دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

وقال بعض الأعلام في مقام الدفاع عن صاحب الكفاية على ما في كتاب المحاضرات(١) : أنّ المفاهيم الكلّيّة على قسمين ، فإنّ تصوّر بعضها يوجب تصوّر أفراده ومصاديقه بوجه.

وتفصيل ذلك : أنّ المفاهيم الكلّيّة المتأصّلة كمفاهيم الجواهر والأعراض ـ كالحيوان والإنسان والبياض والسواد ونحو ذلك ـ لا تحكي في مقام اللحاظ والتصوّر إلّا عن أنفسها ، وهي الجهة الجامعة بين الأفراد والمصاديق ، وكذلك بعض المفاهيم الانتزاعيّة ـ كالوجوب والإمكان والامتناع والأبيض والأسود وما شاكلها ـ فإنّ عدم حكايتها عن غيرها من الواضحات.

وأمّا العناوين الكلّيّة التي تنتزع من الأفراد والخصوصيّات الخارجيّة ـ كمفهوم الشخص والفرد والمصداق ـ فهي تحكي في مقام اللحاظ عن الأفراد والمصاديق بوجه وعلى نحو الإجمال ، فإنّها وجه لها وتصوّرها في نفسها تصوّر لها بوجه وعنوان ، وبتعبير آخر : أنّ مرآتيّتها للأفراد والأشخاص ذاتيّة لها ، فتصوّرها لا محالة تصوّر لها إجمالا بلا إعمال عناية في البين ، فإذا تصوّرنا مفهوم ما ينطبق عليه مفهوم الإنسان ـ مثلا ـ فقد تصوّرنا جميع أفراده بوجه.

ثمّ ذكر تأييدا حيث قال : ومن ثمّ جاز الحكم عليها في القضيّة الحقيقيّة وكذا في القضيّة الخارجيّة ، فإنّ الموضوع فيهما أفراد الطبيعة ، لكن في الاولى مطلق الأفراد وفي الثانية الأفراد الموجودة منها بالفعل ، بخلاف القضيّة الطبيعيّة فإنّ الموضوع فيها نفس الطبيعة لا ربط لها بالأفراد والمصاديق ، فلو لم يحك المفهوم في مثل «المستطيع يجب عليه الحجّ» عن أفراده لاستحال الحكم عليها مطلقا ، مع أنّ الاستحالة واضحة البطلان ، فلا بدّ فيها من الحكاية.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٥٠ ـ ٥١.

١٢١

أقول : لا يمكن أن يكون الكلّي حاكيا عن الأفراد أصلا وأبدا ، ومن البديهي أنّ فرديّة الفرد متقوّمة بالخصوصيّات الفرديّة كالزمان والمكان والعالميّة والجاهليّة والابوّة والبنوّة و... وإذا كان الأمر كذلك فنجيب عنه بالنقض والحلّ.

أمّا الأوّل : فلا شكّ في أنّ عنوان «الإنسان الموجود» يكون من العناوين الجوهريّة المتأصّلة ، ولا شكّ أيضا في عدم الفرق بين هذا العنوان وعنوان «ما ينطبق عليه الإنسان» إذ الانطباق لا يصدق إلّا على الموجود في الخارج ، فكيف لا يحكى عنوان الأوّل عن الأفراد والمصاديق بخلاف عنوان الثاني؟!

وأمّا الثاني : فلا يمكن حكاية الكلّي ومرآتيّته عن الخصوصيّات الفرديّة ، فإنّا نرى بالوجدان عدم حكاية عنوان ما ينطبق عليه الإنسان عن أحد من الخصوصيّات الفرديّة المتقوّمة بها فرديّة الفرد من اللّون والعلم والجهل و... مع أنّه لا يكون معنى للحكاية سوى ذلك ، وهكذا عنوان الفرد والشخص والمصداق.

والجواب عن التأييد المذكور في كلامه : أنّ المنطقيّين وإن عبّروا عن موضوع القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة بأفراد الطبيعة ، ولكن المراد منها وجودات فرديّة لا خصوصيّاتها ؛ إذ المقصود من المستطيع في عنوان «المستطيع يجب عليه الحجّ» هو وجوداته لا خصوصيّاته الفرديّة ، مع أنّ الكلام في باب الوضع يكون في الحكاية عن الخصوصيّات الفرديّة ، فليس لنا كلّي كان كذلك.

وربّما يقال في مقام الدفاع عن صاحب الكفاية قدس‌سره : بأنّ الطبيعة والكلّي كما يمكن أن تلاحظ مهملة جامدة كذلك يمكن لحاظها سارية وجارية في أفرادها متّحدة مع مصاديقها ، وعلى الأوّل لا تكون حاكية عن الأفراد والمصاديق ،

١٢٢

وعلى الثاني تكون عين الخارج ونفس المصاديق ؛ ضرورة اتّحاد الماهيّة والوجود في الخارج ، والانفصال إنّما هو في الذهن ، فتصحّ مرآتيّتها للأفراد والمصاديق وحكايتها عنها. ومن هنا عرّفوا المطلق بطبيعة سارية في الأفراد ، فإذا كان المطلق موضوعا لحكم يكشف أنّ الطبيعة مع وصف السريان والجريان يكون موضوعا ، فيكون القسم الثالث من أقسام الوضع ـ الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ـ بمكان من الإمكان.

وجوابه : أنّ هذا الكلام أيضا في غير محلّه ، وتوضيحه يتوقّف على مقدّمة ، وهي : أنّه يلزم في تحقّق عنوان الأفراد أوّلا : خروج الطبيعة التي يكون هذا الفرد فردا لها من عالم الماهيّة ودخولها في عالم الوجود ، وثانيا : تكثّر وجود الطبيعة وتعدّدها ، وثالثا : وجود خصوصيّات متمايزة فرديّة في كلّ فرد من الأفراد.

إذا عرفت هذا فنقول : لا يعقل في مرحلة لحاظ الطبيعة لحاظ الوجود ؛ إذ الطبيعة والماهيّة من حيث هي هي ليست إلّا هي ، لا موجودة ولا معدومة ، ولا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، ونسبتها إلى الوجود والعدم مساوية ، ولذا يحتاج الممكن في وجوده إلى العلّة ، فلا يرى من مرآة الماهيّة والطبيعة لا الوجود ولا تعدّد الوجود ، ولا الخصوصيّات الفرديّة ، وعلى هذا لا معنى لمطلق السارية والجارية في الأفراد سوى أنّ تمام الموضوع هو كلّ الأفراد ، فإذا قال المولى : اعتق رقبة ـ مثلا ـ فالرقبة الكافرة والمؤمنة كلاهما تمام الموضوع.

والحاصل : أنّ هذا القسم من الأقسام الأربعة غير معقول كما لا يخفى.

مبعّد :

لو فرض إمكان هذا القسم ـ أي الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ـ فهل

١٢٣

الموضوع له فيه واحد أو متعدّد؟ ولا بدّ من القول بتعدّده بحسب تعدّد الأفراد بخلاف عكسه ـ أي الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ ـ إذ الموضوع له فيه واحد ، وإذا كان الأمر كذلك فالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ يكون قسما من أقسام المشترك اللفظي.

لا يقال : إنّ بين هذا القسم من الوضع والمشترك اللفظي بونا بعيدا ؛ إذ المعاني الموضوع لها فيه متباينة ، وأمّا في ما نحن فيه فهي عبارة عن أفراد الطبيعة الواحدة ، مع أنّ الوضع فيه أيضا متعدّد بحسب تعدّد الموضوع له ، بخلاف ما نحن فيه.

لأنّا نقول : أنّ الملاك في المشترك اللفظي تعدّد الموضوع له وتباين بعضها مع البعض الآخر ، وهو موجود في ما نحن فيه ، وليس الملاك تعدّد الوضع وعدمه ، فيكون هذا قسما من أقسام المشترك اللفظي ، وهذا بعيد عن الأذهان وإن لم يمتنع عقلا ، وهذا الاستبعاد يؤيّد عدم إمكان هذا القسم من الوضع وأنّه غير ممكن عقلا.

وأمّا القسم الرابع من الوضع ـ أي الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ ـ فقد أنكر إمكانه المحقّق الخراساني قدس‌سره كما مرّ ، وتبعه في ذلك أكثر تلامذته ، واستدلّوا له : بأنّ مفهوم الخاصّ مهما كان لا يحكى بما هو خاصّ عن مفهوم العامّ أو عن خاصّ آخر ، فإنّ تصوّر شيء يستحيل أن يكون تصوّرا لشيء آخر ، بل لحاظ كلّ مفهوم لحاظ نفسه ومحدود لحدّه ، ولذا قالوا : إنّ الجزئي لا يكون كاسبا ولا مكتسبا.

وأوضح من ذلك كلام المحقّق العراقي قدس‌سره (١) على ما في تقريراته ، وهو قوله :

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ١٣.

١٢٤

ولكنّ التحقيق هو عدم إمكانه واستحالته ، وهذا فيما لو كان آلة الملاحظة هو الفرد والخصوصيّة كعنوان زيد ـ مثلا ـ واضح ؛ ضرورة أنّ الفرد والخصوصيّة مفهوما يباين مفهوم العامّ والكلّي ، ومعه لا يمكن جعله وجها وعنوانا له.

وأمّا لو كان آلة اللّحاظ هو الكلّي المقيّد ـ كالإنسان المتقيّد بالخصوصيّة الزيديّة ولو بنحو دخول التقيّد وخروج القيد ـ فكذلك أيضا ، فإنّه مع حفظ جهة التقيّد بالخصوصيّة فيه يباين لا محالة مفهوما الإنسان المطلق الجامع بين هذه الحصّة وغيرها ، ومع إلغاء جهة التقيّد وتجريده عن الخصوصيّة ولحاظه بما أنّه قابل للانطباق عليه وعلى غيره يرجع إلى عموم الوضع والموضوع له.

ولكن نسب في الكفاية القول بوقوع هذا القسم إلى بعض الأعلام ، والظاهر أنّه المرحوم الميرزا حبيب الله الرشتي قدس‌سره على ما في كتاب بدائع الأفكار (١) ، ومحصّل كلامه في مقام الاستدلال : أنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوع الشيء ، ونحن نرى خارجا وقوع هذا القسم من الوضع بالبداهة ، فإنّ المخترع إذا اخترع صنعة وأوجدها في الخارج ، ثمّ في مقام التسمية ووضع اللفظ لها لم يوضع اللفظ بإزاء هذا المخترع الجزئي الموجود في الخارج من حيث كونه ذلك المعنى المركب ، بل يوضع اللفظ بإزائه ومشابهه من حيث اشتمالهما على تلك الفائدة ، وباعتبار المناط الموجود فيهما ، فيكون المتصوّر معنى خاصّا والموضوع له كلّيّا وعامّا ، وهكذا واضع لفظ الحيوان ـ مثلا ـ رأى شبحا من بعيد وتيقّن أنّه حسّاس ومتحرّك بالإرادة ، فتصوّر ذلك الشبح الذي هو جزئي حقيقي ووضع اللفظ بإزاء معنى كلّي منطبق عليه وعلى غيره من الأفراد ، فالمتصوّر جزئيّ والموضوع له كلّي.

__________________

(١) بدائع الأفكار : ٤٠.

١٢٥

والحاصل : أنّ الوضع إذا تعلّق بالفرد باعتبار وجود صفة فيه يسري إلى كلّ ما تجد فيه تلك الصفة.

والجواب الذي أشار إليه في الكفاية وصرّح به الآخرون : أنّه ليس هنا لحاظ واحد ، بل الواضع ينتقل من تصوّر جزئي إلى تصوّر كلّي ويضع اللفظ لمتصوّره الثاني ، فيكون الوضع والموضوع له عامّا ، وهذا خارج عن محلّ الكلام.

أقول : والحقّ في المسألة ما قال به المحقّق الرشتي قدس‌سره إذ الخاصّ يحكي عن العامّ ، والتغاير المفهومي لا يوجب عدم حكايته عنه ، فإنّ الإنسان والحيوان الناطق أيضا متغايران من حيث المفهوم ، وحمل أحدهما على الآخر لا يكون حملا أوّليّا عند بعض ، مع أنّه لم يقل أحد بعدم حكايتهما عن الآخر ؛ إذ الوجدان حاكم بأنّ لازم تصوّر الإنسان المتقيّد بالخصوصيّة الزيديّة تصوّر الإنسان ابتداء ولو بنحو دخول التقيّد ، ولا يمكن لحاظ هذا العنوان بدون لحاظ الإنسان ابتداء.

ولا يسمع كلام من يقول : بأنّا نتصوّر الرقبة المقيّدة بالإيمان بدون تصوّر كلّي الرقبة ؛ إذ التقيّد داخل في العنوان ؛ لأنّا نقول : إنّ المرحلة الاولى من مراحل تحقّق عنوان الأفراد عبارة عن وجود الماهيّة. والمرحلة الاخرى تحقّق خصوصيّات فرديّة ، ومعنى الفرديّة عبارة عن ماهيّة الإنسان المتخصّصة بخصوصيّات فرديّة ، ولا يمكن ملاحظة الفرديّة بدون ملاحظة الماهيّة قبلها. ومن المعلوم أنّا لا نشكّ دخالة الإنسانيّة في تسمية المولود ، ولذا لو سمّى الوالد ولده باسم عليّ ـ مثلا ـ لم يسأل ويقال له : لم لا تسمّيه باسم تفّاح أو طيّارة ـ مثلا ـ فإنّه ينادي بأعلى صوت بأنّ هذا إنسان ، وتسمية الإنسان بهذه

١٢٦

الأسماء غير معمول ، بل غير معقول عند العقلاء ، وهذا كاشف عن تصوّر الإنسانيّة عند تسمية المولود ، فالخاصّ يكون حاكيا ومرآة للعامّ ، فيكون هذا القسم من الأقسام الأربعة بمكان من الإمكان ، بخلاف عكسه كما مرّ آنفا.

وقد عرفت أنّه لا كلام ولا إشكال في إمكان وقوع القسمين الأوّلين من الأقسام الأربعة ، ولكن استشكل في القسم الأوّل منهما ـ أي الوضع العامّ والموضوع له العامّ ـ وهو أنّ الاصوليّين يقولون بأنّه لا بدّ للواضع في مقام الوضع من تصوّر اللفظ والمعنى ، وأنّ الوضع بأيّ معنى كان لا يمكن بدون لحاظ اللفظ والمعنى ؛ والفلاسفة يقولون بأنّ الماهيّة قد تتحقّق في الخارج وقد تتحقّق في الذهن ، وأنّ وجودها الذهني عبارة عن إحضارها في وعاء الذهن وتصوّرها ذهنا. ولا يخفى أنّ الوجود ـ سواء كان في الخارج أو في الذهن ـ ملازم ومساوق للتشخّص والجزئيّة.

وحاصل هذين القولين أنّه لا يمكن أن يكون المعنى الموضوع له عامّا ، فإنّه يصير في مقام التصوّر جزئيّا.

وجوابه : عبارة عن أمرين :

الأوّل : أنّه سلّمنا أنّ المتصوّر يصير جزئيّا بالتصوّر ، ولكنّ اللفظ يوضع بإزاء المعنى العامّ الذي يجيء في الذهن ، إلّا أنّ القيد خارج ولا دخل له في الموضوع له ، فيكون المعنى الذي وضع اللفظ بإزائه عبارة عن ذات المتصوّر وهو عامّ ، كما أنّ الوضع أيضا عامّ ، ولا معنى له سوى تصوّر العامّ.

الثاني : أنّ التصوّر عبارة عن استخفاء صورة الشيء في الذهن ، سواء كان المتصوّر كلّيّا أو جزئيّا ، ولكن كانت هذه الصورة مرآة للمتصوّر وحاكية عنه ، فيكون المتصوّر موجودا بوجودين : أحدهما في الخارج ، والآخر في الذهن ،

١٢٧

ويقال للصورة الذهنيّة : إنّها ملحوظة بالذات ، وللموجود في الخارج : إنّها ملحوظة بالعرض.

وهكذا في الكلّيّات ، فإذا تصوّرنا كلّيّا تجيء صورة منه في الذهن ، فيكون الكلّي ملحوظا بالعرض وهذه الصورة الذهنيّة ملحوظة بالذات ، ولكنّ الأحكام بتمامها تكون للملحوظة بالعرض ، فإن قلت : زيد موجود في الخارج ـ مثلا ـ وهو لا يكون سوى الملحوظ بالعرض.

وهكذا الحال في القضايا التي يكون محمولها كلمة «معدوم» أو «ممتنع» ، مثلا : تقول : «شريك الباري ممتنع» ، فهذه قضيّة حمليّة ، وهي تحتاج إلى التصوّر ، وتصوّر شريك الباري عبارة عن إيجاده في الذهن. ومعلوم أنّ الملحوظ بالذات بعد إيجاده في الذهن لا يكون ممتنعا ، فيكشف أنّ المحمول فيها عبارة عن الملحوظ بالعرض الذي يحكي الذهن عنها ، فيكون هو الممتنع.

وهكذا في القضايا التي تكون المحمول فيها هو المعدوم ، وهكذا في باب الوضع ؛ إذ الملحوظ بالذات وإن كان جزئيّا بلحاظ وجوده في الذهن بعد التصوّر ، ولكنّه ليس بموضوع له ، بل الموضوع له عبارة عن الملحوظ بالعرض وهو نفس المعنى وذات المتصوّر. فهذا الإشكال في غير محلّه.

تنبيه :

ذكر المحقّق العراقي قدس‌سره (١) للقسم الأوّل من الأقسام الأربعة ـ أي الوضع العامّ والموضوع له العامّ ـ معنى آخر غير المعنى المشهور ، وجعله المبنى لكثير من المباحث الاصوليّة ، ولكن قبل بيان هذا المعنى ذكر توضيحا للمعنى المشهور ، وهو : أنّه يتصوّر على وجهين :

__________________

(١) مقالات الاصول ١ : ٧٢ ـ ٧٥.

١٢٨

الأوّل : أنّ واضع طبيعي اللفظ لطبيعي المعنى يتصوّر ذات المعنى ونفس الماهيّة مجملا عارية عن القيد والخصوصيّة حتّى عن التقيّد بالإطلاق ، ويعبّر عنه «بلا بشرط المقسمي» يعني : ذات الماهيّة ، ويوضع اللفظ بإزاء هذا المعنى.

الثاني : أن يتصوّر مع قيد وخصوصيّة وهي خصوصيّة الإطلاق والجريان في الأفراد ، وهذا قسم آخر من عموم الوضع والموضوع له ، فيكون كلاهما من القسم الأوّل من الأقسام الأربعة للوضع ، والفرق بينهما واضح ، وتترتّب عليهما ثمرات :

منها : ما في القضيّة الحمليّة مثل : «زيد إنسان» ؛ إذ الملاك في الحمل هو الاتّحاد والهوهويّة في الوجود الخارجي ، وحينئذ إن كان معنى الإنسان هاهنا من قبيل الأوّل ـ أي نفس الماهيّة بلا قيد ـ فيكون بين «زيد» و «إنسان» اتّحاد في الخارج ، وأمّا إن كان معنى الإنسان من قبيل الثاني ـ أي الإنسان الساري في جميع الأفراد ـ فلا يكون بينهما اتّحاد وهوهويّة ، فإنّ زيدا متحد مع ماهيّة الإنسان لا مع الإنسان الجاري في جميع الأفراد ، إلّا أن نرتكب مجازا بأن نستعمل اللفظ الموضوع للكلّ ـ الإنسان المقيّد بالسريان ـ في الجزء ، فلا بدّ لنا من ارتكاب المجاز هاهنا إن كانت القضيّة حمليّة.

ومنها : ما في تقييد المطلق ، مثلا : إذا قال المولى : «اعتق رقبة» ثمّ قال في ضمن دليل آخر : «لا تعتق رقبة كافرة» فإن كان معنى الرقبة من قبيل الأوّل فلا يكون هذا التقييد مستلزما للمجازية في المطلق ؛ إذ الدال والمدلول متعدّد ، وأمّا إن كان من قبيل الثاني فيكون القيد في الدليل الثاني قرينة على أنّ المراد من الرقبة في الدليل الأوّل هي الرقبة المؤمنة ، ويستكشف منها مجازيّة هذا الاستعمال ، فيكون تقييد الإطلاق على الثاني مستلزما للمجازيّة.

١٢٩

ولكنّه قدس‌سره لم يقل بأحد هذين المعنيين ، بل هو قائل بالمعنى الثالث هاهنا.

وذكر (١) قبل بيان المعنى مقدّمة فلسفيّة ، وهي : أنّ أعاظم الفلاسفة يعتقدون بأصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة ، ويقولون في توضيح اعتباريّة الماهيّة وانتزاعيّتها : إنّ الوجود أصيل في جميع مراتب وجوديّته ، وأمّا العناوين الحاكية عنها فلا واقعيّة لها ، فإنّ عنوان الجسميّة الحاكية عن المرحلة الأدنى للوجود ـ أي مرحلة الشاغل للحيّز ـ عنوان اعتباريّة وانتزاعيّة لا واقعيّة له في قبال واقعيّة وجود الحيّز ، وهكذا عنوان النامي وعنوان الحيوان والإنسان ، الحاكي كلّ منها عن مرحلة من المراحل الوجوديّة التي تقوى المرتبة العاليّة منها من سافلتها ، فإنّ مرحلة الناطقيّة أقوى من مرحلة الحسّاسيّة والتحرّك بالإرادة ، وهي أقوى من مرحلة النمو ، وهذه العناوين اعتباريّة وانتزاعيّة وحاكية عن المراحل الوجوديّة ، ولا دخل لها في الواقعيّة الوجوديّة.

وإذا كان الأمر كذلك فالارتباط الموجود بين هذه المرتبة القويّة وأفرادها كيف يتصوّر؟ أي الجهة المشتركة التي بها تمتاز أفراد كلّ نوع من أفراد النوع الآخر ، ولا يمكن القول باشتراكها في ماهيّة الإنسان ـ مثلا ـ إذا الماهيّة انتزاعيّة واعتباريّة ، والأصيل هو الوجود المساوق واللازم للتشخّص والجزئيّة.

وأيضا لا يمكن القول بما قال به الرجل الهمداني من كون نسبة الكلّي إلى أفراده نسبة الأب إلى أبنائه ، أي يتغاير الكلّي مع أفراده من حيث الوجود. بل لا بدّ من القول : بأنّ كلّ واحد من أفراد الطبيعة أب وابن ، مثلا : «زيد» حصّة من الإنسان و «بكر» حصّة اخرى منه ، هذه جهة الابوّة ، والخصوصيّات الفرديّة منهما تكون جهة البنوّة ، ف «زيد» مركّب من حصّة من الإنسان

__________________

(١) مقالات الاصول ١ : ٧٤.

١٣٠

وخصوصيّاته الفرديّة ، و «بكر» مركّب من حصّة اخرى منه وخصوصيّاته الفرديّة.

والحاصل : أنّ الإنسان وضع للوجود السعي المنطبق على كلّ الحصص ، ولا تقل : فكيف لاحظ الواضع في مقام الوضع هذه الحصص المتعدّدة؟ فإنّا نقول : يكفي في مقام الوضع التصوّر الإجمالي ، كما يكفي في القضيّة الحقيقيّة تصوّر موضوعها إجمالا ؛ إذ الموضوع فيها عبارة عن الأفراد المحقّقة الوجود والمقدّرة الوجود ، فهذا معنى الوضع العامّ والموضوع له العامّ.

ولا يخفى ما في كلامه قدس‌سره : أوّلا : أنّ كلامه في نسبة الكلّي إلى أفراده مخالف للواقع ، ولما قال به المنطقيّون ، حيث يرون أنّ كلّي الطبيعي يوجد بوجود فرده ، فإذا تحقّق فرد من أفراده في الخارج فهو تمام الطبيعي لا حصّة منه ، فلو تحقّق ـ مثلا ـ «زيد» في الخارج يتحقّق الإنسان بتمامه وكماله ، لا حصّة من حصصه ، مع أنّ لازم مقالته تحقّق الإنسان بكماله بتحقّق مجموع الحصص والأفراد فقط.

هذا ، مع أنّ قضيّة «زيد إنسان» قضيّة حمليّة صحيحة بلا شكّ ، وحملها حمل شائع ، وملاك الحمل ـ أي الاتّحاد في الوجود الخارجي ـ موجود فيها بلا تجوّز واستعارة ، وهو متّفق عليه ، ولكن لازم القول بالحصّة ارتكاب المجاز في هذه القضيّة أيضا ـ أي «زيد» حصّة من الإنسان ـ وإلّا لم يكن بينهما ارتباط أصلا ، فهذا القول خلاف الواقع والمنطق ، مع أنّه لا مأوى للمفهوم الكلّي سوى الذهن والعقل.

وثانيا : أنّه ما معنى قولك : إنّ الإنسان عنوان حاك عن الواقعيّة الوجوديّة ـ أي الوجود السعي ـ منتشر في الأفراد؟ إن فرضنا كلّيّا كان له مائة فرد ، هل

١٣١

الواقعيّة الخارجيّة أيضا تكون مائة أم تكون مائة وواحدة؟ إن قلت بالأوّل فأين ما وضع له الإنسان والواقعيّة التي كانت جامعة لهذه الأفراد؟ وإن قلت بالثاني ـ كما هو الظاهر من كلامك ـ فهذا ما قال به الرجل الهمداني ، وهو مردود عندك أيضا ، فهذا المعنى الذي ذكره المحقّق العراقي قدس‌سره غير تام.

ولا يخفى أنّه لا واقعيّة لكلّي الطبيعي في قبال واقعيّة أفراده ، بل كلّ فرد من الأفراد له واقعيّة إنسانيّة وخصوصيّات فرديّة يشترك في الأوّل مع سائر الأفراد ، وفي الثاني يتغاير معها ، وهذا المعنى لا ينافي أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة.

وأمّا الكلام في الجهة الثالثة : وهي مرحلة الإثبات والوقوع خارجا ومصداقا ، وأنّ الأقسام الممكنة المذكورة هل يكون لها مصداق في الخارج أم لا؟ فنقول : لا إشكال في وقوع الوضع العامّ والموضوع له العامّ كوضع أسماء الأجناس ، ومثّلوا للوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ بالأعلام الشخصيّة. ولكن يرد عليه إشكال غير قابل للذبّ ، وهو مبتنى على مقدّمتين :

إحداهما : أنّ الموجود في الذهن مع وصف كونه في الذهن مباين للموجود الخارجي مع كونه في الخارج ، ولا يمكن الجمع بينهما.

وثانيتهما : أنّ الوجود الذهني عبارة عن تصوّر الشيء والتفات النفس إليه ، فيكون لنا عند تصوّر الشيء ملحوظان : أحدهما : ملحوظ بالذات ، وهي الصورة الذهنيّة الحاصلة من تصوّر الشيء. والآخر : ملحوظ بالعرض ، وهو الشيء المتصوّر.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ ما وضع له لفظ «زيد» ـ مثلا ـ هو الملحوظ بالعرض أم الملحوظ بالذات؟ وعلى أيّ حال لا يخلو من إشكال ، فإن كان

١٣٢

الموضوع له هو الملحوظ بالذات فلا يمكن إطلاق لفظ «زيد» على الموجود الخارجي ؛ إذ الذهن والخارج متباينان ، مع أنّ إطلاقه عليه مجازا غير معقول.

وإن كان الموضوع له هو الملحوظ بالعرض يلزم أن يكون قولنا : «زيد موجود في الخارج» قضيّة ضروريّة ، فإنّه من قبيل الضروريّة بشرط المحمول ، ومعناه : أنّ هذا الشيء الموجود في الخارج موجود فيه ، ومن البديهي أنّ كلّ قضيّة حمليّة ممكنة إن اخذ تقيّدها بالمحمول في الموضوع تنقلب إلى الضروريّة ، مثل : «زيد القائم قائم» ، مع أنّه من المسلّم أنّ «زيد موجود» ك «الإنسان موجود» قضيّة ممكنة ، فأين الجزئيّة التي ادّعيت في موضوع له الأعلام الشخصيّة؟! فلا بدّ من القول بكونها موضوعة للماهيّة الكلّيّة ، ولكن مصداقها منحصر بفرد واحد ، ولا دخل للوجود فيه لا خارجا ولا ذهنا ، نظير مفهوم واجب الوجود الكلّي الذي لا ينطبق إلّا على فرد واحد ، والمفهوم الكلّي في الأعلام الشخصيّة عبارة عن العناوين الكلّيّة.

مثلا : المولود المذكّر الذي ولد في زمان كذا ومكان كذا في طائفة كذا ولأب وأمّ كذا نسمّيه ب «زيد» ، ولكنّ هذه العناوين الكلّيّة لا تنطبق خارجا إلّا على فرد واحد ، ولذا جرت سيرة الناس في الإخبار عن معدوميّة المسمّيات في زمان وموجوديّتها في زمان آخر ، ويقال : لم يكن «زيد» في ذلك الزمان بل وجد بعده ، فيستكشف أنّ الموضوع له فيها هو العناوين الكلّيّة ، فيدخل تحت عنوان «الوضع العامّ والموضوع له العامّ».

على أنّه لو كان الموجود الخارجي موضوع له للفظ «زيد» يرد عليه إشكال آخر ، وهو أنّهم قالوا : بأنّ قضيّة «الإنسان معدوم» وقضيّة «زيد معدوم» يكون كلاهما من القضايا الصادقة بلا فرق بينهما. أمّا القضيّة الاولى

١٣٣

فإنّ ماهيّة الإنسان نسبتها مساوية إلى الوجود والعدم ، ولكن للاصوليّين بحث في زمان معدوميّة ماهيّة الإنسان ويقولون : بأنّ الوجود الطبيعي يكون بوجود فرد من أفراده ، وعدمه يكون بعدم جميع أفراده.

ولا يخفى أنّ لنا هاهنا كلاما بأنّ الطبيعي موجود ومعدوم في آن واحد ، وأنّه معروض للوجود والعدم في زمان واحد ، والمحال أن يكون فرد منه معروضا لكليهما في آن واحد. وسيأتي إن شاء الله في مباحث النواهي بتمامه.

وعلى هذا المبنى فكما أنّ ماهيّة الإنسان تكون موجودة فعلا بلحاظ أفراده الموجودة ، كذلك تكون فعلا معدومة بلحاظ الأفراد التي توجد بعد ذلك ، ويجوز أيضا فرض أنّ ماهيّة الإنسان كانت معدومة قبل الخلقة ثمّ صارت موجودة ، مع أنّه لا نشكّ في بطلان هذا التعبير في الأعلام الشخصيّة إذا كان الموضوع له فيها وجودا خارجيّا وملحوظا بالعرض ، فإنّ للوجود الخارجي دخل في معنى «زيد» ومقيّد به ولا يتصوّر المعدوميّة للهيكل المقيّد بالوجود الخارجي ، ولذا لا يصحّ القول بأنّ «زيدا» كان معدوما ثمّ صار موجودا ، وهذا دليل على أنّ الموضوع له فيها لا يكون الموجود الخارجي.

ويمكن أن يقال للتخلّص عن الإشكالات بأنّ الأعلام الشخصيّة داخلة تحت عنوان الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، ولكنّ المعنى الخاصّ لا يكون مقيّدا بالوجود الخارجي والذهني ، بل يكون له معنى ثالث ، وهو كون الموضوع له معنى كلّيّا ذا فرد واحد ، وهذا أيضا يقال له : الخاصّ.

وأمّا الكلام في المقام الثاني ـ أي تصوّر اللّفظ ـ فلا يخفى أنّ هاهنا تقسيم آخر بلحاظ كيفيّة تصوّر اللّفظ حين الوضع ؛ إذ الواضع إمّا يلاحظ اللفظ بمادّته وهيئته ، كما في أسماء الأجناس وأعلام الأشخاص ، وإمّا لا يلاحظ المادّة

١٣٤

والهيئة كما في الجمل الاسميّة ، بناء على أن يكون للمركّبات وضعا على حدة ، مثل : «زيد قائم» و «عمر وقاعد» ؛ إذ لا نشكّ في أنّها غير محدودة من ناحية المادّة ، وهيئاتها وإن كانت محدودة ولكن لم تقيّد بخصوصيّة خاصّة.

وإمّا يلاحظ المادّة فقط ، كما في موادّ المشتقّات مثل : مادّة «ض ، ر ، ب» للضرب مع انحصار الحروف الأصليّة فيها ، وهي تدلّ على معناه في ضمن هيئات مختلفة وإن كان عروض الهيئات عليها موجبا لزيادة المعنى حتّى هيئة المصدر.

وإمّا تلاحظ الهيئة فقط كما في هيئة الفاعل ؛ إذ لا دخل للمادّة فيها حتّى مادّة «ف ، ع ، ل».

إذا تمهّد هذا فنقول : لا شكّ في أنّ الوضع في الأوّل شخصيّ ، وفي الثاني نوعيّ ، وأمّا في القسمين الأخيرين فاختلف العلماء على أقوال : الأوّل : ما يستفاد من كلام صاحب الكفاية قدس‌سره وهو : أنّ الوضع في كليهما شخصيّ ، والثاني : قاله المحقّق العراقي قدس‌سره وهو : أنّ الوضع في كليهما نوعيّ.

ولكنّ الحقّ التفصيل الذي يستفاد من المحاضرات (١) ، وهو : أنّ الواضع إن لاحظ المادّة وحدها فالوضع شخصيّ ، وإن لاحظ الهيئة وحدها فالوضع نوعيّ. وقال في مقام الاستدلال للأوّل : بأنّ الواضع لم يلحظ فيها في مقام الوضع إلّا شخص اللفظ بوحدته الطبيعيّة وشخصيّته الممتازة ، فالموضوع هو ذلك اللّفظ الملحوظ كذلك ، سواء كان الموضوع له معنى عامّا أو خاصّا ، وعدم لحاظ الهيئة لا يوجب نوعيّة الوضع فيها ، كعدم لحاظ آخر الكلمة في الأعلام الشخصيّة.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ١١١ ـ ١١٣.

١٣٥

وللثاني بأنّه لمّا كانت الهيئة مندمجة في المادّة غاية الاندماج فلا يعقل لحاظها بنفسها مع قطع النظر عن المادّة ؛ إذ لا وجود لها بدونها في الوجود الذهني فضلا عن الوجود العيني ، فتجريدها عن المواد لا يمكن حتّى في مقام اللّحاظ ، فلا محالة يجب الوضع لأشخاصها بجامع عنواني كقولك : «كلّ ما كان على هيئة الفاعل» لا بشخصيّتها الذاتيّة ، هذا هو معنى نوعيّة الوضع ، وأمّا معنى شخصيّة الوضع فهو : لحاظ الواضع شخص اللفظ بوحدته الطبيعيّة وشخصيّته الذاتيّة كما مرّ. هذا تمام الكلام في أقسام الوضع إلى هنا.

وأمّا البحث عن وقوع الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فقد ذهب جماعة إلى أنّ وضع الحروف من هذا القبيل.

المعنى الحرفي

لا يخفى عليك أنّ البحث في باب الحروف والمعاني الحرفيّة من المباحث المهمّة ، مع أنّه يوجب التوسعة وتهيّؤ الذهن للمباحث الآتية ، وتترتّب عليه فوائد كثيرة ، منها : في مسألة الواجب المشروط بأنّ الشرط فيها هل يرجع إلى المادّة أو إلى الهيئة التي هي من المعاني الحرفيّة؟ وعلى فرض رجوعه إلى الهيئة ـ كما قال به المشهور ـ هل يكون للمعنى الحرفي معنى عامّ حتّى يكون قابلا للتقييد أو يكون له معنى خاصّ وجزئي غير قابل للتقييد؟ وهذا هو معركة الآراء بين العلماء.

وهكذا في باب المفاهيم تترتّب عليه ثمرات ، منها : في مسألة أداة الشرط بأنّه هل لها إطلاق أم لا؟ فلا يخلو البحث فيها عن فائدة كما توهّم ، وفيه أقوال :

١٣٦

الأوّل : للمحقّق الخراساني (١) تبعا للمحقّق الرضي قدس‌سرهما ـ وهو قول آخر في مقابل المشهور ـ وهو : إنّ المعنى الحرفي والاسمي متّحدان بالذات في جميع المراحل الثلاثة ـ أي الوضع والموضوع له والمستعمل فيه ـ وإن كان بينهما اختلاف من حيث لحاظ أحدهما استقلاليّا والآخر آليّا ، إلّا أنّ اللحاظ بأيّ نحو كان خارج عن حريم المعنى ، بل هو من شئون الاستعمال وتوابعه.

وما يستفاد من كلامه قدس‌سره في جواب المشهور أنّه مرّ مرارا أنّ خصوصيّة الموضوع له مساوق مع وجوده وجزئيّته ، فلا محالة يكون الموضوع له في الحروف جزئيّا. ثمّ يسأل بأنّه هل المراد من الجزئي الجزئي الخارجي أو الذهني؟ ولا ثالث له ، ولا شكّ في أنّهما متباينان لا يجتمعان ولا يرتفعان ، ولا يمكن أن يكون الوجود بدونهما ولا معهما.

إن قلت : إنّ الموضوع له في الحروف جزئيّ خارجيّ بأنّ الواضع في مقام وضع كلمة «من» لاحظ المفهوم الكلّي للابتداء ، ولكن وضعه لمصاديقه الخارجيّة.

قلنا : إنّا نرى كثيرا ما أنّ كلمة «من» تستعمل في مقام الأمر ، ولا شكّ في أنّه لا يمكن أن يكون المأمور به أمرا خارجيّا ؛ إذ الخارج ظرف سقوط التكليف لا ظرف ثبوته ، فلا بدّ أن يكون المأمور به في مقام تعلّق الأمر أمرا كلّيّا ، وإلّا لا معنى لقول المولى : «سر من البصرة إلى الكوفة» في مقام إنشاء التكليف ، ولا يمكن القول ببطلان هذا التعبير أو استعماله مجازا ، بل لا فرق وجدانا بينه وبين قولنا : «سرت من البصرة إلى الكوفة» بل ولا شكّ في صحّة استعمال جملة «إنّي أسير من قم» في الاستقبال ، وهذا الإخبار عن الاستقبال

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٣.

١٣٧

إخبار صحيح حتّى مع عدم علم المتكلّم من زمان السير وانتهائه ، وهذا دليل على أنّه لا دخل للجزئيّة الخارجيّة في المعاني الحرفيّة ؛ إذ الموضوع له فيها كالوضع يكون كلّيّا.

إن قلت : إنّ المراد من الجزئيّة هي الجزئيّة الذهنيّة ، بأنّ كلمة «من» وضعت للابتداء الذي لوحظ وصفا وآلة للغير ، ولعلّ هذا المعنى يستفاد من كلام النحويّين في مقام تعريف الحرف ، من أنّه كلمة تدلّ على معنى في غيره.

قلنا : وفي هذا المعنى إشكالات متعدّدة :

منها : أنّ المولى إن قال : «سر من البصرة إلى الكوفة» فلا شكّ في أنّه قابل للامتثال أوّلا ، والامتثال يكون بالسير الخارجي ثانيا ، فعلى هذا يكون الامتثال مباينا للمأمور به ؛ إذ المأمور به مقيّد بالأمر الذهني ، والامتثال بالسير يتحقّق بالأمر الخارجي ، وبينهما بون بعيد.

ومنها : أنّ اللحاظ لو كان موجبا للجزئيّة فلم لا يكون موجبا لها في الأسماء ، فإنّ معنى الابتداء عبارة عن الابتداء الذي لوحظ مستقلّا ، ولازم ذلك أن يكون المعنى في الأسماء أيضا جزئيّا.

ومنها : أنّ تحقّق الاستعمال يحتاج إلى لحاظين ـ يعني لحاظ اللّفظ والمعنى ـ فإنّه عمل إرادي ، وكلّ عمل إرادي مسبوق باللحاظ ، ولكن بلحاظ كونه وصفا إضافيّا يحتاج إلى تصوّر اللفظ ، إلّا أنّ هذا التصوّر لكثرة انس الذهن بالألفاظ والمعاني كان سريع التحقّق وبلا التفات إليه.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إنّ في جملة «سرت من البصرة إلى الكوفة» تتحقّق معاني اسميّة وحرفيّة ، ولا نشكّ في أنّ المعاني الاسميّة ـ كالبصرة ، والكوفة ، والسير ـ تحتاج إلى لحاظين ، ولكن في كلمة «من» و «إلى» مع أنّهما

١٣٨

لا يحتاجان في الواقع إلى الأزيد من لحاظين ، ولكن إن قلنا : بمدخليّة خصوصيّة ذهنيّة في معناهما فلا بدّ من لحاظ ثالث فيهما ، فإنّ معنى «من» عبارة عن الابتداء الذي لوحظ آلة للغير.

والحاصل : أنّ استعمال كلمة «من» يحتاج إلى لحاظ اللفظ أوّلا ، وإلى لحاظ الابتداء آلة للغير ثانيا ، وإلى لحاظ مجموع القيد والمقيّد بعنوان المعنى ثالثا ، ويعبّر عن الثاني باللحاظ الآلي ، وعن الثالث باللّحاظ الاستعمالي ، مع أنّ الوجدان يأباه.

إن توهّم أنّ اللحاظ الثاني كاف ولا نحتاج إلى اللحاظ الثالث ، قلنا : إنّ لازم ذلك تقدّم الشيء على نفسه ، فإنّ اللحاظ في المعاني الحرفيّة اخذ قيدا للمعنى ، وهو مقدّم على الاستعمال من حيث الرتبة ، واللحاظ الاستعمالي متأخّر عن المعنى.

والحاصل : أنّ المعاني الحرفيّة لم تكن جزئيّة ، بلا فرق بين الجزئيّة الخارجيّة والذهنيّة ، بل هي متّحدة مع المعاني الاسميّة في جميع المراحل الثلاثة.

إن قلت : فعلى هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى ، ويلزم أن يكون مثل كلمة «من» و «الابتداء» مترادفين ، وصحّة استعمال كلّ منهما موضع الآخر ، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها.

قلنا : إنّ هذا باطل كما هو واضح.

وما قاله صاحب الكفاية قدس‌سره فيه احتمالات ، والمهمّ منها احتمالان :

الأوّل : أنّ الواضع حين وضع كلمة «الابتداء» لاحظ مفهوما كلّيّا بما أنّه مفهوم كلّي الابتداء ، ثمّ وضع لفظ «الابتداء» ولفظ «من» لهذا المفهوم واستعملهما فيه ، والفرق بينهما في شرط الوضع كالشرط في باب المعاملات ؛

١٣٩

إذ الواضع في مقام الوضع اشترط أنّ صحّة استعمال كلمة «من» في هذا المفهوم الكلّي مشروط بلحاظه آلة للغير ، وصحّة استعمال كلمة «الابتداء» فيه مشروط بلحاظه مستقلّا.

ولكن هذا الاحتمال مخدوش من جهات : الاولى : أنّه لا دليل لنا لوجود هذا الشرط مع خلوّ كتب اللغة عنه.

الثانية : أنّه على فرض وجوده لا دليل يدلّ على وجوب اتّباعه ، فإنّ كون الله تعالى واضعا غير معلوم ، وأمّا لزوم اتّباع الشرط في المعاملة فتكون لتعهّد المتعاملين أوّلا ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المؤمنون عند شروطهم» (١) ثانيا.

وأمّا في باب الوضع مع فقدان المستعمل حين الوضع فلا دليل على لزوم اتّباعه.

الثالثة : على فرض وجود هذا الشرط حين الوضع ولزوم اتّباعه فهذا التزام في التزام ، ومطلوب في ضمن مطلوب آخر ، وتخلّف الالتزام الثاني لا يوجب بطلان الالتزام الأوّل ، كما أنّ تخلّف الشرط في المعاملة لا يوجب بطلان المعاملة ، بل يوجب الخيار كما هو واضح ، مع أنّ استعمال كلمة «من» بدل كلمة «الابتداء» وبالعكس باطل بلا إشكال.

الثاني : أنّ الواضع لاحظ المفاهيم في مقام الوضع ورأى بينها اختلافا من حيث الأصالة والتبعيّة ، فإنّ مفهوم الإنسان ـ مثلا ـ كان من المفاهيم الأصيلة غير الآليّة ، فوضع لفظ الإنسان له بعنوان الوضع العامّ والموضوع له العامّ ، بخلاف مفهوم الابتداء فإنّ الواضع رأى أنّ فيه يتحقّق نوعان من اللحاظ ، وكلاهما مورد الاحتياج حين الاستعمال من حيث الاستقلاليّة والآليّة ، فوضع

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٥ : ٩٦ ، الحديث ١٨.

١٤٠