مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

ثم يسألون فيقال لهم : خبرونا عن قول الله تبارك وتعالى : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) [المجادلة : ٣ ـ ٤] ، أرأيتم من حنث في ظهاره ، وكان مؤسرا كثير الرقيق صحيح البدن ، قويا على الصيام ، فقال لا أعتق رقبة ولا أصوم ، ولكني أطعم؟ فقيل له : هذا لا يجوز لك ؛ لأن الإطعام لمن لا يجد عتقا ولا يقوى على صيام. فقال أنا غير مستطيع لذلك ؛ لأن الله لم يقض لي به ، فلست أفعل إلا ما قضى الله لي به من الإطعام ، ما تقولون له؟ فإن قالوا : نقول له : أطعم ولا تعتق ولا تصم ، لأن الله لم يقدره عليك ، ولم يقض لك به ؛ ردوا كتاب الله وخالفوا رسوله. وإن قالوا : بل نقول له : هذا لا يجوز لك ، وقد أوجب الله عليك العتق فأعتق ؛ تركوا قولهم ، ورجعوا إلى الحق.

ومما يسألون عنه يقال لهم أخبرونا عن قول موسى عليه‌السلام للخضر : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) [الكهف : ٧٧] ، أتقولون : إنه قال لو شئت وهو لا مشيئة له ، فتخطئون موسى عليه‌السلام ؛ أم تقولون : إنه لم يقل إلا الحق وإن الخضر قد كان يقدر أن يفعل. فإن قالوا : لا مشيئة له ولا استطاعة ؛ خطئوا نبي الله وجهّلوه. وإن قالوا : قد كانت له مشيئة واستطاعة ؛ تركوا قولهم ورجعوا إلى الحق.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : أخبرونا عن قول الله عزوجل : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ٦٠] ، أفتزعمون أنهم أرادوا أن يتحاكموا إلى الطاغوت ؛ أم الله أراد ذلك وقضى عليهم به؟ فإن قالوا : إن الله أراد ذلك وقضى به عليهم ، ردوا كتاب الله وخالفوه ؛ لأن الله سبحانه قد نسب ذلك إليهم ، وذكر أنهم الذين أرادوا ذلك ، والمجبرة القدرية يزعمون أن الله أراد منهم أن يتحاكموا إلى الطاغوت دونه ودون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وإن قالوا : بل هم أرادوا ذلك والله لم يرده ؛ خرجوا من الباطل ورجعوا إلى الحق ، وقالوا على الله بالصدق. فيقال لهم : قد نسمع الله يقول ويذكر أن الشيطان هو الذي أراد أن يضلهم ضلالا بعيدا ، والمجبرة تزعم أن الله أضلهم فالله أولى بالصدق منهم ، والله سبحانه فأصدق الصادقين ، وأبعد الأبعدين من إضلال الضالين ، والمجبرة والقدرية فأكذب الكاذبين على الله

٢٢١

رب العالمين.

ويسألون عن قول الله سبحانه فيقال لهم : أخبرونا عن قول الله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] ، أتقولون : إن ذلك من الشيطان كما قال الله؟ أم تقولون إنه من الرحمن؟ فإن قالوا : هو من الشيطان كما قال الله ، وهو قضاء منه وتزيين لا من الله ؛ تركوا قولهم ورجعوا إلى الحق وإلى قول أهل العدل. وإن قالوا هو من الله لا من الشيطان خالفوا في ذلك ، وردوا قول الله ؛ لأن الله يقول : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) [المائدة : ٩١] ، وهم يقولون إنما يريد الرحمن ، وكفى بهذا لمن قاله كفرا.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله عزوجل : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) [غافر : ٣١] ، وعن قوله : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] ، فهل يقولون : إن الله يريد ظلما لأحد من عباده؟

فإن قالوا : لا ؛ تركوا قولهم الذي يقولون به إن الله أدخلهم في المعاصي ، ثم يعذبهم عليها ، ويشقيهم بها. وإن قالوا : إن الله يريد ظلمهم ؛ ردوا كتابه وكفروا به.

ومما يسألون عنه من محكم كتاب الله أن يقال لهم : أخبرونا عن قول الله عزوجل : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) [النساء : ٢٧] ، أفليس إنما أراد الله البيان والتوبة والهدى ، وأراد الكافرون الزيغ والردى؟ فإن قالوا : نعم ؛ رجعوا إلى الحق وتركوا قول الباطل وقالوا بقول أهل العدل. وإن قالوا : بل الله الذي أراد الميل وقضى به عليهم ؛ خالفوا الله في قوله فاستوجبوا منه العذاب.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : أخبرونا عن قول الله عزوجل : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : ٦٧] ، أليس قد أخبر الله تبارك وتعالى أنهم يريدون غير ما أراد ، وأنهم يفعلون غير ما يشاء؟ فإن قالوا : نعم ؛ تركوا قولهم ورجعوا إلى العدل. وإن قالوا : إنهم لا يشاءون إلا ما يشاء الله ، ولا يريدون إلا ما أراده ؛ خالفوا الله في قوله ؛ لأن الله قد أخبر أنهم يريدون الدنيا ، وأنه يريد الآخرة ، والدنيا غير الآخرة ، فكذلك إرادة الدنيا غير إرادة الآخرة ، ومن زعم أنهم أرادوا ما أراد الله ، فقد زعم أنهم أرادوا الآخرة ، وفي ذلك

٢٢٢

رد كتاب الله ؛ لأن الله يقول : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : ٦٧].

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله عزوجل : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ، أتزعمون أن الله أراد ما يريد كثير من الناس من العسر ، أم لم يرده. فإن قالوا : بل الله يريده ويقضى به على من أراده ؛ ردوا كتاب الله صراحا. وإن قالوا : إن الله لا يريده ؛ تركوا قولهم ورجعوا إلى الحق.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله سبحانه : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) [الأنعام : ١٣٧] ، أيقولون : إن شركاؤهم هم الذين زينوا لهم قتل أولادهم ليردوهم بقتل أولادهم؟ فإن قالوا : نعم هم المزينون لهم دون الله ؛ رجعوا عن قولهم ، وقالوا بالحق في ربهم. وإن قالوا : بل الله قضى بذلك عليهم وزينه لهم ؛ فقد ردوا كتاب الله بذلك. ثم يقال لهم : كيف يزين الله لهم ذلك ثم يرمي به شركاءهم وهو الفاعل له دونهم؟! أما يسمعونه سبحانه يقول : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [النساء : ١١٢] ، فكيف يعيب الله سبحانه شيئا ثم يفعل مثله؟! تبارك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : أخبرونا عن قول الله سبحانه : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) [الأنفال : ٤٨] ، أتقولون : إن الشيطان زين لهم أعمالهم ، وقال لهم ما قال مما ذكر الله عنه ، أم تزعمون أن الله الذي قال لهم وزين؟ فإن قالوا : بل الشيطان زينه لهم وقاله ؛ تركوا قولهم وخرجوا من الباطل. وإن قالوا : إن الله الذي زينه لهم ؛ لزمهم أن يقولوا إن الله زين لهم الخروج إلى قتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه هو الذي قال للمشركين لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ، وفي هذا إكذاب الله والكفر به.

ومما يحتج به عليهم ويسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله سبحانه : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥] ، فيقال لهم : هل الله الذي جعل آلهة تعبد من دونه وقضى بذلك فيها؟ فإن قالوا : إن الله جعل

٢٢٣

ذلك وقضى به ؛ ردوا كتاب الله وكفروا به. وإن قالوا : لم يجعله ولم يقض به ؛ تركوا قولهم ، وخرجوا من الظلم (١٦٣) إلى الحق.

ويقال لهم : أليس الله (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) كما قال وذكر أنه أهلهما؟ فإن قالوا : نعم. قيل لهم : فهل يجوز أن يكون الظلم والمعصية من الله كما كانت التقوى والمغفرة منه؟ فإن قالوا : نعم ؛ كفروا وخالفوا الكتاب ، ونسبوا إلى الله غير الصواب. وإن قالوا : لا يكون الظلم والمعصية من الله ؛ تركوا قول المبطلين ، ورجعوا إلى قول المحقين.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : أخبرونا عن قول الله سبحانه : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [الإنسان : ٢٩] ، وعن قوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) [الكهف : ٢٩] ، أمن شاء أن يفعل خيرا فعله ، أم ليس هو عندكم كما قال الله؟ فإن قالوا : ليس هو كما قال الله ؛ كفروا. وإن قالوا : هو كما قال الله رجعوا إلى الحق ، وقالوا على الله بالصدق ، وأقروا أن العباد ممكنون من العمل ، وأنهم يفعلون ما شاءوا بما جعل الله فيهم من الاستطاعة التي ركبها فيهم؟ فإن قالوا : ليس هو كذلك ردوا كتاب الله وكذبوه ، ومن فعل ذلك فقد كفر.

ومما يسألون عنه من محكم كتاب الله أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله سبحانه : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٨] ، أفتقولون : إنهم صدقوا في قولهم إن الله لم يشأ إيمانهم؟ فإن قالوا : صدقوا ؛ كذّبوا الله في قوله ، وكفروا بالله. وإن قالوا : لا ، بل كذبوا على الله في قوله ، وقد شاء منهم الإيمان ودعاهم إليه ، ولم يشاء منهم الشرك ؛ رجعوا عن قولهم ، وصاروا إلى القول بالحق.

ومما يسألون عنه قول الله سبحانه : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) [الزخرف : ٢٠] ، فيقال لهم : أليس قد أخبر سبحانه أن قوما قالوا لو شاء الرحمن ما عبدنا غيره؟ فإذا

__________________

(١٦٣) في (ب) : من الباطل.

٢٢٤

قالوا : نعم. يقال لهم : أليس قد قال الله : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الزخرف : ٢٠] ـ والخرص هو الكذب ـ فما تقولون في ذلك؟ فإن قالوا : صدق الله إنهم لكاذبون فيما ادعوا عليه ؛ تركوا قولهم ورجعوا إلى الحق وقالوا بالعدل. وإن قالوا : هم كما قالوا لو شاء الله ما عبدوا غيره ؛ فقد صدقوا قول الفاسقين ، وردوا قول رب العالمين ، ومن قال بذلك كان بالله من الكافرين ، ولعذابه من المستوجبين.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله سبحانه : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) [الصف : ٨] ، أفتقولون : إن الكافرين هم الذين أرادوا أن يطفئوا نور الله من دونه ، أم هو الذي أراد أن يحملهم على إطفاء نور الله؟ فإن قالوا : أراد إتمام نوره ؛ تركوا قولهم ، ورجعوا إلى الحق ، وقالوا بقول الله في ذلك. وإن قالوا : بل الله الذي أراد إطفاء نور نفسه ؛ ردوا قول الله ، وكفروا به ؛ لأن الله يقول في كتابه : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢] ، والله يقول : إنهم يريدون إطفاء نور الله ، والمجبرة والقدرية تقول : بل الله يريد إطفاء نور نفسه إذ زعمت أنه يقضي على الفسقة بذلك.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : أخبرونا عن قول الله سبحانه : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) [آل عمران : ٢٨] أتقولون إن فاعل ذلك فعله بغير قضاء من الله؟ فإن قالوا : نعم فعله بغير قضاء من الله ، وإن فعله ليس من الله في شيء ؛ دخلوا في قول المعدلين ، وقالوا بالحق في رب العالمين. وإن قالوا : فعل ذلك من الله ، وإنه ليس بمعدول عنه ، وإنه بقضاء منه ؛ فقد ردوا على الله قوله ، وخسروا خسرانا مبينا ، إذ قالوا : هو من الله ، والله يقول : ليس هو منه.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله سبحانه : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الفتح : ٢٥] أتقولون إنهم صدوهم عن المسجد الحرام كما قال الله ، أم الله صدهم وقضى بذلك عليهم؟ فإن قالوا : الله الذي صدهم ؛ ردوا قول الله ، وخالفوا تنزيله. وإن قالوا : بل المشركون صدوهم عن المسجد الحرام ، والله تبارك وتعالى بريء من فعلهم ، ولم يقض به عليهم ؛ خرجوا من قولهم ، ودخلوا في قول المحقين.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله سبحانه : (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ

٢٢٥

سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [الأعراف : ٧١] ، وعن قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) [النجم : ٢٣] ، أيزعمون أنهم سموها وآباؤهم كما قال الله ، أم تزعمون أن الله سماها دونهم؟ فإن قالوا : إنهم سموها دون الله ؛ فقد أصابوا وصدقوا قول الله ، وخرجوا من الباطل إلى الحق. وإن قالوا : إن الله الذي سماها دونهم ؛ خالفوا قول الله وردوا عليه قوله ؛ لأنه يقول سبحانه : (سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) [النجم : ٢٣] ، وهم يقولون سماها دونهم ، وهذا فأكفر الكفر وأجل الشرك.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : أخبرونا عن قول الله سبحانه : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس : ١٠] ، نبئونا عن المزكي والمدسي من هو واحد هو أو اثنان؟ فإن قالوا : الله زكاها ودسّاها. قيل لهم : إن الله قد ذم من دسّاها ، أتقولون إنه ذم نفسه ، أم ذم غيره؟ فإن قالوا : ذم غيره ؛ خرجوا بذلك من قولهم إن الله جبر العباد على أفعالهم ، وقضى بها عليهم ، إذ أثبتوا أن العبد مذموم على فعله لا على قضاء ربه. وإن قالوا : بل ذم نفسه ، إذ هو القاضي على المدسي بالتدسية ، فهو الفاعل بالعبد ، الحامل له على التدسية ، لا أن العبد حمل نفسه ؛ كفروا بقولهم ، ونسبوا إلى الله الذم لنفسه على فعله لعباده.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : أخبرونا عن قول الله سبحانه : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩] ، فيقال لهم : قد نجد الله سبحانه أخبرنا أن السيئات أفعال العباد لا من فعله أفتقولون إنه كما قال الله سبحانه أم لا؟ فإن قالوا : بل هو كما قال الله ؛ خرجوا من الجبر ، وتركوا قولهم بالباطل. وإن قالوا : هو على غير قول الله ؛ كفروا بالله.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : أخبرونا عن قول الله عزوجل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [المائدة : ١٠٣] ، أفتقولون فيما فعلوه إن الله جعل ذلك ، وقضى به وبفعله على من فعله من مشركي قريش ، فقد صح لنا أن أول من فعل ذلك قصي بن كلاب؟ فإن قالوا : إن الله جعله وقضى به وأدخله فيه ؛ فقد صدقوا قول قريش إن الله قضى بذلك وفعله بهم ، وأكذبوا قول الله ؛ لأن الله قد نفى ذلك عن نفسه ، وأخبر أنه لم يقض به ،

٢٢٦

وأكذبهم فيما قالوا به عليه من ذلك وفيه حين يقول : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) [المائدة : ١٠٣] ، والقدرية تقول : هو جعل (١٦٤) الله وقضاؤه ، ولو لا أن الله قضى به ما فعلته قريش ولا أطاقته. أقول : الله أصدق عند من عرف الله ، أم قول قريش القدرية؟ بل قول الله أصدق وقول من سواه باطل.

ومما يسألون عنه مما لا يستطيعون رده من كتاب الله قول الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) [آل عمران : ١٥٥] ، فيقال لمن زعم أنه لا يقدر عبد على فعل إلا بعد قضاء الله به عليه ، وإدخاله إياه فيه بالقضاء اللازم ، أما يجد الله سبحانه يخبر أن توليهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من استزلال الشيطان ، وأنه منهم ومنه ، وأنتم تزعمون أنه من الله ، وأنه قضى به عليهم وبالتولي ، ما تقولون أقول الله أصدق أم قولكم؟ فإن زعموا أن قول الله أصدق ؛ رجعوا عن قولهم وصاروا إلى العدل. وإن قالوا : إن قولهم أصدق ؛ فقد كفروا بالله ، وكذبوا على الله ؛ لأن ربنا قد ذكر أن ذلك من عدو الله الشيطان ، والقدرية تزعم أنه من الرحمن ، وأن الشيطان منه بريء.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : أخبرونا عن قول الله سبحانه : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة : ١٠٩] ، أفتقولون إن هذا الحسد من عند الله قضى به على الكفار أن يحسدوا المؤمنين على الإسلام ، أم حسدا من عند أنفسهم يعاقبون عليه؟ فإن قالوا : هو من عند الله قضى به عليهم ؛ برءوا الكفار من المذموم ، وجعلوه لله دونهم ، وقد قال الله خلاف ذلك ، فقد كذبوا الله في قوله وكفروا به. وإن قالوا : هو من عند أنفسهم ومنهم لا من الله كما قال الله ؛ خرجوا من الباطل إلى الحق ، ورجعوا إلى العدل.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) [محمد : ٢٥] ، أفتقولون إن

__________________

(١٦٤) في (ب) : هو فعل الله.

٢٢٧

الشيطان برئ من ذلك ، وأنه لم يسول لهم منه شيئا؟

فإن قالوا : نعم ؛ فقد كذبوا الله ، وخرجوا بذلك من الدين. وإن قالوا : بل هو كما قال سبحانه من الشيطان لا من الرحمن ؛ فقد صدقوا ورجعوا إلى الحق ، وقالوا بالعدل ، وأقروا بأن الارتداد من المرتدين ، بتسويل الشيطان لهم ، لا بقضاء الله بذلك عليهم ؛ لأن الله لا يقضي بالارتداد ، ولا غير ما أمر به من اتباع دينه ، والائتمار بأمره ، والانتهاء عن نهيه.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله سبحانه : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران : ١٦٥] ، أتزعمون أنه من عند أنفسهم كما قال الله ، أم هو قضاء من عند الله قضاه عليهم؟ فإن قالوا : إن ذلك من أنفسهم ؛ قالوا بالحق ، وتعلقوا بالصدق. وإن قالوا : هو من عند الله وهو قضاؤه ؛ قيل لهم : أفقولكم أصدق ، أم قول الله سبحانه؟ فإن قالوا : قول الله صدقوا وأسلموا ؛ وإن قالوا : قولنا ؛ كفروا ؛ لأن المصيبة لم تكن إلا بمخالفتهم لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أمرهم أن لا يبرحوا من باب الشعب ، فخالفوا ورجعوا ، فوجد الكافرون السبيل إلى دخول الشعب ، فدخلوا فأصابوا ما أصابوا ووقعت المصيبة. فكانت منهم بمخالفتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وزوالهم من موافقهم التي أوقفهم لانتظار أمره.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله سبحانه فيما حكى عن نبيئه يوسف صلى الله عليه من قوله : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) [يوسف : ١٠٠] ، أتقولون إن الشيطان نزغ بينهم كما قال الله؟ أم تقولون إن الله الذي نزغ بينهم وأدخلهم فيما فعلوا بنبيه صلى الله عليه وقضى به عليهم فلم يجدوا منه بدا؟ فإن قالوا : إن الشيطان الذي نزغ كما قال الله سبحانه وذكر يوسف ؛ صدقوا ، ورجعوا إلى الحق من بعد الباطل ، وخرجوا من الجبر إلى العدل. وإن قالوا : بل الله الذي نزغ بينهم بقضائه بذلك عليهم ؛ كذبوا قول يوسف في الشيطان ، وردوا الذنب على الرحمن ، وقالوا على الله بخلاف قوله في نفسه وقول نبيئه فيه. فهل يقول بإكذاب الله سبحانه وإكذاب نبيه يوسف ، وتصديق المجبرة من دون الله مؤمن يؤمن بالله أو يعرفه؟!

ومما يسألون عنه من كتاب الله سبحانه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله جل جلاله

٢٢٨

عن أن يحويه قول أو يناله : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [المجادلة : ١٠] ـ يريد : إلّا بتخلية الله ، والتخلية هاهنا فهي ما جعل الله في الشيطان من الاستطاعة التي أمره أن يطيعه بها ويرضيه ، فنهاه عن الوسوسة للعباد ، والمقاربة لهم ـ أفيقولون : إن النجوى من الشيطان كما قال الرحمن؟ أم يقولون إنها من الرحمن ، ويبرءون فيها عدو الله الشيطان؟

فإن قالوا : بل نقول إنها من الشيطان ـ كما قال الله وقوله الحق ـ لا من الله ؛ صدقوا وخرجوا بذلك من الجبر ، والظلم لله والكفر به والعدوان. وإن قالوا : بل نقول إن كل ما جاء من نجوى للكافرين وتناجيهم بالإثم والعدوان ، والتراضي بالعدوان ، والمحاربة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضاء من الله قضى به عليهم في نبيه ، وأدخلهم فيه ، وأنه من الله لا من الشيطان ، كفروا بالله وأكذبوا قوله ، وخرجوا بذلك من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورجعوا وتعلقوا بدين الجاهلية الأولى ، وقولهم الذي أنكره الله عليهم وأكذبهم فيه.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله سبحانه : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ، أفتقولون إن ما كان من قول الجاهلية من قولهم : (إن القرآن الذي جاء به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس من الله بل هو من عند نفسه ، وأنه يكهنه (١٦٥) ويكذبه على الله) هو كما قالوا ، وإن الله قضى بذلك القول عليهم في نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنطقهم به عليه ، وإنهم لم يقولوا ذلك إلا بقضاء الله عليهم به؟ فإن قالوا : نعم نقول بذلك ونزعمه ؛ ردوا الكذب على الله بإكذاب نبيئه ، وزعموا أن الله أكذب نبيئه لا قريش ، وفي ذلك الكفر بالله والشرك به. وإن قالوا : بل هو من عندهم لا من عند الله رجعوا إلى الحق ، وقالوا له ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصدق ، وصاروا من أهل القرآن.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الرحمن ، فيما نزل من النور والفرقان :

__________________

(١٦٥) في (ب) : يكتبه.

٢٢٩

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران : ٧٨] ، أتقولون إن ليّهم بالكتاب ، وتمويههم على المؤمنين بذلك وفيه من أنفسهم؟ فإن قالوا : من الله قضاء قضى به عليهم. قيل لهم : فإنا نجد الله يقول خلاف قولكم ، ويبطل ما لفظتم به ؛ لأنه يقول : (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران : ٧٨] ، فذكر أنهم يكذبون عليه فيما قالوا إنه منزل هذا الباطل وجاعله ، فشهد عليهم سبحانه بالكذب عليه في ذلك ، وأنتم تشهدون لهم بالصدق في قولهم ؛ لأنكم تزعمون أن كل فعل منهم فمن الله لا منهم ، وبقضائه لا بفعلهم ، وفي ذلك والقول به ما به الكفر بالله والشرك. وإن قالوا : هو كما قال الله من عندهم ، وهو كذب منهم ، والله منه بريء ؛ رجعوا إلى الحق ، وقالوا في الله بالعدل.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله سبحانه : (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) [الأحزاب : ٦٩] ، أفتقولون إن موسى عليه‌السلام كان بريئا مما قالوا به فيه ، وكذبوا عليه سبحانه بأنه شهد لموسى بالبراءة ، وقالوا هم ليس ببريء ، ومن شهد بالبراءة لغير برئ فهو فاسق غوي ، والله عن شهادة الزور فمتعال علي. فإن قالوا : إن موسى عليه‌السلام بريء من ذلك ، وإن الله صادق فيما شهد له به ؛ آمنوا ورجعوا إلى الحق ، وقالوا في الله بالصدق والعدل. وإن قالوا بل الله الذي قضى عليهم بأذية موسى عليه‌السلام ؛ فقد زعموا أن الله المتولي أذية نبيه صلى الله عليه ، وقضى عليهم بالقذف له ، وفي هذا إبطال ما قال الله وشهد به عليهم ، وبرأ نفسه ونبيه من هذا الفعل العظيم.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله سبحانه فيما يحكي عن نبيه نوح صلى الله عليه إذ يقول : (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس : ٤١] ، أفتقولون : إن نبي الله صادق في قوله : (أعمل) ، و (تعملون) فتوجبون له العمل. أم تقولون إنه ليس له في ذلك اختيار ولا عمل ولا لهم ، وإن ذلك كله من الله دونهم ، فإن قالوا : بل نقول عمله وعملهم ، وإنه صادق في ذلك ؛ فقد برءوا الله من أفعال العباد ، ورجعوا إلى الحق. وإن قالوا : بل هو فعل الله لا فعله ولا فعلهم ؛ فقد كفروا وكذبوا قول رسول الله

٢٣٠

صلى الله عليه.

ومما يسألون عنه قول الله سبحانه : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ٣] ، فما قولكم فيما تبرأ الله منه من المشركين؟ أهو خلق أبدانهم ، وما فطر من صورهم ، أم هو أفعالهم وما يأتون به من كفرهم وعصيانهم؟ فإن قالوا : إنه تبرأ من أن يكون خلقهم وجعلهم ، وأوجدهم وفطرهم ؛ كفروا بالله وأشركوا في الخلق معه غيره تعالى الله الكريم. وإن قالوا تبرأ من أفعالهم وعصيانهم ؛ فقد أقروا أنه بريء من أفعال العاصين ، متعال عن القضاء بفساد المفسدين ، وتركوا قولهم بالإجبار ، وصاروا من القائلين على الله بالعدل والإحسان.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : أخبرونا عن قول الله سبحانه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [الشعراء : ٢١٦] ، أتقولون : إن الله عزوجل أمر نبيه أن يتبرأ مما يتبرأ الله منه ، أم يقولون : إن الله أمره أن يتبرأ مما لم يتبرأ منه؟ فإن قالوا : بل أمره أن يتبرأ مما تبرأ منه ؛ فقد صدقوا ، وإلى الحق رجعوا ، وقالوا : إن الله لم يقض بما برئ منه ، ولم يدخل فيما نهى عنه. وإن قالوا : إن الله أمره أن يتبرأ مما لم يتبرأ هو منه ؛ فقد زعموا أن الله أمر نبيه بمخالفته ، وبأن يتبرأ هو منه ، ويتبرأ مما تولى هو جل جلاله ، وهذا فأكفر الكفر بالله ، وأبين الشرك به تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ومما يسألون عنه قول الله سبحانه فيما يحكي عن أهل النار : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) [الأعراف : ٣٨] ، أتقولون : إن الله سبحانه الذي أضلهم ، وإن أهل النار ظلموا هؤلاء الذين ادعوا عليهم ، وإن الله حكى باطلا من قولهم (١٦٦) ، وإنه مضل لهؤلاء المعذبين دون من ذكروا ، أم تقولون كما قال الله سبحانه وحكى ، إن الكافرين بعضهم أضل بعضا؟ فإن قالوا : بل الله أضلهم لا هؤلاء ؛ كفروا ، وردوا ما حكى الله من الحق. وإن قالوا : بل هؤلاء أضلوهم دون الله ، فإن الله لم يضل عباده عن طاعته ؛ صدقوا وآمنوا ، ورجعوا إلى الحق.

__________________

(١٦٦) في (أ) : فعلهم.

٢٣١

ومما يسألون عنه قول الله سبحانه : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) [المائدة : ٣٠] ، فيقال لهم : خبرونا آلله سبحانه طوّع له ذلك وقضاه عليه ، أم نفسه كما قال الله؟ فإن قالوا : بل نفسه طوعت له ذلك ، ولم يقضه الله عليه ، ولم يدخله فيه ؛ فقد أصابوا وتركوا قولهم ، وما كانوا عليه من كفرهم. وإن قالوا بل الله طوّع له ذلك بقضائه عليه وإشقائه له به ؛ فقد خالفوا الله وكذبوه في قوله. والمجبرة تقول : إن الله طوع له ذلك ، وقضى به عليه وأدخله فيه ، ولو لا أنه قضى بذلك عليه لم يفعله. والله يتبرأ عن ذلك ويخبر أن نفسه طوعت ذلك له ، وأنه بريء من ذلك سبحانه.

ومما يسألون عنه قول الله سبحانه فيما يحكي عن الكافرين في يوم الدين من القول حين يقولون : (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) [ص : ٦١] ، فقال سبحانه : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) ، يريد سبحانه : لكم ولمن قدم ذلك لكم وبه أمركم ، وزينه في قلوبكم ، وأدخله في صدوركم. فيقال للمجبرة : أخبرونا عن الذي قدم ذلك لهم ، وأدخلهم فيه ، وقضى عليهم به ، فإنا نجد الله سبحانه يخبر أن له ولهم ضعفا من العذاب ، فإن قالوا : إن الله قضى به ، وأدخلهم فيه بقضائه ؛ فقد زعموا أن الله قد أوعد نفسه العذاب ، وأوجب عليه إذ قضى بالكفر عليهم ، وأدخلهم بقضائه فيه ، وهذا الكفر بالله ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وإن قالوا إن الله سبحانه لم يقض بذلك عليهم ، ولم يدخلهم فيه ، وإن إخوانهم من شياطين الجن والإنس أدخلوهم فيه ، وزينوه لهم وحملوهم عليه ، وإنهم هم أهل الوعيد الذي ذكر الله سبحانه ؛ فقد أصابوا وخرجوا من قول المجبرة ، ورجعوا إلى قول أهل العدل.

ومما يسألون عنه قول الله سبحانه فيما يحكي عن الفاسقين الكفرة الضالين حين يقولون : (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) [فصلت : ٢٩] ، فيقال للمجبرة : قد نجد أهل العذاب من الكفار يقولون يوم القيامة ما تسمعون ، وينسبون ما كان من سبب إغوائهم وإضلالهم إلى الجن والإنس ، ويبرّءون الله سبحانه في ذلك اليوم من فعلهم ، وأنتم تزعمون أن الله هو الذي أدخلهم في الضلال دون من زعم أهل الضلال ؛ أفتقولون كما يقولون؟ أم تقولون لهم : كذبتم لم يضلوكم؟ فإن قالوا كما قال الله أصابوا ، وخرجوا من الكفر. وإن قالوا : بل الله أضلهم

٢٣٢

دون من ذكروا من الجن والإنس كفروا وخالفوا قول الله.

ومما يسألون عنه قول الله سبحانه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران : ٧١] ، فيقال لهم : خبرونا من لبس الحق بالباطل ، وخلط عليهم أمرهم ، وأخرجهم من هداهم ورشدهم ، أنفسهم أم الله؟ فقد نجد الله جل جلاله يقول : ويذكر أن ذلك منهم ، فما قولكم أنتم؟ فإن قالوا : هو من الكفار وليس هو من الله ؛ فقد أصابوا ورجعوا إلى الحق. وإن قالوا : هو من الله بقضاء وقدر ، ولو لا القضاء والقدر لم يدخلوا في ذلك ، ولم يلبسوا الحق بالباطل ؛ فقد كذبوا قول الله ، وصدقوا قول الجاهلية ، وهذا هو الشرك بالله ، بل قول الله الحق المصدّق ، وقولهم الكذب المكذّب.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول آدم صلى الله عليه : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) ، أفتقولون : إن آدم الذي ظلم نفسه بالخطيئة ، وأساء إليها بإدخالها في المعصية ، كما قال صلى الله عليه؟ أم تقولون إن الله أدخله في المعصية ، وأخرجه بالقضاء من الطاعة وظلمه بذلك ، وإن آدم وحوى لم يظلما أنفسهما؟ فإن قالوا : بل الله الذي أدخلهما في المعصية بقضائه عليهما ؛ فقد كذبوا قول آدم وما حكى الله عنه ، وفي ذلك الأمر العظيم والجرأة على الله عزوجل وعلى آدم صلى الله عليه. وإن قالوا : بل صدق آدم ، فقد رجعوا إلى العدل ، وتركوا القول بالجبر وأسلموا.

ومما يسألون عنه قول الله سبحانه : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧] ، يريد : آثروا الضلال والغي والهوى على ما إليه دعوا ، وبه أمروا من الهدى. أفتقولون : إنه كما قال الله ، وإنهم آثروا العمى على ما إليه دعوا من الهدى؟ أم تقولون : إنهم لم يستحبوا ، ولم يؤثروا العمى على الهدى ، وإنهم أدخلوا في الهوى ، وأخرجوا من الهدى بالقضاء من الله الغالب لكل أحد الذي لا غالب له؟ فإن قالوا : بل هم الذين استحبوه ، ودخلوا في الهوى من أنفسهم ، وخرجوا من الهدى ، فقد آمنوا وقالوا بقول الله في ثمود. وإن قالوا : بل الله أخرجهم من الهدى ، وأدخلهم في الهوى ، فقد كذبوا قول الله ، وكفروا به وضلوا ضلالا بعيدا.

وممّا يسألون عنه قول الله سبحانه : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) [النجم : ٢٣] ، فأخبر سبحانه أن الهدى من الله ، وزعمت القدرية أن الضلال بأمر الله ، وإذا ثبت ذلك فالهدى

٢٣٣

من رأيهم لا من رب العالمين ؛ لأن الهدى والضلال ضدان مختلفان متباينان ، لا يجتمعان لجامعهما في حالة ، ولا يفعلهما فاعل. والقدرية تقول إن الهدى لم يأت العاصين الضالين من رب العالمين ، والله يقول قد آتاهم الهدى من قبله ، وحل لديهم من عنده ، فتركوه ولم يفعلوه ، وخالفوه ورفضوه. فأي القولين أصدق وأحق بأن يقبل ، أقول الله أم قولهم؟ بل قول الرحمن الصدق والحق ، وقولهم الباطل والمحال والفسق.

وممّا يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله سبحانه فيما حكى عن أهل جهنم من القول حين يقول : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) [المؤمنون : ١٠٥] ، فذكر إقرارهم على أنفسهم بأن الفسق والمعاصي كانت منهم ، ونفاها عن نفسه أن يكون قضى بها عليهم ، بل قال واحتج في ذلك عليهم بقوله : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [المؤمنون : ١٠٥] ، فأخبر أن الأمر بالطاعة لهم ، ونهيه إياهم عن المعصية كان في حياتهم منه إليهم ، فأبوا واتبعوا الهوى ، وتركوا ما به أمرهم ربهم من اتباع الهدى. ولو كان ذلك من الله نزل بهم لقالوا : ربنا غلب علينا قضاؤك ؛ ولم يقولوا : (غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا). فإن قالت المجبرة : إن قضاء الله الذي منعهم من الطاعة ، وغلبهم على المعصية ؛ فقد كذبوا قول الله. وإن قالوا : بل هو كما قال المعذّبون وحكاه الله عنهم ؛ فقد تابوا وآمنوا ، ورجعوا إلى الحق والعدل. والمعذّبون مقرّون بالحق على أنفسهم ، والمجبرة ترمي به الله وتلزمه إياه ، فتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

ومما يسألون عنه قول الله سبحانه : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) ، ولم يقل : منّا الضلالة والردى ؛ فيقال لهم : أتقولون إنه كما قال إن منه الهدى الذي ذكره الله ، ولم يذكر ضده؟ أفتقولون إنما ذكره عن نفسه فهو منه ، وما لم يذكره فليس منه ، أم تقولون إنما ذكره ونفاه عن نفسه ، فهو كل منه؟ فإن قالوا : بل ما ذكر أنه منه فهو منه ، وما لم يذكر أنه منه فليس منه ؛ فقد رجعوا إلى الحق وآمنوا. وإن قالوا : بل ما قال إنه منه فهو منه ، وما قال أيضا ليس منه فهو منه ؛ فقد كفروا وكذبوا على الله.

وممّا يسألون عنه أن يقال لهم : خبرونا عن قول الله سبحانه فيما يحكي عن موسى عليه‌السلام في قتله الكافر الذي قتله عن غير دعوة منه له إلى الله ولا معرفة أن موسى رسول

٢٣٤

الله : (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) ، ولم يقل : هذا من قضاء الله ولا عمله. أفتقولون : إن ذلك كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنه من قبل الشيطان ، أم تقولون إن موسى أتي من قبل الرحمن؟ فإن قالوا : بل أتي من قبل الشيطان كما قال الله ، وكما قال موسى عليه‌السلام ، وهو أعرف بالله وبكل أمر كان من الله ، ولو كان من الله لقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا من قضاء الله ؛ فقد صدقوا ورجعوا إلى الحق ، وتابوا وخرجوا من الباطل ، وصاروا عادلين ، ولنبي الله عليه‌السلام مصدقين. وإن قالوا : بل لم يؤت موسى في ذلك إلا من الله ، والله أدخله في قتله ومعصية ربه بقضائه على موسى بقتل الرجل ، ولو لا قضاء الله لم يقتله موسى ؛ كانوا في ذلك لموسى عليه‌السلام مكذبين ، وقد زعموا أنهم أعلم بالله من موسى عليه‌السلام ، وهذا غاية الطعن على الله عزوجل ، وعلى نبيه صلى الله عليه ، وفي ذلك الكفر بالله صراحا (١٦٧).

وممّا يسألون عنه : قول الله سبحانه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢] ، فيقال لهم : خبرونا عن قول الله سبحانه : (لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، أفتقولون : إنه كما قال الله عنه ، وإنه هداهم إلى صراط مستقيم ، أم تقولون لم يهدهم؟ فإن قالوا : بل هداهم بأمر الله ، وذلك فعل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسلم حمده الله وأثنى فيه عليه ؛ فقد صدقوا وآمنوا ، وقالوا بالحق في الله وفي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وإن قالوا : لم يهد محمد أحدا ، وإنما فعل محمد هو فعل الله ، والله أدخله في ذلك كرها ، وجبره عليه جبرا ، ولم يكن لمحمد فيه فعل ؛ فقد زعموا أن الله مدح محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعله لا بفعل محمد نفسه ، وأنه أثنى عليه بغير ما اكتسب وفعل ، وهذا غاية الفسق.

وممّا يسألون عنه قول الله سبحانه : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] ، فأخبر جل جلاله أنه هدى الخلق ، ولم يهد من عصاه وخالف أمره وأباه ، وأنه قد اهتدى بهداه الموقنون ، وكانوا هم الشاكرين ، وكان المخالفون هم الكافرين. فإن قالوا بهذا

__________________

(١٦٧) في (ب) : صريحا.

٢٣٥

آمنوا ، واهتدوا وصدقوا. وإن قالوا : بل نقول إن شكر من شكر ، وكفر من كفر من الله وبقضاء منه وإدخال لهم فيه ، كان ما كان من ذلك ؛ أبطلوا قول الله وكذبوه ، وخرجوا من الإسلام بذلك.

وممّا يسألون عنه ويكذّبون به في قولهم قول الله عزوجل فيما يحكي عن الفاسقين من القول ، والإقرار على أنفسهم في يوم الدين من قوله سبحانه : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سبأ : ٣١] ، ولو كانوا أتوا من قبل الله ، لقالوا : لو لا الله لكنّا مؤمنين ؛ ولكن ذلك اليوم يوم لا يقال فيه إلا الحق ، ولا ينفع فيه إلا الصدق. فما ذا تقول القدرية المجبرة ، أهو كما ذكر الله عمن يقول ذلك ، أم لا؟ فإن قالوا : بل هم كاذبون ، وإنما أتوا من قبل الله لا من قبل المشركين من إخوانهم المجرمين ؛ فقد قالوا باطلا وزورا ، وقد أكذبهم المستكبرون في قولهم ؛ لأنهم يزعمون أن المستضعفين من قبل الله أتوا وصدوا ، وقد قال المستكبرون للمستضعفين في ذلك اليوم وفي ذلك الموقف مجيبين ، وكلتا الفريقين (١٦٨) المستضعفين والمستكبرين لم يقولوا بما قالت القدرية ، بل كلتاهما برأت الله من ذلك سبحانه وجل جلاله ، ولم يقولا فيه بقول القدرية.

وممّا يسألون عنه قول الله سبحانه : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥٠] ـ والإزاغة منه هاهنا : فهي الخذلان لهم والتبري منهم ، فلما تبرأ منهم ، وعدموا التوفيق وفقدوا الترشيد ، زاغوا وتزايدوا في الردى والزيغ عن الهدى ـ أفتقولون : إن الله عزوجل ابتدأهم بالزيغ كما تذكرون ، أم بقول الله وما ذكر عن نفسه تقولون؟ فإن قالوا : بل هو ابتدأهم بالإزاغة قبل زيغهم ، وقضى (١٦٩) به عليهم وأدخلهم فيه ؛ كفروا بإكذابهم قول ربهم ؛ لأنه يقول (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ، والقدرية تقول : بل الله سبحانه بالزيغ ابتدأهم. وإن قالوا : إن الإزاغة من الله عقوبة منه لهم على زيغهم عن الهدى ، وتركهم ما

__________________

(١٦٨) في (أ) : الفرقتين.

(١٦٩) في (ب) : وقضاه عليهم.

٢٣٦

أمروا به من التقوى ؛ قالوا بالحق ، وتعلقوا بالصدق ، وشهدوا لله بما شهد لنفسه ، وفي ذلك ما يقول الرحمن الرحيم : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١] ، ويقول سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفال : ٥٣].

وممّا يسألون عنه من قول الله سبحانه مما يبطل ما في أيديهم قوله سبحانه : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة : ٧٩] ، فأخبر سبحانه أنهم مختارون لكتاب ما كتبه المشترون ، المكتسبون لفعل ما فعلوا ، وأوعدهم على ذلك وأخبرهم أنهم من أهل النار والويل إذا فعلوا ما لم يرد الله ولم يشاء. وقالت القدرية : إن الله أدخلهم فيما عنه نهاهم ، وإن ذلك الكتاب منه ، ولو لا أنه قضى به عليهم ، وجعله فيهم لم يفعلوه ولم يكتبوه. فأكذبوا قول الرحمن ، وصدقوا قول الشيطان ، وزعموا أنهم أعلم بأمر الكاذبين المجرمين من رب العالمين ، وادعوا أن قولهم الصدق ، وزعموا بذلك أن قول ربهم باطل ، وأنه ادعى عليهم ما لم يفعلوا ، ورماهم بما لم يكسبوا ، وأنه فعل ذلك بهم ، وذكره عنهم ، ورده عليهم ، كأن لم يسمعوا قول الله سبحانه وذمه لمن كان كذلك أو قارب شيئا من ذلك ، حين يقول : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [النساء : ١١٢].

وممّا يسألون عنه : قول الرحمن الرحيم ، الواحد الكريم : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات : ٥٦ ـ ٥٧] ، فأخبر سبحانه أنه خلقهم لعبادته وطاعته ، ومن أطاعه أدخله الجنة. وزعمت القدرية أنه خلق الخلق من الجن والإنس ليعبدوا غيره وليطيعوه ، وأنه خلق الكافر كافرا في بطن أمه ، والله يقول غير ذلك ، ويكذبهم في قولهم ، ويرد عليهم في كذبهم بقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦].

وممّا يسألون عنه قول الله سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ

٢٣٧

لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) [التوبة : ١١٥] (١٧٠).

__________________

(١٧٠) في (ب) : تمّ كتاب الرد إلى هاهنا ، ولم ينقص منه شيء بحمد الله وعونه.

٢٣٨

وله أيضا عليه‌السلام :

كتاب الرد على المجبرة القدرية

مما أجاب به صلوات الله عليه ابنه المرتضى محمد بن يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (١٧١)

صلوات الله عليهم جميعا

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله أحق ما افتتح به رد الجواب ، وخوطب به ذوو الألباب ، حمدا يوصل إلى جنته ، ويوجب المزيد من فضله ، فإليه أرغب في الصلاة على محمد ، صلى الله عليه وعلى آله.

سألت يا بني ، أرشدك الله ووفقك ، وسددك للفهم وعلّمك ، عما اختلف فيه الناس ، وكثر فيه عند أهل الجهالة الالتباس ، حتى نسبوا الله فيه إلى أقبح الصفات ، وبرءوا أنفسهم من ذلك وصانوها بزعمهم عنه ، واستقبحوه ، وبلغوا أشد ما يكون من الغضب على من نسبهم إلى شيء منه ، ورضوا به في العزيز ، ودعوه به.

فزعموا أن الله شاء شيئا ونهى عنه ، وأراد شيئا ومنع منه ، وأنه أرسل رسله إلى جميع خلقه يدعوهم إلى أمر قد منعهم منه ، وذكروا من هذا شيئا وضروبا يكثر شرحها ، وأنا مبيّن لك جميع ذلك وشارحه في مواضعه ، ومحتج لله سبحانه بالبراءة مما نسبوه إليه وسموه

__________________

(١٧١) الإمام المرتضى أبو القاسم محمد بن يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم‌السلام ، ترجمته وسيرته كاملة بالتحف شرح الزلف.

٢٣٩

به ـ يا بني ـ حتى يصح لك فساد أمرهم ، وقبيح لفظهم بما فيه المنفعة والشفاء والبرهان ، والاكتفاء من كتاب الله الفصيح وبما يصح عند كل ذي لب صحيح.

مزاعم المجبرة

زعم أهل الجهل أن الله سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء ـ فكذلك الله عزوجل ـ وتأولوا ذلك بجهلهم على أقبح التأويل وأسمج المعاني ، ولم يعلموا ما أراد الله سبحانه من ذلك ، ولو ميزوا ما قبل هذه الآيات وما بعدها ، لتبيّن لهم الحق ووضح.

فأما ما قال الله سبحانه مخبرا عن قدرته : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [النحل : ٩٣] ، ولم يقل أضللت ولا هديت في هذا الموضع ؛ لأنه ذكر الضلال والتثبيت منه في موضع آخر ، فانظر كيف ذكر ذلك ، وكيف قال ومن فعله ، فقال سبحانه : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) [إبراهيم : ٢٧] ، كل هذا التثبيت والضلال لم يكن إلا مادة وزيادة للمؤمنين ، وحربا ونقمة للظالمين ، ألا ترى كيف يقول : (الَّذِينَ آمَنُوا) ولم يقل : الذين ظلموا ؛ غير أنه لم يثبت إلا المؤمنين والمستحقين اسم الإيمان بعملهم ، ولم يضل إلا الظالمين المستوجبين اسم الضلالة بفعلهم.

ويخبر سبحانه عن قدرته في خلقه ، وأنه أراد هدى المؤمنين وثبتهم ، وأنه لا يغلبه شيء من جميع الأشياء إذا أراده من جهة الجبر والقسر لأهله ؛ لكن الله سبحانه أخبر عن قدرته في خلقه ، وأنه لو أراد أن يضلهم أو يهديهم جميعا لكان ذلك غير غالب له ، غير أنه لم يرد ذلك ، إلا من جهة التخيير منهم والاختيار لعبادته والرغبة فيما رغبهم فيه والوقوف عما حذرهم منه ، وليخبر الجهال أن ما كان من العباد من الضلال والعمى لو أراد أن لا يكون لأمكنه ذلك ، وأن قدرته تبلغ كل شيء.

وإنما قوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) خبرا عن نفسه ، وإثباتا له القدرة على كل شيء ، لكي لا يظن جاهل أن الله عاجز عن أن يمنع الضلال من الضلالة ؛ لأن في الناس متجاهلين كثيرا ، ألا ترى إلى قوله سبحانه ، يحكي عن الجهال إذ قالوا : (إِنَّ اللهَ

٢٤٠