دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

إلى كلمة العرض ، إلّا أنّه توجد في كلام أهل المنطق قرينة لدفع هذا الإشكال ، حيث قالوا : «موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة» ، ولا نرتاب في التفاتهم إلى العلوم ، مثل الفقه ، وأنّ كلّ مسائله امور اعتباريّة ، مع هذا لم يقولوا : «موضوع علم المنطق ...» ، بل قالوا : «موضوع كلّ علم ...» ، وهذا قرينة على أنّ المراد من العرض هاهنا ليس العرض في مقابل الذات والذاتيّات ، ولا العرض في مقابل الجوهر ، بل المراد منه المحمول الذي يحمل على الشيء ، والوصف الذي يتّصف به الشيء ، سواء كان له واقعيّة أم لا ، مثل : «هذا الإنسان حرّ أو عبد».

والمراد من الذاتي ليس ما فسّره المشهور ، بل المراد منه ما فسّره المحقّق الخراساني قدس‌سره والمرحوم السبزواري ، أي بلا واسطة في العروض.

وأمّا ما أورده سيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ بنقضه بعلم الجغرافيا فقابل للدفع ، بأنّ عنوان الموضوع فيه مع عنوان موضوعات مسائله عنوان الكلّي والجزئي ، لا عنوان الكلّ والجزء ، فإنّ لازمه عدم ترتّب الأثر والغرض المقصود منه إذا لم يعرف خصوصيّات جغرافيا جميع أنحاء الأرض ؛ لأنّ الغرض المترتّب على المركّب لا يتحقّق إلّا بتحقّق المركّب بأجمعه ـ كالصلاة التي لو نقص حرف منها عمدا لا يترتّب عليها الغرض المقصود منها ـ مع أنّه من البديهي يترتّب غرض الجغرافيا على كلّ مقدار يعلم منه ـ مثل علم النحو الذي يحصل الغرض بالنسبة إلى كلّ مسألة منه ـ وإلّا فليس في العالم من يعلم خصوصيّات جغرافيا جميع أنحاء الأرض. ومن هنا نستكشف أنّ النسبة بينهما نسبة الكلّي إلى الجزئي.

وعلى هذا المبنى تدفع جميع الإشكالات المذكورة ، ويبقى في المسألة إشكال

٤١

واحد ، وهو : أنّ الصلاة لم تكن قابلة لوقوعها معروضا للوجوب بوجه من الوجوه ، فإنّه خارج من عنوان العرض وإن كان العرض بمعنى المحمول ، كما مرّ آنفا.

والتحقيق : أنّ المعروض للوجوب ماهيّة الصلاة ، أي : الصلاة مع قطع النظر عن الوجودين.

إن قلت : إنّ ماهيّة الصلاة لا تكون مطلوبة للمولى ، ولا تترتّب عليها الآثار كالمعراجيّة ونحوها.

قلنا : إنّا لا نقول في الفقه بأنّ ماهيّة الصلاة مطلوبة ، بل نقول بأنّ ماهيّة الصلاة واجبة ، والفرق بينهما أوضح من الأمس ، فإنّه يوجد في معنى الوجوب عنوان الوجود وهو البعث إلى إيجاد الشيء ، بخلاف معنى المطلوب ، فمعنى «الصلاة واجبة» ، أي الصلاة مطلوبة وجودها ، وسيأتي تفصيله في معنى الوجوب وتعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع إن شاء الله تعالى.

٤٢

المطلب الرابع

في النسبة بين موضوع العلم وموضوعات مسائله

قال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) تبعا للمشهور : «إنّ النسبة بينهما نسبة الكلّي إلى مصاديقه والطبيعي إلى أفراده».

ودليلهم : أنّ العمدة في احتياج العلوم إلى الموضوع هو وحدة الغرض ، فإنّهم قالوا : يكشف من وحدة الغرض في كلّ علم أن يكون بين مسائله قدر جامع وجهة مشتركة ، وهو عبارة عن القدر الجامع بين الموضوعات ونسمّيه ب «موضوع العلم» ، وعلى هذا لا بدّ لهم من قولهم هذا في النسبة بين موضوع العلم وموضوعات مسائله.

ولكن يرد عليهم : أنّ النسبة بين موضوع العلم وموضوعات مسائله قد تكون نسبة الكلّ إلى الجزء ، كما قال به الإمام ـ دام ظلّه ـ (٢) في علم الجغرافيا ، وقد تكون نسبة التساوي مثل علم العرفان ، وقد تكون نسبة العموم والخصوص من وجه مثل الأدلّة الأربعة وصيغة الأمر على الوجوب في علم الاصول ؛ لأنّ المراد من الأمر في هذا البحث مطلق الأمر ولا ينحصر بأوامر

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢.

(٢) هذا ما استفاده الاستاذ من درس الامام قدس‌سره.

٤٣

الكتاب والسنّة.

وأمّا على المبنى الذي اخترناه في مسألة وحدة الموضوع ـ أي اقتضاء السنخيّة الجوهريّة والذاتيّة هي جهة الاشتراك بين المسائل ، لا بصورة القدر الجامع ، بل وإن سلّمنا نظر الإمام في علم الجغرافيا ـ لا يرد الإشكال ، فإنّ بين مسائل علم الجغرافيا نوع من السنخيّة ، ولا يكون من لوازمها وجود القدر الجامع والكلّيّة ، بل لازمها الاشتراك ولو كان بصورة الكلّ والأجزاء ، مثل اشتراك القراءة والركوع في أنّهما جزءان للصلاة.

وبالجملة ، تختلف النسبة بحسب الموارد فقد تكون بصورة الكلّي إلى مصاديقه كما هو الغالب ، وقد تكون بصورة الكلّ إلى الجزء ، وقد تكون بصورة التساوي.

٤٤

المطلب الخامس

في مسألة التمايز بين العلوم

إنّا نعلم بالبداهة أنّ العلوم تكون متعدّدة ومتغايرة ، وأمّا ملاك المغايرة والتمايز فمختلف فيه وهو معركة الآراء ، والمشهور أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وفي كلامهم احتمالان :

الأوّل : أن يكون مقصودهم جميع العلوم ، وأنّ القدر الجامع الذي يعبّر عنه بالموضوع يوجب التمايز بين العلوم ، كالكلمة والكلام في النحو ، وفعل المكلّف في الفقه أيضا يوجب التمايز بينهما ، وهذا الاحتمال ظاهر من كلامهم.

الثاني : ما يستفاد من كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ وهو أن يكون المراد من قولهم : تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ـ أنّ تمايز العلوم بتمايز موضوعات المسائل ، أي تلاحظ موضوعات مسائل كلّ علم مع علم آخر.

ونحن نبحث بعون الله تعالى عن الاحتمالين فنقول : إن كان مرادهم الاحتمال الأوّل فيرد عليه إشكالان : أحدهما قابل للدفع ، وثانيهما غير قابل للدفع ، وأمّا ما هو قابل للدفع فإنّه لو كان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات فعلم النحو والصرف والمعاني والبيان مع أنّها علوم متعدّدة كيف يكون موضوعها الكلمة والكلام؟! لأنّه على هذا التقدير لا يكون موضوعها شيئا واحدا ؛ إذ الكلمة

٤٥

والكلام شيئان.

وجوابه أوّلا : أنّ الموضوع فيها القدر الجامع بين الكلمة والكلام ، وهو اللفظ العربي الذي له معنى ، وقد يتحقّق هذا في ضمن الكلمة ، وقد يتحقّق في ضمن الكلام.

وثانيا : أنّ موضوع علم النحو هو الكلمة والكلام من حيث الإعراب والبناء ، وموضوع علم الصرف هو الكلمة والكلام من حيث الصحّة والاعتلال ، وموضوع علم المعاني والبيان هو الكلمة والكلام من حيث الفصاحة والبلاغة ، وهذه الحيثيّات توجب التمايز بين هذه العلوم ، كما هو واضح.

نكتة :

قال المحقّق الأصفهاني قدس‌سره في حاشيته على الكفاية (١) : إنّه ليس الغرض أن تكون الحيثيّات المزبورة حيثيّة تقييديّة لموضوع العلم ، أي ليس موضوع علم النحو الكلمة والكلام من جهة كونهما معربين بالفعل ؛ إذ مبدأ محمول المسألة لا يعقل أن تكون حيثيّة تقييديّة لموضوعها ولموضوع العلم ، وإلّا لزم عروض الشيء لنفسه ، بل الغرض منها كما عن جملة من المحقّقين من أهل المعقول هي حيثيّة استعداد ذات الموضوع لورود المحمول عليه ، أي موضوع علم النحو الكلمة والكلام من حيث كونهما قابلين لورود الإعراب عليهما ، مثلا : موضوع علم النحو هو الكلمة من حيث الفاعليّة المصحّحة لورود الرفع عليها ، أي الفاعل القابل لورود الإعراب عليه يكون مرفوعا ، ولذا أنكر بعض العلماء ـ بدون الالتفات إلى هذا المعنى ـ أصل موضوعيّة الكلمة والكلام ، فقال :

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٣٠.

٤٦

موضوع علم النحو المعرب والمبني.

وأمّا الإشكال الغير القابل للدفع فإنّهم يقولون : بأنّ وحدة الموضوع تكشف عن وحدة الغرض ، فإنّ الغرض في كلّ علم واحد ، والواحد لا يصدر إلّا من الواحد ، ومعلوم أنّ المسائل كانت متعدّدة ، فلا بدّ من قدر جامع بينها ، وهو الذي نسمّيه ب «الموضوع» وهو المؤثّر في الغرض.

وقد سبق جوابه منّا مفصّلا ، ونضيف هاهنا : أنّه بناء على هذا المبنى الذي يوجب التوصّل إلى وحدة الموضوع عبارة عن وحدة الغرض ، فهو الأصل والأساس عندهم ، وعليه يكون تمايز العلوم بالأغراض لا بالموضوعات.

لو قيل : إنّ للغرض عنوان المعلول ، وللموضوع عنوان المؤثّر والعلّة ، ومعلوم أنّ انتساب التمايز إلى العلّة مقدّم على انتسابه إلى المعلول. وبعبارة اخرى : البرهان الذي أقامه المشهور برهان إنّي ، أي إيصال من المعلوم إلى العلّة ، فالتمايز يكون بالعلّة.

قلنا : إنّ برهان الإنّ واللمّ كلاهما يوصل إلى المطلوب والنتيجة ، ولكن ما هو أظهر وأجلى في مسألة وحدة الموضوع ووحدة الغرض هو الغرض وإن كان معلولا ، فلا بدّ من أن يكون تمايز العلوم بتمايز الأغراض.

وأمّا الاحتمال الثاني في كلام المشهور والذي يستفاد من كلام المحقّق الخراساني (١) في الكفاية عند قوله : «قد انقدح بما ذكرنا أنّ تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الدّاعية إلى التدوين ، لا الموضوعات ولا المحمولات ، وإلّا كان كلّ باب ـ بل كلّ مسألة من كلّ علم ـ علما على حدة» ففيه : أنّ في الكلام قرائن على أنّ تمايز العلوم بتمايز موضوعات المسائل :

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٥.

٤٧

إحداها : أنّه ذكر بعد كلمة الموضوعات كلمة المحمولات ، ولا شكّ في أنّ المحمولات عبارة عن محمولات المسائل ، فلا بدّ من كون الموضوعات التي قارن بها عبارة عن موضوعات المسائل ، ولا يعقل التفكيك بينهما ، بأن تكون الموضوعات عبارة عن موضوع العلم ، والمحمولات عبارة عن محمولات المسائل ، فهذه قرينة على أنّ المراد من الموضوعات عنده موضوعات المسائل.

الثانية : أنّه قدس‌سره استشكل على المشهور بأنّه لو كان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات يلزم أن يكون كلّ باب ـ بل كلّ مسألة من كلّ علم ـ علما على حدة ، وهذا الإشكال يتوجّه إلى المشهور على الاحتمال الثاني فقط ؛ إذ لو كان مرادهم التمايز بموضوع العلم والقدر الجامع لا يلزم منه أن تكون كلّ مسألة علما مستقلّا كما هو الظاهر ، وأمّا إن كان مرادهم التمايز بموضوعات المسائل ـ ولا شكّ في أنّ المسائل تكون متباينة ومتغايرة ـ فيلزم أن تكون كلّ مسألة علما مستقلّا.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال يتوجّه إلى احتمال كون تمايز العلوم بتمايز المحمولات أيضا ، فإنّ المحمولات متعدّدة ومتكثّرة ولا يكون لها قدر جامع أو لا يتصوّر لها قدر جامع ، فههنا يكون محلّا للإشكال بأنّه لا يكون للمرفوعيّة والمنصوبيّة والمجروريّة ـ مثلا ـ وجه مشترك ، فيلزم أن تكون كلّها علما مستقلّا ، ولكنّه مع غضّ النظر عن السنخيّة التي نقول بها. والحاصل : أنّ كلام المشهور ليس بصحيح.

والرأي الآخر في المسألة ما يستفاد من ظاهر كلام صاحب الكفاية قدس‌سره فإنّه بالرغم من موافقته المشهور في أصل الاحتياج إلى الموضوع ووحدته لكنّه خالفهم في هذه المسألة ، وقال : «قد انقدح بما ذكرنا أنّ تمايز العلوم إنّما هو

٤٨

باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين».

والتزم بهذا المعنى قبله المرحوم مير سيّد شريف الجرجاني (١) وتبعه عدّة من العلماء ، منهم المحقّق الخراساني قدس‌سره ، ولا يذهب عليك أنّه يستفاد من صدر كلامه وذيله مطالب ونكات ، وهي كالآتي :

الأوّل : أنّ كلام المشهور عنده محلّ إشكال ، فإنّ لازم كلامهم كون كلّ مسألة علما على حدة كما بيّنا آنفا.

الثاني : أنّ نفس العلم عنده عبارة عن جملة من قضايا متشتّة يجمعها الاشتراك في الدخل في الغرض الذي لأجله دوّن هذا العلم ، فمسائل علم النحو ـ مثلا ـ متعدّدة ومتكثّرة ، ولكن يكون لها قدر مشترك ، وهو مدخليّة الجميع في صون اللسان عن الخطأ في المقال.

ومعلوم أنّه إذا كان مقصوده بيان معنى العلم فهذه مقدّمة لرأيه بأنّ تمايز العلوم تكون بتمايز الأغراض ؛ لأنّه إذا كان الجامع بين المسائل المدخليّة في الغرض فالجامع المشترك بينها هو الغرض الواحد ، وإذا كان الأمر كذلك فلا محالة يكون تمايز العلوم بتمايز الأغراض.

والحاصل : أنّ الملاك في اتّصاف مسألة بأنّها من مسائل علم النحو ـ مثلا ـ مدخليّتها في تحقّق الغرض ، فإن كان لها دخل في تحقّق الغرض فهي من مسائل علم النحو ، وإن لم يكن لها دخل فيه فلا تكون من مسائله.

الثالث : أنّ مقصوده من الغرض الواحد هو غرض التدوين الذي يوجب تحقّق المركّب الاعتباري ، لا غرض التعلّم والمتعلّم.

الرابع : أنّ العلم يتحقّق بالتدوين ، وإلّا لم يكن قبله إلّا مجموعة مسائل

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٥.

٤٩

ولا تسمّى بالعلم ، فإذا دوّنت مسائل علم النحو نقول : هذا علم النحو.

وفيه : أوّلا : أنّ الغرض من علم النحو ـ مثلا ـ عبارة من صون اللسان عن الخطأ في المقال ، ولا شكّ في أنّ هذا متأخّر عن العلم بمراحل ، فإنّ اللازم أوّلا : وجود نفس المسائل ، وثانيا : التعلّم والاطّلاع عليها ، وثالثا : التقيّد بمراعاة القواعد والمسائل حين التكلّم ، فإن لم تكن مرحلة من هذه المراحل لم يحصل الغرض ، مع أنّ اللازم وجود التمايز في مرحلة نفس العلم إن لم يكن قبله ، فكيف يكون التمايز بالأغراض مع تأخّرها عن العلوم بمراحل؟

وجوابه : أنّه اختلطت عليك العلّة الغائيّة في مقام الخارج مع العلّة الغائيّة في مقام الذهن ؛ إذ لا شكّ في أنّ كلّ عمل خارجي يتأخّر وقوع غرضه ، وأمّا الوجود الذهني للعلّة الغائيّة فهو موجود قبل العمل.

وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره : «إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين» (١). ومعلوم أنّ نفس هذا التعبير هو جواب عن هذا الإشكال.

وثانيا : أنّ العلوم من حيث الأغراض مختلفة ؛ إذ يترتّب على أكثرها أغراض خارجيّة ، مثل : علم الفقه والاصول والنحو والصرف ونحوها ، وأمّا بعضها فلا يترتّب عليه غرض خارجي سوى العرفان والإحاطة به ، مثل : علم الفلسفة والتأريخ والجغرافيا ؛ إذ لا يترتّب عليها إلّا الإيصال إلى الحقائق والواقعيّات ، فإن كانت العلوم من سنخ الأوّل سلّمنا أنّ تمايزها بتمايز الأغراض ، وإن كانت من سنخ الثاني لم يكن الأمر كذلك ؛ لعدم غرض خارجي لها ما عدا العرفان والإحاطة به.

وجوابه : أنّه إذا كان تمايز العلوم بتمايز الأغراض فلا فرق بين كونها علميّة

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٥.

٥٠

أو عمليّة ؛ إذ يترتّب على كلّ علم غرض واقعيّ ، إلّا أنّ واقعيّة كلّ شيء بحسبه ، فكما أنّ للوجود الذهني واقعيّة كذلك للعلم والعرفان واقعيّة.

ولا يخفى أنّ صحّة تمايز العلوم بالأغراض يتوقّف على مقدّمتين : الاولى : أن يترتّب على كلّ علم غرض واحد. الثانية : ألّا يكون التمايز قبل الغرض بشيء آخر ، فإن تمّت هاتان المقدّمتان صحّ التمايز بالأغراض ، وإلّا فلا.

والرأي الآخر في المسألة : ما يستفاد من كلام الإمام ـ دام ظلّه ـ (١) وحاصل كلامه : كما أنّ منشأ وحدة العلوم إنّما هو بتسانخ القضايا المتشتّة التي يناسب بعضها بعضا ، فهذه السنخيّة والتناسب موجودة في جوهر تلك القضايا وحقيقتها ، ولا يحتاج إلى التعليل ، فهكذا تمايز العلوم واختلاف بعضها عن بعض يكون بذاتها ، فقضايا كلّ علم مختلفة ومتميّزة بذواتها عن قضايا بقية العلوم ، وبعد الإيراد على مبنى المشهور وصاحب الكفاية قال : أنت ترى التناسب الواقع بين مرفوعيّة الفاعل ومنصوبيّة المفعول ، ولا يكون هذا التناسب بين أحد منهما وبين المسائل الرياضيّة أو العقليّة ، وهكذا مباحث سائر العلوم التي في أيدينا ، فتكون جهة التوحّد والتمايز تسانخ القضايا وتمايزها بالطبع ، والسنخيّة ذاتيّة ، والذاتي لا يعلّل. وتداخل العلوم في بعض المسائل لا يوجب أن يكون التميّز بالأغراض ؛ إذ السنخيّة موجودة مع قطع النظر عن الغرض ، ولا يبعد أن تكون المسألة الاصوليّة مسألة لغويّة أيضا ، مثل : مسألة دلالة الأمر على الوجوب ، فإنّ سنخيّة مسألة مع مسائل علم لا ينفي سنخيّته مع مسائل علم آخر ، مع أنّه قليلا ما يتّفق التداخل في علمين ، ولا يكون ذلك بين جميع مسائل العلمين.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٩ ـ ١٠.

٥١

واستشكل عليه : بأنّ المسائل عبارة عن موضوعات ومحمولات وأغراض مترتّبة عليها ، وهذه السنخيّة إن كانت بين الموضوعات فلا بدّ من قول المشهور بكون التمايز بالموضوعات ، وإن كانت بين المحمولات فلا بدّ من القول بكون التمايز بالمحمولات أو بالجامع بين المحمولات ، وإن كان وجه السنخيّة اشتراك المسائل في الغرض فلا بدّ من كون التمايز بالأغراض ، ولا يتصوّر قسم رابع غير هذه الأقسام في المسألة.

ويمكن الجواب عنه : أوّلا : بأنّه كما قلنا سابقا إنّ الغرض يترتّب على المسألة ، وهي متقوّمة بالموضوع والمحمول والنسبة ، ولا يترتّب على أحد منها لوحده ، وهكذا السنخيّة لا تكون بين الموضوعات لوحدها ولا المحمولات لوحدها ، بل تكون بين المسائل ، والمسألة متقوّمة بثلاثة أشياء.

وثانيا : أنّه إذا فرض أنّ ملاك السنخيّة عبارة عن الموضوع أو المحمول أو الغرض فلا إشكال في البين ؛ لأنّا نكشف الغرض عن طريق التسانخ بين القضايا ، فالأظهر والأجلى هي السنخيّة ، وحينئذ لا مانع من كون تمايز العلوم بالتسانخ الذاتي ، وإن كانت علّة التسانخ عبارة عن الموضوع أو شيء آخر ، فالتسانخ هو الموجب للامتياز بين العلوم.

ومن هنا يعلم جواب الإشكال الوارد على صاحب الكفاية ، حيث إنّه قدس‌سره ذكر أنّ الغرض متأخّر عن العلم ، والتمايز في مرتبة العلم ؛ فإنّ مراده منه الغرض الداعي إلى التدوين ، وأنّ الوجود الذهني للعلّة الغائيّة موجود قبل التدوين ، ومع ذلك قد يكون تمايز العلوم بالتسانخ ، فإنّ المقدّمة الثانية لصحّة التمايز بالأغراض ليست بتامّة.

والرأي الآخر في المسألة عبارة عن رأي المرحوم البروجردي قدس‌سره وله هاهنا

٥٢

دعويان :

إحداهما : أنّ تمايز العلوم بتمايز جامع محمولات المسائل. وهذا مباين لما نفاه صاحب الكفاية قدس‌سره فإنّ مقصوده نفس المحمولات لا الجامع بين المحمولات ، ويشهد لذلك ما أورده عليه وعلى المشهور من لزوم صيرورة مسألة واحدة علما مستقلّا ؛ إذ لو كان مراده الجامع بين المحمولات لا يرد عليه هذا الإيراد ، فإنّ الجامع شيء واحد.

الثانية : أنّ الظاهر من كلمات المشهور وإن كان التمايز بالموضوعات ولكنّ مرادهم من ذلك في الواقع الجامع بين المحمولات. وذكر لإثبات هذين الادّعاءين مقدّمات خمسة :

الاولى : أنّه لا يخفى أنّا إذا راجعنا كلّ واحد من العلوم المدوّنة وقصرنا النظر على نفس مسائله من غير التفات إلى ما يكون خارجا من ذات المسائل من المدوّن والأغراض ونحوهما علمنا علما وجدانيّا باشتراك جميع تلك المسائل المتشتّة في جهة وحيثيّة لا توجد هذه الجهة في مسائل سائر العلوم ، وتكون هذه الجهة جامعة بين تلك المسائل ، وبسببها يحصل التمييز بين مسائل هذا العلم وبين مسائل سائر العلوم ، وكذلك وجدنا في كلّ مسألة من مسائل هذا العلم جهة وخصوصيّة تميّز هذه المسألة عن غيرها من مسائل هذا العلم.

مثلا : إذا راجعنا مسائل علم النحو وقطعنا النظر عن مدوّنه والأغراض الباعثة إلى تدوينه رأينا أنّ جهة البحث في جميعها كيفيّة آخر الكلمة من المرفوعيّة والمنصوبيّة والمجروريّة ، فهي خصوصيّة ذاتيّة ثابتة في جميع مسائله ، مع قطع النظر عن المدوّن والأغراض ونحوهما ، وهي الجهة الجامعة بين هذه المسائل المتشتّة ، وبسببها تمتاز هذه المسائل عن مسائل سائر العلوم ، ومع ذلك رأينا أنّ في نفس كلّ مسألة منها خصوصيّة ذاتيّة بها تمتاز عن غيرها

٥٣

من سائر مسائله ، وحيث لم تكن هاتان الجهتان خارجتين عن ذوات المسائل بحكم الوجدان فلا محالة ليستا خارجتين عن الموضوع والمحمول ؛ إذ النسبة معنى آلي توجد في جميع القضايا بنحو واحد ، ولا تختلف باختلاف المسائل.

المقدّمة الثانية : أنّك إذا تتبّعت العلوم المدوّنة ، ودقّقت النظر في مسائل كلّ واحد منها رأيت أنّ في بعض العلوم الموجودة يكون المحمول في جميع مسائله أمرا واحدا ، كالعلم الإلهي بالمعنى الأعمّ ، فإنّ المحمول في جميع مسائله مفهوم واحد ، وهو قولنا : «موجود». فيقال : الله موجود ، العقل موجود ، الجسم موجود ، الجوهر موجود ، الكمّ موجود ، وهكذا ، وأنّ بعضها ممّا يختلف المحمول في مسائله ، ولكنّه يوجد بين محمولاته المختلفة جهة جامعة ، بل ربما يكون المحمول في مسائل فصل منه أمرا واحدا كعلم النحو ، فإنّ المرفوعية ـ مثلا ـ تارة تحمل على الفاعل واخرى على المبتدأ ، ويتحصّل بذلك مسألتان ، ومع ذلك فالمرفوعيّة وإن كانت تغاير المنصوبيّة ولكن بينهما جهة جامعة ذاتيّة ، حيث إنّ كلّا منهما من تعيّنات الإعراب الحاصل لآخر الكلمة.

وبالجملة ، فإنّ المحمول لا يختلف دائما في جميع مسائل العلم ، وأمّا موضوعات المسائل فهي ممّا تختلف دائما في جميع المسائل من أيّ علم كانت ، وكما عرفت في المقدّمة الاولى : من أنّ في كلّ مسألة من مسائل العلم توجد جهتان : جهة ذاتيّة جامعة بين جميع مسائل هذا العلم وبها تمتاز عن مسائل سائر العلوم ، وجهة ذاتيّة بها تمتاز هذه المسألة عن غيرها من مسائل هذا العلم.

وعرفت أيضا أنّ الجهتين ليستا خارجتين عن الموضوع والمحمول ، فلا محالة تنحصر الجهة الاولى في المحمول والجهة الثانية في موضوع المسائل ؛ لأنّه يختلف في جميع المسائل بخلاف المحمول.

٥٤

وبعبارة اخرى : تمايز مسائل العلم بتمايز موضوعاتها ، وتمايز العلوم بتمايز ما هو الجامع لمحمولات مسائلها.

وبهاتين المقدّمتين يثبت الادّعاء الأوّل.

المقدّمة الثالثة : أنّ المراد بالعرض ـ في قولهم : موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ـ هو العرض في الاصطلاح المنطقي لا الفلسفي ، فإنّ العرض الفلسفي عبارة عن ماهيّة شأن وجودها في الخارج الاحتياج إلى الموضوع ، ويقابله الجوهر. والعرض المنطقي عبارة عمّا يكون خارجا عن ذات الشيء متّحدا معه في الخارج ، ويقابله الذاتي.

وبين الاصطلاحين بون بعيد ، فإنّ العرض المنطقي قد يكون جوهرا من الجوهر كالناطق بالنسبة إلى الحيوان وبالعكس ، حيث إنّ كلّا منهما خارج عن ذات الآخر ومحمول عليه ، فيصدق تعريف العرض المنطقي وإن كان كلّا منهما ذاتيّا بالنسبة إلى الإنسان ، فالعرض في الاصطلاح الفلسفي مطلق ، وفي الاصطلاح المنطقي أمر نسبيّ ، فإنّ الفصل ـ مثلا ـ بالنسبة إلى الجنس عرض خاصّ ، وبالنسبة إلى النوع المؤلّف منه ذاتيّ له. وأمّا المقولات التسع العرضيّة فهو في الاصطلاح الفلسفي ، فلا تتغيّر عن وصف العرضيّة باختلاف الاعتبارات والنسب.

المقدّمة الرابعة : لا يخفى أنّ الموضوع والمحمول في مسائل كلّ علم عرض بالنسبة إلى الآخر ، ولا يقصر وصف العرض على المحمول ؛ إذ المراد بالعرض هنا ـ كما عرفت ـ هو العرض في الاصطلاح المنطقي ، وهو عبارة عمّا يكون خارجا عن ذات الشيء ومتّحدا معه في الخارج ، ففي قولنا في العلم الإلهي : «الجسم موجود» كلّ واحد من وصفي الجسم والوجود خارج عن ذات الآخر مفهوما ومتّحد معه خارجا ، فكلّ واحد منهما عرض ذاتيّ بالنسبة إلى الآخر ، بمعنى أنّه لا يكون عين الآخر ولا جزء له ، وكذلك كلّ واحد من

٥٥

وصفي الفاعليّة والمرفوعيّة في قولنا : «الفاعل مرفوع» يكون عرضا منطقيّا بالنسبة إلى الآخر ، وهكذا في جميع مسائل العلوم ، فالموضوعات في مسائل كلّ علم أعراض ذاتيّة لما هو الجامع بين محمولات مسائله ، وليست الموضوعات ذاتيّة له ؛ إذ الذاتي منحصر في النوع والجنس والفصل بالنسبة إلى النوع المؤلّف منهما ، ولا تجد مسألة من مسائل العلوم يكون الموضوع لجامع محمولات المسائل نوعا أو جنسا أو فصلا ؛ إذ كلّ واحد من نوع الشيء وجنسه وفصله البعيد أعمّ منه ، والفصل القريب مساو لما هو فصل له ، مع أنّك ترى أنّ موضوع كلّ مسألة أخصّ من جامع محمولات المسائل.

والحاصل : أنّ الموضوع في كلّ مسألة عرض بالنسبة إلى جامع محمولات المسائل وبالعكس ، غاية الأمر أنّ المتداول في عقد القضيّة جعل الأخصّ موضوعا والأعمّ محمولا.

المقدّمة الخامسة : بالرغم من كون جعل الأخصّ موضوعا والأعمّ محمولا هو الرائج في كتب القوم إلّا أنّ النظم الطبيعي يقتضي جعل المعلوم من الأمرين موضوعا والمجهول منهما محمولا ، فالموضوع بحسب الحقيقة هو المعلوم من الأمرين ، والمحمول هو تعيّنه المجهول الذي اريد في القضيّة إثباته ، سواء كان الأمر المجهول أعمّ بالنسبة إلى الموضوع أو مساويا له ، وعلى هذا الأساس المرفوعيّة هي المعلوم ، والمجهول هو اتّصاف الفاعل بها ، فلا بدّ أن نقول: المرفوع فاعل ، والمرفوع مبتدأ.

بيان الحقّ في المسألة

وبعد هذه المقدّمات يتّضح لك أنّ الحقّ مع القدماء ، حيث قالوا : إنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ؛ إذ المراد بموضوع العلم هو ما يبحث فيه عن

٥٦

عوارضه الذاتيّة ، وليس هو إلّا عبارة عن جامع محمولات المسائل الذي عرفت في المقدّمة الثانية : أنّ تمايز العلوم بتمايزه.

ثمّ يؤيّد ادّعاءه الثاني بقوله : ولذلك تراهم يقولون : إنّ الموضوع في الإلهيّات بالمعنى الأعمّ هو الوجود ، مع أنّ الوجود يصير محمولا في القضايا المعقودة ، ويكون جامعا بين المحمولات لا الموضوعات (١). هذا تمام كلامه.

ويرد عليه إشكالات متعدّدة :

أحدها : في نتيجة المقدّمة الاولى وانحصار المسألة في الموضوع والمحمول ، وأنّ النسبة معنى آلي توجد في جميع القضايا بنحو واحد ، مع أنّا نسلّم أنّ قوام المسألة بالموضوع والمحمول ، ولكنّ الأصل في تحقّق المسألة إيجاد الارتباط بينهما ، والنسبة مجهولة عند المخاطب ، والمتكلّم بصدد إثباتها له ، ومعلوم أنّ المعاني الحرفيّة مقصودة بالتفهيم والإفهام وكلّ المسائل تدور مدارها ، فكيف تكون النسب في جميع القضايا بنحو واحد مع أنّ قضيّة «الله تعالى موجود» وقضيّة «زيد قائم» بينهما بون بعيد؟!

وثانيها : على المقدّمة الثانية بأنّه لا تكون محمولات المسائل في جميع العلوم أمرا واحدا كما في الفلسفة ، بل يكون بالعكس ، مثل : علم العرفان ، فإنّ الموضوع فيه وموضوعات مسائله عبارة عن الله تعالى ، فهل يمكن أن يقال هاهنا : إنّ تمايز كلّ مسألة منه بتمايز موضوعاته؟ وهل يتفاوت الله تعالى في مسألة مع مسألة اخرى؟ تعالى عن ذلك.

ثالثها : على التأييد الذي ذكره أخيرا ، بأنّ المشهور قائل بأنّ الموضوع في علم النحو هو الكلمة والكلام ، مع أنّهما جامع بين الموضوعات ولا ربط لهما

__________________

(١) نهاية الاصول ١ : ١٠ ـ ١٣.

٥٧

بالمحمولات ، فإنّ كلّا من الفاعل والمفعول والمضاف إليه كلمة ، لا المرفوع والمنصوب والمجرور ؛ إذ الجامع هو كيفيّة آخر الكلمة. هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ القضايا في العلم الإلهي تكون بصورة عكس الحمل ، وأنّ الأصل في قضيّة «الجسم موجود» عبارة عن «الموجود هو جسم» ، وإذا كان الأمر كذلك فيكون موضوع الفلسفة هو الجامع بين الموضوعات.

ويمكن أن يقال : إنّ الوجود ليس موضوعا في الفلسفة ، وهذا مبنيّ على أصالة الوجود ، بل الموضوع فيه عبارة عن الواقعيّة ، وتكون موضوعات المسائل مصاديقا لها ، وهي الجامع بينها ، وعلى هذا فالذي له واقعيّة خارجيّة هو الوجود عند من يقول بأصالته واعتباريّة الماهيّة ، أو الماهيّة عند من يقول بأصالتها واعتباريّة الوجود ، ولو كان الوجود فيه موضوعا يلزم أن يكون البحث فيه بناء على أصالة الماهيّة إمّا خارجا عن الفلسفة ، وإمّا يكون الموضوع عندهم أمرا اعتباريّا ، وكلاهما كما ترى.

والأصل في الإشكال أنّه لا شكّ في أنّ بحث التمايز لا يكون بحثا علميّا بحتا ، بل ضابطة لتمييز مسائل مشكوكة في العلوم ، مثلا : لا نعلم أنّ الاستصحاب مسألة اصوليّة لا يجوز التقليد فيها ، أو مسألة فقهيّة يجوز التقليد فيها ، وهذا البحث طريق لإحراز وضع المسائل المشكوكة ، فإن كان التمايز بالغرض فكلّ مسألة كان لها دخل في غرض أيّ علم تكون هذه من مسائله ، وإن لم يكن لها دخل في غرضه فليست من مسائله. ولا شكّ أيضا في أنّ المراد من جامع المحمولات لا يكون إلّا الجامع بين كلّ محمولات المسائل الذي يوجب التمايز بين العلوم.

إذا عرفت هذا فنقول : لو فرض لعلم النحو ـ مثلا ـ ألف مسألة معيّنة ومشخّصة وعشرة مسائل مشكوكة ، وأنت تقول : إنّ الجامع بين المحمولات

٥٨

طريق لتشخيص هذه المسائل المشكوكة ، فإن اشتمل الجامع عليها فهي من مسائل علم النحو ، وإلّا فلا.

قلنا : هل الجامع يؤخذ من ألف مسألة أو من ألف وعشرة مسائل ، وهل يكون للمسائل المشكوكة دخل في تحقّق الجامع أم لا؟

لو قلت : بدخالتها في تشكيل الجامع ، قلنا : من أين علمت أنّ لها دخلا فيه بعنوان مسائل نحويّة؟ مع أنّه لو كان الأمر كذلك فلا نحتاج إلى البحث عن مسألة التمايز.

وإن قلت : ليس لها دخل فيه بل الدخيل في تحقّق الجامع هو ألف مسألة ، قلنا : «ثبّت العرش ثمّ انقش» ، من أين علمت أنّ كلّ مسائل علم النحو عبارة عن ألف مسألة؟ فلعلّ المسائل المشكوكة أيضا كانت من مسائله ، مع أنّه لو كان الأمر كذلك فليست لنا مسألة مشكوكة.

وبعبارة اخرى : أنّ هاهنا شبيه الدور ، فإنّ استكشاف وضع المسائل المشكوكة متوقّف على تحقّق الجامع ، وتحقّق الجامع بين جميع المسائل متوقّف على إحراز وضع المسائل المشكوكة.

وهذا الإشكال يرد على المشهور أيضا ، فإنّهم قالوا : بأنّ تمايز العلوم يكون بتمايز الموضوعات ، أي بموضوع كلّ علم. ونسبة الموضوع لموضوعات المسائل نسبة الكلّي إلى أفراده ، فموضوع العلم عبارة عن الجامع بين موضوعات المسائل ، فنقول : إنّ هذا الجامع لا بدّ أن يكون جامعا بين جميع موضوعات المسائل ، وأنّ الغرض من بحث التمايز لا يكون إلّا لاستكشاف وضع المسائل المشكوكة.

وهذان الكلامان غير قابلين للجمع ، فإنّا نسأل هل المسائل المشكوكة دخيلة في تشكيل الجامع أم لا؟ إن قلت : نعم ، لها دخل فيه. قلنا : هذا دليل

٥٩

على إحراز وضع المسائل المشكوكة ، وأنّها تكون جزء من مسائل هذا العلم ، فلا فائدة لبحث التمايز. وإن قلت : لا نلاحظ المسائل المشكوكة عند انتزاع الجامع ، فلا يكون لها دخل في تحقّقه. قلنا : من أين علمت خروجها عن مسائل العلم؟ فكيف يكون هذا الجامع جامعا بين جميع المسائل حتّى يستفاد منه بعنوان ملاك التمايز؟

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال لا يرد على صاحب الكفاية ؛ إذ لا فرق في الغرض بين كثرة المسائل وقلّتها ، وأمّا في الجامع فخروج مسألة من المسائل ودخولها فيه دخيل كما هو واضح.

ويرد على المشهور والمرحوم البروجردي إشكال آخر أيضا ، وهو متوقّف على بيان مقدّمتين :

إحداهما : أنّ الجامع على ثلاثة أقسام : أوّلا : جامع جنسي ، مثل : الحيوان بالنسبة إلى أنواعه. ثانيا : جامع نوعي ، مثل : الإنسان بالنسبة إلى أصنافه. ثالثا : جامع صنفي ، مثل : الإنسان الأبيض بالنسبة إلى أفراده.

وثانيتهما : أنّ المراد من الجامع في كلامهما هو الجامع النوعي ، فإنّ في كلامهما قرائن تدلّ على ذلك ، منها : أنّ المشهور قائل بأنّ نسبة موضوع العلم إلى موضوعات مسائله نسبة الكلّي إلى أفراده والطبيعي إلى مصاديقه. ومعلوم أنّ هذا التعبير مختصّ بالجامع النوعي ؛ إذ لو كان مرادهم الجامع الجنسي لعبّروا بدل الأفراد بالأنواع. وهكذا في الجامع الصنفي.

ومنها : أنّهم جعلوا المبنيّات في علم النحو صنفا له ، والمعربات صنفا آخر ، وجعلوا كلاهما علما واحدا ، ومعلوم أنّهما مشترك في نوع واحد ، وهو عبارة عن الكلمة والكلام.

٦٠