مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

من الثواب والعقاب والمجازاة بين العباد ، وليس على الله في ذلك من حجة كبيرة ولا صغيرة.

وأما ما سأل عنه من استكبار إبليس ، وقال : ممن هو؟ أمن الله؟ أم منه؟ أم من غيره؟

فسبحان الله! ما أبين جهل من شك في هذا! أيتوهم أو يظن ذو عقل أن الله ألزم إبليس التكبر والاجتراء عليه فأدخله قسرا فيه؟ وهو يسمع إخبار الله في ذلك عنه ، وأنه نسب التكبر إليه ، فقال سبحانه : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٣٤] ، فذكر أن الاستكبار والكفر من فعل إبليس الكافر المستكبر ، ولو كان الله أدخله في الاستكبار فاستكبر ، وقضى عليه بالكفر فكفر ، لم يقل فيه : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) ، ولكان أصدق الصادقين يقول فيه : إنه أطوع المطيعين. وما كان من استكبار إبليس فهو كاستكبار غيره من الناس ، قال الله سبحانه : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) [الأحقاف : ٢٠] ، ولو كان الكبر والفسق من الله فيهم فعلا ، وله سبحانه عملا ، لم يجزهم عذاب الهون على فعله الذي أدخلهم فيه ، بل كان يثيبهم عليه ويكرمهم لديه.

المسألة الثالثة : أكانت محبة الله ومشيئته في دخول آدم وزوجه الجنة أم في خروجهما؟

ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد ، المسألة عن آدم عليه‌السلام ، وزوجته ، فقال : خبرونا عن آدم وزوجته حين أسكنهما الله الجنة ، أكانت محبة الله ومشيئته لهما في دخولهما فيها ، وإقامتهما أم في خروجهما منها؟

فإن زعموا أن محبة الله ومشيئته كانت في خلودهما ؛ فقد كذبوا ، لأن أهل الجنة لا يموتون ولا يتوالدون ولا يمرضون ولا يجوعون ولا يخرجون ، وقد قضى الله الموت على خلقه جميعا ، وقضى على آدم أن تكون له ذرية تكون منهم الأنبياء والرسل والصديقون والمؤمنون والشهداء والكافرون ، ثم قال : (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها

٢٨١

تُخْرَجُونَ) [الأعراف : ٢٥] ، ثم قال : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) [طه : ٥٥] ، وكيف يكون ما قالوا ، وقد قضى الله القيامة والحساب والموازين والجنة والنار ، سبحان الله! ما أعظم هذا من قولهم.

وإن قالوا : إن محبة الله ومشيئته كانت في خروج آدم وزوجته من الجنة وهبوطهما إلى الأرض ، فقد زعموا أنه لم يكن ليخرجهما من الجنة إلا الخطيئة التي عملاها ، والأكل من الشجرة التي نهيا عنها ، فقد أقروا لله بقدرته ونفاذ علمه ، وفي ذلك نقض قولهم.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من إرادة الله في آدم وزوجته حين أسكنهما الجنة ، أكانت إرادته خلودهما فيها؟ أم خروجهما عنها؟ وما توهم من هذه الجنة التي كان فيها آدم وزوجته أنها جنة المأوى التي جعلها الله ثوابا للعاملين ومقرا دائما لعباده المؤمنين ، فإنا نقول : إن الجنة التي كان فيها آدم وزوجته هي من جنات الدنيا ذوات الأنهار والغرف والأشجار فسماها الله جنة ، وهذا فموجود في لغة العرب غير مفقود ، تسمى ما كان من الضياع والبساتين ذا فواكه وأشجار وعيون جنانا. أما سمعت إلى قول الله ، سبحانه ما أبين نوره وبرهانه ، وكيف حكى عن الأمم الماضين ، الفراعنة المتجبرين ، حين يقول سبحانه : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) [الدخان : ٢٦] ، وقال : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) [الكهف : ٣٩] ، فسمى الله ما كان من الأرضين على ذلك من الحالات في قديم الدهر وحديثه جنات ، وأن آدم كان في موضع قد بوأه الله إياه كريم شريف عظيم ، خلقه فيه وأجرى رزقه ومرافقه عليه ، وليس كما ظن الحسن بن محمد ، وتوهم من فاحش الظن والمقال أن أهل الجنة منها خارجون وعنها منتقلون ، وأن آدم وحواء كانا فيها ثم أخرجا ، وليس كذلك ، بل هو كما قال رب العالمين ، وأصدق الصادقين فيمن صار إلى جنة المأوى من عباده الصالحين : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ

٢٨٢

رَبَّهُ) [البينة : ٨] ، وكما قال : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) [الحجر : ٤٨] ، وأخبر أن من دخل جنة المأوى غير خارج منها أبدا ، وأنه لن يذوق بعد دخوله إياها نصبا ولا شقاء ، وقال عزوجل إخبارا منه أنه لا يدخل الجنة إلا المطيعون المجازون من العالمين ، فقال : (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٣٧] ، فأخبر سبحانه ، أن الجنة لا يدخلها إلا من اتقى وتقدم منه العمل بالحسنى ، فأولئك الذين تزلف لهم الجنة ، قال الله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) [ق : ٣١].

وأما ما سأل عنه من قول الله : (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) ، ومن قوله : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) ، وما توهم من ذلك أن هذه الأرض التي خلق منها آدم هي أرض الجنة وعرصتها ، وأن كل العباد راجع إليها ، فليس ذلك كما توهم ولا كما قال ، وإنما عنى الله بكل ما ذكر من هذه الأقوال هذي الأرض التي منها خلقوا وفيها يدفنون ومن أجداثها يبعثون ، قال الله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) [المرسلات : ٢٥] ، وقال سبحانه : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) [ق : ٤٤].

وأما ما سأل عنه ، فقال : ما كانت إرادة الله في آدم وزوجته؟ أيخلدان في الجنة؟ أم أراد أن يخرجا منها ويهبطا عنها؟

فإنا نقول : إن إرادة الله في وقت خلق آدم وزوجته سكناهما في الجنة ومقامهما ، وإن إرادته وحكمه عند ما كان من غفلتهما واستزلال الشيطان لهما حتى كان منهما ما كان من معصيتهما لسبب الغفلة والنسيان لما عهد إليهما ربهما من اجتناب الشجرة التي عنها نهاهما ـ فطلبا البقاء والحياة والاستزادة من العمل الصالح ، ورجوا أن يخلدا ، فيزدادا طاعة

٢٨٣

لربهما وتكثر عبادتهما لخالقهما ، فغوى (٢٢٠) صلى الله عليه ، في الشجرة ناسيا ، ولم يكن ذلك عن مباينة لله بالعصيان ، ولا عن قلة معرفة بما يجب للرحمن ، قال الله تبارك وتعالى : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥] ـ فلما أن كان ذلك منهما أراد الله أن يهبطهما من الجنة التي كان قد كفاهما فيها لباسهما وقوتهما ، فأخرجهما منها إلى غيرها من الأرض ، وبدلهما بالراحة تعبا ، وبالكفاية للمئونة طلبا وحرثا وزرعا. فكانت إرادته في وقت إيجادهما : الكفاية لهما ، وفي وقت نسيانهما : ما حكم به من إخراجهما وإهباطهما منها إلى غيرها. فالهبوط فهو القدوم من بلد إلى بلد ، تقول العرب : هبطنا من بلد كذا وكذا إلى بلد كذا وكذا ، وهبطنا عليك أرضك ، وقال الله المتقدس الأعلى فيمن كان مع عبده ونبيه موسى ، ممن كان ينزل عليه المن والسلوى ويظلل بالغمام ويسقى زلال الماء ، فطلبوا وسألوا التبدل (٢٢١) بذلك مما هو أقل وأدنى ، فقالوا : (يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) [البقرة : ٦١] ، (فقال : اهبطوا مصرا ، أي اقدموا وانزلوا مصر تجدوا فيه ما سألتم) (٢٢٢) من هذه الأدنى. فأراد سبحانه أن يسكنها آدم أولا ، ويخرجه منها آخرا ، كما شاء أن يسكن ذريته الدنيا ثم يخرجهم منها إذا شاء إلى الآخرة ، وكما شاء وأراد أن يصلي له نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت المقدس ، ثم شاء أن ينقله عنه إلى ما هو أعظم ، فينقله إلى بيته الحرام المكرم ، كما شاء سبحانه أن يفترض على أمة موسى من الفرائض المشددة والأمور المؤكدة ، فافترض ذلك عليهم ، ولم يرض منهم بسواه من ذلك ما حرم عليهم من المآكل من الشحوم اللذيذة وغيرها ، وما حظر عليهم من صيد البحر في يوم سبتهم ، حتى كانت الحيتان يوم السبت تأتيهم وتظهر لهم وتكثر عندهم وتشرع قريبا

__________________

(٢٢٠) في الأصل : فهوى ، والمثبت من (أ) ، وذكر الأصل : فهوى.

(٢٢١) في (أ) : البدل.

(٢٢٢) ساقط من (ب).

٢٨٤

منهم امتحانا من الله لهم ، فكانوا لله في تركها مطيعين ، وكانوا عنده على ذلك مكرمين ، ثم عتوا من بعد ذلك وفسقوا ، وخالفوا فتصيدوا ، فأخذهم الله (٢٢٣) بذنوبهم فجعل منهم القردة والخنازير ، فقال سبحانه في ذلك : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف : ١٦٣] ، ثم أراد الله التخفيف عن عباده فبعث فيهم عيسى صلى الله عليه ، فأحل لهم بعض ما قد حرم عليهم ، قال الله تعالى يخبرنا عما جاء به عيسى وقاله مما أمره الله به جل جلاله حين يقول : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [آل عمران : ٥٠] ، ثم أراد التخفيف عنهم ، والنقل لهم إلى أفضل الأديان ، إلى دين أبيهم (٢٢٤) إبراهيم الأواه الحليم ، فبعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، فصدع بأمر ربه ، وأنفذ ما أرسل به ، فكان ذلك إرادة من بعد إرادة ، ومتعبدا من بعد متعبد ، فصرف الله فيه العباد ، فتبارك الله ذو العزة والأياد.

وكذلك حكم على من عصاه بالمعصية ، فإن تاب حكم له بالطاعة ، وإن عاد فعصى حكم عليه بما حكم على أهل الردى ، وإن تاب وأناب إلى الله وأجاب ، حكم له بالهدى والثواب.

فهذه أحكام من الله وإرادات ، أراد الله سبحانه أن يتصرف في المخلوقين على قدر ما يكون منهم من العملين ، فقال جل وعز : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [فصلت : ٤٦].

وأما ما ذكر من العلم ، وأن (٢٢٥) العلم لا يخلوا من أن يكون الله العالم بنفسه ويكون العلم من صفاته في ذاته لا صفته لغيره ، أو يكون العلم غيره. فمن قال : إن العلم غيره ؛

__________________

(٢٢٣) غير موجودة في (ب).

(٢٢٤) سقطت من (أ ، ج).

(٢٢٥) هكذا في الأصل ولعل الصواب : فإن العلم ؛ لأنه من هنا من كلام الإمام عليه‌السلام.

٢٨٥

فقد جعل مع الله سواه ، ولو كان مع الله سواه ، لكان أحدهما قديما والآخر محدثا ، فيجب على من قال بذلك أن يبين أيهما المحدث لصاحبه. فإن قال : إن العلم أحدث الخالق ؛ ، كفر. وإن قال : إن الله أحدث العلم ؛ فقد زعم أن الله كان غير عالم حتى أحدث العلم ، ومتى لم يكن العلم فضده لا شك ثابت وهو الجهل ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وإن رجع هذا القائل الضال إلى الحق من المقال ، فقال في الله بالصدق تبارك وتعالى ذو الجلال ، فقال : إنه العالم بنفسه الذي لم يزل ولا يزول ، وإنه الواحد ذو الأفعال ، وإنه لا علم ولا عالم سواه ، وإنه الله الواحد العالم ؛ وجب عليه من بعد ذلك أن يعلم أن كل ما نسبه إلى العلم فقد نسبه إلى الله ، وسواء قال : أدخله العلم في شيء ؛ أو قال : أدخله الله فيه وحمله سبحانه عليه ؛ فالله عزوجل بريء من ظلم العباد ، متقدس عن أفعالهم ، فأفعالهم بائنة من فعله ، وأفعاله بائنة من أفعالهم ، لم يحل بين أحد وبين طاعته ، ولم يدخل أحدا في معصيته. فعلم الله بما يكون من أفعال عباده فغير أعمالهم ، ولم يضطرهم إلى عمل في حال من حالاتهم ، فالعلم بهم محيط فهم متصرفون (٢٢٦) فيه ، وينتقلون من معلوم إلى معلوم بما ركب فيهم من الاستطاعة والقدرة ، قد علم ممن عصاه أنه سيعصي ، وأن من تاب فقد علم أنه سيتوب ، وإن عاد فقد علم أنه سيعود ، وليس علمه بأنه سيختار المعصية أدخله في العصيان ، لأن ضده قد يكون من العبد وهو التوبة والإحسان ، فكيف يجوز على الواحد الرحمن أن ينقل من عباده أحدا من رضاه إلى سخطه ، إذا لقد جبره على معصيته ، ولو جبره عليها إذا لما كان بد للعبد من الدخول فيها ، ولو دخل العبد فيما أدخله ربه فيه لوجب له الثواب عليه ، ولكان لله من المطيعين ، إذ هو جار على مشيئة رب العالمين ، ولما كان في الخلق عاص ، ولكان الله عن كلهم راضيا ، ولكان في القياس إبليس عند الله مرضيا إذ هو يجب أن (٢٢٧) يدعوا إلى ما شاء الله لعباده ورضي ، ولما ذمه في التكبر والعصيان ؛ إذ الحامل له والمدخل له فيه الرحمن ، ولمّا قال : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) وهو

__________________

(٢٢٦) في (ب) : يتصرفون.

(٢٢٧) في (ب) : أبدا ، وعبارة (أ) : يجب أبدا ويدعو.

٢٨٦

يعلم أنه المانع له من السجود ، فتبارك الله عن ذلك الواحد المعبود.

ألا ترى كيف تبرأ من أفعالهم ، ويأمر بالمجاهدة لهم على اليسير من أعمالهم ، ولو كان المتولي لذلك فيهم لما عابه سبحانه منهم ، ولما حض عباده على تغيير ما أحدث فيهم عليهم ، ألا تسمع كيف يقول : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات : ٩] ، فقال : (اقْتَتَلُوا) ، فألزمهم الفعل ، وقال : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) ، فأوجب على غيرهم من المؤمنين نصر المظلومين (على الظالمين) (٢٢٨) ، فلو كان على قول الجاهلين ، لكان قد ألزم المؤمنين قتال من لا يجب قتاله ، ومن تجب ولايته ، إذ أجاب الله في دعوته ، وجرى له في طاعته ، وبغى على من أمره بالبغي عليه ، ولو كان الله المحدث البغي في الفاعل له ، لكان قد أمر عباده بقتاله حصرا (٢٢٩) فيه دون غيره حتى يفيء هو ويرجع عن إرادته ومشيئته ، ولكان أيضا قتال عباده قتاله دونهم ، فكان مقاتلا نفسه على فعله ، إذ كان فعل المقاتل والمقاتل له فعلا واحدا ، فتبارك الله المتقدس عن ظلم العباد ، المتعال عن اتخاذ الصواحب والأولاد ، كما قال سبحانه : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

والحمد لله الحميد على ما خصنا به من التوحيد ، ودلنا به من الدلالات فيما أبان من خلق الأرضين والسماوات وغيرهما من الآيات.

تم الجواب

__________________

(٢٢٨) سقط من (أ ، ج).

(٢٢٩) في (ب) : خصوصه في.

٢٨٧

المسألة الرابعة : هل أراد الله تعالى خيرا في خلق النار؟

ثم أتبع ذلك المسألة (٢٣٠) عن أهل النار وعن النار ، فقال : خبرونا عن أهل النار ألخير أراد الله بهم فوضعها فيهم؟ أم الشر أراد بهم؟ فإن قالوا : الخير أراد بهم ، فيقال لهم : وكيف ذلك ، وقد جعلها وقد علم أنهم لا ينتفعون بها ، وأنها لا تكون إلا في مضرتهم ، وإن زعموا أنه جعلها فيهم ليضرهم انتقض عليهم قولهم.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من أمر النار ، وقال : لم خلقها الله الرحمن؟ الشر أراد بخلقه لها؟ أم الإحسان؟

فنقول : إن الله تبارك وتعالى ، جعل النار في دار الدنيا مزجرة لمن اهتدى ، لما فيها من التذكرة بالنار التي وعدها الله للكافرين في دار الآخرة ، ولا شيء ـ والحمد لله ـ أبين نورا ولا أظهر خبرا (٢٣١) من أن يكون خلق خلقا أراد منهم أمرا وكره منهم ضده ، وأمرهم (٢٣٢) بما أراده ، ونهاهم عما سخطه ، ثم خلق لهم ثوابا ، وأعد لهم عنده عقابا ، ثم استدعاهم إلى الطاعة بالثواب ، ونهاهم عن المعصية بالعقاب ، فعبد خوفا من عقابه ، وأطيع طمعا (٢٣٣) فيما جعل من ثوابه ، كما قال تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة : ١٦] ، فجافوا ، لمخافته وطلب مرضاته ، منهم الجنوب ، وطهروا أنفسهم من الذنوب ، وطيبوا منهم السرائر والقلوب ، فأمنوا

__________________

(٢٣٠) في (ب) : مسألته.

(٢٣١) في (ب) : خيرا.

(٢٣٢) في (ب) : فأمرهم.

(٢٣٣) سقطت من (ب).

٢٨٨

بالطاعة أنفسهم من نحل العاصين ، واستوجبوا بذلك اسم المؤمنين ، فكانوا كما قال فيهم ووصفهم رب العالمين حين يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال : ٢] ، فخافوا ربهم واهتدوا ، ومن عذابه نجوا. فلما أعلم الله العباد أجمعين أن الجنة مصير المؤمنين ، وأن النار مقر الفاسقين ، (ليحذر أولو الألباب النيران) (٢٣٤) ، فأعملوا أنفسهم في الفرار إلى الرحمن ، راغبين فيما رغبهم فيه من الجنان ، فسبحان من لطف بعباده بما جعل لهم من النار في بلاده ، تخويفا وترهيبا ومنافع وتقوية وترغيبا ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤٢]. ثم قال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الأنعام : ١٦٠] ، وقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٩] ، فجعلها لهم في الدنيا مزجرة وتخويفا وتحذيرا من نار (٢٣٥) الآخرة ، مع ما لهم فيها في دار الدنيا من المنافع التي لا تحصى ، والمرافق الجمة التي لا تستقصى ، بها يطبخون ويخبزون ، وبها من القر يحترسون ، وبها في ظلمات الليل يبصرون ، وبها ينالون من الحديد ما ينالون من تصريفه في أسبابهم ، وتقويمه لمعاشهم (٢٣٦) من أدوات حرثهم وحفرهم ، وغير ذلك من منافعهم ، وما يعدون لأعداء الله من السلاح ، من السيوف والدروع التي تقيهم بأسهم ، كما قال سبحانه : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) [الأنبياء : ٨٠].

ألا ترى وتسمع كيف قال رب العالمين حين يذكر بالآية عباده المتقين ، فقال : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) [الواقعة : ٧١ ـ ٧٣] ، فجعلها الله الواحد الأعلى منفعة في الدنيا للخلق طرا ،

__________________

(٢٣٤) في (ب) : حذر أولو الألباب النيران.

(٢٣٥) سقطت من (ب).

(٢٣٦) في (أ) : في معاشهم.

٢٨٩

ونكالا في الآخرة لمن استأهلها لا تفنى.

ففي هذا ، والحمد لله من الجواب ما أزاح من لب ذي الشك التحير والارتياب ، وثبت في إيجاد (٢٣٧) النار ، الحكمة لرب الأرباب.

تم جواب مسألته

المسألة الخامسة : هل يستطيع الإنسان أن يجهل ما عرف؟

ثم أتبع المسألة عن المعرفة ، فقال : هل يستطيعون أن يجهلوا ما جعلهم الله به عارفين؟ أم لا يستطيعون؟

فإن قالوا : لا ؛ فقد انتقض قولهم عليهم. وإن قالوا : نعم. فقل : هل يستطيعون أن يجهلوا معرفة الله ، فلا يعرفون أنه خالق كل شيء ، ومصور كل شيء؟ فإن قالوا : هذه الفطرة ، وليس يثاب أحد عليها ، فالخلق كلهم يعرفون أنه الله. فقل : هل يستطيعون أن يجهلوا الليل والنهار والسماء والأرض والدنيا والآخرة والناس والخلق كلهم أن الله خلقهم كما شاء وكيف شاء؟ فإن قالوا : نعم ؛ فقد كذبوا ، والناس كلهم شهود على كذبهم ، وإن قالوا : لا ؛ فقد تابعوك.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه ، فقال : هل يستطيعون أن يجهلوا ما يعرفون؟ أو يعرفوا ما يجهلون؟ فإن مسألته تخرج على ثلاثة معان ، ونحن لها مفسرون ، ولكلها إن شاء الله مميزون :

فأولها (٢٣٨) : معرفة الخالق ، وهي فلن تدرك إلا بالعقل الصحيح ، والقلب النضيج (٢٣٩) ،

__________________

(٢٣٧) في (ب) : اتخاذ.

(٢٣٨) في (أ) : فأولهن.

٢٩٠

قال الله سبحانه : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] ، وقال سبحانه : (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩] ، وقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق : ٣٧] ، فإذا صح مركب اللب ، وثبت فهم القلب ، ثم تدبر أمره جميع الخلق ، وقصدوا في ذلك قصد الحق تفرع لهم من الألباب وجودة فكرهم وإنصافهم لعقولهم ما يدلهم على معرفة خالقهم ، وقدرة سيدهم ومالكهم ودلهم ذلك على أن لما يرون من خلق أنفسهم واختلاف الليل والنهار وتصريف الرياح وغير ذلك من الأشياء خالقا ، ليس كمثله شيء ، ولا يشبهه من ذلك كله شيء ، ألا تسمع كيف يدل على نفسه بما أبان من قدرته في خلق سماواته وأرضه وما بث فيهما كل أوان من صنعه ، وينزل من السماء بقدر من رزقه ، فقال سبحانه : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية : ٣] ، فإذا صح للمخلوق لبه وطاب له بالطاعة قلبه ، ثم فكر وفي (٢٤٠) أمره كله تدبر ، بان له أمر خالقه ، وثبت في صدره اقتدار مصوره.

وأما المعنى الثاني : فما أمر الله العباد بعمله ، وحرم عليهم ما هم فيه من جهله ، من الحلال والحرام ، والصلاة والزكاة ، والصيام والحج إلى بيته ، والوقوف بمشاعره العظام ، وكل ما جاء به محمد عليه‌السلام ، مما تعبد الله به العباد ، وألزمهم فيه الاجتهاد ، وهذا فلا يعلم ولا يسمع إلا بمخبر عن الله مسمع متكلم بالحق مناد ، ولمن خالفه في ذلك معاد ، وكذلك وبذلك بعث الله الأنبياء إلى عباده ليؤدوا إليهم فرائضه وأمره ، وينادوهم بذلك فيسمعوا ، ويعلموهم إياه فينتصحوا فينجوا ، ولو (٢٤١) لم يكلموهم به ويسمعوهم إياه لم يقفوا على علم ذلك أبدا ، ولم يعرفوا حدوده أصلا ، فلم يكن في الفرائض لهم بد من

__________________

(٢٣٩) قال في اللسان : نضيج الرأي : محكمه.

(٢٤٠) في (ب) : في.

(٢٤١) في (ب) : وإن.

٢٩١

مبلغين ، ومرسلين مبشرين ومنذرين ، ففعل الله بهم كذلك ، وبعث إليهم الرسل بذلك ، رحمة منه سبحانه لهم ، وعائدة منه بفضله عليهم.

وأما المعنى الثالث : فهو ما أدرك وعلم بالتجربة مما لم يكن ليدرك أبدا إلا بها ، ولا يصح لطالب إلا منها ، من ذلك ما أدركه المتطببون من علم ما يضر وما ينفع ، وما يهيج وما يقمع ، وما يقتل من السموم وما يردع السم عن المسموم ، وما يفسد العصب ، وما يجتلب بأكله العطب ، وغير ذلك مما يطول ذكره ، ويعظم لو شرحناه أمره ، مما لا يدرك أبدا إلا بالتجربة أولا.

فمن هذه الثلاثة المعاني تصح المعارف كلها للعارفين ، ويثبت الفهم للمتفهمين ، وقد يجهل ذلك كله من شاء أن يجهله ، كما يعرفه من شاء أن يعرفه بأهون الأمر ، وألطف الخبر.

فأما التجربة فيجهلها من لم يجرب الأشياء. وأما الفهم والتمييز بالعقل فقد يبطله شارب الخمر بشربه الخمرة فيزيل بذلك ما ركب فيه من لبه ، ومن ذلك رقاد الراقد ، إذا رقد لم يعلم ممن يدخل إليه أو يخرج عنه بأحد ، والتبس عليه الليل والنهار ، وعميت عنه بكليتها الأخبار ، حتى ربما استرقد ليلا فلا يعلم حتى يهجم عليه النهار ، وربما رقد نهارا فلا يعلم حتى يهجم عليه الظلام ، ويزول الإبصار.

فكيف يقول أن أحدا لا يقدر على جهل ما علم ولا علم ما جهل لسبب يعلم ولا بحيلة تفهم؟ ألا ترى أن السكران يعلم في حال سلامة عقله بما يشينه وينقصه ويفضحه من عمله ، حتى لو أعطى من يدعي المروءة منهم ورشى جزاء من الرشاء (٢٤٢) عظيما ، حين سلامة لبه ، على أن يكشف له ثوبا أو يبدي من نفسه عيوبا لم يكن ليفعل ، وإذا شرب وسكر لم يعلم له بسواية ، وجاءت وطهرت منه في نفسه ، ولها الفضيحة والنكاية ، فهل ذلك إلا من جهله بما كان يعلم؟ وقلة معرفته في تلك الحال بما كان يعمل؟ أو ما رأى من علم علما وروى رواية وحكما من علماء وحكماء ، بل من أحكم القرآن وتلا عن ظهر

__________________

(٢٤٢) في (ب) : الدنيا.

٢٩٢

قلبه الفرقان ، ثم ترك قراءته دهرا فجهل ونسي ما علم منه طرا؟ أو ما رأى من كان دهره جاهلا وعن كل خير وعلم غافلا ، ثم انتبه لنفسه ، وأنف من جهله فتعلم فعلم ونظر ففهم؟

وكل ما ذكرنا والحمد لله فنقض لكل ما عنه سأل وظن بذلك أنه قد أحال في الكلام كل محال ، ولم يعلم أنه في قوله قد أحال وأخطأ في كل ما عنه سأل وتعسف في مدلهمات ظلم المقال ، وكشفنا عنه وعن غيره من الخلق ممن يريد ويقصد الحق طخياء (٢٤٣) ديجور جهله ، وبينا له ما التبس عليه من أمره حين أقدم بالقول ، فقال : هل يقدر إنسان أو قدر قط ذو بيان على أن يجهل ما علم أو يعلم ما جهل في حالة من الحالات أو وقت من الأوقات ، وزعم أن أحدا لا يدخله في ذلك أبدا ارتياب ، ولا يجهله بسبب من الأسباب ، وقد وجدنا ذلك بخلاف قوله ، وعلمنا أن فعل ربه بخلاف فعله ، لا ما نسب هو إلى ربه وقلده سبحانه ما ليس من صنعة ، فعلمنا أن الإبصار إلى ظلام الليل وإشراق النهار من فعل الإنسان لا من فعل الرحمن.

ثم إن المعرفة من العارف تفرعت من لبه عند استعماله لفكره ، واستخراجه ما أمر باستخراجه من التمييز بعقله ، وقد نجد المبصر بعينه يبصر إلى ما يحل له ويحرم عليه ، ولو كان النظر (٢٤٤) من الله لكان الله المدخل له فيه ، الناظر الباصر دون الإنسان إليه ، تعالى عن ذلك رب العالمين ، وتقدس عن مقال الجاهلين.

تم جواب مسألته

المسألة السادسة : من أنطق الناس ومن خلق الكلام؟

ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة ، فقال : أخبرونا عن الناس ، من أنطقهم؟ والكلام

__________________

(٢٤٣) في (أ) : طمياء.

(٢٤٤) في (أ) : البصر.

٢٩٣

من خلقه؟

فإن قالوا : الله ؛ فقد انتقض قولهم ، وذلك لأن الكلام يكون فيه الصدق والكذب والتوحيد والإشراك ، وأعظم الكذب الشرك بالله والتكذيب والافتراء عليه ؛ وإن أنكروا أن يكون الله خلق المنطق والكلام فذلك الكفر والشرك بالله والتكذيب بما جاء به من عنده ، فقل : خبرونا عن قول الله إذ قال في كتابه : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [فصلت : ٢١].

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه مما ضل فيه ونسبه إلى الله وقال به من المنكر عليه ، فقال : خبرونا عن الناس من أنطقهم؟ وعن الكلام من خلقه؟

فنقول : إن الله أنطقهم كما هداهم ، وهداهم كما بصرهم ، وبصرهم كما أسمعهم ، وأسمعهم كما مشاهم ، وأمشاهم كما أبطشهم ، وأبطشهم كما أقامهم ، وأقامهم كما أقعدهم ، وأقعدهم كما أشمهم ، وأشمهم كما أنكحهم ، فلم يكن منه في ذلك كله فعل غير خلق الأداة (٢٤٥) ؛ خلق الرجل للمشي فمشى ، وخلق الأذن للسمع فسمع ، وخلق الأنف للشم فشم ، وخلق العين للنظر فنظر ، وخلق الفرج للنكاح فنكح ، فما ناله الإنسان من تلك الأدوات (٢٤٦) فهو من فعله ، وليس من فعل الله فعل عبده ؛ الله خلق الفرج امتنانا عليه به لينال به من الشهوة ما نال ، وفعل العبد فهو النكاح. فهل يرى الحسن بن محمد ـ الوسن (٢٤٧) الجاهل ـ بقول غير ذلك ، أو يقدر على نقض حرف مما شرحنا أو به قلنا

__________________

(٢٤٥) في (ب) : الأدوات.

(٢٤٦) في (أ) : الأداة.

(٢٤٧) في النسخة (أ) : رسم الكلمة هكذا : الوسر ، والوش ، من معانيها : الغافل.

٢٩٤

واحتججنا والحمد لله الواحد الأعلى.

وكذلك كان فعله سبحانه في إنطاقهم ، خلق لهم الألسنة واللهوات ، وما يكون به الكلام من الآلات ، ثم أمرهم أن يذكروه ويسبحوه ، فقال سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [البقرة : ١٩٨] ، وقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢] ، ونهاهم عن أن يقولوا عليه غير الحق ، فقال : (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) [النساء : ١٧١] ، فجعل لهم سبب القول فيه ، ونسبه إليهم ، ولم ينسبه إليه ، وجعله (٢٤٨) ـ جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله ـ عن افترائهم عليه ، ولو كان الكلام من فعله ، وكان الناطق به على ألسنتهم ، لكان هو القائل في نفسه ما أنكره عليهم ، من ذلك قول فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] ، وقول الكافرين لكتاب رب العالمين : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون : ٨٣] ، و (هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) [الأحقاف : ١١] ، ومن ذلك ما قالوا للأنبياء المطهرين صلوات الله وبركاته عليهم أجمعين ، وما رموهم به من السحر والجنون ، قال الله تعالى : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٢]. أفترى الجاهل المفتري ، الظالم لنفسه الغوي ، يقول : إن الله سبحانه كذب أنبياءه ورماهم بما قال الكافرون من السحر والجنون فيهم ، وحمل الكافرين على أن يسيئوا بهم الظنون ، وينسبوا إليهم الكذب والسحر والجنون؟! بل كيف ينطقهم بالتكذيب لهم والافتراء عليهم ، وهو يأمرهم بالطاعة لهم ، ويعطيهم الجنان على الإيمان بهم؟ فقال سبحانه : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد : ٢١] ، وقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) [الحديد : ١٩] ؛ كذب القائلون على الله بذلك ، ووقعوا عنده في المهالك ، فسبحان الرءوف الرحيم ،

__________________

(٢٤٨) هكذا في الأصل.

٢٩٥

العدل الجواد الكريم.

وأما ما سأل عنه مما التبس عليه ، وتحير فيه لقلة العلم بالله فيه ، من قوله (٢٤٩) سبحانه : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [فصلت : ٢١] ، فتوهم أن معنى : (أَنْطَقَنَا اللهُ) هو : تكلم علينا وقال ما قلنا ، وليس في ذلك كذلك ، بل هو على ما شرحناه أولا. ومعنى (أَنْطَقَنَا اللهُ) : أي جعل فينا استطاعة ننطق بها ، وأذن لنا بالنطق فنطقنا ، وشهدنا حينئذ بما علمنا. ولو كان الله الذي فعل الكلام بعينه ، وولى قوله بنفسه دون غيره ، لقالت جلودهم : نطق الله علينا فيكم ، وشهد هو لا نحن عليكم ، وتكلم علينا بما علم منكم ؛ تعالى الله عما يقول المبطلون ، ويضيف إليه الملحدون. وليس إنطاقه إياها في الآخرة إلا كإنطاقه للألسنة في الدنيا والآخرة ، وليس إنطاقه للألسنة إلا كإسماعه السمع ، فلما جعل في السمع استطاعة على أن يسمع سمع. وكذلك العين واليد والرجل ؛ والعين الله خلقها ، والنظر إلى الأشياء فعل العبد ؛ واليد الله خلقها ، والإنسان يبطش بها ؛ والرجل فالله خلقها ، والإنسان بها مشى. فمن الله سبحانه خلق الأدوات وإيجاد الآلات في الأبدان ؛ وما تفرع منها فمن أفعال الإنسان ، وذلك ولله الحمد والمن فبيّن الشأن لمن عرف الله على حقيقة العرفان.

تم جواب مسألته

المسألة السابعة : من خلق الحركات؟

ثم أتبع ذلك المسألة عن الحركات ، فقال : من خلقها؟

فإن قالوا : الله خلقها ؛ كان ذلك نقضا لقولهم ، وذلك أن كل عمل من خير أو شر ، طاعة أو معصية ، إنما يكون بالحركات. فإن قالوا : إن الله لم يخلقها ؛ فقد أشركوا بالله ،

__________________

(٢٤٩) في (أ) : قول الله.

٢٩٦

وذلك ابتلاء عمل ، لأنه لا يتم خلق (٢٥٠) الإنسان إلا بالحركة.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه فقال : من خلق الحركات اللواتي تكون من الخلق في الحالات؟

فنقول : سبحان الله الرحيم ، العدل الجواد ، البريء من أفعال العباد ، المقدس عن القضاء بالفساد ، كما قال في نفسه ذو الأياد : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٢٨] ، ثم نقول : إن بين أفعال الله وأفعال خلقه فرقا بينا (٢٥١) ، وأنه واضح في الخلق عند من أراد معاني الحق. فأفعال الله متتابعات متلاحقات في كل شأن ، وأفعال المخلوقين ذوي العجز المربوبين فغير متلاحقات ، بل هن عن التلاحق عاجزات ، وآخر أفعال الله بأولهن لاحق ، وأولهن لآخرهن غير سابق. فأفعال الخالق موجودات معلومات ، ثابتات متجسمات ، وأفعال الخلق فزائلات غير موجودات ، بل هن في كل الحالات معدومات ، وفي ذلك والحمد لله من البيان ما فرّق عند ذوي العلم والإتقان بين أفعال الخالق ذي البقاء والجلال ، وبين أفعال الخلق ذوي (٢٥٢) الفناء والزوال.

ألا ترى وتسمع كيف أكذب الله من نسب أفعال العباد إلى ربه؟ فأكذبه سبحانه ، ونفاها عن نفسه ، حين يقول : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ، وقال : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر : ٦٠] ، أفظن من جهل وعمي أن الله فعل كذبهم عليه ، ثم رماهم به وقال إنهم قالوه فيه؟ فمن يا ويحه

__________________

(٢٥٠) هكذا في الأصل ، ولعل الصواب : فعل.

(٢٥١) في (ب) : فرق بين.

(٢٥٢) في (ب) : ذي.

٢٩٧

إذا الكذوب المبطل ، الظالم المتعدي ، الغشوم المدغل (٢٥٣)؟ من قال وفعل؟ أم من لم يقل ولم يفعل؟ أما سمع الحسن بن محمد قول الجليل ، وما حكى في أوضح التنزيل ، عمن ظلم وجار وأساء ، وفعل فعلا ثم رمى به إلهه واعتدى من قصي بن كلاب (٢٥٤) ، ومن به اقتدى ممن سلك مسلكه وتبعه ، وشرع في ذلك مشرعه ، فسنّ لقريش سنة اتبعتها ، واقتدى جميع العرب بها ، فبحر لهم البحائر ، وسيب لهم السوائب ، ووصل لهم الوصائل ، وحمى لهم الحام ، فكانوا على ذلك حتى ظهر الإسلام ، وأكرمهم الله بمحمد عليه‌السلام ، فقال الله سبحانه في ذلك ، ونفى عن نفسه ما رموه به من ذلك ، وألزمهم فعله ، وبرأ منه تبارك وتعالى نفسه ، فقال : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [المائدة : ١٠٣].

أفترى الحسن بن محمد ، ومن استجهله فقال بقوله وذهب مذهبه ، يقولون لله إذ نفى ذلك من فعلهم عن نفسه : بل أنت فعلته فيهم وخلقته وركبته (٢٥٥) لديهم ، وأدخلتهم فيه ، وقضيته عليهم؟ لقد كذبوا إذا الرحمن العلي الأعلى ، وصدقوا قريشا الجاهلية الجهلاء ، وكفروا بالله كفرا يقينا ، واحتملوا بهتانا وإثما مبينا.

ففي هذا والحمد لله من الحجة كفاية لمن كانت له بالحق من الخلق عناية.

ومما نحتج به على الحسن بن محمد من المقال ، وندحض به قوله المحال ، أن يقال له : إذا كنت تزعم أن الله خلق هذه الحركات التي هي من أفعال العباد ، من أخذ وإعطاء ، وحذوا واحتذاء ، ولبس وارتداء ، وقول ومقال ، وزور ومحال ؛ فلا نشك نحن ولا أنت ولا أحد علم شيئا أو فهم أن قريشا بنت بنخلة العزى ، وثقيفا بالطائف اللات ، فزينوهما بالجواهر والعقيان ، ثم عبدوهما وجعلوهما قسما من دون الله الرحمن ؛ ومن ذلك ما جعلت ونحتت وأقامت ونصبت على الكعبة وفيها قريش من الأصنام ، وما كانوا يجلون ويعظمون

__________________

(٢٥٣) قال في اللسان : رجل مدغل : مخاب مفسد.

(٢٥٤) سيد مكة في الجاهلية.

(٢٥٥) في (ب) : تركته.

٢٩٨

ويذبحون لهبل وأشباهه عند بيت الله الحرام ، فيقول الحسن بن محمد : إن الله تعالى بنى لهم اللات والعزى ، وأمرهم بعبادتهما ، والقسم دونه بهما ، وأنه أقام لهم تلك الأصنام ، وأضل بها كل من ضل بها من الأنام ، وعظمهن وذبح ـ جل عن ذلك ـ لهن ، وقرب تلك القرابين إليهن ؛ لعمر الحسن بن محمد وأتباعه وأهل البدعة (٢٥٦) من أشياعه ، لو كان الله خلق وفعل أفعال الفاعلين ، لكان العابد دون من عبدهن لهن ، فلذلك يلزم من قال ذلك بلا شك بهذا القول الكفر ، إذ يقولون : إن الله فاعل أفعال قريش دونها ، وفاعل كل ما فعله من الفواحش غيرها ، فلم ـ يا ويحه! ـ إذا بعث محمدا إليهم يعيب ذلك عليهم؟! لقد بعثه إذا يعيب عليه فعله دونهم ، ويبطل ما صنع ، ويخفض ما رفع ، وقريش إذا كانت لله مطيعة ، وفي مرضاة خالقها ماضية سريعة فيما فعل ، معظمة محلة لما أحل ، ومحمد لله في فعله مضاد ، وفي كل قضائه محاد ؛ فلقد إذا هدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما بنى الرحمن ، وعانده وخالف عليه في كل ما شأن ، فهذا أكفر الكفر ، وأعظم الفرية على الله والأمر ، فسبحان من هو بريء من عصيان كل عاص ، وطغيان كل مفتر طاغ.

تم جواب مسألته

المسألة الثامنة : هل الأعمال شيء أم أنها ليست شيئا؟

ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن الأعمال ، فقال : خبرونا عن الأعمال التي عمل بها بنو آدم ، أشيء هي؟ أم ليست شيئا؟ فإن قالوا : بل هي شيء. فقل : من خلق ذلك الشيء؟ فإن قالوا : الله خلقه ؛ انتقض عليهم قولهم. وإن قالوا : ليس ذلك مخلوقا ؛ كان ذلك شركا بالله ، وتكذيبا لكتابه ، لأن الله سبحانه خالق كل شيء. فقل لهم : ألم تعلموا أن أفعال بني آدم شيء؟ فإن قالوا : نعم. فقل : والله خلقها. فإن قالوا : ليست بشيء. فقل لهم : فقد زعمتم أن الله يثيب على غير شيء ، ويعذب على غير شيء ، ويغضب من غير

__________________

(٢٥٦) في (ب) : البلاغة.

٢٩٩

شيء ، ويرضى من غير شيء ، ويدخل الجنة بغير شيء ، ويدخل النار بغير شيء.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من أفعال العباد ، فقال : أشيء هي أم غير شيء؟ وقال : إن كانت شيئا فمن خلقها؟ وإن لم تكن شيئا فهل يعذب أو يثيب الله على غير شيء؟

فإنا نقول ، وإلى الله سبحانه نؤول : إنها شيء وأشياء ، وطاعة وعصيان ، وإساءة وإحسان ، ألم تسمع الله سبحانه يقول : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) [مريم ـ ٩٢ : ٨٨] ، فسمى تحرك ألسنتهم بما قالوا من الكذب والافتراء شيئا ، ثم أخبر بأن السماوات لو كان فيهن من العقول والتمييز ما فيكم لانفطرن لإعظام ما جاء من قولكم ، وكذلك لو أن الجبال كان فيها بعض ما ركب (فيكم من الفهم) (٢٥٧) لخرت لإعظام اجترائكم على الخالق بما به اجترأتم. وقال سبحانه : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) [القمر : ٥٢] ، فسمى أفعالهم شيئا ، فقد أوقع في الزبر ، والزبر فهي الكتب.

وقال ابن عباس : إن الزبر التي ذكر الله أن أفعالهم فيها هي هذه الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه من التوراة والإنجيل والفرقان الكريم الجليل.

ونحن فنقول : إن الزبر هي الكتب التي ذكر الله في قوله : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٣] ، وفي قوله : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية : ٢٩] ، فهذه التي ذكر الله من الكتب عنده ، وأنه يظهرها يوم دينه وحشره هي الزبر التي (٢٥٨) ذكر الله أن أفعالهم

__________________

(٢٥٧) في (ب) : من الفهم فيكم.

(٢٥٨) في (ب) : الذي.

٣٠٠