مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

وأصنامها ، عند الوقوف تجاهها والسلام منهم عليها ، فإن يكن ذلك كذلك والله أعلم ، فلا ينبغي ولا يجوز لمسلم أن يفعل ما يفعل للأصنام مع ما في ذلك من قلة الخشوع لله ؛ لأن الصلاة التي فرضها الله فرض معها الخشوع والتذلل ، فلما كان ترك رفع اليدين في الصلاة إلى الخشوع أقرب ، ففعله دون غيره على المصلي لله أوجب.

تفسير قول الله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ) وحكم صلاة الليل

وسألت عن قول الله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) إلى قوله (.... فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠] ، فقلت : إن بعض الناس زعم أن هذا فرض من الله ، وقال بعضهم : نافلة.

واعلم رحمك الله أن الله عزوجل لم يعن بما ذكر في الصلاة في أول هذه السورة وآخرها إلا صلاة العتمة المفروضة ، فجعل الرخصة فيها لمن كان ذا علة ، من مرض أو عرض ، أو سفر أو خوف ، فجعل هذه الأوقات لمن كان كذلك وقتا. ألا تسمع كيف يقول سبحانه : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [المزمل : ٢٠] ، فأوجب على كل مريض وعلى كل مسافر وعلى كل مجاهد فعل ذلك ، وإقامة الصلاة في هذه الأحوال كلها ، ولا يجب ما أوجب الله من ذلك على من كان من الخلق كذلك إلا وهو فرض مؤكد ، وأمر مشدد. ولا يعرف لله في الليل فرض صلاة مفروضة إلا ما ذكرنا من العتمة والعشاء ، وقد شرحنا ذلك وفسرنا ، واستقصينا فيما شرحنا من تفسيره في سورة المزمل.

عدم ثبوت التراويح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وسألت عما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه صلى التراويح في شهر رمضان ليلة واحدة ، ثم أمر الناس بالانصراف إلى بيوتهم.

وقد روى ذلك بعض الناس وذكره ، ولسنا نصحح شيئا من ذلك ليلة ولا ليلتين ، ولا

٦٠١

نعرفه عنه ولا نرويه ، ولم يبلغنا أنه صلى بالناس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تراويحا ليلة ولا ليلتين ، ولا ساعة ولا ساعتين ، ولا ركعة ولا ركعتين ، ولم يروه أحد من علمائنا ، ولم يأثره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد من آبائنا ، ولو كان ذلك شيئا كان منه لروته آباؤنا عن آبائها وجدودها ، ولما سقط عنهم شيء منه ، ولأتوا به مصححا عنه.

التزوج من امرأة لا تعرف الدين

وسألت : عن الرجل يتزوج امرأة لا تعرف الدين ، ومذهبها على خلاف مذهبه ، وهي في فن سوى فنه ، فعلّمها ما يجب عليها من دينها ، وما هو الحق اليقين عند ربها ، فلا تتعلم ولا تقبل ولا تفهم ، فقلت : هل يجوز له أن يمسكها على ذلك؟

فالواجب عليه أن لا يبقي غاية في نصحها والتأني بها ، وتعريفها وتفهيمها ، فإن عرفت وفهمت ، وتابت ورجعت ، فذلك الواجب عليها ، وإن أبت الدين ، ولجّت في مخالفة اليقين ، فلا يجوز له إمساكها ، ولا يسعه الإفضاء إليها حتى ترجع إلى الحق الذي افترضه الله الواحد الخلاق ، أو يوقع ـ إن غلبته بينه وبينها ـ الواجب على مثلها من الفراق.

حمل العرش

وسألت عن قول الله سبحانه : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة :

١٧]؟

ومعنى العرش : فهو الملك ، والملك : فهو ما خلق الله وذرأ في الآخرة كلها والأولى ، وما فيها من جميع الأشياء.

ومعنى ثمانية : فهو لا يخلو من أن يكون ثمانية أصناف من الملائكة ، أو ثمانية آلاف.

وحملها للعرش الذي هو الملك فهو قيامها فيه ونهوضها. وقيامها به فهو أمرها ونهيها ، وإنفاذ أمر ربها ، وإيصال الثواب إلى المثابين ، والعقاب إلى المعاقبين ، وما يكون من فعل الله في ذلك اليوم في المخلوقين. فأخبر سبحانه أنه يقوم بحساب الخلق في ذلك اليوم ، وإيصال ثوابه وعقابه إليهم ، وإنفاذ جميع أمره فيهم هذه الثمانية التي ذكرنا أولا كانت من الملائكة

٦٠٢

آلافا أو أصنافا.

ومعنى قوله فوقهم : فهو منهم ، غير أن (فوق) قامت مقام (من) ؛ لأنها من حروف الصفات ، فهما يعتقبان ؛ أراد سبحانه : ويحمل عرش ربك منهم ثمانية ، ومعنى منهم : فهو من الملائكة.

فأخبر أن الثمانية هم القائمون بأمر الله في ذلك اليوم ونهيه ، وجميع ما يكون من فعله في خلفه ، دون غيرهم من الملائكة المقربين ، وقد شرحنا تفسير هذه الآية في كتاب على حده شرحا مبينا ، مفسرا مستغنيا بما مضى في الكتاب عن تكراره في هذا الموضع من شرح [ذلك] ، وذلك كفاية لمن فهم واهتدى لمعرفة ربه فعلم.

شرط مصالحة النبي لنصارى بني تغلب

وسألت عما ذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صالح أهل الكتاب على أن يكون أولادهم مسلمين ، لا يعلّمونهم اليهودية ولا النصرانية ، وقلت : قد نقضوا العهد ، فهل للإمام أن يبدؤهم؟

وقلت : إنه يقال إنهم الذين عنى الله بقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣] ، دون غيرهم.

واعلم هداك الله : أن اليهود ليسوا في شيء من هذا ، وإنما أولئك الذين صالحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن لا يصبغوا أولادهم ، ولا يدخلوهم في شيء من أديانهم ، هم نصارى بني تغلب دون غيرهم من النصارى. وذلك أن بني تغلب عرب ، وليسوا من بني إسرائيل ، فأنفوا حين أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجزية من جميع أهل الذمة ، فطلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأخذ منهم كما يأخذ من العرب العشر ، فأخبرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن العشر لا يكون إلا صدقة ، وأن الصدقة لا تؤخذ إلا من أهل الصلاة ؛ لأنها تطهرة لهم وتزكية ، فسألوه أن يأخذ منهم ضعفي ما يأخذ من المسلمين على طريق الصلح لسلامة أنفسهم ونجاة رقابهم ، لا على طريق الزكاة والتطهرة ، فصالحهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك ، وعلى أن لا

٦٠٣

يصبغوا أولادهم ، وأن يكون أولادهم بعدهم مسلمين. فأخذ منهم من أموالهم في كل أربعين شاة شاتين ، وفي كل ثلاثين بقرة تبيعين أو تبيعتين ، وفي الإبل في كل خمس شاتين ، وفيما يكال (٥٨٠) الخمس مما سقي سيحا أو بماء السماء ، أو العشر فيما سقي بالسواني أو الدوالي والخطارات ، وفي النقد من الذهب في كل عشرين مثقالا مثقالا ، وفي مائتي درهم من الفضة عشرة دراهم ، نصف العشر من الذهب والفضة ، أضعف عليهم ما يجب على المسلمين من الزكاة المفروضة. وشرط عليهم أن لا يدخلوا أولادهم في شيء من دين اليهودية ولا النصرانية ، وعلى ذلك أعطوا العهد. فواجب على أهل الحق إذا أعلى الله كلمتهم أن تسبى نساؤهم ، وتقتل رجالهم ، وتؤخذ أموالهم ، إلا أن يدخلوا في الإسلام كلهم ، فيرى رأيه ؛ لأن القرن (٥٨١) الذين كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفوا له بعهده ، فانتقضت عهودهم ، ووجب ما ذكرنا من الحكم عليهم. غير أن الباطل قد شمل وظهر ، والمنكر قد علا وقهر ، وعطلت الأحكام ، ودرس الإسلام ، وظهر الفسق ، ومات الحق ، فإلى الله في ذلك المفزع والمشتكى ، عليه توكلنا وهو العلي الاعلى.

تبيين من المراد بقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) التوبة : ١٢٣

فأما ما ذكرت من أنهم الذين قال الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣] ، فغيرهم أولى بهذه الآية منهم من هو أقرب إلى الإسلام ، وأضر على دين محمد عليه وآله السلام من أولئك الكفرة الطغام. و (الَّذِينَ يَلُونَكُمْ) ، فهم الذين بينكم ومعكم ممن يدعي الإسلام وهو كافر بالله ذي الجلال والإكرام ، كاذب فيما يدعيه ، ثابت من الكفر فيما هو عليه من جبابرة الظالمين ، وفراعنة العاصين ، الذين

__________________

(٥٨٠) في (ب) : وفيما يكال ويوزن.

(٥٨١) في (ب) : لأن القوم.

٦٠٤

قتلوا الدين ، وخالفوا رب العالمين ، وأحلوا حرام الله ، وحرموا حلاله ، وانتهكوا محارمه ، ولم يأتمروا بأمره ، ولم ينتهوا عن نهيه ، وحاربوه في آناء الليل وأطراف النهار. فراعنة ملاعين ، جورة متكبرين ، لا يحكمون بكتاب الله ، ولا يقيمون شيئا من شرائع دين الله ، قد قتلوا الإسلام والمسلمين ، وأضاعوا الأيتام والمساكين ، واستأثروا عليهم بأموالهم ، فمات الخلق هزلا في دولتهم. لا في أمور المسلمين ينظرون ، ولا إلى الله يرغبون ، ولا عذابه يخافون ، ولا ثوابه يرجون. معتكفين على اللهو والمزامير ، والضرب بالمعازف والطنابير. هممهم همم بهائمهم : ما واروه في بطونهم ، أو باشروه بفروجهم ، أو لبسوه على ظهورهم. بغيتهم إذلال الحق والمحقين ، وشأنهم إظهار الفسق والفاسقين ، ومعتمد أمرهم مكايدة رب العالمين.

فهؤلاء ـ يرحمك الله ـ ومثلهم وأعوانهم ، وخدمهم وأصحابهم وشكلهم ، أولى بالمجاهدة والقتال من نصارى تغلب الأنذال ؛ لأن هؤلاء أضر بالإسلام وأهله وأنكى. ومن كان كذلك من العباد فهو أولى بالجهاد ، لضرره على المسلمين والعباد. فافهم ما ذكرنا من تفسير خبرهم ، واجتزينا بالقليل من ذكرهم ، فإن لك في ذلك كفاية وشفاء ، ودليلا على ما سألت عنه وجزاء.

معراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

وسألت عما روي من صعود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء فقلت : أكان نائما أو يقظان؟

وإذا صح ذلك وثبت ، فلا يكون نائما أبدا ، ولا يكون إلا يقظان فهما ؛ لأنه ، إن كان ذلك كذلك ، فإنما أراد الله بإرقائه إلى السماء التعبير له والكرامة ، وليريه من عجائب خلقه وعظيم فعله ما حجبه عن غيره ولم يكرم به سواه. فإذا كان نائما في ذلك كله ، فلم ينتفع بشيء مما صعد إلى السماء له ، ولم يرى شيئا مما ينتفع به ، فلذلك استحال أن يكون نائما ، كما قال من جهل.

٦٠٥

معنى قوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى)

وسألت عن قول الله سبحانه : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٩]؟

الجواب : أن الذي صار قاب قوسين أو أدنى هو جبريل صلى الله عليه ، فكان في هذا الموقف قد دنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صورته التي هو عليها مع الملائكة المقربين ، حتى كان من الرسول قاب قوسين أو أدنى. ومعنى قاب قوسين : فهو مقياس رميتين بالقوس في الهواء. فدنا منه صلى الله عليهما حتى كان في الموضع الذي ذكره الله تبارك وتعالى فيه : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] ، مما أرسله الله به من الأشياء ، فهذا تفسير ما عنه سألت من قوله : (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٩].

الأعجمي لا يحسن إلا سورة أو سورتين

وسألت عن عجمي لا يحسن إلا سورة أو سورتين من القرآن ، فقلت : هل يجزيه إذا عرف أصل التوحيد؟

فلعمري أن ذلك مجز كاف ، إذا أقام بالسورتين أو الثلاث ما أمره الله به من الصلاة بحدودها ، وأدى ما أوجب الله من ركوعها وسجودها ، وكان في ذلك موحدا لربه ، عارفا مع ذلك لعدله ، مصدقا لوعده ووعيده ، عارفا بالحق وأهله ، تاركا لمعاصي ربه ، مؤديا لفرائض إلهه ، فإذا كان كذلك ، فهو من المسلمين ، وعند الله ـ إن شاء الله من الناجين ـ ولم تضره عجمة لسانه إذا أقام له قلبه دعائم أديانه.

تعلم النساء

وسألت عن النساء : إذا عرفن الله وأدّين الفرض ، فقلت : هل يجزيهن ذلك عن تعليم القرآن وفرائض الله الرحمن؟

الجواب : في ذلك أنه لا بد للنساء والرجال من معرفة ما أوجب الله فرضه من الأعمال وأوجب على الخلق القيام به من الأفعال ، إلا ما طرحه الله عن النساء من الجهاد والسعي إلى الجمعة ، وما أشبه ذلك من الأشياء ، وأنه لا يجوز لهن التقصير عن معرفة ما

٦٠٦

أوجب الله عليهن معرفته ، والعمل بما أوجب الله عليهن العمل به ، وعليهن أن يتعلمن ويتفقهن ، ولا يجوز لهن أن يتعلقن بالجهل المنهي عنه ، ولا يتمادين في شيء منه.

تمت المسائل وجوابها

والحمد لله حمدا كثيرا ، وصلواته على سيدنا محمد وآله الذين طهرهم من

الرجس تطهيرا

٦٠٧

من مسائل محمد بن عبيد الله (٥٨٢)

بسم الله الرحمن الرحيم

موالاة الظالمين

قال محمد بن عبيد الله رحمة الله عليه :

سألت الهادي إلى الحق صلوات الله عليه عن موالاة الظالمين ؛ فقال :

لا تجوز موالاة الظالمين لأحد من المؤمنين. وموالاتهم فهي مودتهم ومحبتهم ؛ لأن الله سبحانه يقول : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة : ٢٢] الآية ، فحرم الله تعالى موالاتهم ومحبتهم ، ولم يطلق للمؤمنين الانطواء على شيء من إضمار المودة لهم ، وفي ذلك يقول عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة : ١] الآية ، فمن انطوى وأضمر محبة ظالم فقد خرج من دين الله ، وليس من المؤمنين بالله ، ولا تجتمع معرفة الله

__________________

(٥٨٢) محمد بن عبيد الله بن عبد الله العلوي العباسي ، الشريف أبو جعفر ، عالم فاضل ، فارس من فرسان الإمام الهادي (ع). ورد عليه كتاب الإمام الهادي عليه‌السلام مع جماعة من بني أبي طالب في المدينة يدعوهم فيه إلى طاعة الله والمجاهدة لأعدائه سنة ٢٨٣ ه‍ ، فخرج مع الإمام الهادي عليه‌السلام.

ولّاه الإمام الهادي صعدة ثم نجران ، واستمر واليا على نجران إلى أن هجم عليه بنو الحارث ، فقتلوه وقتلوا أهله وأصحابه ، وكان له يوم كيوم كربلاء مع الحسين عليه‌السلام ، وقبره بمدينة الأخدود بنجران مع جماعة من أهله.

٦٠٨

ومحبته وموالاته مع مودة أعداء الله ومحبتهم ؛ لأن الله عدو للظالمين ، والظالمون أعداء لرب العالمين ، ولن يجتمع ضدان معا في قلب مسلم.

فأما المداراة للظالمين باللسان ، والهبة والعطية ، ورفع المجلس ، والإقبال بالوجه عليهم ، فلا بأس بذلك ؛ لأن الله قد فعل في أمرهم وهم أعداؤه ما فعل ، من جعله لهم جزءا من الصدقات يتألفهم به على الحق ، ويكسر به بعض بلائهم وظلمهم عن الإسلام ، وذلك قوله عزوجل : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) [التوبة : ٦٠] الآية ، فجعل للمؤلفة جزأ وهم أعداء الله وأعداء الإسلام ؛ يكسر حدهم عن المؤمنين ، ويصليهم به نار جهنم وبئس المصير ، ويجعله عليهم وبالا في الآخرة ، ولهم عذاب أليم. وكذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعل بالمنافقين الظالمين ، يؤثرهم على من معه من إخوانه المؤمنين ، ويكل إخوانه على إيمانهم ، من ذلك ما فعل في غنائم حنين فرقها كلها على المؤلفة قلوبهم ـ ولم يعط المؤمنين منها درهما واحدا ، ولا شاة واحدة ، ولا بعيرا ـ يتألّفهم بذلك ويكسر عن المؤمنين شر حدهم ، وكذلك كان يفعل بكبراء المشركين إذا كاتبوه وأتوه ، يكاتبهم أحسن (٥٨٣) المكاتبة ، ويفرش لهم ثوبه إذا أتوه يجلسهم عليه ، نظرا منه للإسلام ، ومداراة لهؤلاء الطغام ، عن غير موالاة ولا محبة.

الاستعانة بالظالمين

وقال محمد بن عبيد الله : وسألت الهادي صلوات الله عليه : هل تجوز الاستعانة بالظالمين ، وقلت ما معنى قول الله سبحانه : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) [الكهف : ٥١]؟

فقال : أما ما سألت عنه من قول الله تبارك وتعالى ، فإنما أراد بالعضد : الود المشاور في المبثوث من جميع الأسرار الظاهرة والباطنة ، والمحبوب في السر والعلانية ، المعتقدة ولايته ،

__________________

(٥٨٣) في (ب) : بأحسن.

٦٠٩

الجائزة عند الله مناكحته ، وأكل ذبيحته ، وقبول شهادته ، والاعتماد على قوله ، والركون إلى مصافاته ، فهذا العضد ، فمن لم يكن عند صاحبه على هذه الحال ، على حقيقة الفعل والمقال ، فليس له بعضد ولا كرامة له ، ولا ينتظمه هذا الاسم أبدا ، ولا يجوز له أصلا. فأما ما استعنت به في مهماتك ، وتقويت به واستعنت به في ساعات حاجاتك في إصلاح الإسلام والمسلمين ، وهايبت به من كان مثله من الظالمين ، واستعنت به على من هو أفجر منه وأنت له شاني ، ومنه متبري ، وبه غير واثق ، تكتمه أسرارك ، وتجمل لديه أخبارك ، لا تستحل له مناكحة ، ولا تأكل له ذبيحة ، ولا تقبل له شهادة ، ولا تأتم به في صلاة ، فكيف تكون له متخذا عضدا ، أو تكون له وليا مرشدا!! هذا ما لا يغلط فيه إلا الجهّال ، وإلا من أعمى الله قلبه من الرجال ، فهو يتكمه في عمايات الضلال ، يدعوا الليل نهارا ، والنهار ليلا ، والولي عدوا ، والعدو وليا ، ينحل كل واحد منهما نحلة ضده ، ويدعو كلا بغير اسمه.

وأما ما سألت عنه من استعانة المحقين بالظالمين في طاعة رب العالمين ، لمحاربة المحاربين فإنا لا نستحل غيره في مذهبنا ؛ لأن الاستعانة بالظالمين على من حارب الحق والمحقين واجب على المسلمين ، لا يسع أحدا تركه ، ولا يجوز رفضه ، إذا صار الإسلام إلى ذلك محتاجا ، وكان الحق إليه مضطرا ، إذا جرت عليهم أحكام الإمام ، ومن في عصره من خدم الظالمين وأعوانهم الذين استعان بهم في وقت حاجته لهم.

ونقول : إن فرض ذلك يجب من وجهين :

فأما أحدهما : فإنه لا يحل للإمام أن يقتل الإسلام ويضيعه ، ويمكن عدوه منه وهو يجد إلى غيره سبيلا ، وعلى إجابته معينا ، يجري أحكامه عليه ؛ لأنه إن امتنع من الاستعانة بهم في وقت ضرورته ، ظهر من هو شر ممن كره الاستعانة به على الإسلام فأهلكه.

والمعنى الآخر : فبيّن بحمد الله عند من عقل ، وهو أن يقال لمن أنكر الاستعانة بالظالمين : أيها الجاهل هل عذر الله أحدا ، وأطلق له ترك فرض من فرائضه ، أو أطلق له ترك إقامة طاعة من طاعته ، فاسقا كان المتعبد ، أو مؤمنا ، أو ظالما أو محسنا.

فإن قال : نعم! قد عذرهم الله في ترك فروضه ، وأطلق لهم في وقت فسقهم وظلمهم رفض شيء من حدوده.

٦١٠

فقد كفر القائل بذلك ، واجتزي بكفره عن مناظرته في شيء من دينه ؛ لأنه يزعم أن الله سوغ للظالمين شيئا من معاصيه ، وأجاز لهم ترك فرائضه التي فرض ، وهذا تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله.

وإن قال : لا لم يجز الله لظالم في وقت ظلمه ، ولا لفاسق في وقت فسقه ترك شيء من أداء فرائضه ، والفرض لازم لهم ، واجب عليهم.

قيل له : فأي فرض أكبر من الجهاد في سبيل الله ، والقيام بمحاربة من عند عن أمر الله ، والمعاونة لأولياء الله؟

فإذا قال : لا فرض أكبر من ذلك.

قيل له : فمن أين أجزت لهم القعود عن نصره؟ ومن أين أجزت للإمام أن يدعهم من أداء هذا الفرض؟ ولم يجز له أن يكرههم عليه في حال فسقهم فضلا عن أن يأتوه طائعين ، ولحكمه مسلمين. فإن أجزت للإمام أن يدع إلزامهم فرض الجهاد الأكبر وقد أتوه طائعين ، ولفرض الله في الجهاد معه مسلمين ، أو أجزت له أن يترك الاستعانة بهم من طريق القهر لهم إن قدر على ذلك ، أو قلت لا يجوز أن يقهرهم على ذلك إن أطاق قهرهم ، فضلا عن أن يسلموا أو يطيعوا ، فيجب عليك أن تقول : إنه لا يجب على الإمام أن يقهرهم على طاعة الله كلها أو فرائضه من الصلاة ، والصيام ، وغير ذلك مما هو دون الجهاد. وقد أغنى الله من عقل بما كان من فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك ، من الاستعانة بغير أهل الملة من اليهود ، وغيرهم من مشركي الحبش ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستعين باليهود في حربه ، وبالمنافقين الكافرين به المستهزءين بحقه ، وكتاب الله يبين ذلك له من أمرهم ، وينزل عليه بكرة وعشيا ، وأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه الذين آمنوا به ، وهم اثنان وسبعون رجلا ، أن يمضوا ويهاجروا إلى بلاد الحبش ، وأمرهم أن يستعينوا به ، وبطعامه وشرابه على من يريدهم بسوء ، فجهزت قريش لما جاءوا إليه البرد (٥٨٤) في أمرهم ، وبذلوا الأموال في تسليمه إياهم إليهم ، فأرسل رسول الله صلى

__________________

(٥٨٤) البرد : جمع بريد. تمت من اللسان.

٦١١

الله عليه وعلى آله وسلم إليه يسأله المعونة على قريش لأصحابه وله ، وسأله أن لا يسلمهم وأن يعينهم على أمرهم ، ففعل ذلك وأهدى إليه حرابا وبغلتين وشيئا من الذهب ، فقبل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت الحراب تحمل قدامه وتركز بين يديه إذا صلى.

وكذلك أهدى إليه ملك قبط مصر جاريتين وبغلة وحللا من حلل مصر ؛ فقبل ذلك كله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القبطي. والقبطي مشرك بالله ، جاحد لرسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاتخذ إحدى الجاريتين ـ ويقال إنهما كانتا أختين ـ فدعاهما إلى الإسلام فأسلمت واحدة ، فوطيها فولدت له إبراهيم صلى الله عليه ، ووهب الأخرى لحسان بن ثابت الأنصاري ، فأي استعانة أكبر من هذا أو حجة أبين مما ذكرنا ، والحمد لله ، وهذا يجزي لمن عقل عن التطويل ، إن شاء الله والقوة بالله.

وكذلك استعان صلى الله عليه وعلى آله في فتح مكة من أعراب فزاره ، وغير ذلك من أعراب البوادي وجفاتهم ، ممن هو مسلم لحكمه ، غير عارف بحدود ربه.

تمّ ذلك

والحمد لله حمدا كثيرا كما هو أهله ومستحقه ، وصلواته على محمد وآله.

٦١٢

مسألة من مسائل التّباعي (٥٨٥)

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين وعلى آبائهم الطاهرين :

سألت عن قول الله عز ذكره وجلت أسماؤه : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) [الأحقاف : ٢٠] ، فقلت : ما الطيبات في هذه الدنيا؟ أهو ما يتنعم به الناس ويلبسونه من صالحيهم وطالحيهم؟ وأن من لبس الثياب السرية ، وأكل الطعام الفائق ، وركب الخيول حلالا كان أو حراما فقد أذهب طيبات الآخرة بما أطلق لنفسه من استعمال طيبات الدنيا؟

فأما الكافر وأسبابه فقد استغنينا عن الفتش عن أمره بما قد قر عندنا في حاله ، كثرت دنياه أو قلّت ، فمصيره إلى النار. وأما المؤمن به ، والعامل بطاعة خالقه ، المتحري في أمره لما أمره به خالقه ، فكيف تكون تلك حاله وإنما جعل الله الطيبات للمؤمنين خالصة دون الفاسقين ، فقال في كتابه عزوجل لأنبيائه عليهم‌السلام : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) [المؤمنون : ٥١] ، وقال في كتابه : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الأعراف : ٣٢] ومعناها : ويوم القيمة ، وقال في كتابه : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ

__________________

(٥٨٥) قيل أن هذا الجواب للمرتضى ابن الإمام الهادي عليهما‌السلام.

٦١٣

يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة : ٩٣] ، فلم يجعل الله سبحانه على المؤمنين حرجا في شيء مما رزقهم ، إذا أخذوه على ما جعل لهم وأمرهم به ؛ فساروا فيه بطاعة الله ، ولم يتعدوا إلى شيء مما يسخط الله ؛ لأن الله عزوجل ـ أيها السائل ـ لم يجعل ما في هذه الدنيا من خيرها ومراكبها التي خلقها لشرار أهلها ، ولا لمن عند عن طاعة خالقها ، وإنما جعلها الله للصالحين ولعباده المتقين ، يأمرون فيها بأمره ، وينهون فيها عن نهيه ، ويقيمون أحكامه فيها ، منفذون لأمره عليها ، فللطاعة والمطيعين خلقها رب العالمين ، ثم أمرهم ونهاهم ، وبصرهم غيهم وهداهم ، وجعل لهم الاستطاعة إلى طاعة مولاهم ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ).

وأما معنى الآية وقول الله : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) ، فتبكيت منه سبحانه لأهل النار ، وتوقيف على تفريطهم في طاعة ربهم ، ومعنى : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) ، أي تركتم ومحقتم وعطلتم ما جعل الله لكم بالطاعة من النعيم المقيم والخلد مع المتقين في الثواب الكريم بارتكابكم للمعاصي ، وترككم للطاعة ؛ حتى خرجتم مما جعل الله للمطيعين ، وصرتم إلى حكم الفسقة الكافرين في عذاب مهين ، فهذا معنى : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ).

تمّ والحمد لله حمدا كثيرا

وصلواته على محمد وآله الذين طهرهم من الرجس تطهيرا

٦١٤

مسألة لأبي القاسم محمد بن يحيى عليهما‌السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

قال يحيى بن الحسين عليه‌السلام :

سألت يا بني ، أرشدك الله وهداك ، عمن قذف مملوكا أو مملوكة مسلمة ، فقلت : هل يجب عليه حد كما يجب على من قذف حرة مسلمة؟

وقد اختلف في ذلك ، فقال قوم : يجب عليه الحد إذ قذف حرة مسلمة كانت أو أمة ، وكانت حجتهم في ذلك ، يزعمون ، قول الله تبارك وتعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) [النور : ٤] ، فقالوا : المحصنات هن العفائف المسلمات حرائر كن أو مملوكات ، واحتجوا في ذلك بقول الله تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢] ، وبقوله سبحانه : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) [النساء : ٢٥] ، فقالوا : هن العفائف الصالحات.

وقال قوم : لا يجب الحد إلا على من قذف حرة مسلمة.

والحجة في ذلك ، يا بني ، فنيرة عند أهل العلم واضحة ظاهرة ، وفي كتاب الله ساطعة ، قال الله سبحانه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً) [النور : ٤] ، فنظرنا في الإحصان ما هو ، فوجدناه على أربعة معان : إحصان الإيمان ، وإحصان التزويج ، وإحصان الحرية ، وإحصان العفة. فلما كان ذلك كذلك اختلف الناس في التي يجب الحد في قذفها أهي المحصنة بالإيمان ، أم المحصنة بالحرية ، أم المحصنة بالعفة والحرية معا؟ فلم يكن عند القوم في ذلك حجة قاطعة تجمعهم

٦١٥

فيه على مقاله واحدة ، فافترقوا في ذلك على ثلاثة أقاويل ، إذ لم يعرفوا لقول الله وحكمه في ذلك تأويلا ، فقال قوم : لا حد إلا على من قذف حرة محصنة بالإيمان. وقال قوم : بل الحد أيضا على من قذف أمة محصنة بالعفة والإحسان. وقال قوم : بل الحد أيضا على من قذف ذمية محصنة بالعفة ، والحد يقع بإحصان العفة ، فكل عفيفة عن الزنى مجنبة عن هذا المعنى ، كائنة من كانت من حرة أو أمة أو ذمية معاهدة فعلى قاذفها الحد الذي جعله الله في قذفها.

فلما أن اختلفوا كذلك ولم يهتدوا إلى الرشد من ذلك علمنا أن في كتاب الله سبحانه بيان ما فيه اختلف أولئك ، فرجعنا إلى الكتاب نبتغي فيه بيان ذلك ، فوجدنا الله سبحانه يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النور : ٢٣] ، يقول سبحانه : عذاب في الدنيا ، والعذاب في الدنيا فهو الضرب الذي حكم الله به عليهم في الدنيا ، فأما عذاب الآخرة فهي النار وبئس المصير. فبين سبحانه في هذه الآية على من يقع عذابه الذي حكم به على القاذفين ، فذكر على أنه من رمى المحصنات الغافلات المؤمنات. فنظرنا إحصان العفة ، فإذا به لا يكون ولا يصح ولا يثبت إلا بالإيمان ؛ لأن من لم يصح له الإيمان بالله وبرسوله ، والعفة عن إنكارهما وجحدهما وجحد ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يصح له اسم العفة عما هو دون ذلك من زنى ولا غيره ، ولم يكن من أنكر الله ولم يعرفه بمعنى من معاني الإنكار من إنكار فطرة فطرها ، أو جحدان آية أنزلها ، أو نفي حجة له احتج بها ، أو دفع رسول من رسله ، أو إنكار فعل من الله في بعثته بداخل في محض العفة ، ولا مشهود له بها عمن غفل من الأمة ؛ لأن من لم يغفل عن كبائر الجحدان ، ودخل في عظائم فوادح العصيان والبهتان كان جديرا حريا بالوقوع فيما دون ذلك من العصيان. والزنى فلا يكون علانية جهارا ، وإنما يفعله أهل هذه الدار في الخفية والاستتار ، ومن حكم عليه بالكفر بالبينة الظاهرة ، فكيف يحكم له مؤمن بالعفة الباطنة ، والعفة فإنما هي مدحة من أكرم مدح المسلمين ، وبها تثبت حقائق الإيمان ، فكيف يحكم بها لمن كان من الكافرين ، وينسب إليها من جحد الدين ، وناصب رب العالمين ، وأنكر فرض طاعة خاتم النبيين ، هذا من القول ما لا يقول به عاقل ، ولا يتعلق بعلائقه إلا عم عن التمييز جاهل. فقد أزاح ولله

٦١٦

الحمد كل مسلم من الأمة عمن كان كذلك اسم العفة ، فبطل بذلك قول من أوجب الحد على مؤمن أو مؤمنة إن كان منه خطأ أو جهلا في قذف كافر أو كافرة.

ثم نظرنا في القول الثاني ، قول من قال إن الحد يجب في قذف الأمة المسلمة بإحصان العفة دون إحصان الحرية ، فإذا بإحصان العفة والإحسان داخل في إحصان الإيمان ، إذ لا يصح عفة إنسان حتى يصح له الإيمان والتقوى ؛ لأن من بان وظهر فساد ظاهره الذي يحكم به عليه لم يشهد له صادق أبدا بصلاح سريرته التي تنسب إليه ، فكان قوله سبحانه الغافلات المؤمنات يجزي عن ذكر العفيفات الصالحات ؛ لأن العفة داخلة في الإيمان ، فكذلك ولذلك أجزى ذكر إحصان الإيمان عن ذكر إحصان العفة والإحسان ، فرجع أصل الإحسان إلى ثلاثة معان في القول والبيان : إلى التزويج ، والحرية ، والإيمان.

ثم نظرنا في معنى إحصان التزويج هل له معنى فيما جعل الله سبحانه من الحد للمقذوفين على القاذفين ، فلم نجد لإحصان التزويج في ذكر حد القذف معنى ؛ لأن الحد للمقذوف على القاذف لازم أبدا كان المقذوف متزوجا أو عزبا ، فزاح بذلك أيضا إحصان ذكر التزويج من الآية التي أوجب الله فيها على القاذفين العقوبة والنكاية ، فلم يبق في حكم الآية وقصصها من الإحصان إلا إحصان الحرية والإيمان ، فكان ذكر الإيمان في الآية قائما بنفسه ، معروفا بعينه ، مستغن بذكر ظاهره عن ذكر باطنة ، وذلك قول الله سبحانه : (الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) ، فاكتفى سبحانه بذكره الإيمان في المؤمنات ، ونسبته إليهن عن ذكرهن بالإحصان ؛ إذ كان الإيمان هو رأس الإحصان ، وبه يكمل للمحصن اسم الإحصان ، فلم يبق في الآية ذكر من ذكر محصنا في الكتاب ، أو مدعي بالإحصان في سبب من الأسباب إلا وقد خرج منها ، وبان بما احتججنا به من الحجة عنها ، ما خلا إحصان الحرية وحده ، فعلمنا أنما جاء في الآية من ذكر الإحصان هو إحصان الحرية دون غيره ، وذلك قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النور : ٢٣] ، فكانت هذه الآية مفسرة لقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) [النور : ٤] ، فبين قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ) ذكر الحد على من يجب من

٦١٧

القاذفين ، وأخبر أنه يجب في قذف المحصنات بالحرية الغافلات المؤمنات من الحرائر العفيفات. ولو لم يرد سبحانه إحصان الحرية هاهنا لما كان لقوله : (الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) معنى ؛ لأن الإحصان هو من ذكر الإيمان ونعته ، وإنما تكون محصنة بالإحصان من بعد إيمانها ، فإذا آمنت فقد أحصنها الإيمان ، وإذا ذكر الإيمان استغنى عن ذكر الإحصان ؛ لأن الشيء الظاهر أدل على نفسه في حال ظهوره مما يكون من نعته. ألا ترى أنه إذا قيل : وما هذا الإحصان ، والإحصان يخرج على معان شتى ؛ فيقال : محصنة إيمان ؛ فيكون ذكر الإحصان دليلا على علامة الإيمان ، وإذا قيل مؤمنة فقد استغنى عن ذكر الإحصان ، إحصان الإيمان ، وذلك بظهور المسمى بنفسه ، فإذا ظهر الاسم واستوى لم يحتج إلى ذكر ما يدل عليه في المعنى ؛ لأن قولك هذه مؤمنة يجزي عن أن تقول محصنة بالإيمان ؛ لأنك قد أثبت لها أصل الإحصان وفرعه حين دعوتها بالإيمان ؛ إذ لا يكون مؤمن أبدا إلا وهو محصن بالتقوى ، والمحصن فقد يكون هذا الاسم ويخرج على معان. فدل الله سبحانه بما ذكر في هذه الآية على ما قلنا من أنه لا يجب على قاذف حد حتى يقذف حرة مؤمنة ، أو حرا مؤمنا ، فحينئذ يجب الحد على من قذف من كان كذلك في الحرية والإيمان ، فافهم هديت معنى ما ذكرنا ، وميز بعقلك تقف على ما فسرناه ، وتدبره يثبت قلبك بحول الله ما شرحناه ، فإنه قول بين ظاهر لمن تدبر ، دقيق غامض على من جهله ، فنسأل الله إيزاع ما يلزمنا من شكره ، والتوفيق لما أوجب علينا من طاعته وفرضه.

وسألت : عن قول الله سبحانه : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [المائدة : ١٠٣].

القول في ذلك أن قصي بن كلاب سنّ هذه الأسماء وجعلها لقريش فاستنت العرب بقريش في ذلك.

والبحيرة : فهي شيء كان إذا أبحر الرجل ـ ومعنى أبحر : كثر ماله ـ أخذ من إبله شيئا كثيرا أو قليلا فوسم في خدودها بحيرة ، ثمّ خلاها يزعم أن ذلك شكر لله.

والسائبة : فكان إذا لهم غائب أو مريض نذروا ان يسيبوا من إبلهم إن قدم الغائب ، أو صح المريض ، فإذا كان ذلك سيبوا شيئا منها ، ووسموا في خدودها سائبة.

٦١٨

والوصيلة : فهي من الغنم ، كانت الشاة عندهم إذا ولدت خمسة بطون نظروا البطن الخامس فإن كان ذكرا أسمنوه ، حتى إذا انتهى في السمن أهدوه إلى القائم لهم على الأصنام ، وإن كانت أنثى ربوها في غنمهم ، وإن ولدت ذكرا وأنثى في ذلك البطن قالوا قد وصلته أخته ، فلا نذبحه ولا نهديه إلى خادم الأصنام ، فهذه الوصيلة.

والحام : فهو الجمل الفحل الذي ضرب في الإبل ، فإذا ضرب عشر سنين في الإبل ، ولحقه أولاده فضربت معه قالوا هذا قد حما ظهره لا يحل لنا أن نحمل عليه ، ولا أن نملكه ، فيسمون في خده حام ويخلونه.

فكانت هذه الأشياء قد كثرت في البلاد ، وأتعبت الناس ؛ لأنهم لم يكونوا يحمونها شجرا ولا يمنعونها ماء ، وكانوا يقولون هذه إبل الله ، فلما أن بعث الله رسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمرهم أن يأخذوها ، وينتفعوا بها ، ويرثوها فيما يرثون من آبائهم وأجدادهم ، فقالوا : هذا لا يحل لنا ولا نفعله ، هذا شيء قضى الله به علينا واختاره لنا ، ولو لا أن الله قضى به واختاره وجعله لم نفعله. فأنزل الله سبحانه في ذلك إكذاب قولهم : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [المائدة : ١٠٣] فهذا ما سألت عنه.

تم والحمد لله على ما أولى وأنعم

وصلى الله على محمد وآله وسلم

٦١٩

وله عليه‌السلام :

مسألة في الذبائح

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

سألت عن الذبائح ما يحل منها وما يحرم ، والجواب : أنه يحرم من الذبائح ست ذبائح :

ذبيحة اليهودي ؛ لأن الله عزوجل قال : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠].

وذبيحة النصراني ؛ لقول الله عزوجل : (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠].

وذبيحة المجوسي ؛ لأنه يقول : إن الله قضى عليه بركوب أمه وابنته وأخته.

وذبيحة المجبر ؛ لأنه يقول : إن الله يجبر خلقه على المعاصي.

وذبيحة المشبه ؛ لأنه يقول : إنه يعبد الذي يقع عليه بصره يوم القيامة.

وذبيحة المرجي ، لأنه يقول : الإيمان قول بلا عمل.

قال الله تبارك وتعالى لجميع عباده : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١١٨] ، (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١] ، فجميع هؤلاء الستة الأصناف ، ما ذكروا اسم الله تبارك وتعالى على شيء من ذبائحهم ، إذ لم يعرفوه تبارك وتعالى حق معرفته ، ولم يقروا له بتوحيده وعدله ، ولم يصدقوه في وعده ووعيده ، وكذبوا قوله في وليه وعدوه.

تمت المسألة وجوابها ، والحمد لله حتى يرضى وله الحمد بعد الرضى وصلواته على محمد المصطفى وعلى من طاب من عترته وزكى.

٦٢٠