مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

المحسنين.

وقد تكون تلك المودة هي ما في الإيمان من البركة واليمن ، وما جعل الله بين المؤمنين من المحبة وافترض عليهم من التواد على الدين وحكم به من الإخوة بين المؤمنين حيث يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات : ١٠] ، فكان كل من دخل فيما أمر بالدخول فيه من الإيمان إذا دخل وإلى الله سبحانه أقبل سدده الله سبحانه ووفقه وحببه إليه من بعد إقباله إليه ، وبغض إليه الكفر كما قال الرحمن : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات : ٧] ، فكان كل من دخل في الإسلام من جميع الأنام أخرجته بركة الإيمان من الحق والدغل والحسد حتى يعود إلى المؤاخاة على الحق ، والقول في ذلك على الله بالصدق ، فهذا ما لا ينكره ذو عقل وتمييز. ألا تسمع كيف حكى الله عزوجل لك عنهم ، وذكر لك قولهم ، حين كانوا يدخلون في الدين ، ويتابعون المسلمين على اليقين ، حين يقول : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [الحشر : ١٠] ، فلما أن دخلوا في الإيمان صاروا عليه وفيه نعم الإخوان ، متحابين متواصلين متواخين ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فكانوا كما قال الله جل جلاله : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج : ٤١].

وأما ما نسب الحسن بن محمد إلى الله جل ثناؤه من فاحش المقال ، فزعم أن الله جعل عبدة الطاغوت للطاغوت عابدين ، وفيما أسخطه من ذلك أدخلهم مجبورين ، واحتج بما لم يعلم معناه من تفسير القرآن ومنزل الفرقان الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ، فقال : قال الله في ذلك : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) ، فقال الحسن بن محمد : الا ترى أنه قد جعل منهم القردة والخنازير ومن

٣٦١

يعبد الطاغوت؟ وقال : إن أنكروا أن الله جعل منهم القردة والخنازير وعبدة (٣٣٨) الطاغوت ، فقد كذبوا الله ؛ وإن أقروا ، فقد رجعوا عن قولهم. ولم يا ويحه وويله إن لم يتب من الله وغوله؟ ألا تسمع كيف فرق الله عزوجل بين فعله وفعل عبيده؟ ألا ترى أن مسخه لمن مسخ لم يكن لهم فيه فعل بل نزل بهم وهم له كارهون ، وحل بهم وهم عليه مكرهون ، وأن عبادة الطاغوت كانت منهم ، وأنها بلا شك مقالتهم؟ فبين ما دخلوا فيه طائعين وله متخيرين ، وبين ما فعل بهم مجبورين وبه معاقبين فرق عند ذي العلم من أهل المعرفة والحكم.

فنقول في ذلك : إن الله لم يأخذهم ولم يجعل منهم ما جعل من القردة والخنازير ، ومسخ منهم من مسخ من المذنبين إلا بعد الإعذار والإنذار مرارا بعد مرار ، فلما أبوا وعموا عن أمره سبحانه ، وخالفوا أخذوا بذنوبهم ، فلم يجدوا من دون الله وليا ولا نصيرا.

وأما قوله : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ، فإن ذلك مردود على أول الآية ، وهو مقدّم في المعنى ، وكثير مثل ذلك على ما يكون على التقديم والتأخير ، يعلمه من عباده العالم الخبير ، فمعناه : أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وعبد الطاغوت ، وجعل منهم القردة والخنازير ؛ أراد أن من عبد الطاغوت فهو شر من ذلك ، فهذا موضع ما ظن من (عَبَدَ الطَّاغُوتَ) ، ألا ترى كيف أهلك من كان كذلك؟ ومن اجترأ من الخلق كاجتراء أولئك.

وكذلك قولنا فيما توهم وذهب إليه ، فأهلك وهلك ، ولله الحمد فيه ، فقال : إن الله جعل في المجرمين ذلك وابتلاهم به وحملهم عليه ؛ ثم احتج في ذلك من قول الله عزوجل ـ بما عليه لا له ـ فقال : قد قال الله فيما قلنا وبه تكلمنا : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) ، فقال : ألا ترون أن الله قد جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ، فقد جعلهم مكارين ، وقضى به عليهم ، وركبه فيهم.

__________________

(٣٣٨) في (ب) : عبد.

٣٦٢

فقولنا في ذلك : أنّ جعل الله لهم هو خلقه لهم (٣٣٩) ، وتصويرهم في كل قرية كما صور غيرهم. وأما قوله : (لِيَمْكُرُوا) ، فإنما أراد الله سبحانه : لأن لا يمكروا ؛ فطرح (لا) وهو يريدها استخفافا لها ، والقرآن فبلسان العرب نزل ، وهذا تفعله العرب تطرح (لا) وهي تريدها ، وتأتي بها وهي لا تريدها ، فيخرج اللفظ بخلاف المعنى ؛ يخرج اللفظ لفظ نفي وهو إيجاب ، ويخرج لفظ إيجاب وهو معنى نفي ، قال الله عزوجل : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد : ٢٩] ، فقال : (لِئَلَّا) ، فخرج لفظها لفظ نفي ومعناها معنى إيجاب ، فأتى ب (لا) وهو لا يريدها ، وإنما معناها : ليعلم أهل الكتاب. وقال : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [آل عمران : ١٧٨] ، فخرج اللفظ لفظ إيجاب ومعناها نفي ، يريد سبحانه : لئلا يزدادوا إثما.

وقال الشاعر :

ما زال ذو الخيرات لا يقول

ويصدق القول ولا يحول

فقال : لا يقول ؛ وإنما يريد : يقول ؛ فأدخلها وهو لا يريدها ، ووصل بها كلامه ليتم له بيته استخفافا لها. وقال آخر :

بيوم جدود لا فضحتم أباكم

وسالمتموا والخيل يدمى شكيمها (٣٤٠)

فقال : لا فضحتم أباكم ؛ وإنما يريد : فضحتم ؛ فأدخلها وهو لا يريدها. وقال آخر :

نزلتم منزل الأضياف منا

فعجلنا القرى أن تشتمونا

فقال : أن تشتمونا ؛ فخرج لفظها لفظ إيجاب في قوله : أن تشتمونا ؛ ومعناها معنى نفي ، أراد : لأن لا تشتمونا.

وأما ما قال وذكر ، واحتج به مما لا يعرفه وسطر ، فقال : قال الله في قوم فرعون :

__________________

(٣٣٩) في (ب) : أن الله جعله لهم هو خلقهم.

(٣٤٠) في الأصل : وحاربتم.

٣٦٣

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) ، وادعى على الله سبحانه أنه جعل من كان كذلك منهم كافرا ، ومن كان منهم كافرا فاجرا ، وأنه طبعهم على ذلك ، وفيه ركبهم وخلقهم ، وليس ذلك والحمد لله على ما ذكر ، ولا على ما قال وخبر ، وهذا يخرج من الله على معنيين عدلين محققين :

أحدهما : أن يكون جعله لهم هو ما أوجده منهم وخلقه من أجسامهم ، لا ما ذهب إليه من فعل أفعالهم.

والمعنى الآخر : أن يكون ذو الجلال والإكرام حكم عليهم بما يكون منهم من أعمالهم ودعائهم إلى خلاف طاعته من الكفر به والصد عن سبيله ، وما كانوا يفعلون ويجترءون به على الله ، فكانت حال من يطيعهم على كفرهم ويشركهم في فعلهم ، ويدعوهم إلى غيهم عند الله كحالهم. فلما أن دعوا إلى ما يقرب إلى النار مما كان يفعله الفجار ، كانوا أئمة يدعون إلى الجحيم ، فحكم عليهم بفعلهم العليم ، ودعاهم وسماهم به الرحمن الرحيم ، فكان دعاؤه إياهم بذلك من فعلهم ، وتسمية لهم بما دعوا إليه إخوانهم من النار ، جعلا في مجاز كلام العرب ، كما يجوز أن يقال لمن قال لصاحبه يا حمار : جعلته ويحك حمارا ؛ وإنما يراد بذلك تسميته لا خلقه ، وكذلك إذا دعاه بالضلال ، قيل : جعلته ضالا ، إذ قد سميته به.

فأما ما قال وتوهم أنه إذا خرج في اللفظ شيء كان كذلك في المعنى ، فقال : وقد قال الله سبحانه : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) ، فتوهم الحسن بن محمد على الله تبارك وتعالى أنه الفاعل لكل ذلك ، وليس ذلك والحمد لله كذلك ، وسنفسره إن شاء الله ونبينه وبالحق نميزه. فنقول : إن معنى قوله جل جلاله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) هو كما قال سبحانه : هو الذي خلق الخشب والحجر والماء والمدر ، هو دلّهم على ذلك ، وهم بنوا وعملوا المساكن وكل ما صنعوه من الأماكن ؛ وهو جعل وخلق الأنعام وجلودها ، وهم عملوها بيوتا. ولو لم يخلق الجلود لم يقدروا على عمل ما ذكر من البيوت ؛ وكذلك لو لم يخلق الحجر

٣٦٤

والخشب والمدر لم يبنوا بيوتا يسكنونها ولا دورا يأوونها. وكذلك السرابيل التي تقي الحر وقت الحر ، وتقي القر وقت القر ، وكذلك السرابيل اللباس التي تقي وتحرس من البأس ، فالله عزوجل أوجد حديدها ودلّهم على عملها ، وهم يتولون (٣٤١) فعلها وسردها (٣٤٢) وتأليفها ونسجها.

وأما ما ذكر من قول الله جل ثناؤه : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) ، فكذلك فعل عزوجل ، فهو المتولي لذلك ، لم يفعله غيره ، وهو جاعله ، فجعل من الأكنان وقاء أوفى من البنيان ؛ وجعل من الظلال لما خلق من الأشجار وغيرها من الجبال ما تبين فيه القدرة والمنة لذي الجلال. فما كان من فعل العباد فخلاف أفعال ذي المنة والأياد ؛ وما كان من فعل الرحمن فخلاف فعل الإنسان ، لا كما يقول المتكمهون الجهال : الله سبحانه والعبيد سواء في الأفعال ، كذب المبطلون.

تم جواب مسألته

المسألة العشرون : معنى إغراء الله تعالى بين خلقه في قوله تعالى : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ)

ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة ، فقال : خبرونا عن الإغراء بالإرادة دون الأمر ، فإن الله يقول : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [المائدة : ١٤] ، فسلهم : هل كان هؤلاء يستطيعون أن يخرجوا مما صنع الله بهم ، وأن يتركوا العداوة بينهم؟ فإن قالوا : نعم ، كذبوا كتاب الله ؛ وإن قالوا : لا ؛ كان ذلك نقضا لقولهم.

__________________

(٣٤١) في (ب) : تولوا.

(٣٤٢) في (ب) : وسمرها. والسرد بالنسبة للدرع : هو النسج ، وللجلد : الخرز ، والأشياء عموما : الصنعة الداخلة عليها.

٣٦٥

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من الإغراء بالإرادة دون الأمر ، فزعم أن الله جل ثناؤه يأمر بما لا يريد ، ويريد من الأشياء ما لا يشاء كينونته ، فأخطأ في قوله وأمره ، ونسب الجهالة في ذلك إلى ربه ، ورضي فيه بما لا يرضاه في نفسه ، ولا يراه حسنا من أمته وعبده ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ألا ترى أن الآمر بما لا يشاء من أجهل الجاهلين؟ وعن الحكمة من أبعد المبعدين؟ فكيف اجترأ الحسن بن محمد على رب العالمين ، فنسب إليه أشد ما يعاب به المربوبون؟ ثم احتج في قوله ، وسطر أفحش القول في ربه ، فقال : قال الله : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ، فقال : إن الله تبارك وتعالى أغرى بينهم ولم يرد الإغراء ، ولم يأمر بالإغراء ، وأدخلهم من ذلك فيما لم يشأ. وليس ذلك كما قال ، وأول الآية يدل على عدل الله في ذلك حين أخبر بما كان منهم ، وذكر من الترك والرفض لما أمروا بأخذه ، والأخذ لما أمروا بتركه ، فلما أن فعلوا من ذلك ما عنه نهوا ، استأهلوا من الله سبحانه الترك والخذلان بما كان منهم لله من العصيان ، فتركهم من الرشد والتوفيق فضلّوا ، وعن الخير والصلاح في كل أمرهم (٣٤٣) عموا ، والبر والتواصل تركوا ، فغريت بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، ونشأ على ذلك خلف من بعد خلف ، فكان ذلك لسبب خذلان الله لهم وسخطه عليهم لذلك ، فلما كان ذلك كذلك جاز أن يقال : إن الله أغرى بينهم العداوة ، وبكل ضلال قالوا ، فنسب المسيح منهم قوم إلى أنه رب ، ونسبه قوم آخرون إلى أنه ابن للرب ، وقال آخرون بما قال في نفسه إنه عبد الله حين أخبر عنه بقوله حين أشارت إليه أمه ، قال الله جل ثناؤه : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ

__________________

(٣٤٣) في (ب) : أمورهم.

٣٦٦

آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) [مريم : ٢٩] ، فلما أن اختلفوا وعلى الحق لم يأتلفوا ، كفر بعضهم بعضا ، وبرئ فاسق من منافق ، ومنافق من فاسق ، وخذلهم الله فيه ، ولعنهم سبحانه عليه ، غريت بينهم العداوة إلى يوم القيامة ، فلما كان عزوجل الذي خذلهم فضلوا ، وتركهم فهلكوا ، قال : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ، وهذا ولله الحمد في اللسان معروف.

تم جواب مسألته

المسألة الحادية والعشرون : معنى قول الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ...)

ثم أتبع ذلك المسألة ، فقال : خبرونا عن قول الله : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) [الفتح : ٢٤] ، وذلك يوم الحديبية ؛ فسلهم : هل كان واحد من الفريقين يستطيع أن يبسط يده إلى أخيه ، والله عزوجل يخبر أنه قد كف بعضهم عن بعض بإرادة لا بأمر؟ فإن قالوا : نعم ، قد كانوا يستطيعون أن يقاتل بعضهم بعضا ؛ كذبوا كتاب الله عزوجل. وإن قالوا : لا ؛ فهذا نقض لقولهم.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) ، فقال : هل كان يستطيع أحد أن يمد يده إلى عدوه ، وقد كف الله سبحانه أيدي حزبه من رسوله والمؤمنين عن حزب الشيطان الفاسقين ، وأذن لرسوله وأطلق له مهادنة قريش ، ومن معهم من المشركين نظرا منه سبحانه للمؤمنين ، ففعل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لما أن طلبته قريش منه ، ولو لم يأذن الله له عزوجل في ذلك لم يفعله ، ولم يك ليرجع يوم الحديبية حتى يقاتلهم ، وعلى الحق وبالحق ينازلهم ، ولقد أراد ذلك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبايع

٣٦٧

أصحابه على الموت فيه بيعة ثانية ، وهي البيعة التي ذكر الله عن المؤمنين ورضي بها عنهم ، وأنزل السكينة عليهم وصرف القتال وكف أيدي الكل من الرجال بما أطلق لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إجابته لهم إلى ما طلبوا من المهادنة في ذلك العام ، والرجوع عنهم ، والدخول في السنة المقبلة إلى البيت الحرام. فأطلق له الرجوع عنهم والترك لمقاتلتهم لما ذكر سبحانه ، فمن كان بمكة ممن كان مكة من المؤمنين والمؤمنات لأن لا يطئوهم فيقتلوهم بغير علم فيصيبهم منهم معرة عند الله بالحكم ، والمعرة هاهنا فهي الدية لا ما قال غيرنا به فيها من الإثم. وكيف يأثم من بر وكرم وقاتل على الحق ـ كما ذكر الله عزوجل ـ من خالفه من الخلق فقتل مؤمنا بغير علم ولا تعمد؟ وهو فإنما قتله وهو يحسبه كافرا ، ويظنه في دين الله فاجرا؟ فهو والحمد لله في ذلك غير آثم ولا متعمد في فعله ولا ظالم ، ولكنه مخطئ فعليه ما على مثله ، وهو ما ذكر الله في قوله حين يقول : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) [النساء : ٩٢] ، وإنما جعل عليه العتق والدية تعظيما لقتل المؤمن وتشديدا على المؤمنين في التثبت والتبين عن قتال الكافرين ، كما قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) [الحجرات : ٦].

وأما معنى قوله سبحانه : (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) ، فهو الحكم لهم من الله عزوجل بالنصر إذ نصروه. ومن ذلك ما قال ذو العز والجلال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد : ٧] ، ولا نصر يكون أكبر (٣٤٤) من نصره لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن معه من المؤمنين ، فحكم الله سبحانه لهم على أعدائه بالنصر إذا التقوا ، وبالغلبة إن احتربوا ، ألا تسمع كيف يقول : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الفتح : ٢٣] ، يقول : حكم الله للمؤمنين بالنصر على الفاسقين ، ولن تجد لما حكم به رب العالمين للمؤمنين تبديلا ، فهذا معنى الآية وتفسيرها لا كما قال من نسب

__________________

(٣٤٤) في (ب) : أكثر.

٣٦٨

إلى الله جل ثناؤه فاحش المقال (٣٤٥) من جبر العباد (٣٤٦) على الخير ، وإدخالهم قسرا (٣٤٧) في كل شر وضير.

تم جواب مسألته

المسألة الثانية والعشرون : عن ما وعد الله تعالى من الغنائم

ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عما وعد الله جل ثناؤه رسوله والمؤمنين من الغنائم الكثيرة التي قال : (تَأْخُذُونَها) ، هل كانت تلك الغنائم التي وعدهم إياها تكون إلا من الكافرين؟ فإن قالوا : لا. فقل : فهل كان أولئك الكافرون يستطيعون أن يؤمنوا حتى لا تحل غنائمهم ولا دماؤهم ولا أموالهم؟ فإن قالوا : نعم ؛ فقد كذبوا قول الله عزوجل. وإن قالوا : لا ؛ فذلك نقض لقولهم.

تمت مسألته

جوابها :]

وأما ما سأل عنه ، وفيه تكلم وقال في الغنائم التي وعدها الله المؤمنين ، وأخبرهم أنهم يأخذونها من الكافرين ، فقال الحسن بن محمد في ذلك : هل كان الكافرون يستطيعون الإيمان وهم لو آمنوا لم تحل غنائمهم؟ وهم لو لم تؤخذ غنائمهم (لم يتم) (٣٤٨) وعد الله لنبيه ، فلا بد أن يثبتوا على كفرهم جبرا حتى تؤخذ منهم الغنائم قسرا.

فقولنا في ذلك الحق لا قول المبطل الهالك : إن الله سبحانه علم من أهل الغنائم قبل أن

__________________

(٣٤٥) في (ب) : القول.

(٣٤٦) في (ب) : الأنام.

(٣٤٧) سقطت من (ب).

(٣٤٨) في (ب) : بطل.

٣٦٩

يعد نبيه غنائمهم أنهم لا يؤمنون ، وأنهم سيثبتون على الكفر ويقاتلون ، وأنهم لا يسمعون لله ورسوله ولا يطيعون ، فوعده غنائمهم والنصر عليهم إذ علم أنهم لا يختارون الإيمان ولا يطيعون الرحمن ، وأنهم يختارون الإقامة على الضلال والكفران ، (والمحادة لله ورسوله والعصيان ، فلذلك وعد المؤمنين غنائمهم ، وأجاز لهم) (٣٤٩) سبيهم ، وأحل مقاتلتهم واسترقاق ذراريهم ، وذلك بما جنت أنفسهم عليهم.

تم جواب مسألته

المسألة الثالثة والعشرون : معنى قول الله تعالى : (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ)

ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) [المائدة : ١١] ، وذلك أن ناسا من اليهود كانوا أرادوا قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونفر معه من أصحابه ، فأخبر الله عزوجل رسوله وكف أيديهم عنه وعن أصحابه ، فسلهم : هل كانوا يستطيعون أن يبسطوا أيديهم عليهم ، وقد كفها الله عنهم؟ أم لا؟ فإن قالوا : نعم ؛ فقد كذبوا قول الله جل ثناؤه. وإن قالوا : لا ؛ فذلك نقض لقولهم.

تمت مسألته

جوابها :]

وأما ما سأل عنه (مما تحير فيه) (٣٥٠) من قول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) ، فتوهم الحسن بن محمد أن الله عزوجل كف أيديهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن

__________________

(٣٤٩) سقط من (ب).

(٣٥٠) سقط من (ب).

٣٧٠

أصحابه المؤمنين غصبا ، حتى لم يكن لهم في ذلك حيلة ، ولم يبسط أيديهم بالسواية (٣٥١) إليه ، وأنه قبضها عنهم قبضا ، ومنعهم منعا ، وليس ذلك كما توهم ولا هو على ما به تكلم ، وسنشرح ذلك إن شاء الله ونقول فيه بالحق على الله.

فنقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان خرج إلى يهود بني النضير في نفر من أصحابه ـ وكان بنو النضير ينزلون قريبا من المدينة ـ ليستعينهم في ديتين وقعتا خطأ على بعض المسلمين. فلما أن أتاهم رحبوا به وأدنوه ، وكل ما طلب منهم وعدوه ، ثم تآمروا به وبأصحابه ، وعزموا على الغدر به وبمن معه من أعوانه ، فأهبط الله عزوجل بذلك جبريل صلى الله عليه وعلى رسوله فأخبره به وأوقفه عليه ، فنهض صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسرعا هو ومن معه حتى رجعوا ، ثم هيئوا (٣٥٢) وخرجوا إليهم يقاتلونهم ، وأقاموا عشرين ليلة يحصرونهم في حصونهم ، ثم نزلوا من بعد ذلك على حكم سعد بن معاذ ، وكان من كبار الأنصار ، وذوي القدر منهم والأخطار ، وكانوا يتكلمون إليه ، ويظنون لما كان بينه وبينهم في الجاهلية من المداناة والإحسان أنه سيحابيهم ويحكم بما ينجيهم كلهم ، فحكم بأن تقتل رجالهم وتسبى ذراريهم وحرمهم وفي ذلك ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات.» ، ففعل ذلك بهم ، وأخزاهم الله وأهلكهم ، وأبادهم وقتلهم ، فكان إعلام الله عزوجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما اجتمعوا عليه وعزموا وصاروا فيه إليه كفا لأيديهم ونقضا لعزيمتهم وإبطالا لتدبيرهم. فهذا معنى ما تحير فيه الحسن بن محمد من تفسير الآية ، لا ما قال به على الله عزوجل من البهتان ، وما حمل من محكم القرآن على متشابه القرآن (٣٥٣)

__________________

(٣٥١) السواية : المكروه.

(٣٥٢) في (ب) : تعبوا.

(٣٥٣) قال الدكتور محمد عمارة معلقا على هذا الموضع : ما في كتب السيرة عن هذه الواقعة التاريخية يؤيد الإمام يحيى ، ويرفض تفسير ابن الحنفية ، فلقد كان كف أيدي بني النضير عن رسول الله بواسطة قيامه عن مكانه إلى جوار جدار من جدرهم ، وذهابه إلى المدينة بسبب إخبار الوحي له بأنهم قد عزموا

٣٧١

تم جواب مسألته

المسألة الرابعة والعشرون : معنى قوله تعالى : (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ)

ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله عزوجل لعيسى بن مريم ، وهو يذكر نعمة الله عليه ، فقال : (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١١٠] ، فهل كان لبني إسرائيل أن يبسطوا أيديهم على عيسى عليه‌السلام؟ فإن قالوا : نعم ، فقد كذبوا قول الله ، وإن قالوا : لا ، فذلك نقض لقولهم.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من قول الله عزوجل لعيسى بن مريم المسيح العبد الكريم : (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، فقال : هل كانت بنو إسرائيل تقدر على أن تبسط أيديها إليه ، وقد كفها الله عنه ، وأنعم بذلك عليه؟

فقولنا في ذلك : إن الله لم يكف أيديهم عنه جبرا ، ولكنه ألقى في قلوبهم الهيبة له ولمن معه من الحواريين ، وأعلم نبيه صلى الله عليه بما يريدون منه وما يريدون فيه ، فحذرهم

__________________

على أن يلقوا عليه حجرا من أعلى الجدار ، ولقد كان قيامه مسرعا وحده وليس مع أصحابه كما ذكر الإمام يحيى ، وكان معه في هذا المجلس أبو بكر وعمر وعلي ونفر آخرون ، فلما غاب عنهم الرسول سألوا عنه ، فقال رجل قادم من المدينة : لقيته وقد دخل أزقة المدينة ، فلحق به الصحابة فسأله : أقمت ولم نشعر؟ قال : همت يهود بالغدر فأخبرني الله بذلك فقمت. راجع (الدرر في اختصار المغازي والسير) لابن عبد البر ص ١٧٤ ، و (الطبقات الكبرى) لابن سعد ج ٢ القسم الأول ص ٤٠ وما بعدها طبعة القاهرة سنة ١٩٦٩ م.

٣٧٢

واستعد بمن معه لهم ، فخافوهم وحذروهم فلاشى عزيمتهم وأبطل في ذلك إرادتهم ، ومنّ على نبيه صلى الله عليه بما ألقى له وللحقّ في قلوبهم من الهيبة والمخافة ، فرجعوا خائبين ، ومما أرادوا مؤيسين ، وأعز الله سبحانه المؤمنين ، وكبت الفاسقين. فهذا إن شاء الله معنى ما ذكر الله من كف أيديهم عن عيسى بن مريم صلى الله عليه بينهم ، والمظهر للحق فيهم ، والمطلق لهم بعض الذي حرم عليهم ، المبرئ لأكمههم وأبرصهم ، الشافي لسقيمهم ، والمحيي لميتهم ، والمنبئ لهم عما يأكلون ويدخرون في بيوتهم ، (وتلك فأعظم) (٣٥٤) آيات ربهم وبراهين خالقهم ، فلما عتوا عن أمر خالقهم ، قال حين ذلك نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) ، وأعوانك وأنصارك وخدامك ، فآمن معه من بني إسرائيل الحواريون ، وكفر سائر الإسرائيليين ، فأيد الله المؤمنين فأصبحوا كما قال الله : (ظاهِرِينَ) ، حين يقول عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) [الصف : ١٤] ، فهذا قولنا في رب العالمين ، لا كقول الجاهلين الذين نسبوا إلى الله عزوجل أفعال العباد ، وقلدوه ما يكون في ذلك من الفساد ، فتعالى الله الواحد الرحمن عن زخرف أقاويل الشيطان ، المضاهين (٣٥٥) لمذاهب عبدة الأوثان ، وما حكى فيهم الرحمن من قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [النحل : ٣٥] ... الآية (٣٥٦)

تم جواب مسألته

__________________

(٣٥٤) في (أ ، ب) : وذلك فأعظم.

(٣٥٥) أي المشابهين.

(٣٥٦) وتمام الآية : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

٣٧٣

المسألة الخامسة والعشرون : معنى إلقاء الرعب وقذفه

ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) [آل عمران : ١٥١] ، وقال في سورة الحشر : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) [الحشر : ٢] ، وقال : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) [الأحزاب : ٢٦] ، فأخبرونا عن الرعب الذي قذف الله في قلوب الكافرين ، هل كانوا يستطيعون أن يمتنعوا منه ، وأن يصرفوه عن قلوبهم؟ فإن قالوا : لا ، كان ذلك نقضا لقولهم. وإن قالوا : نعم ، فقد كذبوا كتاب الله ، وزعموا أن العباد يمتنعون من الله. وإن قالوا : إنما صنع الله ذلك بهم بكفرهم. فقل : ألستم تعلمون أن الرعب شيء لطيف لا يراه الناس ، ولا يردونه ، ولا يمتنعون منه حين يدخل في قلوبهم ، فيوهن الله بذلك كيدهم ، وينقض قولهم؟ فإن قالوا : نعم. فقل : وكذلك أيضا التوفيق ، شيء لطيف لا يراه العباد ، يلقيه الله في قلوب المؤمنين ، وأمور الله كلها كذلك ، من أراد به خيرا وفقه وسدده وأرشده ، وكان ذلك عونا من الله لهم ، ومن أراد به سوءا ثبطه وعوقه وخذله وتركه وهواه ، ووكله إلى نفسه ؛ فوكله إلى الضعف والهوان ، والله غالب على أمره.

تمت مسألته

جوابها :]

وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) ، فإنا نقول : إن الرعب إنما ألقاه الله جل ثناؤه في قلوبهم نكالا وانتقاما منهم على كفرهم وإشراكهم ، ألا تسمع كيف فسر آخر الآية أولها ، فقال : (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) ، فكذلك الله سبحانه انتقم منهم بما أشركوا وكفروا وخذلهم وتركهم من التسديد والتوفيق ، فهلكوا وتلاشوا ؛ وعندوا فضلوا ، وهانوا فتفرقوا ، إذ وكلهم إلى الضعف من أنفسهم ، وإلى حولهم وقوّتهم ؛ فهانوا ورعبوا من القتال ولقاء

٣٧٤

المؤمنين في تلك الحال ، فكان تركهم لهم بما قدموا من شركهم رعبا داخلا في قلوبهم مخامرا لصدورهم.

وأما ما ذكر من قول الله سبحانه في بني النضير من اليهود : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) ، فكذلك فعل الله بهم ، وذلك أنهم كانوا قد هادنوا الرسول عليه‌السلام ، وخضعوا لأهل دعوة الإيمان والإسلام ، حتى كان يوم الأحزاب فجاءت قريش ومن تحزب معها من العرب من اليمن ومضر ، وأمدهم في ذلك يهود خيبر يقاتلون الرسول والمؤمنين مع أعداء الله الفاسقين ، فلما أتى يهود خيبر أرسلوا إلى يهود بني النضير فوعدوهم أن يقاتلوا الرسول من ورائه إذا حميت الحرب بينه وبينهم ، فنزلت بنو عامر أحد من فوق المؤمنين ، ونزلت قريش بطن الوادي من أسفل منهم ، وكانت اليهود ـ يهود خيبر ـ قبل المسلمين مما يلي الحرة ، وبنو النضير من وراء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي ذلك ما يقول الله عزوجل : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) [الأحزاب : ١٠] ، فكان فيمن نزل أحد من العرب رجل أشجعي يحب الإيمان ويبغض أهل العدوان ، فأفسد بين المشركين طرا ، وذلك أنه أتى قريشا فقال لها : إن العرب قد ظاهرت محمدا عليكم ، ووعدته المحاربة معه لكم ، وآية ذلك أنهم لن يبدءوه بالمحاربة ، فخذوا حذركم ولا تبدءوه حتى يقاتلوه قبلكم. ثم أتى أصحابه وبني عمه وجماعة العرب ، فقال : إن قريشا قد عاقدت محمدا عليكم ، وعلامة ذلك أنهم لن يبدءوه بالمحاربة قبلكم فاعملوا لأنفسكم ودبروا أموركم ، ولا تقاتلوا حتى ترسلوا إليهم فيقاتلوا قبلكم ، فإن فعلوا وإلا فاحذروا مكرهم والحقوا وشيكا ببلدكم. ثم أتى يهود خيبر ، فقال : إن قريشا قد عاقدت محمدا عليكم ، وآية ذلك أنها لا تبدأه (٣٥٧) بالمحاربة قبلكم ، وأتى قريشا ، فقال لها : إن اليهود قد ظاهرت محمدا عليكم ،

__________________

(٣٥٧) في (ب) : تبدءوه.

٣٧٥

وآية ذلك أنهم لا يبدءونه بالمنابذة قبلكم. فطرح في قلوب كل لكل (٣٥٨) بلاء وحقدا (٣٥٩) ومخافة وشحناء ، فأقام كل ينتظر أن يبدأ بالمحاربة غيره ، فلما طال ذلك عليهم وتراسلوا بينهم يسأل كل كلا أن ينصب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حربا ، وكلهم يأمر صاحبه أن يبدأ ، فصح لذلك عندهم قول الأشجعي ، فتفرقوا ، وفسدت قلوب بعضهم على بعض ، فرحلت العرب طرا راجعة إلى بلدها ، وأرسل الله سبحانه الريح على قريش واليهود ، وأمد المؤمنين بالنصر منه ، والجنود ، فلم يقم (٣٦٠) لقريش خباء ولا ظل ، ولا يستوقد لهم نار إلا أطفأتها (٣٦١) الريح وفرقتها (وحرقتهم بها) (٣٦٢) ، فأقاموا ثلاثا لا يختبزون ولا يصطلون ، فاشتد عليهم القر والجوع ، ورماهم الله بالذل ، فأزمعوا على الرجوع ، ورحلوا راجعين وخاسرين خائبين نادمين ، وفي ذلك ما (٣٦٣) يقول رب العالمين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) [الأحزاب : ٩] ، فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقاتل بني النضير ، إذ نقضوا عهده ، وخالفوا أمره فحاصرهم حتى جهدوا ، فقالوا : يا محمد ، خلنا نخرج من البلد بما حملت إبلنا التي في الحضرة معنا من متاعنا ونخلي لك الباقي وما لنا من الضياع ، وبشرط ألا نخرج بسلاح ، ونترك الديار والنخل والقرى. فرضي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، فخرجوا بإبلهم عليها جيد متاعهم وتحف أثوابهم ، فلما قلعوا التحف تهدمت وجوه البيوت ، وذلك تدبير منهم ليخربوها عليهم ،

__________________

(٣٥٨) في (ب) : أحد.

(٣٥٩) وحذرا.

(٣٦٠) في (ب) : فلم يكن يقوم.

(٣٦١) في (ب) : أطفأها الله بالريح.

(٣٦٢) هكذا في الأصل.

(٣٦٣) غير موجودة في (ب).

٣٧٦

فكان أحدهم إذا هدم لحاف (٣٦٤) بيته بطل البيت ، ثم خرجوا على الإبل بالتحف ، فذلك قول الله سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) ، فخرجوا جالين ، ولنعمهم تاركين ، وذلك قول أصدق الصادقين : (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) [الحشر : ٣] ، والتعذيب فهو القتل. فكان الرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو ما كان من خذلانه لهم حتى عمي عليهم رشدهم ، وفاسدوا إخوانهم ، ودخل الفزع عند ذلك من النبي والمؤمنين في قلوبهم ، وأيقنوا أنه إذا علم بما كان من مظاهرتهم (٣٦٥) عليه وصاروا من الغدر به إليه أنه لا يتركهم وأنه يقاتلهم على فعلهم حتى يظهر الله عزوجل الحق ، ويزهق الباطل من الخلق ، وهذا معنى إلقاء الله الرعب في قلوب الفاسقين لما أرادوا من هلاك المؤمنين. وكذلك كان فعله بأهل خيبر حتى أخذوا وأسروا وقتلوا وسبوا ، فهذا قولنا في إلقاء الله الرعب في قلوب الفاسقين ، لا ما ذهب إليه من خالف المحقين ، وعند من قول الصدق في رب العالمين.

تم جواب مسألته

المسألة السادسة والعشرون : معنى قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ)

ثم أتبع ذلك المسألة عن الذرو بالإرادة ، فقال : خبرونا عن الذرو بالإرادة ، فإن الله يقول : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ

__________________

(٣٦٤) المراد قطع الخشب التي هي بمثابة قوائم للأبواب والنوافذ وهي التي تشد الجدر بعضها إلى بعض.

(٣٦٥) في (ب ، ج) : مظافرتهم.

٣٧٧

الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩] ، فسلهم : هل يستطيع هؤلاء أن ينقلبوا عما ذرأهم الله له؟ فإن قالوا : نعم ؛ فقد كذبوا ، وزعموا أنهم يستطيعون أن يبدلوا خلقهم وإرادة الله فيهم. وإن قالوا : لا ؛ كان نقضا لقولهم.

تمت مسألته

جوابها :]

وأما ما سأل عنه من قول الله عزوجل : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) ، فقال : هل يستطيع أحد أن يخرج أو ينتقل مما ذرئ له وتوهم ، بل قال : إن الله ذو الجلال والإكرام خلق لجهنم قوما كافرين ذرأهم وأوجدهم ابتداء فاسقين ، وخلقهم ضالين مضلين ، لا ينفع فيهم دعاء ، ولا يقدرون طول الزمان على الاهتداء (٣٦٦) ؛ لما قد خلقوا له من الشقاء ، فهم أبدا بفعل الفواحش مولعون ، ولعمل الهدى غير مطيقين ، وأنهم على ذلك مجبولون ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

فنقول في ذلك على الله بالحق ، والله الموفق لكل خير وصدق ، فنقول : إن معنى الآية خلاف ما ذهب إليه الحسن بن محمد ، وإن القول خلاف ما قال به فيه ؛ بل معناه على الصدق والمعاد ، لعلم الله بما يكون من العباد ، فقال : (ذَرَأْنا) ، فأخبر عما سيكون في آخر الأمر ويوم القيامة والحشر من الذرو الثاني لا الذرو الأول الماضي ، فكذلك الله (٣٦٧) رب العالمين يذرأ لجهنم في يوم الدين جميع من مات على كفره من الكافرين فيعذبهم على فعلهم ويعاقبهم على ما تقدم من كفرهم ، كما قال الرحمن الرحيم الرءوف الكريم : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ

__________________

(٣٦٦) في (ب) : اهتداء.

(٣٦٧) سقط من (ب).

٣٧٨

فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٢].

فهذا معنى ما ذكر الله من الذرو في الكتاب ، لا ما ذهب إليه الحسن بن محمد ذو الشك والارتياب ، من أن الله سبحانه خلق للنار خلقا تعمل بالمعاصي أبدا ، لا يقدرون على هدى ولا طاعة في سنة ولا شهر ولا يوم ولا ساعة ، وأن الله سبحانه خلق للجنة أصحابا مجبولين لله على الطاعة في كل الأسباب.

فيا عجبا من قولهم المحال! وكذبهم على الله في المقال! فأين ـ ويحهم ـ المعاصي والطغيان ممن عمل بما ألزمه الله في كل شأن؟ بل كل مطيع ، وفي مراد الله سريع؟ فإن كان ذلك من الله كذلك ، فلم بعث الأنبياء إليهم يدعونهم؟ وأوجب عليهم طاعتهم؟! وطاعة الأنبياء فهي العمل بطاعة الله ، ومعصيتهم فهي المعصية (٣٦٨) لله ، فقال الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [النساء : ٥٩] ، وقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [النساء : ١٣] ، وقال : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) [الجن : ٢٣] ، وقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) [النساء : ١] ، وقال : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات : ٥٠] ، فأين الطاعة ممن جبل على المعصية؟ وأين الفرار ممن منعه منه الجبار؟ وكيف لا يعصى الرسول والرحمن الرحيم من قد حيل بينه وبين الإحسان!؟

ومن ذلك قول إبراهيم صلى الله عليه لأبيه : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) [مريم : ٤٢ ـ ٤٣] ، فما ذا يقول الكافرون وينسب إلى الله وإلى نبيه الضالون في هذا العلم الذي جاء إبراهيم؟ أتراه أتاه من العلم ـ إن كان الله قد خلق أباه للنار ـ أن أباه يقدر أن يخرج إلى غير ما خلقه الله له من النار حتى يصير إلى الجنان؟ أم يقولون إن العلم الذي جاء إبراهيم هو أن أباه ـ إن كان الله جل ثناؤه خلقه للشقاء ، وحال بينه وبين

__________________

(٣٦٨) في (ب) : العصيان.

٣٧٩

الهدى ـ يقدر على مغالبة الرحيم ، والخروج مما أعد له من الجحيم ، والمصير إلى دار النعيم؟ والله سبحانه لم يخلقه لذلك ، بل جبله على غيره ومنعه من رشده؟ أم تقولون في إبراهيم ـ الأواه الحليم الصديق الكريم ـ إنه دعا أباه إلى اتباعه وضمن له ما ضمن من إرشاده ، ونهاه عن عبادة الشيطان الرجيم ، وأمره بطاعة الرحمن الرحيم ، وهو يعلم أن الله جل جلاله قد منعه من الخير ، وأدخله إدخالا في الشر والضير؟! فلقد إذا أمره بمغالبة ربه ، وهجره واعتزله على غير ذنبه.

ثم يقال لهم : خبرونا ، وعما نسألكم عنه أجيبونا : هل بعث الله جل ثناؤه نبيه إلى الخلق طرا ـ فإنه يقول : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سبأ : ٢٨] ـ يدعوهم إلى طاعته وينهاهم عن معصيته ، أم بعثه إلى بعض ولم يبعثه إلى بعض؟ فإن قالوا : بعثه إلى الخلق طرا. فقل : فما دعاهم إليه؟ فإن قالوا : إلى الثبات على ما هم عليه من الكفر ؛ كفروا. وإن قالوا : دعاهم إلى الإيمان. قيل لهم : فهل يقدرون على ذلك من الشأن؟ وقد جبلوا على قولكم على الكفران؟! فإن قالوا : نعم ؛ تركوا قولهم. وإن قالوا : لا ؛ جهلوا ربهم ونبيهم ، إذ زعموا أن الله سبحانه بعث نبيه يدعو إلى الخير والهدى من لا يقدر على الاهتداء ، ومن قد حال الله بينه وبين التقى ، وهذا فأفحش أفعال الظلمة الجهال ، وما لا يجوز في الله ذي الجلال ، أن يحول بين عبده وبين طاعته ، ثم يرسل إليه ويأمره بمرضاته ، وقد أخرجه منها وأدخله في ضدها ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا.

تم جواب مسألته

المسألة السابعة والعشرون : معنى قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ)

ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله عزوجل : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٨] ، فيقال لهم : خبرونا عن هؤلاء الذين قال الله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) ، هل

٣٨٠