٢٢٠