دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

ولكن لا بدّ لنا من ملاحظة الوجوه التي حكيناها لإثبات ظهور الهيئة في الوجوب ، والوجه الأخير منها ما اختاره الإمام والبروجردي قدس‌سرهما ، وخلاصته : أنّ صدور الأمر وإقامة الحجّة من المولى يحتاج إلى الجواب بالامتثال والإطاعة ، ويترتّب على مخالفتها استحقاق العقوبة بحكم العقل ، وهذا معنى الوجوب ، فإن اخترنا هذا المسلك هاهنا فهل هو منحصر بالحجّة الصادرة بصورة هيئة «افعل» أو الأعمّ منها ومن الحجّة الصادرة بصورة الجملة الخبريّة؟ لا شكّ في أنّ الأساس والملاك في هذا الوجه هو ثبوت الحجّة من المولى وصدورها منه ، ولا دخل لكيفيّة صدورها فيه بعد القطع بأنّ الإمام عليه‌السلام كان في مقام بيان الحكم ، وصدور الجمل عنه عليه‌السلام لا يكون في مقام الإخبار ، بل كان في مقام الإنشاء ، فلا شكّ في حجّيّتها ، بل قد يكون صدور الحجّة من المولى بالإشارة المفهمة ، فالحجّة تامّة مع أنّها لم تصدر بالقول.

وبالنتيجة : أنّ الجمل الخبريّة ـ مثل هيئة «افعل» ـ ظاهرة في الوجوب ، ويكون كلاهما من حيث الظهور في رتبة واحدة ، ولا أظهريّة لأحدهما على الآخر ، ولا فرق بينهما من حيث الظهور ، إلّا أنّ الوجوب كان معنى حقيقيّا لهيئة «افعل» ومعنى مجازيّا للجمل الخبريّة ، فيكون المستعمل فيه في جميع الجمل الخبريّة ، سواء استعملت في مقام الإخبار أو الإنشاء هو ثبوت النسبة بين الفعل وفاعله ، إلّا أنّها إذا استعملت في مقام الإخبار يثبت المستعمل في المعنى الحقيقي ، وإذا استعملت في مقام إنشاء الحكم بداعي البعث والتحريك يتجاوز عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي.

وإذا ثبت ظهور الهيئة في الوجوب بالتبادر ـ كما هو المختار ـ فلا ريب في انحصار التبادر بهيئة «افعل» وأشباهها ، وحينئذ لا بدّ من القول بأنّ التبادر في

٥٢١

هيئة «افعل» يدلّ على شيئين : أحدهما : أنّها ظاهرة في الوجوب ، وثانيهما : أنّها وضعت للبعث والتحريك الوجوبي ، ولكن في الجمل الخبريّة نحن بصدد إثبات الظهور فقط ، وهو أعمّ من الحقيقة ؛ إذ لا شكّ في جريان أصالة الظهور في الاستعمالات الحقيقيّة والمجازيّة ، فيستفاد ظهورها في الوجوب ـ بعد القطع بعدم جريان التبادر فيها ـ من نفس الروايات ؛ بأنّ محطّ النظر ومحور سؤال الراوي يشهد على ذلك ، فإنّ زرارة ـ مثلا ـ قال : قلت له عليه‌السلام : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني ، فعلّمت أثره إلى أنّ اصيب له الماء ، فحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصلّيت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال عليه‌السلام : «تغسله وتعيد الصلاة ...» (١).

ومعلوم أنّه لا يتوهّم أحد أنّ زرارة سئل عن استحباب الإعادة وعدمه ، بل العرف يستفيد أنّه سئل عن وجوب الإعادة وعدمه ، فتحمل جملة «تعيد الصلاة» ـ لمطابقة الجواب مع السؤال ـ على الوجوب ، والغرض من هذا التعبير أنّ الإمام عليه‌السلام لمّا كان في مقام البعث فالمناسب له الإتيان بما يؤكّد ، وحيث إنّ الإخبار بالوقوع يدلّ على شدّة الطلب والاهتمام بالمطلوب وإرادة إيجاده بحيث لا يرضى بتركه ، ولذا أخبر بوقوع المطلوب وأتى بالجملة الخبريّة.

هذا ما يستفاد من كلام صاحب الكفاية قدس‌سره.

ويستفاد من كلام الإمام قدس‌سره (٢) أنّ البعث والتحريك في الجمل الخبريّة متضمّن للتشويق بلسان الإخبار ، فقول الوالد لولده : ولدي يصلّي أو يقرأ

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٧٩ ، الباب ٤٢ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢.

(٢) تهذيب الاصول ١ : ١٤٥.

٥٢٢

القرآن أو يحفظ مقام أبيه لا يريد منها إلّا الأمر ، لكن بلسان الإخبار عن وقوعه وصدوره عنه بلا طلب من والده ، بل بحكم عقله ورشده وتمييزه.

وببالي مع قطع النظر عن التتبّع أنّ السائل والراوي إذا كان عالما بالضوابط والاصول في الأحكام ـ بحيث إن لاحظ بدقّة يعلم الحكم بنفسه ، ولكنّه مع عدم الدقّة في المسألة يسأل حكمها من الإمام عليه‌السلام ـ فيعبّر الإمام عليه‌السلام في مقام الجواب بالجمل الخبريّة ، كما في سؤال زرارة الإمام عليه‌السلام في الحديث المذكور.

وأمّا إذا كان الراوي جاهلا محضا فيعبّر بصورة هيئة «افعل» ، مثل : قوله عليه‌السلام : «صلّ صلاة الجمعة» ولكنّه يحتاج إلى التتبّع والدقّة في الروايات ، وأمّا أصل ظهور الجمل الخبريّة في الوجوب فليس قابلا للإنكار كما مرّ تفصيله.

وذكر استاذنا المرحوم السيّد البروجردي قدس‌سره (١) شبهة مهمّة في ذيل البحث ، وهي : أنّ الأوامر والنواهي الصادرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام على قسمين :

القسم الأوّل : ما صدر عنهم في مقام إظهار السلطنة وإعمال المولويّة ، نظير الأوامر الصادر عن الموالي العرفيّة بالنسبة إلى عبيدهم ، مثل جميع ما صدر عنهم عليهم‌السلام في الجهاد وميادين القتال ، بل كان ما أمروا به عبيدهم وأصحابهم في الامور الدنيويّة ونحوها ، كبيع شيء لهم وعمارة بناء ومبارزة زيد مثلا.

القسم الثاني : ما صدر عنهم عليهم‌السلام في مقام التبليغ والإرشاد إلى أحكام الله تعالى ، كقولهم : «صلّ» أو «اغتسل للجمعة والجنابة» أو نحوهما ممّا لم يكن المقصود منها إعمال المولويّة ، بل كان الغرض منها بيان ما حكم الله به ، نظير أوامر الفقيه في الأحكام الشرعيّة بالنسبة إلى مقلّديه.

__________________

(١) نهاية الاصول ١ : ١٠٨.

٥٢٣

أمّا القسم الأوّل فهو وإن كان ظاهرا في الوجوب ولكنّه نادر جدّا بالنسبة إلى القسم الثاني الذي هو العمدة في أوامرهم ونواهيهم ، وهو محلّ الابتلاء أيضا.

وأمّا القسم الثاني فلمّا لم يكن صدورها عنهم لإعمال المولويّة بل كان لغرض الإرشاد إلى ما حكم الله به على عباده كانت في الوجوب والندب تابعة للمرشد إليه ـ أعني ما حكم الله بها ـ وليس لاستظهار الوجوب أو الندب من هذا السنخ من الأوامر وجه ؛ لعدم كون الطلب فيها مولويّا ، فتأمّل جيّدا.

وحاصله : أنّ الأمر إذا كان مولويّا فهو ظاهر في الوجوب بأيّ نحو صدر ، وأمّا إذا كان إرشاديّا فلا يكون ظاهرا فيه ، وإن صدر بهيئة «افعل» فإنّه تابع للمرشد إليه في الوجوب والاستحباب ، فالأوامر الصادرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام لا تكون مولويّة ؛ لأنّ الأمر المولوي هو الأمر الصادر عن المولى بما أنّه آمر ومقنّن ومن شأنه إصدار الأمر ، وهو الله تعالى فقط.

ولكنّ هذا الإشكال قابل للجواب ؛ بأنّا سلّمنا أنّ أوامر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام إمّا مولويّة ـ مثل أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلع نخلة سمرة بن جندب ورميها إليه (١) ـ وإمّا إرشاديّة كقولهم عليهم‌السلام : «اغتسل للجنابة» أو «تعيد الصلاة» وأمثال ذلك ، والأوامر الإرشاديّة تابعة لمرشد إليه في الوجوب والاستحباب ، إلّا أنّ الأوامر الإرشاديّة اخذت في ماهيّتها الإرشاديّة ، مثل : أمر الطبيب للمريض بشرب الدواء ، فإنّ معناه أنّ طريق التخلّص من المرض هو الاستفادة من المعجون الكذائي ، ومعلوم أنّه ليس لهذا الأمر المولويّة والإلزام وإن صدر بهيئة

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٤٢٨ ، الباب ١٢ من كتاب إحياء الموات ، الحديث ٣.

٥٢٤

«افعل» ، بخلاف أمر الفقيه للمقلّد ، فإنّ ماهيّة هذا الأمر وحقيقته مغايرة لحقيقة أمر الطبيب ؛ لأنّ معنى قوله : «اغتسل للجنابة» أنّي أظنّ حسب اجتهادي وما أدّى إليه اجتهادي أنّ الله تعالى حكم بوجوب غسل الجنابة ، وهكذا أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ـ بصلاة الجمعة ـ مثلا ـ معناه أنّا نعلم أنّ الله تعالى أوجب صلاة الجمعة ، فحقيقة هذه الأوامر أوامر مولويّة تبعيّة كالأمر الصادر عن الوكيل.

ويشهد على ذلك ما ذكره المرحوم البروجردي قدس‌سره (١) في مقدّمة كتاب جامع أحاديث الشيعة : من أنّ الأئمّة عليهم‌السلام كان عندهم كتاب مدوّن بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وفيه جميع سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما أمر الله بتبليغه إلى امّته من المعارف الإلهيّة والأحكام الدينيّة ، ثمّ ذكر روايات متعدّدة لتأييد ذلك واستفاد منها : أنّ ما عند الأئمّة عليهم‌السلام من علم الحلال والحرام والشرائع والأحكام نزل به جبرئيل عليه‌السلام وأخذوه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتحرم على الامّة مخالفتهم في الحكم والفتوى ؛ لأنّ ما عندهم أوثق ممّا عند غيرهم ، فكلّ ما قال به الأئمّة عليهم‌السلام أحاديث مسندة إلى الله تعالى وإن لم يذكروا السند كثيرا ، فأوامرهم أوامر مولويّة ظاهرة في الوجوب ، مثل أوامر الباري تعالى.

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ١ : ٧.

٥٢٥
٥٢٦

المبحث الرابع

في الواجب التعبّدي والتوصّلي

قال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) : إنّ إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصّليّا فيجزي إتيانه مطلقا ولو بدون قصد القربة أو لا؟ فلا بدّ من الرجوع فيما شكّ في تعبّديّته وتوصليّته إلى الأصل. ولا بدّ في تحقيق ذلك من تمهيد مقدّمات : إحداهما : الوجوب التوصّلي : هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرّد حصول الواجب ويسقط بمجرّد وجوده ، بخلاف التعبّدي فإنّ الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك ، بل لا بدّ في سقوطه وحصول غرضه من الإتيان به متقرّبا به منه تعالى ... الخ.

توضيح ذلك : أنّه متى احرز أنّ هذا الشيء واجب ولكن لا نعلم أنّ وجوبه من قبيل الواجب التعبّدي أو التوصّلي ، فهل يمكن بعد اليأس من الدليل التمسّك بالإطلاق اللفظي أو المقامي لنفي التعبّديّة أم لا؟ وعلى الثاني هل يقتضي الأصل العملي البراءة عن التعبّديّة أو يقتضي الاشتغال؟ ثمّ ذكر مسائل مثل الواجب التعبّدي والتوصّلي وافتراق أحدهما عن الآخر بعنوان المقدّمة.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٠٧.

٥٢٧

ولكنّ التحقيق : أنّ جعله مسألة الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة أصلا وعنوانا للبحث ، وسائر المسائل فرعا ومقدّمة لهذه المسألة ، ممّا لا وجه له ، فإنّ جميع المسائل المبحوث عنها تحت هذا العنوان تكون من المسائل المهمّة ، ولا يكون لإحداها عنوان الأصالة وللاخرى عنوان الفرعيّة كما لا يخفى. ونحن نبحثها بعون الله تعالى بحسب الترتيب للتفصّي عن الإشكال :

الأوّل : تقسيم الواجب إلى التعبّدي والتوصّلي ، وما يلاحظ في كلمات الاصوليّين بالنسبة إلى هذا التقسيم عبارة عن نكتتين : إحداهما : أنّ التقسيم ثنائي ذو طرفين ، والاخرى : جعل عنوان التوصّليّة في مقابل عنوان التعبّديّة ، مع أنّه لا يصحّ الجمع بين هاتين النكتتين في كلمات القوم والأعاظم ، ولا بدّ من الإعراض عن إحداهما.

والدليل على هذه الدعوى أنّ ما كان له عنوان المقدّمة للبحث ، وهو أنّ لفظ التعبّدي بحسب الظاهر واللغة عبارة عن عبادة الغير ، ومعلوم أنّ صرف الإتيان بالعمل مع قصد القربة لا يوجب صدق عنوان العبادة وإن كان موجبا للتقرّب إلى الله وترتّب الثواب الزائد عليه ، ولذا لا تصدق العبادة على إطاعة الوالدين ، وتطهير الثوب وإعطاء الزكاة وأمثال ذلك ، وإن تحقّقت هذه الأعمال بقصد القربة ، فالعبادة محدودة لحدّ خاصّ ، والتضيّق مأخوذ في مفاده ومعناه.

وأمّا البحث عن طريق استكشاف عباديّة العمل فقال البعض : إنّ بعض الأعمال عبادة ذاتا ، مثل السجدة للغير فإنّها ملازمة للعبادة ، سواء كانت للإنسان أو للصنم أو لله تعالى.

ولكنّ التحقيق : أنّ السجدة ليست كذلك ، بل قد يكون لها عنوان العباديّة ، وقد يكون لها عنوان غير العباديّة ، ويشهد على ذلك أمر الباري للملائكة

٥٢٨

بالسجود لآدم عليه‌السلام ، ومعلوم أنّ سجودهم له ليست عبادة وإلّا لا بدّ من القول بالتخصيص في الشرك في العبادة ، مع أنّ الآية الشريفة : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)(١) غير قابلة للتخصيص ، فالسجدة لآدم ليست بعبادة له ، بل كانت عملا مأمور بها من الباري تعالى ، فالطريق المنحصر لاستكشاف عباديّة الأعمال عبارة عن بيان الشارع وتصريحه بها.

والحاصل : أنّ كلّ عمل واجب ليس بعبادة وإن كان إتيان العمل بقصد القربة ، ولذا يقال للمصلّي : إنّه مشغول في العبادة ، ولا يقال لمن كان في مقام أداء الزكاة أو إطاعة الوالدين : إنّه مشغول في العبادة ، ولا دخل لما أضاف إليه كلمة العبادة في معناها فأخذ معنى خاصّا في مفهوم العبادة زائدا على قصد القربة ، فكانت هاهنا ثلاثة عناوين : الأوّل : العنوان التعبّدي ، الثاني : العنوان التقرّبي. الثالث : عنوان الإطاعة.

ولا شكّ في أنّ العنوان التقرّبي أعمّ من العبادة ، وعنوان الإطاعة وإن استعمل في لسان الاصوليّين فيما يعتبر فيه قصد القربة ، ولكنّه لغة أعمّ من العنوان التقرّبي ، فإنّ أمر الله تعالى بإطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في آية (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(٢) أمر مولويّ بإطاعته ، ولكن لا يعتبر في إطاعته قصد القربة ، وهكذا أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله الأنصاري بقلع نخلة سمرة بن جندب أمر مولويّ لا يعتبر فيه قصد القربة.

وبالنتيجة : التقسيم الشائع في كلمات الاصوليّين للواجب بأنّه إمّا تعبّدي وإمّا توصّلي ليس بصحيح ، فلا بدّ لنا من الإعراض عن أحد الأمرين ، إمّا من

__________________

(١) النساء : ٤٨.

(٢) النساء : ٥٩.

٥٢٩

ثنائيّة التقسيم ، وإمّا من العنوان التعبّدي وتبديله بالتقرّبي حتّى يدخل تحته ما لا يدخل تحت عنوان التعبّدي والتوصّلي ، مثل : الخمس والزكاة ، وأمّا إن كان القسم الأوّل عبارة عن التعبّدي مع حفظ ثنائيّة التقسيم فلا يشمل هذا جميع أقسام الواجبات قطعا.

وقال بعض في مقام التعريف : إنّ الواجب التعبّدي : ما لا نعلم ولا يتعيّن غرضه ، والتوصّلي : ما يتعيّن ونعلم غرضه ، ولكنّه ليس في محلّه ؛ لأنّا نعلم الغرض في كثير من الواجبات التعبّديّة ، بل صرّح الشارع به في بعض الموارد ، مثل : قوله تعالى في ذيل آية الصوم ب (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الصلاة معراج المؤمن» (٢) ، وقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(٣) ، وأمثال ذلك.

ولكنّ الحقّ كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره : إنّ الواجب التعبّدي : ما لا يحصل الغرض منه بدون قصد القربة ، والواجب التوصّلي : ما يحصل الغرض منه بمجرّد تحقّقه في الخارج ، سواء تحقّق مع الالتفات والمباشرة وقصد القربة أم لا.

وأشكل عليه بأنّ الواجب التوصّلي لو كان كذلك فكيف يصدق عليه عنوان الواجب والتكليف ، وعلى المخاطب عنوان المكلّف والمأمور؟!

وجوابه يظهر بعد ملاحظة أمرين في الواجب التوصّلي : الأوّل : أنّ الغرض منه يحصل من أيّ طريق حصل الواجب ؛ إذ الغرض في قول الشارع : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» حصول الطهارة من أيّ طريق حصل.

الثاني : أنّ المفروض فيما كان المكلّف قادرا على إتيان المأمور به ، فحينئذ

__________________

(١) البقرة : ١٨٣.

(٢) اعتقادات المجلسي : ٢٩.

(٣) العنكبوت : ٤٥.

٥٣٠

لا إشكال هاهنا ، لا من ناحية توجّه التكليف ولا من ناحية سقوط التكليف.

البحث الثاني : في أنّه هل يمكن أخذ قصد القربة في المتعلّق أم لا؟ وإذا فرغنا من تعريف الواجب التعبّدي والتوصّلي فلنشرع في مسألة مهمّة في هذا البحث ، وهي : أنّه كانت للواجبات التعبّديّة أجزاء وشرائط ، وما كان ملحوظا للآمر ومتعلّقا للأمر هو عبارة عن الأجزاء والشرائط ، والنزاع في أنّ قصد القربة المعتبرة فيها هل كانت كسائر الأجزاء والشرائط متعلّقا للأمر وملحوظا في مقام تعلّق الأمر أم لا؟

قال بعض العلماء بالأوّل ، وقال جمع آخر بالثاني ، وكان على رأسهم الشيخ الأعظم الأنصاري (١) المبتكر لهذا البحث ، وتبعه في ذلك أكثر تلامذته ومنهم صاحب الكفاية قدس‌سره (٢).

ولكن قبل الخوض في البحث لا بدّ لنا من بيان أمر مهمّ ، وهو أنّه ربّما يتوهّم أنّه لا يترتّب على هذا البحث ثمرة عمليّة ، مع أنّه لا محلّ له ؛ إذ قد تترتّب عليه ثمرة عمليّة مهمّة في صورة الشكّ ، فإنّا لو شككنا في أنّ القنوت ـ مثلا ـ جزء للصلاة أم لا ، والمرجع لنفي الجزئيّة قبل جريان الاصول العمليّة هو التمسّك بالإطلاق اللفظي بعد فرض كون المولى في مقام البيان ، وأمّا بعد فقدان الإطلاق لدليل وجوب الصلاة واليأس من الدليل اللفظي تصل النوبة إلى الاصول العمليّة من البراءة أو الاشتغال ، وهكذا الشكّ في شرطيّة شيء لها.

وأمّا إن شككنا في اعتبار قصد القربة في واجب من الواجبات واخترنا

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٦٠.

(٢) كفاية الاصول ١ : ١٠٧ ـ ١١٢.

٥٣١

قول الشيخ وتلامذته في المقام فلا يمكن التمسّك بإطلاق دليل الوجوب ، فإنّه لا يجري في مورد كان التقييد مستحيلا ، كما سيأتي تفصيله ، وإن اخترنا القول الأوّل في المسألة فيمكننا التمسّك به كالشكّ في سائر الأجزاء والشرائط.

إذا عرفت هذا فلنشرع البحث بذكر أدلّة القولين

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : إنّ القيود والأوصاف الدخيلة في المأمور به على قسمين : الأوّل : ما يمكن اتّصاف المأمور به والواجب به قبل تعلّق الأمر ، مثل السورة والطهارة للصلاة ؛ إذ يمكن تحقّق الصلاة ـ مع قطع النظر عن تعلّق الأمر ـ معهما وبدونهما لا مانع من الجزئيّة والشرطيّة لهذا السنخ من القيود في مقام تعلّق الأمر. الثاني : ما لا يمكن اتّصاف المأمور به والواجب به قبل تعلّق الأمر ، مثل عنوان المأمور به والواجب والمستحبّ ؛ إذ لا يمكن إطلاقه على المركّب من الأجزاء والشرائط قبل توجّه الأمر إليه ، وقصد القربة أيضا من قبيل هذه الأوصاف ، فإنّ معناه إتيان العمل بداعي الأمر والامتثال بقصد الأمر كما هو المشهور ، ولا يمكن إتيان الصلاة المقيّدة بداعي الأمر قبل تعلّق الأمر بها ، بل هذا أمر مستحيل.

نعم ، قد يكون المراد من قصد القربة إتيان العمل بداعي كونه محبوبا للمولى ، وقد يكون بمعنى إتيان العمل بداعي المصلحة الملزمة ، وقد يكون بمعنى إتيان العمل بداعي كونه حسنا ، وقد يكون بمعنى إتيان العمل بداعي حصول التقرّب بسببه إلى المولى ، ولكن مراد الشيخ وتلامذته هو الأوّل ، وأنّهم من القائلين بالاستحالة في المقام ، مع اختلافهم في أنّ المقصود من الاستحالة الاستحالة بالذات أو الاستحالة بالغير.

وتوضيح ذلك : أنّه كما في باب الواجب قسم منه واجب الوجود بالذات

٥٣٢

ـ مثل وجود الباري تعالى ـ وقسم منه واجب الوجود بالغير ـ مثل وجوب الوجود للمعلول ـ وهكذا في باب الممتنع والمستحيل ، قسم منه مستحيل بالذات ، مثل اجتماع النقيضين ، ولعلّه ينتهي ويرجع جميع المحالات إليه كما قال بعض المحقّقين ، وقسم منه مستحيل بالغير ، مثل استحالة تحقّق المعلول بدون العلّة.

فإنّا نبحث ابتداء من أدلّة القائلين بالاستحالة الذاتيّة حسب الترتيب ، ثمّ أدلّة القائلين بالاستحالة بالغير وإن ثبت إحداهما يثبت المطلوب ، وهو استحالة أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر.

منها : أنّ النسبة المتحقّقة بين العرض والمعروض في التكوينيّات بعينها متحقّقة بين الحكم والمتعلّق في الشرعيّات ، مثلا : إذا عرض البياض على الجسم فالنسبة الحاصلة بينهما عبارة عن التقدّم والتأخّر الرتبي ؛ إذ المعروض مستقلّ في الوجود والعرض يحتاج إليه ، وهكذا في مثل الصلاة والأمر المتعلّق بها ، وكان للصلاة عنوان المعروضيّة والتقدّم الرتبي على الأمر ، وللأمر عنوان العرضيّة والتأخّر الرتبي عن الصلاة.

وبالنتيجة : أنّه لا مانع من تقدّم الأجزاء والشرائط للصلاة من حيث الرتبة على الأمر بها ، وأمّا قصد الأمر فمتأخّر عن الأمر ويتوقّف عليه ، ولازم أخذها في المتعلّق أن يكون متقدّما على الأمر ومتأخّرا عنه في آن واحد ، وهذا مستحيل بالذات.

وجوابه : أنّ ما ذكر في باب العرض والمعروض في التكوينيّات صحيح بلا إشكال ، ولكنّ المقايسة بينه وبين الأحكام والمتعلّقات في الشرعيّات ليس بصحيح ، فإنّا نقول : هل المراد من الحكم هي الإرادة التي كانت من الواقعيّات

٥٣٣

النفسانيّة أو البعث والتحريك الاعتباري الذي كان مفاد هيئة «افعل»؟ فإن كان المراد منه هو الأوّل فإنّا نسلّم بأنّ الإرادة الواقعيّة غير قابلة للإنكار ، ونسلّم أيضا أنّه يحتاج في التحقّق إلى المراد ، كما أنّ العرض يحتاج إلى المعروض ومتقوّم به ، فإنّ كليهما من امور ذات الإضافة ، فلا يعقل تحقّق الإرادة بدون المتعلّق والمراد ، إلّا أنّ البحث في أنّ المقصود من متعلّق الإرادة ما هو؟ فهل هو المراد الخارجي؟ وهو ليس بصحيح ؛ لأنّه يتحقّق بعد الإرادة بمدّة مديدة.

وهذا البحث يجري بعينه في باب العلم ، فإنّا نعلم ـ مثلا ـ بتحقّق يوم الجمعة بعد ثلاثة أيّام ، فالعلم متحقّق الآن بدون المعلوم ، مع أنّه واقعيّة نفسانيّة يحتاج في تحقّقه إلى المعلوم.

ولكنّ حلّ الإشكال في باب العلم بأنّه كان للعالم معلوم بالذات ومعلوم بالعرض ، والمعلوم بالعرض عبارة عن الموجود في الخارج ، والمعلوم بالذات عبارة عن الصورة الذهنيّة الحاصلة في الذهن من يوم الجمعة ، فالمعلوم للعالم حين العلم ، ومتعلّق علمه عبارة عن المعلوم بالذات ، وهكذا في باب الإرادة ، فيكون متعلّق الإرادة قبل تحقّق المراد في الخارج عبارة عن الصورة الذهنيّة للمراد الموجودة في حال الإرادة ، وحينئذ يظهر الجواب من مقايسة نسبة الحكم والمتعلّق مع الجسم والبياض ؛ بأنّه إذا كان الحكم بمعنى الإرادة فلا يلزم أن يكون متعلّقها متحقّقا في الخارج ؛ إذ المتعلّق عبارة عن الصورة الذهنيّة للمراد ، ولا مانع من جعل المولى الصورة التي كانت موجودة في ذهنه ومقيّدة بقصد الأمر متعلّقا للأمر ، ولا استحالة في البين.

وأمّا إن كان الحكم بمعنى البعث والتحريك الاعتباري ـ كما هو المشهور ـ

٥٣٤

فلا تعقل المقايسة بين الحكم ومتعلّقه مع العرض والمعروض ؛ لأنّ المعروض واقعيّة مستقلّة من حيث الوجود ، وله تقدّم رتبة على العرض ـ أي الواقعيّة الغير المستقلّة في الوجود ـ ولا معنى للتقدّم والتأخّر في الامور الاعتباريّة ، فالمولى في مقام الأمر يتصوّر الصلاة المقيّدة بقصد الأمر ، ثمّ يجعل المقيّد متعلّقا للبعث والتحريك الاعتباري ، وكما أنّه لا مانع في تصوّر الصلاة قبل الأمر كذلك لا مانع من تصوّر قصد الأمر قبله.

ويؤيّد عدم قابليّة مقايسة الأحكام بالأعراض أنّ الجسم في حال كونه معروضا للبياض لا يعقل أن يكون معروضا للسواد ولو من قبل الشخصين ، وأمّا في باب الأحكام والمتعلّقات فيمكن أن يكون السفر ـ مثلا ـ موردا لأمر الوالد ونهي الوالدة في آن واحد ، فاجتماع العرضين المتضادّين في معروض واحد وآن واحد مستحيل ولو من ناحية الشخصين ، بخلاف الأحكام.

ومن أدلّة القائلين بالاستحالة الذاتيّة لزوم الدور في المسألة ، وتقريب ذلك أنّه لا شكّ في توقّف قصد الأمر على الأمر ؛ إذ لا معنى لتحقّق قصد الأمر الخارجي والحقيقي بدون الأمر ، وهكذا لا شكّ في توقّف وجوب المكلّف به على قدرة المكلّف ، فالأمر متوقّف بالقدرة على المتعلّق ، والقدرة على المتعلّق متوقّفة على الأمر بعد فرض أخذ قصد الأمر في المتعلّق ، وهذا دور مستحيل بالذات.

أقول : في مقام الجواب عن هذا : أوّلا : أنّ اعتبار القدرة على المأمور به في ظرف تحقّق الامتثال كاف ، سواء كان في زمان الأمر وظرف التكليف مقدورا أم لا ، والعقل لا يحكم أزيد من ذلك.

وثانيا : أنّ العقل يحكم بوجود القدرة وإن كانت من نفس الأمر ، كما إذا أمر

٥٣٥

أحد المراجع ـ مثلا ـ شخصا بالسفر إلى مكّة وهو غير قادر على ذلك ، ولكن لهذا الأمر جهّزه المتديّنون بالزاد والراحلة ، وهذا كاف في تحقّق القدرة ، فنحن سلّمنا أنّه لا يعقل تحقّق قصد الأمر بدون الأمر في الخارج ، ولكنّ الأمر بشيء لا يتوقّف على تحقّق القدرة عليه قبله ؛ إذ لا مانع من تحقّق القدرة بعد الأمر أيضا.

ومن أدلّتهم أيضا اجتماع اللحاظين الاستقلالي والآلي في آن واحد في شيء واحد ، توضيح ذلك : أنّه لا بدّ للمولى حين الأمر من لحاظ الأمر والمأمور به ، ومن المعلوم أنّ لحاظ الأمر يكون لحاظا آليّا ؛ لأنّه وسيلة لتحقّق المأمور به ، وأمّا لحاظ المأمور به بجميع الأوصاف والخصوصيّات فيكون لحاظا استقلاليّا ، فإذا كان قصد الأمر داخلا في المتعلّق فلا بدّ من ملاحظة المضاف والمضاف إليه مستقلّا ، فالأمر تعلّق به لحاظان : لحاظ آلي ولحاظ استقلالي ، والجمع بين اللحاظين في آن واحد مستحيل ذاتا.

وجوابه : سلّمنا أنّ الأمر بما أنّه وسيلة لتحقّق المأمور به يتعلّق به لحاظ آلي ، وبما أنّه جزء المتعلّق يتعلّق به لحاظ استقلالي ، ولكن لا يكون اللحاظان في آن واحد ، فإنّه ملحوظ بالاستقلال في رتبة المتعلّق وملحوظ بالآليّة في رتبة نفسه ، ولا استحالة في البين.

والمهمّ من الأدلّة ما ذكره المحقّق النائيني قدس‌سره (١) في المقام ، ومحصّل كلامه : أنّ القضايا إمّا طبيعيّة وإمّا حقيقيّة وإمّا خارجيّة ، والطبيعيّة ما كان الموضوع فيها عبارة عن الماهيّة مثل «الإنسان حيوان ناطق» ، والحقيقيّة ما كان الموضوع فيها عبارة عن الأفراد ، سواء كان الأفراد محقّقة الوجود أو مقدّرة الوجود ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٠٦ ـ ١٠٨.

٥٣٦

والخارجيّة ما كان الموضوع فيها عبارة عن أفراد محقّقة الوجود ، ولكنّ نوع القضايا المتضمّنة لبيان الأحكام الشرعيّة قضايا حقيقيّة ، مثل «المستطيع يجب عليه الحجّ» ، إلّا أنّ القضايا الحقيقيّة ترجع إلى قضايا شرطيّة مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، وقولنا : «المستطيع يجب عليه الحجّ» يرجع إلى قولنا : «إذا وجد في الخارج شخص وصدق عليه أنّه مستطيع وجب عليه الحجّ» ، وكلّ قيد في القضايا الحقيقيّة إذا اخذ مفروض الوجود في الخارج ـ سواء كان اختياريّا كالعهد والنذر والاستطاعة أم كان غير اختياري كالوقت والبلوغ ـ يستحيل تعلّق التكليف به ، ومن البديهي أنّ مثل هذه القيود إذا اخذت في مقام الجعل فلا محالة أنّها اخذت مفروضة الوجود في الخارج ؛ بأنّ المولى فرض وجودها أوّلا ثمّ جعل الحكم عليها ، فمثل قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) ونحوه يرجع إلى أنّه إذا فرض وجود عقد في الخارج يجب الوفاء به ، لا أنّه يجب على المكلّف إيجاد عقد في الخارج والوفاء به ، ومثل قوله : «إذا زالت الشمس فصلّ» يرجع إلى أنّه متى تحقّق وقت الزوال ـ مثلا ـ فالصلاة واجبة ، لا وجوب الصلاة ووجوب تحصيل الوقت.

والحاصل : أنّ كلّ قيد إذا اخذ في مقام الجعل مفروض الوجود فلا يعقل تعلّق التكليف به ، سواء كان اختياريا أم لا ، ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ قصد الأمر إذا اخذ في متعلّقه فلا محالة يكون الأمر موضوعا للتكليف ومفروض الوجود في مقام الإنشاء ، فيلزم عندئذ كون الأمر مفروض الوجود قبل وجود نفسه وتحقّق شيء في رتبتين ـ أي رتبة المتعلّق بما أنّه جزء ورتبة نفسه ـ ومرجعه إلى اتّحاد الحكم والموضوع.

__________________

(١) المائدة : ١.

٥٣٧

وبالنتيجة إن اخذ داعي الأمر متعلّقه يستلزم اتّحاد الحكم والموضوع في مقام الجعل ، وتوقّف الشيء على نفسه في مقام الفعليّة ، وكلاهما مستحيل وكان في كلام المحقّق النائيني قدس‌سره نقاط إبهام.

الاولى : أنّ ادّعاء كون نوع القضايا المتضمّنة لبيان الأحكام الشرعيّة بصورة القضايا الحقيقيّة ليس بصحيح ، فإنّ القضيّة الحقيقيّة عبارة عن القضيّة الحمليّة الخبريّة ، وهذا لا ينطبق على أكثر أدلّة العبادات والمعاملات ، مثل قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(١) ، (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) ، (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً)(٣) ، وأمثال ذلك.

الثانية : أنّه على فرض تسليم كون الأدلّة المذكورة بصورة القضايا الحقيقيّة ولكنّ ما ذكره ثانيا من أنّ القضايا الحقيقيّة ترجع إلى القضايا الشرطيّة ليس بصحيح ؛ إذ يمكن إرجاع بعض القضايا الحقيقيّة إلى الشرطيّة كالمثال المذكور في كلامه قدس‌سره يعني المستطيع يجب عليه الحجّ ، بقولنا : «أيّها المكلّفون ، إذا استطعتم يجب عليكم الحجّ» ، وأمّا سائر الأدلّة ، مثل : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فلا يمكن إرجاعها إلى القضيّة الشرطيّة ؛ إذ لا يتصوّر فيها الشرط والجزاء والمقدّم والتالي.

ومن هنا نستكشف قاعدة كلّيّة لإرجاع القضايا الحقيقيّة إلى الشرطيّة ، وهي أنّ كلّ قضيّة كان المكلّف فيها معنونا بعنوان خاصّ لا مانع من إرجاعها إلى الشرطيّة ، مثل : قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ

__________________

(١) البقرة : ٤٣.

(٢) المائدة : ١.

(٣) الاسراء : ٣٤.

٥٣٨

اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) ، وكان هاهنا للمكلّف عنوان خاصّ ، وهو عنوان المستطيع الذي بيّنته جملة «من استطاع إليه سبيلا» ، وهذا العنوان موضوع للتكليف الوجوبي الذي بيّنته كلمتي «لله» و «على» ، والمتعلّق الذي بيّنته كلمتي «حجّ البيت» غير الموضوع.

وأمّا في مثل قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الذي ليس فيه للمكلّف عنوان خاصّ حتّى نجعله الموضوع للتكليف ، فلا يمكن إرجاعه إلى القضيّة الشرطيّة ؛ إذ لا يتصوّر الشرط فيه.

نعم ، إذا كانت في المسألة قيود غير اختياريّة فلا بدّ من فرض وجودها في مقام الأمر ، فلا محالة ترجع إلى القضيّة الشرطيّة ، مثل قولنا : إذا بلغتم يجب عليكم إقامة الصلاة ، وإذا تحقّق غروب الشمس يجب عليكم صلاة العشاءين.

ويمكن أن يقال : إنّ كلام المحقّق النائيني قدس‌سره يتمّ بناء على ذلك ، فإنّ قصد القربة أيضا تكون من الامور الغير الاختياريّة ؛ إذ الأمر فعل المولى ، فما نبحث فيه يرجع إلى القضيّة الشرطيّة.

وفيه : أوّلا : أنّ قصد الأمر ليس من الامور الغير الاختياريّة ؛ إذ مرّ منّا مفصّلا أنّا نحتاج إلى قصد الأمر في مقام الامتثال ، لا في مقام جعل الحكم ، كما أنّ القدرة المعتبرة في التكليف معتبرة في مقام الامتثال ، فإن تحقّق من ناحية الأمر فلا بأس به ، وإن كان كذلك فقصد الأمر صار أمرا اختياريّا ، فإنّه مقدور لنا بعد الأمر ، بخلاف زوال الشمس فإنّه ليس بمقدور لنا بوجه.

وثانيا : أنّ على فرض تسليم كون قصد الأمر من الامور الغير الاختياريّة ـ مثل زوال الشمس ـ ولكن قصد الأمر ليس من قبيل زوال الشمس ، فإنّ

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

٥٣٩

معنى قضيّة «إذا زالت الشمس تجب صلاتا الظهر والعصر» أنّ للزوال دخلا في ترتّب الجزاء ـ أي الوجوب ـ فإذا لم يكن الزوال فلم يكن الوجوب ، وهذا المعنى لا يجري في قصد الأمر ؛ إذ لا دخل لقصد الأمر في تحقّق وجوب الصلاة ، ولا يعقل قولنا : إذا قصدت الأمر يجب عليك الصلاة.

وأمّا قوله قدس‌سره : إنّ القيود التي تؤخذ في القضايا بصورة الشرط فلا محالة تكون في مقام جعل الحكم مفروض الوجود إن كان مراده الوجود الذهني ، أي إن كان للوجود الذهني للقيود دخل في تحقّق الوجوب ، فلا فرق في ذلك بين المقدور وغير المقدور فإنّ تصور غير المقدور ـ بل المحال أيضا ـ مقدور ، وإن كان مراده من مفروض الوجود الوجود الخارجي فلا فرق بين الطهارة وقصد الأمر فإنّ كليهما مقدور لنا ، إلّا أنّ الطهارة مقدورة مع قطع النظر عن الأمر ، بخلاف قصد الأمر كما مرّ تفصيله ، فجميع أدلّة القول بالاستحالة الذاتيّة ليست في محلّه.

ويستفاد من أدلّة بعض العلماء القول بالاستحالة الغيريّة ، كما تستفاد هذه من كلام صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

وتوضيح كلامه : أنّه يدّعي في صدر كلامه الاستحالة الذاتيّة ، فإنّه يقول «الاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتّى إلّا من قبل الأمر بشيء في متعلّق ذاك الأمر» ، وهذا ظاهر في مسألة الدور ، وتقدّم الشيء على نفسه التي تساوق الاستحالة الذاتيّة.

ولكنّه في مقام الاستدلال قال : «فما لم تكن نفس الصلاة متعلّقة للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها» يعني : لو اخذ قصد الأمر في المتعلّق

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١١٢.

٥٤٠