دراسات في الأصول - ج ١

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-92-7
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٧٠

لفظ «الابتداء» لهذا المفهوم ، ولكنّه في صورة لحاظ المستعمل المفهوم استقلالا ووضع لفظ «من» لهذا المفهوم ، ولكنّه في صورة لحاظ المستعمل المفهوم آلة ووصفا للغير.

وبعبارة اخرى : انحصر الواضع وحدّد مورد استعمالهما في هذا المفهوم ، وهذا المعنى مناسب لكلامه قدس‌سره وهو : «الاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجبا لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر وإن اتّفقا فيما له الوضع».

ولكن يرد عليه ما مرّ إجماله آنفا ، وهو : أنّ استعمال كلمة «أسد» في الرجل الشجاع استعمال مجازي بعلاقة المشابهة ، ولا نشكّ في صحّته ، مع كونه مباينا لما وضع له الأسد ، أي الحيوان المفترس.

وأمّا استعمال كلمة «من» في محلّ كلمة «الابتداء» وبالعكس مع أنّهما متّحدان في المراحل الثلاثة ـ أي الوضع والموضوع له والمستعمل فيه ـ فكيف يوجب البطلان؟! ولو أوجب الاختلاف في محدودة الوضع لبطلان الاستعمال ، فالاختلاف في الموضوع له بطريق أولى يوجبه ، مع أنّه لم يقل به أحد.

والحاصل : أنّ من توجيهه قدس‌سره لا يعلم دليل بطلان استعمال أحدهما محلّ الآخر.

واستشكل عليه أيضا بأنّ المستفاد من كلامه قدس‌سره أنّ المعاني الاسميّة مقصودة بالأصالة وبالذات ، والمعاني الحرفيّة مقصودة بالتبع ، مع أنّا نرى أنّ كلّا منهما منقوض في موارد كثيرة ، كما في الآية الشريفة : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ)(١) ، أي حتّى تعلم ، والتبيّن هاهنا طريق وآلة للعلم بالفجر ولا يكون مقصودا بالأصالة ، والأصالة والاستقلال

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

١٤١

تكون لذي الطريق ، مع كون التبيّن من المعاني الاسميّة. ولا يخفى أنّ المراد من المعاني الاسميّة هاهنا ما يقابل المعاني الحرفيّة ، فتشمل الفعل أيضا.

ولكن هذا الإشكال مدفوع بأنّ الموضوعيّة والأصالة هاهنا تكون للتبيّن ، فتبيّن الفجر ملاك الحكم بالامساك عن الأكل والشرب ، لا أنّه طريق لتحقّق الملاك وهو الفجر ، وذو الطريق بيان له ، وعبارة اخرى عنه ؛ إذ لا معنى للفجر بدون التبيّن كما قال به استاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ هذا أوّلا.

وثانيا : أنّه على فرض كون التبيّن طريقا للفجر لا يلزم أن يكون معناه أيضا طريقيّا ، بل لوحظ معناه استقلاليّا ، كما في جملة : «إذا قطعت بحياة ولدك فتصدّق» ، فإنّ كلمة «قطعت» من حيث المعنى لوحظت مستقلّة وإن كانت من حيث المتعلّق طريقا إلى وجوب التصدّق ، وهكذا فوقوع القطع الطريقي موضوعا للحكم دليل على أنّه لوحظ مستقلّا حين الاستعمال ، فالتبيّن وإن كان دخله في الحكم طريقيّا إلّا أنّه في مقام الاستعمال لوحظ مستقلّا.

وأشكل أيضا بأنّ المعاني الحرفيّة أيضا تكون مقصودة بالإفادة في كثير من الموارد ، كما في جملة : «زيد قائم» ؛ إذ المقصود من هذه الجملة الإخبار عن النسبة الموجودة بين الموضوع والمحمول ، مع أنّها من المعاني الحرفيّة ، وكما إذا كان ذات الموضوع والمحمول معلومين عند شخص ولكنّه جاهل بخصوصيّتهما فيسأل عنها.

مثلا : إذا كان مجيء زيد معلوما ، ولكن كانت كيفيّة مجيئه مجهولة عنده من حيث المعيّة والوحدة ، فيسأل عنها ، ثمّ يقال له : أنّه جاء مع عمرو ، فالمنظور والملحوظ بالاستقلال في الإفادة والاستفادة إنّما هو هذه الخصوصيّة التي هي من المعاني الحرفيّة ، بل الغالب في موارد الإفادة والاستفادة عند العرف النظر

١٤٢

الاستقلالي بإفادة الخصوصيّات والكيفيّات المتعلّقة بالمفاهيم الاسميّة ، كما هو واضح ، وهذا البيان لبعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات (١).

وهذا أيضا مدفوع بأنّه خلط بين عنوان المقصود بالذات وعنوان الملحوظ بالاستقلال، وبينهما بون بعيد ، والممتنع في المعاني الحرفيّة هو الثاني بخلاف الأوّل ؛ إذ لا يمكن لحاظ أحد الخصوصيّات ـ كالمعيّة أو النسبة القائمة بين الموضوع والمحمول ـ استقلالا ، مع أنّها يمكن أن تكون مقصودة بالذات.

القول الثاني : ما عن نجم الأئمّة (٢) الشيخ الرضي قدس‌سره : من أنّ الحروف لا معنى لها أصلا ، إنّما وضعت لتكون علامة على كيفيّة إرادة مدخولاتها ، كما يكون الرفع علامة لفاعليّة زيد ـ مثلا ـ في قولنا : «قام زيد» ، كذلك يكون «في» علامة لظرفيّة مدخوله في مثل قولنا : «زيد في الدار» ، من دون أن يكون له معنى مخصوص بعنوان الموضوع له.

ولكن هذا القول مخدوش بل ممنوع ، فإنّا نرى : أوّلا : أنّ اللّغويّين يذكرون للحروف معاني في لغات اخرى كالأسماء ، وهذا دليل على أنّ لها موضوعيّة في جميع اللّغات مثل اللّغة العربيّة.

وثانيا : أنّ الأماريّة والعلاميّة في الحركات الإعرابيّة لا تكون ذاتيّة ، بل هي بجعل الواضع والجاعل ، وذلك في الحقيقة وضع ، وإن عبّر عنه بالعلاميّة.

وثالثا : أنّ الخصوصيّات التي دلّت عليها الحروف والأدوات هي بعينها المعاني التي وضعت الحروف بإزائها ؛ إذ «البصرة» وضعت لذات معناها ، وهي البلد الموجود خارجا ، والخصوصيّة الابتدائيّة خارجة عنها ، فإن لم يكن

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٥٨.

(٢) شرح الكافية ١ : ١٠ و ٢ : ٣١٩.

١٤٣

حينئذ لكلمة «من» معنى الابتدائيّة يلزم التجوّز في الاستعمال ، وهو كما ترى ، فانحصر أن يكون الدال عليها هي الحروف ، ومعلوم أنّ دلالتها عليها ليست إلّا من جهة وضعها بإزائها ، فبطلان هذا القول من الواضحات الأوّليّة.

القول الثالث : ما اختاره المحقّق النائيني قدس‌سره (١) وهو : أنّ المعاني الحرفيّة والمفاهيم الاسميّة متباينان بالذات والحقيقة ؛ إذ المفاهيم الاسميّة مفاهيم إخطاريّة لها تقرّر وثبوت في عالم المفهوميّة ، ولها استقلال ذاتا في ذلك العالم ، وأمّا المعاني الحرفيّة فهي معان إيجاديّة حين الاستعمال ، ولا تقرّر لها في عالم المفهوميّة ولا الاستقلال.

بيان ذلك : أنّه كما أنّ الموجودات في عالم العين على نوعين ـ أحدهما : ما يكون له وجود مستقلّ بحدّ ذاته كالجواهر بأنواعها ، فإنّ وجودها لا يحتاج إلى موضوع محقّق في الخارج. وثانيهما : ما يكون له وجود غير مستقلّ ومتقوّم بالموضوع كالمقولات التسع العرضيّة؛ إذ لا يعقل تحقّق عرض بدون موضوع يتقوّم به ـ فكذلك الموجودات في عالم الذهن على نوعين :

أحدهما : ما يكون له استقلال بالوجود في عالم المفهوميّة والذهن كمفاهيم الأسماء بجواهرها وأعراضها ، فإنّ مثل مفهوم الإنسان والسواد والبياض يحضر في الذهن بلا حاجة إلى معونة خارجيّة.

وثانيهما : ما لا استقلال له ، بل هو متقوّم بالغير في ذلك العالم كمعاني الحروف ؛ إذ لا استقلال لها في أيّ وعاء من الأوعية التي فرض وجودها فيها لنقصانها في حدّ ذاتها ، ولذا إن أطلقت كلمة «من» وأمثال ذلك وحدها من دون ذكر متعلّقاتها لا يحضر منها شيء في الذهن.

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٣٧.

١٤٤

وأشار قدس‌سره إلى نكتة في آخر كلامه والأجود ذكرها هاهنا لتوضيح مراده ، ومحصّل كلامه فيها : ولقد أجاد أهل العربيّة عند ما عبّروا في مقام التفسير عن المفاهيم الحرفيّة بأنّ كلمة «في» للظرفيّة ، ولم يقولوا أنّ «في» هي الظرفيّة ، كما هو ديدنهم في مقام التعبير عن المفاهيم الاسميّة ، وهذا دليل على أنّه لا يكون للحروف معنى مع قطع النظر عن متعلّقاتها. فظهر أنّ المعاني الاسميّة تخطر في الذهن عند التكلّم بها ، سواء كانت مفردة أم في ضمن تركيب كلامي ، ولكن لمّا لم يكن بينها رابطة ذاتيّة توجب ربط بعضها ببعض دعت الحاجة في مقام الإفادة والاستفادة إلى روابط تربط بعضها مع البعض الآخر ، وليست تلك الروابط إلّا الحروف وتوابعها ، فإنّها موضوعة لإيجاد المعنى الربطي بين المفاهيم الاسميّة في التراكيب الكلاميّة ، فلولا وضع الحروف لم توجد رابطة بين أجزاء الكلام أبدا ، بداهة أنّه لا رابطة بين مفهوم «زيد» ومفهوم «الدار» في أنفسهما ؛ لأنّهما مفهومان متباينان بالذات ، ولا بدّ من رابط يربط أحدهما بالآخر ، وليس إلّا كلمة «في» ، كما أنّ كلمة «من» رابط بين المبتدأ به والمبتدأ منه ، وهكذا ، فتبيّن أنّ المعاني الحرفيّة معان إيجاديّة ، وليس لها واقع في وعاء الذهن والخارج وعالم الاعتبار ما عدا عالم الاستعمال.

ونظيرها صيغ العقود والإيقاعات بناء على ما ذهب إليه المشهور من أنّها آلات وأسباب لإيجاد مسبّباتها كالملكيّة والزوجيّة والرقّيّة ونحوها ، ولكنّ الفرق بينها وبين المقام من ناحية اخرى ، وهي : أنّ المعاني الإنشائيّة كالزوجيّة ـ مثلا ـ مستقلّة في عالم المفهوم دون المعاني الحرفيّة هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ المعاني الإنشائيّة موجودة في عالم الاعتبار دون المعاني الحرفيّة ، فإنّ وعاءها عالم الاستعمال فقط ، بل كان حال المعاني الحرفيّة في قبال المعاني

١٤٥

الاسميّة حال الألفاظ في قبال المعاني حين الاستعمال ، في أنّ اللّحاظ في كليهما آليّ غير استقلالي.

وإلى ما ذكرناه ـ أي إيجاديّة المعنى الحرفي ـ أشارت الرواية المنسوبة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) وهي : «أنّ الحرف ما أوجد معنى في غيره». ثمّ قال قدس‌سره : «إنّ هذا التعريف أجود تعريفات الباب من حيث اشتماله على أركان المعاني الحرفيّة كلّها».

ويتلخّص ما أفاده قدس‌سره في امور :

الأوّل : أنّ المعنى الحرفي والاسمي متباينان بالذات والحقيقة.

الثاني : أنّ المفاهيم الاسميّة مفاهيم استقلاليّة بحدّ ذاتها وأنفسها ، والمفاهيم الحرفيّة متقوّمة بغيرها ذاتا.

الثالث : أنّ معاني الأسماء جميعا معان إخطاريّة ، ومعاني الحروف معان إيجاديّة.

الرابع : أنّ حال المعاني الحرفيّة حال الألفاظ في مرحلة الاستعمال.

الخامس : أنّ جميع ما يكون النظر إليه آليّا يشبه المعاني الحرفيّة ، كالعناوين الكلّيّة المأخوذة معرّفات وآليّات لموضوعات الأحكام أو متعلّقاتها.

ولكنّه مخدوش من جهات متعدّدة ويرد عليه إشكالات مهمّة ، ونحن نكتفي هاهنا بأحدها ، وهو الأهمّ ، وبه ينهدم أساس كلامه إن شاء الله.

فنقول : أمّا ما أفاده قدس‌سره من «أنّ المعاني الحرفيّة معان إيجاديّة ، وليس لها واقع في أي وعاء إلّا عالم الاستعمال» ثمّ تنظيره لها بصيغ العقود والإيقاعات ... ، ففي غاية الفساد.

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٠ : ١٦٢.

١٤٦

توضيحه : أنّا نبحث ابتداء في مرحلة ما قبل الاستعمال ، وثانيا : في مرحلة ما بعد الاستعمال.

وأمّا الأوّل : فإنّه إذا كان «زيد» قبل الإخبار والاستعمال موجودا في المدرسة ، وكانت المدرسة بعنوان ظرف مكاني له ، فلا نشكّ في تحقّق واقعيّة ثالثة سوى واقعيّة «زيد» والمدرسة ، وهي عبارة عن واقعيّة كونه في المدرسة. ويؤيّدها شكّ السامع أحيانا بعد إخبار مخبر بأنّ «زيدا» في المدرسة ، فإنّ واقعيّة «زيد» والمدرسة ليست قابلة للشكّ والإنكار ، واتّصاف هذا الخبر بالصدق والكذب حاكية عن واقعيّة ثالثة مشكوكة عند السامع.

ويؤيّدها أيضا أنّه لو ألقى هذه الجملة بصورة اسميّة نقول : المدرسة ظرف «زيد» ، ومعلوم أنّ الظرف اسم له واقعيّة من حيث المعنى ، واستعمال الحرف لا يوجب انعدام الواقعيّة الموجودة ، فلا نشكّ في أنّه يحكي عن واقعيّة ثالثة في المثال.

فتبيّن أنّ للمعاني الحرفيّة حقيقة وواقعيّة ، ولكنّ الواقعيّة قد تكون واقعيّة جوهريّة لا تحتاج في وجودها الذهني والخارجي إلى موضوع ، وقد تكون واقعيّة عرضيّة تحتاج في وجودها الخارجي إلى موضوع ، وقد تكون واقعيّة غير مستقلّة محتاجة إلى الواقعيّتين ، كواقعيّة كون «زيد» في المدرسة وواقعيّة العلم ، فإنّ احتياجه في وجوده إلى العالم والمعلوم لا يوجب سلب الواقعيّة عن العلم ، بل هذا التشبيه يقتضي التزامه قدس‌سره بعكس مطلوبه ؛ لأنّ كلمة «بعت» قد تستعمل في مقام الإخبار ويحكى عن الأمر المحقّق في السابق ، والحرف أيضا قد يستعمل في مقام الإخبار ، مثل : «سرت من البصرة إلى الكوفة» ، ولا بدّ من الالتزام هاهنا بأنّ المعاني الحرفيّة تحكي عن واقعيّة محقّقة في السابق ، فالمعاني

١٤٧

الحرفيّة معان إخطاريّة لها واقعيّة غير مستقلّة.

وأمّا الثاني : فلأنّ استعمال لفظ «الإيجاد» في باب العقود والإيقاعات لا يخلو عن مسامحة ؛ إذ العقد لا يكون علّة موجدة للزوجيّة ، بل الشارع والعقلاء بعد إتمام العقد يعتبرون الزوجيّة للزوجين.

ولو سلّمنا هاهنا أنّ العقد يوجد واقعيّة اعتباريّة بينهما ، ولكن لا نعلم كيفيّة إيجاد الارتباط بواسطة الحروف بين المعاني الاسميّة ، فهل الاستعمال يوجب انتقال «زيد» إلى المدرسة ولو كان في داره نائما؟ فهو غير معقول ، مع أنّك تقول : لا يكون بينهما ارتباط قبل الاستعمال وإن كان «زيد» موجودا في المدرسة ، وليست واقعيّة اخرى سوى واقعيّة «زيد» والمدرسة.

فلا بدّ من توجيه كلامه قدس‌سره بأنّ الأسماء لها معان متحقّقة ، سواء استعملت مفردة أو في ضمن كلام تركيبي ، والحروف لا معنى لها إلّا في ضمن جملات تركيبيّة ، وهي توجب الارتباط بين الأسماء في مقام اللفظ فقط ، ولازم ذلك أنّ الحروف لا معنى لها أصلا ، فلا دليل لتشبيهها بباب العقود والإيقاعات ، مع أنّه أيضا قول مردود كما مرّ بيانه.

القول الرابع : ما اختاره بعض مشايخنا المحقّقين على ما في كتاب المحاضرات (١) في مقام جواب المحقّق الخراساني قدس‌سره وهو : أنّ المعاني الحرفيّة تباين الاسميّة ذاتا بدون الاشتراك في طبيعي معنى واحد ، فإنّ الفرق بين الاسم والحرف لو كان بمجرّد اللحاظ الآلي والاستقلالي وكانا متّحدين في المعنى لكانا قابلين لأن يوجدا في الخارج على نحوين ، كما يوجدا في الذهن كذلك ، مع أنّ المعاني الحرفيّة كأنحاء النسب والروابط لا توجد في الخارج إلّا

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٦٧.

١٤٨

على نحو واحد ، وهو الوجود لا في نفسه.

ثمّ قال توضيحا لذلك : إنّ الفلاسفة قد قسّموا الوجود على أقسام أربعة : القسم الأوّل : وجود الواجب تعالى شأنه ، فإنّ وجوده في نفسه ولنفسه وبنفسه ، يعني أنّه موجود قائم بذاته وليس بمعلول لغيره. القسم الثاني : وجود الجوهر ، وهو وجود في نفسه ولنفسه ، ولكنّه بغيره ، يعني : أنّه قائم بذاته ومعلول لغيره. القسم الثالث : وجود العرض ، وهو وجود في نفسه ولغيره ، يعني : أنّه غير قائم بذاته بل متقوّم بموضوع محقّق في الخارج ، فإنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه ، ويسمّى ذلك الوجود بالوجود الرابطي في الاصطلاح. القسم الرابع : وجود الرابط في مقابل وجود الرابطي ، وهو وجود لا في نفسه ؛ لأنّ حقيقة الربط والنسبة لا توجد في الخارج إلّا بتبع وجود المنتسبين من دون نفسيّة واستقلال لها أصلا ، فهي بذاتها متقوّمة بالطرفين لا في وجودها.

وقد استدلّوا لوجود الرابط بأنّ كثيرا ما كنّا نتيقّن بوجود الجوهر والعرض ، ولكن نشكّ في ثبوت العرض. ومن الواضح جدّا أنّه لا يعقل أن يكون المتيقّن بعينه هو المشكوك فيه ، بداهة استحالة تعلّق صفة اليقين والشكّ بشيء في آن واحد ؛ لتضادّهما غاية المضادّة ، وبذلك نستدلّ على أنّ للربط والنسبة وجودا في مقابل وجود الجوهر والعرض ، وهو المشكوك فيه. هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ وجود الرابط وجود لا في نفسه ؛ إذ النسبة والربط لو وجدت في الخارج بوجود نفسي يلزم ألّا يكون مفاد قضيّة حمليّة ثبوت شيء لشيء ، بل ثبوت أشياء ثلاثة ، فنحتاج حينئذ إلى الرابطة بينها ، فإذا كانت هي أيضا

١٤٩

موجودة في نفسها فنحتاج إلى رابطة اخرى ، وهكذا إلى ما لا يتناهى ويتسلسل ، فالحروف موضوعة للنسب والروابط الموجودات المتقوّمة بالغير بحقيقة ذاتها ، ولها سنخ وجود لا ماهيّة لها ، ولذا لا تدخل تحت شيء من المقولات ، بل كان وجودها أضعف جميع مراتب الوجود.

ثمّ إنّ الحروف والأدوات لم توضع لمفهوم النسبة والربط ، فإنّه من المفاهيم الاسميّة الاستقلاليّة في عالم مفهوميّته ، وإنّما الموضوع لها هو واقع النسبة والربط ، أي ما هو بالحمل الشائع نسبة وربط ، والتي نسبة ذلك المفهوم إليها نسبة العنوان والمعنون ، لا نسبة الطبيعي وفرده ؛ إذ الطبيعي متّحد مع الفرد ذهنا وخارجا ، دون العنوان فإنّه لا يتعدّى عن مرحلة الذهن إلى الخارج ، ومغاير للمعنون ذاتا ووجودا ، كما هو الحال في قولهم : «شريك الباري ممتنع» ، و «المعدوم المطلق لا يخبر عنه» ؛ إذ المحكوم به بهذه الأحكام معنونات هذه الامور لا مفاهيمها ، فإنّها لا تتعدّى عن مرحلة الذهن إلى الخارج ، كيف وأنّها موجودة لا معدومة ولا ممتنعة؟! هذا تمام كلامه قدس‌سره.

أقول : هذا البيان صحيح لا إشكال فيه ، لكن لا في جميع الحروف كما سيأتي تفصيله إن شاء الله ، وأشكل عليه بعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات (١) بإشكالات :

الأوّل : أنّ الصحيح أنّه لا وجود للنسبة في الخارج في قبال الجوهر أو العرض وإن أصرّ على وجودها جماعة من الفلاسفة ، وأمّا الدليل المذكور في كلامه قدس‌سره فغير تامّ ؛ لأنّ صفتي اليقين والشكّ وإن كانتا صفتين متضادّين فلا يكاد يمكن أن تتعلّقا بشيء في آن واحد من جهة واحدة ، إلّا أنّ تحقّقهما في

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٧٠.

١٥٠

الذهن لا يكشف عن تعدّد متعلّقهما في الخارج ، فإنّ الطبيعي عين فرده ومتّحد معه خارجا ، ومع ذلك يمكن أن يكون أحدهما متعلّقا لصفة اليقين ، والآخر متعلّقا لصفة الشكّ ، كما إذا علم إجمالا بوجود إنسان في الدار ، ولكن شكّ في أنّه «زيد» أو «عمرو» فلا يكشف تضادّهما عن تعدّد متعلّقيهما بحسب الوجود الخارجي ؛ لأنّهما موجودان بوجود واحد حقيقة ، وذلك الوجود الواحد من جهة انتسابه إلى الطبيعي متعلّق لليقين ، ومن جهة انتسابه إلى الفرد متعلّق للشكّ. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ اليقين متعلّق بثبوت طبيعي العرض للجوهر ، والشكّ متعلّق بثبوت حصّة منه له ، فليس هنا وجودان أحدهما متعلّق لليقين والآخر للشكّ ، بل وجود واحد حقيقة ، مشكوك فيه من جهة ، ومتيقّن من جهة اخرى.

هذا ، ولكنّ التحقيق أنّ هذا الإشكال من غرائب كلامه ، فإنّ مراده قدس‌سره من التغاير في القضيتين المشكوكة والمتيقّنة ليس إلّا التغاير في الواقعيّة والحقيقة ، ولو كانت من حيث الوجود احداهما فانية في الاخرى ، ولا شكّ في أنّ هذا التغاير موجود بينهما.

توضيحه : أنّ القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة إن كانتا من القضايا الخارجيّة فلا بدّ من أن يكون تغايرهما أيضا في الخارج ، وإن كانتا من القضايا الذهنيّة فلا بدّ من تغاير ذهني بينهما ، واليقين هنا متعلّق بوجود «زيد» والمدرسة ، والشكّ متعلّق بكون «زيد» في المدرسة ، ومعلوم أنّ متعلّقي الشكّ واليقين أمر خارجي ، فلا بدّ من كون تغايرهما أيضا في الخارج ، ولا معنى للتغاير الذهني هاهنا ، وقد تحقّق سابقا أنّ كون «زيد» في المدرسة واقعيّة ثالثة في قبال وجود «زيد» والمدرسة.

١٥١

والتمثيل المذكور في كلامه أيضا غير صحيح ، فإنّ وجود «زيد» في المدرسة أو في الدار ـ مثلا ـ وإن كانت في الابتداء قضيّة واحدة ، ولكنّها تنحلّ إلى قضايا متعدّدة ، فإنّ معنى وجود «زيد» في الدار أنّه الجسم في الدار ، والجسم النامي في الدار ، والحيوان في الدار ، والإنسان في الدار ، والإنسان المتخصّص بخصوصيّات زيديّة في الدار ، ولا شكّ في أنّه لكلّ مرحلة منها واقعيّة وحقيقة. ويمكن أن تقع كلّ مرحلة منها موردا للعلم والجهل أو اليقين والشكّ ، وإن كانت جميعها متّحدة من حيث الوجود خارجا ، إذ ليس البحث هنا في تعدّد الوجود أو تغايره ، بل البحث في تعدّد الواقعيّة ، وهو موجود بلا ريب ، فيمكن أن يكون وجود الإنسان في الدار واقعيّة متيقّنة ، ووجود «زيد» في الدار واقعيّة مشكوكة ، فهذا الإشكال مردود.

والإشكال الثاني : أنّه على تقدير تسليم أنّ للنسبة والروابط وجودا في الخارج في مقابل الجوهر والعرض ولكن لا نسلّم وضع الحروف والأدوات لها ؛ لما بيّناه سابقا من أنّ الألفاظ موضوعة لذوات المفاهيم والماهيّات ، لا للموجودات الخارجيّة ولا الذهنيّة ؛ إذ الاولى غير قابلة للإحضار في الذهن وإلّا لم تكن بخارجيّة ، والثانية غير قابلة للإحضار ثانيا ، فإنّ الموجود الذهني لا يقبل وجودا ذهنيّا آخر ، فلا بدّ من أن يكون الوضع لذات المعنى القابل للنحوين من الوجود : الذهني والخارجي.

وبناء على ذلك لا يمكن أن تكون الحروف موضوعة لأنحاء النسب والروابط ؛ لأنّها ـ كما عرفت ـ سنخ وجود لا ماهيّة لها ، فلا تكون قابلة للإحضار في الذهن.

ولكنّ هذا الإشكال : أوّلا : أنّه منقوض بالوضع الخاصّ والموضوع له

١٥٢

الخاصّ من الأقسام الأربعة المذكورة في الوضع ؛ إذ لا معنى له إلّا أن يلاحظ الواضع ـ كالأب ـ معنى جزئيّا خارجيّا ، فيضع اللفظ له ويقول : جعلت اسم هذا المولود «حسينا» ، فكيف يكون الموجود الخارجي قابلا للإحضار في الذهن في هذا المقام مع أنّ هذا المعنى مسلم عنده؟!

نعم ، تقدّمت المناقشة في مصداقيّة الأعلام الشخصيّة لهذا القسم من أقسام الوضع ، ولكنّها لا توجب إنكار أصل هذا القسم حتّى في مقام الثبوت.

وثانيا : أنّ معنى الموضوع له ليس مفهوما كلّيّا ، فقد يوجد في الذهن وقد يوجد في الخارج ، ولا أنّ الموجود الخارجي حين اللحاظ يحضر في الذهن بوصف خارجي ، بل المعنى أنّ لنا حين اللحاظ ملحوظا بالذات وهو صورة مرتسمة في الذهن من الموجود الخارجي ، وملحوظا بالعرض وهو الموجود في الخارج ، وأنّ الواضع في مقام الوضع بعد اللحاظ يضع اللّفظ للملحوظ بالعرض كما مرّ تفصيله فراجع ، وليس هذا الوضع من دون تصوّر.

وكذلك في ما نحن فيه فإنّ واقع النسبة والربط يكون الموضوع له للحروف ، ومفهومها ليست واقعيّة على حدة حتّى تكون نسبته إلى النسب الخارجيّة نسبة الطبيعي وأفراده ، بل تكون نسبته إليها نسبة العنوان والمعنون ، مثل : العنوان المجتمع في المجلس.

والحاصل : أنّه ليس في ما نحن فيه خصوصيّة زائدة على الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ والوضع العامّ والموضوع له العامّ حتّى يوجب استحالة الوضع فيه ، فتدبّر.

والإشكال الثالث : أنّ الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط ؛ لصحّة استعمالها بلا عناية في موارد يستحيل فيها تحقّق نسبة ما ، فلا فرق بين قولنا :

١٥٣

الوجود للإنسان ممكن ، ولله تعالى ضروري ولشريك الباري مستحيل ؛ لأنّ حرف اللام في جميع ذلك يستعمل في معنى واحد ، وهو تخصيص مدخوله بخصوصيّة ما في عالم المعنى على نسق واحد بلا عناية في شيء منها ، مع أنّه في الأوّل يوجب الارتباط ؛ إذ الإنسان عارض الوجود ومغاير له ، وأمّا في الثاني والثالث فلا معنى له بعد عينيّة الوجود مع الله تعالى في الثاني واستحالة الارتباط في الثالث ، فصحّة استعمال الحروف في هذه الموارد تكشف كشفا يقينيّا عن أنّ الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط في الخارج.

وهذا الإشكال أيضا مدفوع بأنّ الوجود للإنسان ممكن ، فصورة القضيّة وحقيقتها بعد الدقّة العقليّة عبارة عن أنّ الوجود الإمكاني للإنسان ، وهذا لا شبهة فيه.

وحقيقة القضيّة الثانية أنّ الوجود الضروري لله تعالى ، ومعلوم أنّ الارتباط موجود هاهنا ؛ إذ العينيّة تتحقّق بين الله تعالى والوجود ، لا بينه تعالى وضروري الوجود.

وهكذا في القضيّة الثالثة فإنّ حقيقتها أنّ الوجود الممتنع لشريك الباري ، وبينهما نسبة محقّقة واقعيّة بحسب الأدلّة التوحيديّة ؛ إذ لا بدّ في مقام المقايسة بينهما من المقايسة بين امتناع الوجود وشريك الباري ، لا بين الوجود وشريك الباري ، وفي المثال الثاني بين الله تعالى وضرورة الوجود ، لا بينه تعالى والوجود. فهذا الإشكال أيضا في غير محلّه.

القول الخامس : ما اختاره بعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات (١) وهو : أنّ المعاني الحرفيّة تباين المعاني الاسميّة بتمام الذات.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٧٥ ـ ٨٢.

١٥٤

بيان ذلك : أنّ الحروف على قسمين : أحدهما : ما يدخل على المركّبات الناقصة والمعاني الإفرادية «من» و «إلى» و «على» ونحوها ، وثانيهما : ما يدخل على المركّبات التامّة ومفاد الجملة ، مثل : حروف النداء والتشبيه والتمنّي والترجّي ونحو ذلك.

أمّا القسم الأوّل فهو موضوع لتضييق المفاهيم الاسميّة في عالم المفهوم والمعنى ، وتقييدها بقيود خارجة عن حقائقها ، ومع هذا لا نظر لها إلى النسب والروابط الخارجيّة ، ولا إلى الأعراض النسبيّة الإضافيّة ؛ إذ التخصيص والتضييق إنّما هو في نفس المعنى ، سواء كان موجودا في الخارج أم لا.

توضيح ذلك : أنّ المفاهيم الاسميّة بكلّيّتها وجزئيّتها وعمومها وخصوصها قابلة للتقسيمات إلى ما لا نهاية ، باعتبار الحصص أو الحالات التي تتضمّنها ، ولها إطلاق وسعة بالقياس إلى هذه الحصص أو الحالات ، سواء كان الإطلاق بالقياس إلى الحصص المنوّعة مثل : إطلاق الحيوان بالإضافة إلى أنواعه المندرجة تحته ، أو بالقياس إلى الحصص المصنّفة أو المشخّصة ، مثل : إطلاق الإنسان بالنسبة إلى أصنافه أو أفراده ، أو بالقياس إلى حالات شخص واحد ، من حيث كيفه وكمّه وسائر أعراضه الطارئة وصفاته المتبادلة في طول الزمان ومرور الأيّام.

ومن البديهي أنّ غرض المتكلّم في مقام التفهيم والإفادة كما يتعلّق بتفهيم المعنى على إطلاقه وسعته ، كذلك قد يتعلّق بتفهيم حصّة خاصّة منه ، فيحتاج حينئذ إلى مبرز لها في الخارج ، وبما أنّه لا يكاد يمكن أن يكون لكلّ واحد من الحصص والحالات مبرزا مخصوصا ؛ لعدم تناهي الحصص والحالات ، بل عدم تناهي حصص معنى واحد وحالاته ، فضلا عن المعاني الكثيرة ، فلا محالة

١٥٥

يحتاج الواضع الحكيم إلى وضع ما يدلّ عليها ويوجب إفادتها عند قصد المتكلّم تفهيمها ، وليس ذلك إلّا الحروف والأدوات وما شابهها من الهيئات الدالّة على النسب الناقصة ، كهيئات المشتقّات وهيئة الإضافة والتوصيف ، فكلّ متكلّم متعهّد في نفسه بأنّه متى قصد تفهيم حصّة خاصّة من معنى بأن يجعل مبرزه حرفا مخصوصا أو ما يشبهه على نحو القضيّة الحقيقيّة ، لا بمعنى أنّه جعل بإزاء كلّ حصّة أو حالة حرفا مخصوصا أو ما يحذو حذوه ، بنحو الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ؛ لأنّه غير ممكن ـ كما عرفت ـ لعدم تناهي الحصص.

فكلمة «في» في جملة : «الصلاة في المسجد حكمها كذا» تدلّ على أنّ المتكلّم أراد تفهيم حصّة خاصّة من الصلاة ، وكان في مقام بيان حكم هذه الحصّة لا الطبيعة السارية إلى كلّ فرد ، وأمّا كلمتا «الصلاة» و «المسجد» فهما مستعملتان في معناهما المطلق واللابشرط ، بدون الدلالة على التضييق والتخصيص أصلا. ومن هنا كان تعريف الحرف ب «ما دلّ على معنى قائم بالغير» من أجود التعريفات وأحسنها.

ثمّ قال في آخر كلامه : إنّ المعاني الحرفيّة عبارة عن تضييقات نفس المعاني الاسميّة في عالم المفهوميّة وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها بلا نظر إلى أنّها موجودة في الخارج أو معدومة ، ممكنة أو ممتنعة ، ومن هنا قلنا : إنّ استعمالها في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد ، والذي دعاني إلى اختيار ذلك القول أسباب أربعة : السبب الأوّل : بطلان سائر الأقوال ، السبب الثاني : أنّ المعنى الذي ذكرناه مشترك فيه جميع موارد استعمال الحروف من الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد. السبب الثالث : أنّ ما سلكناه في

١٥٦

باب الوضع من أنّ حقيقة الوضع : هي التعهّد والتباني ، ينتج الالتزام بذلك القول لا محالة ، السبب الرابع : موافقة ذلك للوجدان ومطابقته لما ارتكز في الأذهان. هذا ملخص كلامهقدس‌سره.

ولكنّ التحقيق : أنّ هذا القول لا يمكن المساعدة عليه كما عرفت من كلماتنا إجمالا ، وأمّا الأسباب الأربعة المذكورة فلا توجب التمسّك بهذا القول ، فإنّك عرفت الجواب عن ثلاثة منها ولا نطيل الكلام هاهنا.

وأمّا السبب الرابع فلا بدّ من الجواب عنه ، وهو : أنّه لا معنى لتضييق المعاني الاسميّة بالحروف في الجملات الخبريّة ؛ إذ المتكلّم فيها يحكي عن الواقع كما هو بلا نقص وزيادة ، مثل جملة : «زيد في المدرسة» ، فهي تحكي عن الواقعة المتحقّقة في الخارج بدون إضافة المتكلّم تضييقا لها.

نعم ، سلّمناه في الجملات الإنشائيّة ، وأنّ المولى يرى حصّة خاصّة من الصلاة معراج المؤمن ـ مثلا ـ فلذا يقول : «صلّ في المسجد» ، ولا شكّ في أنّ للحصّة الخاصّة واقعيّة وحقيقة توجب انطباق الماهيّة المطلقة للصلاة عليها ، وكما أنّ الصلاة لا تتحقّق إلّا بإيجادها خارجا كذلك الصلاة في المسجد لا تتحقّق إلّا بإيجادها في المسجد ، واعلم أنّ الحروف مبيّنة ومشخّصة لهذه الخصوصيّة الواقعيّة ، ولا ربط للتقيّد بعالم المفهوم ومقام الدلالة والإثبات ، مثل أن يقول المولى : «الصلاة في المسجد تكون مطلوبة لي» بصورة الجملة الخبريّة ، وكذا الحروف في الجملات الإنشائيّة حاكية عن حصّة خاصّة ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّه ليس للتضييق معنى واحد ، بل هو على أنواع مختلفة ؛ إذ التضييق الابتدائي غير التضييق الانتهائي ، وهكذا ، ولا نعلم أنّ مراده أيّ نوع منها.

وثالثا : أنّ التضييق فعل المتكلّم ، ومعنى وضع الحروف له وضعها لعمل

١٥٧

المتكلّم ، ويرجع هذا إلى ما قال به المحقّق النائيني قدس‌سره من أنّ معاني الحروف معان إيجاديّة ، وهو كما ترى.

أقول : إنّه لا بدّ لنا بعد ملاحظة الأقوال في المسألة من لحاظ أنّ الوضع في باب الحروف واحد أم لا؟ وأنّ مفاد حرف واحد منها في الجملة الخبريّة مغاير لمفاده في الجملة الإنشائيّة أم لا؟ وقبل الخوض في البحث نلاحظ الجملة المعروفة في الألسنة لحاظا دقّيّا ، وهي عبارة عن جملة : «سرت من البصرة إلى الكوفة» ونبحث فيها في مراحل :

الاولى : في بيان الواقعيّة التي تحكي هذه الجملة الخبريّة عنها ، فلا يخفى أنّ الذاهب إذا ذهب من «البصرة» وبلغ «الكوفة» كانت أربعة واقعيّات محقّقة بلا إشكال ، وهي واقعيّة السائر ، والسير ، والبصرة ، والكوفة ، ولكن مع هذا لا يشكّ الوجدان السليم في تحقّق الواقعيّتين الاخريين باسم الابتدائيّة والانتهائيّة ، بحيث إن انعكس السير تغيّرت الواقعيّتان وإن لم تتغيّر الواقعيّات الأربعة المذكورة. هذا ممّا لا شبهة فيه.

إن قلت : إنّ الممكن في الخارج إمّا جوهر وإمّا عرض ، وكلّ منهما زوج تركيبيّ ، يعني مركّب من ماهيّة ووجود ، ولا ثالث لهما.

قلنا : لا دليل على الانحصار فيهما ؛ ضرورة أنّا نرى بالوجدان الواقعيّتين المذكورتين وراء الواقعيّات الأربعة الموجودة ، ولكنّهما واقعيّتان ضعيفتان حتّى من وجود العرض ، فإنّه يحتاج في وجوده الخارجي إلى الموضوع ، ولكنّهما احتياج صرف فانيتان في البصرة والكوفة والسير ، ولا تحقّق لهما بدونهما ، وهما مندكّان فيها ، بداهة أنّ عنوان الابتدائيّة والانتهائيّة لا يكون قابلا للرؤية ، مع أنّ لهما واقعيّة حقيقيّة.

١٥٨

ويستفاد نظير هذا المعنى من كلام صاحب الأسفار قدس‌سره (١) في باب الممكنات وهو أنّ : وجودها عين الربط ، لا أنّها وجودات لها الربط في قبال وجود الواجب ، مع أنّ واقعيّة الممكنات ليست قابلة للإنكار ، فلا منافاة بين واقعيّة الشيء وعينيّته للربط ، ولذا عبّر المحقّق الأصفهاني قدس‌سره عنه بالوجود الرابط في قبال الوجود الرابطي.

المرحلة الثانية : في الصورة المرتسمة عن الجملة المذكورة في ذهن السامع والمخاطب ، ولا نشكّ في إدراك الواقعيّات الستّة المذكورة إن لاحظ ونظر إلى سير السائر من البصرة إلى الكوفة ، وأمّا في صورة عدم نظارته إليه فيقول المتكلّم له : «سرت من البصرة إلى الكوفة» ومعنى الجملة الخبريّة الصادقة لا يكون إلّا إلقاء الواقعيّة كما هي للمستمع ، فلا شكّ في أنّ المخاطب كما ينتقل ذهنه من هذه الجملة إلى واقعيّة السير والسائر ، والبصرة ، والكوفة ، كذلك ينتقل ذهنه من كلمتي «من» و «إلى» إلى الواقعيّة الابتدائيّة والانتهائيّة ، ولكنّه بالصورة الاندكاكيّة والارتباطيّة ، يعني كما هي.

المرحلة الثالثة : في الألفاظ المستعملة في هذه الجملة الخبريّة ، فلا يخفى أنّ أهل الأدب والنحويّين يقولون في مقام تركيب هذه الجملة : إنّ كلمة «من» جار ، وكلمة «البصرة» مجرور ، وكلاهما متعلّق بكلمة «سرت» ، مع أنّهم لا يقولون بهذا المعنى في مقام تركيب الفاعل والمفعول ، وهذا شاهد على التفاتهم إلى أنّ المعنى الذي كانت حقيقته صرف الربط لا بدّ في مقام اللفظ أيضا من المتعلّق له ، بخلاف المعاني المستقلّة كالفاعل والمفعول. فالوجدان حاكم بوجود هذه الواقعيّة في المراحل الثلاثة ، كما هي واضحة ، وليست قابلة للإنكار ،

__________________

(١) الحكمة المتعالية ١ : ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

١٥٩

والحروف حاكية عنها ، ولكن لها خصوصيّة إن استعملت الحروف وحدها لا تحكي عنها ، بل لا معنى لكلمة «من» وحدها ، وليس لازم ذلك عدم الواقعيّة أصلا ، كما قال به المحقّق النائيني قدس‌سره ، وهذا قسم من الحروف التي سمّيت بالحروف الحاكية ، وأكثر الحروف من هذا القبيل.

وقسم آخر منها لا يحكي عن واقعيّة ، بل توجد بها معان أخر كالعقود والإيقاعات ، وهو عبارة عن حروف التأكيد ، مثل : كلمة «أنّ» و «اللام» الذي هو سبب لتحقّق التأكيد وإيجاده ، لا أنّه حاك عنه ، وحروف القسم مثل : حرف «ب» و «ت» و «و» التي توجد القسم بلحاظ وضع الواضع له ، وحروف النداء مثل : حرف «أي» و «يا» الذي وضع لتحقّق النداء وإيجاده ، وسمّيت بالحروف الإيجاديّة.

وأمّا كيفيّة الوضع في باب الحروف الحاكية فاعلم أنّ الوجودات الواقعيّة في المعاني الحرفيّة ليست لها الماهيّة التي تتحقّق في الخارج ، وقد تتحقّق في الذهن ، بل الواضع حين وضع كلمة «من» للواقعيّة الابتدائيّة يلاحظ مفهوم الابتداء النسبي الذي لا يكون للحمل الشائع نسبة ، فإنّه ليست بنسبة واقعيّة ، ويشهد له أنّ النسبة الخارجيّة تحتاج إلى الطرفين ، بخلاف مفهوم النسبة كما هو واضح ، بل هو عنوان يلاحظه الواضع ثمّ يضع اللفظ للمعنونات الخاصّة ، أي واقعيّات الابتداء الخارجي.

ولكن أشكل على هذا المعنى صاحب الكفاية قدس‌سره كما أشرنا إليه سابقا بأنّ الموضوع له والمستعمل فيه لكلمة «من» في جملة : «سر من البصرة إلى الكوفة» والخصوصيّة المحكيّة فيها غير معلومة ، وعليك بيانها.

وإن شئت قلت : إذا كانت الحروف على قسمين : إمّا إيجاديّة وإمّا حكائيّة ،

١٦٠