مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

كل الأسباب عليهم ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤٢].

فإذا قال بذلك ، قيل له : ويحك ما أغفلك ، وأبين حيرتك ، وأظهر جهلك ، وأقل علمك بما تذكر من قولك ، وتقول إن الكتب عندك على ما ذكرت وفسرت ، وقد تعلم أن أعظم الكتب كتاب محمد عليه‌السلام ، الذي جعله الله نورا وهدى وتبيانا ، ورحمة وشفاء فرض فيه الفروض ، فأصل فيه الأصول ، وبين به حلاله وحرامه ، وفي ذلك ما يقول جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] ، ويقول سبحانه : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً) [النحل : ٨٩] ، ثم أمر رسوله باتباعه ، والانقياد لما فيه ، فقال : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [الأنعام : ١٠٦] ، ثم تقول بعد : (إنه قد ذهب بعضه ، ولم يبق إلا أقله) ، وهو دعائم الرحمن ، وفيه ما يحتاج إليه من أمور الله في كل شان ، فإن كان ذلك عندك كذلك ، فقد ذهبت أكثر فرائض الله سبحانه ، وعدمت حجته ، فتركت ، وعطلت ، ورفضت ، واستبدلت بنور الحق وبهجته حيرة الباطل وظلمته ، فلا ذنب للعباد فيما جهلوا من الحق ، وارتكبوا من الفساد ، وتركوا من فرائض الله التي قد ذهبت مع ذهاب عامة كتابه ، إذ هم عنها غافلون ، ولها جاهلون ، إذ لم يجدوها ولم يطلعوا عليها ، ولم يعلموها.

ما يلزم القائل بذهاب بعض القرآن

ومن قال بذهاب بعض القرآن دخل عليه بقوله الفساد في أمره ودينه ، حتى لا تقوم له حجة ، ولا تثبت له بينة ؛ وذلك أنه لو قال له قائل : (أنت أيها المناظر تزعم أن القرآن قد ذهب منه بعضه ، لا بل تقول ذهب أكثره وأنت تعلم أن القرآن ناسخ ومنسوخ ، وأمر ونهي ، وخبر ، وهذه الفرائض التي في هذه البقية التي بزعمك بقيت في أيدي الناس فهي

٤٦١

منسوخه كلها ، ليست بمبينة الحكم (٤٤٩) ، والمبينة للحكم فهي ما نسخها مما قد ضل وذهب.) ، لقطعه ، وأفسد ما في يده من قوله : (القرآن قد ذهب بعضه) ، واضطره إلى أن يبطل ما في القرآن من هذه الأحكام المعروفة عند جميع أهل الإسلام ، أو يرجع إلى الحق ، ويقول في القرآن بالصدق ، ويقر أنه هو بعينه لم يذهب منه شيء ، وأنه محفوظ ممنوع من كل غي. وإنما ألزمناه ذلك ؛ لأنه يزعم أن بعض القرآن قد ذهب ، ومن قال بذلك لم يدر أهذه الفرائض التي في الكتاب الذي في أيدي المسلمين منسوخة أم ناسخة ، وأن من لم يعلم ذلك علما يقينا لم يجب عليه الإقرار بما لا يوقنه ، فضلا عن العمل به.

بل لو كابره مكابر مخالف فقال له : (عندي ما ذهب من القرآن ، وأنا أقيم عليه وأقيمه ، وهو ناسخ لكل ما في هذه البقية ، فأنا لا أقيم هذه الأحكام التي قد نسخت ، وأقيم الأحكام التي نسختها ، وأعبد الله سبحانه بالفرائض التي ذهبت من هذا القرآن ، الناسخة لهذه البقية في أيدي الناس ، وأنا بذلك عالم ؛ لأنه عندي وفي يدي) ، ثم ذكر وادعى أن الفرض في الصيام هو صيام رجب ، وأن صوم رمضان منسوخ ، كما نسخ غيره من الصلاة إلى بيت المقدس وغير ذلك من الأحكام ، وقال : أنا لا أصلي الصلاة في أوقاتها التي سميت في هذه البقية ؛ لأن هذه التي معك منسوخة ، نسختها الأحكام التي ضلت وذهبت. وقال : إنه لا يجلد الزاني ، ولكن تقطع يده ، ولا يقطع السارق ولكن يجلد مائة جلدة. وادعى أن هذا الحكم مثبت فيما ذهب من القرآن ، وأنه قد فهم ذلك منه وعلمه ، وقال : إن حكم السارق والزاني في هذه البقية التي تزعم أنها بقيت في أيدي الناس منسوخ ، نسخه ما جهل من القرآن وذهب ، فأنا أعمل بالناسخ ، وأترك المنسوخ. وكذلك يعارضه في كل فرائض القرآن. فإذا عارضه معارض بهذا القول لم يكن له بد أن يدفعه بها ، صغرت أو كبرت ؛ لأنه قد أجابه ، وأجمع معه على أن القرآن قد ذهب بعضه ، بل عامته في زعمه ، ولو كان القرآن كذلك ، لكان الناس كلهم قادرين على ادعاء ما أحبوا أن يدعوا من ذلك ، ولبطلت فرائض الله وحدوده ، ولم يقم لله حد على عباده ؛ لأن ما

__________________

(٤٤٩) في (ب) و (ج) : بمدينة للحكم.

٤٦٢

قال من ذلك ـ لو كان ـ يدرأ الحد ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ادرءوا الحدود بالشبهات.» وهذا القول الفاسد ، المحال ، الكاذب ، المضل ، الضال ، فلو أجاب إليه المسلمون قائله ، أو جاز أن يقول به المؤمنون ، لوجب عليهم وعلى إمامهم أن يأتوا بناسخه ومنسوخه ، وجميع ما ذهب منه ، وإلا فلم يجب لهم على كل ذي حد يد ؛ لأن كل ذي حد ـ وجب عليه في شيء أحدثه ـ يزعم ويدعي أن حكم الله بالأدب في ذلك منسوخ ، ويقول إنه لا يحد بهذا الحد في هذا الجرم ، وإن حده غير هذا الحد الذي في هذه البقية بزعم من يزعم أن القرآن ناقص ، ويقول : هلموا ما ذهب منه فاتلوه ، فإن لم تجدوا فيه ما ينسخ هذا فحدوني ، وإن وجدتم فيه ما أدعي فخلوني. فتعالى الله عما يقول فيه المبطلون علوا كبيرا ، والحمد لله رب العالمين كثيرا ، الحافظ لكتابه ، المانع له من كل خطأ وزلل أو ذهاب أو نقصان.

حفظ الله لكتابه

وكيف يذهب من القرآن قليل أو كثير وهو حجج الواحد اللطيف الخبير ، وفيه فرائضه على الخلق سبحانه ، فقد حفظ ومنع من كل شان من الشأن ، فيا ويل من قال بنقصان الفرقان ، أما سمع قول الواحد الرحمن : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : ٢١ ـ ٢٢] ، فأخبر أن القرآن عنده محفوظ له جل جلاله ، وفيه ما يقول : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] ، ويقول سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجرات : ٩] ، فأخبر أنه لما نزل من الذكر حافظ. ولم يلفظ بغير الحفظ فيه لافظ إلا عم جاهل ، وعن الرشد والحق زائل ، ولقول الله مبطل معاند ، ولما ذكر الله من حفظه له جاحد ، وفي ذلك ما حدثني أبي عن أبيه أنه قال : «قرأت مصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه عند عجوز مسنة من ولد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، فوجدته مكتوبا أجزاء بخطوط مختلفة ، في أسفل جزء منها مكتوب وكتب علي بن أبي طالب ، وفي أسفل آخر وكتب عمار بن ياسر ، وفي آخر وكتب المقداد ، وفي آخر وكتب سلمان الفارسي ، وفي

٤٦٣

آخر وكتب أبو ذر الغفاري ، كأنهم تعاونوا على كتابته. قال جدي القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه : فقرأته فإذا هو هذا القرآن الذي في أيدي الناس حرفا حرفا ، لا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ، غير أن مكان (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) ، اقتلوا الّذين يلونكم من الكفّار ، وقرأت فيه المعوذتين.».

قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

ومن الحجة في حفظ القرآن ، وإبطال ما يقال به من ذهابه وافتراقه ، وزواله ونقصانه قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.» ، فأخبر صلى الله عليه أن الله عزوجل نبأه بثباتهما وبأنهما حجة منه على خلقه باقية في أرضه إلى يوم حشر العالمين ، والحمد لله أولا وآخرا ، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

تم ذلك.

٤٦٤

كتاب تفسير معاني السنة

والرد على من زعم (٤٥٠) أنها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله علام الغيوب ، البري من كل نصب ولغوب ، الواحد العلي القدوس الأزلي ، الذي رفع السماء فبناها ، وسطح الأرض فطحاها ، خالق المخلوقين ، ورب المربوبين ، وباعث الموتى ، ومبتدئ الأحياء ، العالم بخفيات سرائر الغيوب ، المطلع على غوامض سرائر القلوب ، المتعالي عن القضاء بالفساد ، المتقدس عن اتخاذ الصواحب والأولاد ، الآمر لعباده بالرشاد ، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، الواحد الأحد العليم الخبير.

أحمده على ما منّ به فينا ، وتفضل به سبحانه علينا من ولادة النبيين ، ووراثة علم المرسلين ، ونشكره على ما خصنا به وجعلنا بفضله من أهل القيام (٤٥١) بحجته ، والدعاء لخلقه إلى ما افترضه عليهم وأوجبه إيجابا مؤكدا فيهم ، من الأمر بأمره ، والنهي عن نهيه ، والحكم بكتابه ، والاتباع لدينه ، والمجاهدة لمن جاهده ، والمعاضدة لمن نصره ، والمعاداة لأعدائه ، والمولاة لأوليائه ، والقيام بأكبر فروضه قدرا ، وأعظمها لديه خطرا ، وهو الجهاد في سبيله ، والمباينة لمن عند عن دينه ، وفي ذلك ما يقول جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ

__________________

(٤٥٠) يعني من زعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالها من قبل نفسه بغير وحي من الله عزوجل ولا أمر منه. ا ه من هامش (أ).

(٤٥١) في (أ) : من أهله من القيام بحجته.

٤٦٥

فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة : ١١١] ، ثم قال تبارك وتعالى فيما يذكر من تعظيم ما ذكرنا من الجهاد الكريم : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٥ ـ ٩٦] ، ثم قال سبحانه فيما أمر به عباده من النفير في سبيله ، والإحياء لشرائع دينه : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة : ٤١] ، ثم قال تخويفا للقاعدين وإعذارا وإنذارا للمتربصين واحتجاجا على المتخلفين عن واجب ما أوجب أحكم الحاكمين ، وتبيينا لفضل المنابذين لمن نابذ شرائع الدين ، وجهد في إبطال الحق اليقين ، وكان ضدا مدافعا للحق ، وكهفا وسندا للفسق : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التوبة : ٣٩].

ثم ذكر سبحانه فذم ذا التعللات وأهل التأويلات الباطلات ، فأخبر أنه لا عذر لهم فيما به يعتذرون ، ولا حجة لهم فيما فيه يتأولون من التعلق بالشبهات والتسبب لمنال الفكاهات ، والتلذذ بمقارنة الأولاد والزوجات ، وجمع الأموال من التجارات ، فقال سبحانه تحذيرا لهم ، وتنبيها عن وسنتهم ، وتيقيظا لهم من رقدتهم : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [التوبة : ٢٤] ، ثم سمى من كان كذلك أو ضرب لنفسه تأويلا في ذلك فاسقين ، وأوجب لهم ما أوجب للفاجرين من عذاب الجحيم ، والخلود في العذاب الأليم ، ثم قال سبحانه ترغيبا لعباده المؤمنين ، وإخبارا لهم بما أعد لهم على الجهاد من الثواب المبين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ

٤٦٦

الْعَظِيمُ وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف : ١٠ ـ ١٣]. صدق الله سبحانه إن ذلك للتجارة الكبرى ، والكرامة الجليلة العظمى ، والحظ العظيم ، والأمر الجسيم ، الذي جل ذكره ، وعظم قدره ، وحسن ـ عند الله مآب فاعله ، وجل لديه سبحانه خطر القائم به. جعله له سبحانه مؤتمنا على خلقه ، ومرشدا إلى أمره ، خصه بخواص من الكرامة الكاملة ، وأعطاه العطية الفاضلة ، وجعله حجة شاملة ، ونعمة على الخلائق دائمة ، فنسأل الله إيزاع شكره ، وبلوغ ما نؤمل من طاعته ، فإن ذلك أفضل ما أعطى الخلق من العطاء ، وأعظم ما بلغه بالغ من الرجاء.

ونسأل الله أن يصلي على محمد عبده ورسوله المصطفى ، وأمينه المرتضى ، وخيرته من خلقه ، وأمينه على وحيه ، وصفوته من بريته ، صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار ، الصادقين الأبرار ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

ثم نقول ، من بعد الحمد لله والثناء عليه ، والصلاة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أمّا بعد ، فإنا نظرنا في أمور هذه الأمة وأسبابها ، وقلبنا ما قلبنا من حالها وأخبارها ، وافتراق أقاويلها ، وفساد تأويلها ، وقلة ائتلافها ، فوجدنا أمورها تدل على أنها ضيعت ما به أمرت ، حتى صعب قيادها ، وكثر حيادها (٤٥٢) ، وقل فهمها ، وكثر تخليطها ، وصار لكلها قول مقول ، وعمل فادح معمول ، ينفر منه القلب الجهول ، فضلا عن أهل المعرفة والعقول. كان من أنكر قولها وأعظم جهلها ما قالت به في الله سبحانه ، فرمت به لجهلها رسوله ، فزعمت لعظيم غفلتها وعامر رقدتها أن دينها الذي به تعبدها ربها كتاب ناطق مضى ، وسنة جاء بها من نفسه النبي ، شرعها من ذاته ، وتخيرها للعباد بنظره ، لم يأمر بها الرحمن ، ولم تنزل عليه في آي القرآن ، فزعمت بذلك من قولها ، فلزمها في أصل مذهبها وحاق بها في جميع قولها أنها زعمت فيما ذكرت وقالت : إن الله وكل نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدين إلى نفسه ، ولم يشرع له كلما يحتاج إليه من فرضه ، كأن لم يسمعوا الله سبحانه يقول فيما نزل على نبيه من القول : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ

__________________

(٤٥٢) الحياد : الميل من قوله تعالى : (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ، ا ه من هامش (أ).

٤٦٧

شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] ، ويقول سبحانه : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ٨٩] ، وكأن لم يسمعوا قوله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت : ٥١] ، فأخبر سبحانه بقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) ، أن فيما نزل من تبيانه ونوره وبرهانه كفاية لهم ، في كل ما افترض عليهم ، ولو كان ترك شيئا مما يحتاجون إليه لم ينزله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن وعلى لسان جبريل ، لم يقل : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) ، فدل بما شهد به من الكفاية لهم على أنه لم يكل نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى استخراج شيء مما افترض عليهم وعليه ، وأنه لم يترك شيئا من فرائضه ، ولا شرائع دينه إلا وقد أوحى به إلى رسوله وحيا ، ونزل عليه به نورا وهدى ، فلم يكف هذه الأمة ما نزل الله فيما ذكرنا من الحجة حتى قالت : إن كل فرع مفرع مما فرعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو منه اختيارا وتمييزا من نفسه ، وإن ذلك ليس هو من ربه ، من ذلك ما قال الله سبحانه في الصلاة الموجبة ، والزكاة المفترضة ، حين يقول : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [المجادلة : ١٣] فزعمت هذه الأمة فيما ذكرت ، وبه على الله سبحانه اجترأت ، أو من قال بذلك منها ، أنه لم يكن من الله جل جلاله ، وعظم عن كل شأن شأنه في الصلاة غير ما أمر به من إقامتها ، وأنه لم يحد لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا من حدودها ، ولم يوقفه على ما به كمالها من ركوعها وسجودها وعدد ركعاتها ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اخترع ذلك من نفسه ، وسنه لأمته ، وجعله دينا لها من ذاته (٤٥٣) ، وأن شرائع الزكوات وما به تجب الزكوات في الأوقات المفروضات الموقتات ، وما يؤخذ من الأموال الصامتة ، والأنعام السائمة ، والأطعمات ، وما يجب في التجارات من الأعشار وأنصافها ، وما حدد في ذلك كله من الحدود المعروفة ، وأوقف عليه في كل ذلك من الأفعال المفهومة ، من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا من الله ، وأن ذلك شيء فعله برأيه ، واختاره بتمييزه ، وفعله باجتهاده ، وفرضه على أمته دون خالق المخلوقين وإله العالمين ،

__________________

(٤٥٣) في (أ) : من دابه.

٤٦٨

وكذلك قالوا في جميع الفرائض المفروضة والفروع المتفرعة ، فزعمت هذه الأمة ، أو من قال بذلك منها ، أن ما كان في الكتاب ناطقا موصولا فهو من الله فرض مفترض ، وما كان من تفريع الأصول وتمييز ما ميز صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الفصول فإنه منه لا من الله ، وأنه فعله لا فعل الله ، ثم سموا ذلك الفرع سنة ، وأخرجوا معنى السنة من الفريضة ، وتوهموا أن ذلك كما قالوا ، ولم يعلموا ما عليهم في ذلك حتى حكموا به وسموه كذلك ، فلما عظم الأمر ، وجل الخطر ، ورأينا الهلكة واقعة بهم ، والضلالة شاملة لهم ، رأينا أن نفسر معنى قول القائل سنة ، ونشرح ما السنة ، وكيف كان تفريع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما فرع من الأصول المنزلة التي جاءت في كتاب الله سبحانه مجملة ، فقلنا :

إن رسول الله عليه‌السلام لم يكن ليخترع أمرا دون الله سبحانه ، وأنه كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين يقول : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [الأنعام : ٥٠] ، وكما قال عليه‌السلام حين يقول : (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص : ٨٦] ، ونقول إن الله سبحانه لم يكل شيئا من ذلك إلى نبيه يبتدعه ولا يشرعه ولا يفرضه ولا يثبته ؛ إذا لقد كلفه الله شططا من أمره ، وألزمه معوزا من فعله ، بل القول في ذلك المبين ، والحق البين اليقين أن الله سبحانه ، وجل عن كل شأن شأنه ، أصل أصول فرائضه في الكتاب المبين ، ونزله على خاتم النبيين ، فجعل في كتابه أصول كلما افترضه من الدين ، وبينه لجميع العالمين ، فكانت أصول الدين في الكتاب كلها ، وجاءت الفصول مفصولة والفروع المفرعة إلى النبي عليه‌السلام من الله ذي الجلال والإكرام على لسان الملك الكريم جبريل الروح الأمين ، فنزل بشرائع الدين وتفريع أصول القرآن المبين على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما نزل عليه‌السلام بالأصول إليه ، وكان نزوله بالفروع مفرعة ، كتروله بالأصول المجملة المجتمعة ، وأدى جبريل الروح الأمين إلى محمد خاتم النبيين فروع شرائع الدين ، عن الله رب العالمين ، كما أدى مجملات أصول القرآن المبين.

والسبب في تفريق ذلك من الله ، فنظر من الله لبريته ، وعائدة على خلقه ، ولطف في

٤٦٩

فعله وصنعه ، وتقوية لمن أراد حفظ كتابه ، وحمل (٤٥٤) ما نزل من وحيه وبيانه ، فخفف عنهم في الكتاب ، وأعانهم بذلك في كل الأسباب ، ففرق بين الأصول الموصولة والفروع المفرعة ، فجعل الأصول في الكتاب مجملة جاء بها جبريل ، وجعل الفروع في غير الكتاب جاء بها أيضا جبريل ، فكل (٤٥٥) من الله وحي مبين ، وتفصيل (٤٥٦) وفرض منه سبحانه وتنزيل ، بعث بهما كليهما رسولا واحدا ، ملكا عند الله مقربا أمينا مؤتمنا ، فأدى إلى الرسول عليه‌السلام ما به أرسل إليه ، وتلى عليه من ذلك ما أمر بتلاوته عليه ، فكان ذلك من الله فرضا مميزا ، ودينا من الله مفترضا لم يكن لرسوله فيه اختيار ، ولم يشرع لأمته من دين الله إلا ما شرع الله ، ولم يأمرها إلا بما أمرها الله ، ولم ينهها إلا عمّا نهاها الله.

ذكر تفاصيل من الصلاة والزكاة

من ذلك ما قلنا به من قول الله (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ، فنزلت هاتان اللفظتان في القرآن موصولتين ، وجاءتا فيه مجملتين ، فاحتملت الصلاة أن تصلّى قليلا وكثيرا إذ جاء ذلك مجملا ، ثم فسر الله ذلك على لسان جبريل كما نزل على لسانه القرآن الجليل ، فجعل الله الظهر أربعا ، والعصر أربعا ، والمغرب ثلاثا ، والعتمة أربعا ، والصبح اثنتين ، فبيّن لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفسير ما جاء في كتابه مجملا من أمره بالصلاة جزما ، ولم يكله إلى أن يتكمه في ذلك تكمها ، ولا أن يتخبط فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تخبطا. وكذلك لما أن (٤٥٧) قال سبحانه (وَآتُوا الزَّكاةَ) ، احتمل أن تؤخذ من كل دينار

__________________

(٤٥٤) في الأصل : (جعل) ، و (حمل) ظنا من هامش (د) ، وهي أنسب للمعنى إذ هي معطوفة على معمول صلة (من).

(٤٥٥) في (ب) : فكان.

(٤٥٦) في (ج) : وتفصيل منه سبحانه وتنزيل.

(٤٥٧) سقط من (ب) : (لما أن).

٤٧٠

ودرهم ، وشاة وجمل ، ومد ومكوك ، ومن الفقير والغني ، ومالك ألف شاة ومستغل ألف مد ، ومستغل مد وصاحب ألف دينار ، وصاحب دينار لأنه سبحانه يقول : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة : ١٠٣] ولم يفسر فيما أنزل من القرآن كم يأخذ من كل إنسان مالك الحقير والقليل ، ومالك الكثير والجليل ، ثم فسر سبحانه على لسان الملك الذي نزل بالقرآن من عند الواحد الرحمن ما يجب من الأموال ، وما يؤخذ من أهلها في كل حال ، وما يجب على المالك الموسر ، وفي كم تسقط عن المالك المعسر ، وكم هي وكيف هي ، حتى سنن أسنان مواشيها ، فجعلها سنا سنا في عدد معروف معلوم ، وكذلك فيما يكال ويوزن من الوزن والكيل المفهوم.

ذكر تفاصيل الدية

وكذلك قال تبارك وتعالى في الديات فقال : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) [البقرة : ١٧٨] ، وقال سبحانه : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ١٧٨] ، فقال : (عُفِيَ) ، يريد : عفي عن (٤٥٨) القتل إلى الدية ، ثم أمر بأداء الدية إلى من عفى إذا قبل الدية وأرادها ، ثم قال سبحانه في موضع آخر : (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) [النساء : ٩٢] في قتل الخطأ ، فأوجب الدية ، وقال في موضع آخر : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [المائدة : ٤٥] ، فجعل في جروح العمد القصاص كما جعل القود في قتل العمد ، وجعل الديات في جروح الخطأ ، فأنزل ذكر ذلك في الكتاب مجملا ، ولم يجعله مشروحا مفسرا ، ثم بينه على لسان نبيه وفسره ، وجعل الدية ألف مثقال في أهل الذهب ، وعشرة آلاف درهم قفلة في أهل الدراهم ، وجعلها ألفي شاة في أهل الغنم ، وجعلها مائتي بقرة في أهل البقر ، ومائة من الإبل في أهل

__________________

(٤٥٨) في (ب) : من.

٤٧١

الإبل ، ثم سننها وبينها على لسان نبيه عليه‌السلام. ثم لم يكن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك شيء إلا البيان والأداء عن الله بإحسان.

وكذلك جميع الفرائض والمواريث ، ففسر منها في كتابه ما فسر ، وفسر على لسان نبيئه باقي ذلك ، وكذلك في جميع أحكام الحلال والحرام. فكل ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه حلال لا يجوز تحريمه ، أو قال إنه حرام لا يجوز تحليله. وكل ما أوقف الأمة عليه ، وجعله فرضا عليها مفروضا لم يجز لها تعديه ، ولم يطلق لها النقصان ، ولا الزيادة فيه ، فهو من الله سبحانه لا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يزد رسول الله عليه‌السلام فيما أمر به ، ولم ينقص منه ، بل أدى الأمانة والنصيحة فيه صلوات الله وبركاته عليه وعلى آله.

فمن قال : إن شيئا من هذه المحظورات من المحرمات والمحللات كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنة ابتدعها لم تبيّن ، ولم تشرح (٤٥٩) ، فقد جهّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجهّل في قوله بذلك الله عزوجل سبحانه عن ذلك وتعالى علوا كبيرا أن يكون كذلك ، أو أن يكل نبيه عليه‌السلام إلى نفسه ، أو يجعل إليه شيئا من فرض دينه حتى يفرضه دونه.

ومعنى قول القائل سنّه : فإنما هو بينه وأظهره وذكره عن الله وشرعه ، وبينه عنه سبحانه وأعلنه ، لا أنه اقترحه ولا اخترعه.

ومن الحجة في ذلك أن يقال لمن قال أو ظن هذا القبيح من الظن : خبرنا عن دين الإسلام وأحكامه ، وما جعل الله تبارك وتعالى فيه من نوره وبرهانه ، وما اختار فيه سبحانه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل كان عند الله معلوما ، ومن قبل خلق الدنيا في علمه تبارك وتعالى مفهوما ، لا يزول (٤٦٠) عنه منه صغير ، ولا يغيب عنه طول الدهر منه كبير؟ فلا تجد بدا من أن تقول : نعم ، قد كان دين الإسلام وشرائعه وما جعل الله تبارك

__________________

(٤٥٩) سقط من (أ) : ولم تشرح.

(٤٦٠) في النسخ : يزل مكان يزول ، وما أثبتناه إصلاح منا.

٤٧٢

وتعالى فيه من فروضه وحدوده عند الله سبحانه معلوما ، لم تزد بعثة محمد ولا إيجاده في حدود الإسلام وما علمه الله من فرائض دين محمد عليه‌السلام شيئا ، بل جاءت وكانت وافترضت وبانت بعد بعثة محمد على الأصل الذي كان عند الله معلوما ، الذي اختاره على الأديان كلها لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأمته؟

فيقال له عند إتيانه بما ذكرنا وتبينه (٤٦١) لما قلنا وشرحنا : أيها المناظر إذا كان عندك هذا القول على ما قلت ، فمن أين علم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميع ذلك حتى استخرج مكنون علم الله القديم وشرائع دين الله الكريم ، حتى أتى (٤٦٢) بها على ما كانت ، وبيّنها على ما فرضت ، وأقامها على ما حددت من قبل إيجاده وخلقه ، وكينونته وبعثته؟

فإن قال : استخرجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعقله ، واستدل عليها بلبّه.

قيل له : سبحان الله ما أجهل هذا المقال ، وأفحش هذا الفعال! وكيف يستدل بعقل على علم غيب عند الله مكتوم ، هذا ما لا يكون أبدا ، إذ المخلوقون لا يعلمون غيبا ، ولا يفهمون (٤٦٣) مما استسر به سرا.

وإن قال : علمه بتوفيق الله.

قيل له : ليس هذا مما يلزمه التوفيق ، ولا يجوز عليه فيه طرف من التحقيق ، لما فيه من عظيم فروض الله ، وجليل صنع الله وأمره ونهيه وزجره وفعله وما أوجب به وفيه وعليه من الثواب للمطيعين ، والعقاب على العاصين. وإنما يكون من الله التوفيق في غير المفروضات من الأمور ، فأما شرائع الدين ، وما تعبد به المسلمين فلا يكون إلا بتبليغ الرسل ، والاحتجاج بذلك على جميع الملل ، فلا تجد بدا من الإقرار بالحق ، والتعلق بعلائق الصدق ، والرجوع إلى قول المؤمنين ، أو أن يثبت على باطله من بعد إثبات الحجة عليه في مذهبه ، فيكون عند نفسه وعند غيره مكابرا ، وللحجج البالغة مناصبا ، ولا يجوز له في دينه

__________________

(٤٦١) في (ب) : وتثبيته.

(٤٦٢) في (ج) : حتى أبانها.

(٤٦٣) في (ب) : ولا يفقهون.

٤٧٣

احتجاج ولا بيان ، ولا يجد على الباطل بحمد الله عونا ولا برهان.

فإذا بان له خطأ هذين المعنيين ، وفساد هذين الوجهين ، لم يجد بدا من أن يقول بقولنا ، فيزعم أن جميع ذلك من الله سبحانه وحي أوحاه إلى نبيه على لسان ملكه كما أوحى القرآن على لسانه ، ولعمري ما سبيل أصول الأحكام ، وما تعبد الله به أمة محمد عليه‌السلام إلا كفرعها ، ولا فروعها إلا كأصولها ، وما أصولها وإن جاءت في الكتاب مجملة بأوكد فرضا من فروعها المتفرعة ، وما كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى علم مجملها بأحوج منه إلى علم فروعها ؛ لأن الفروع هي العمل ، والعمل فهو الإيمان ؛ لأن الإيمان كما قال أمير المؤمنين : «قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول» ، والفروع فهي أصول الأعمال ، وأصول الإيمان ، وإذا كان ذلك كذلك فلا بد أن سبيلها عند الله كسبيل ما أجمل الله في القرآن ، لا تختلف معنى الفروع والأصول إلا عند من سلب العقول.

ومن الحجة على ما به قلنا من أن الله سبحانه نزل الفروع على نبينا كما نزل الأصول في كتابنا قول الله سبحانه : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢] ، فأخبره أنه لم يكن يدري ما هذا الكتاب المجمل ، ولا هذه الفروع التي هي الإيمان المنزل. وفي ذلك ما يقول : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى : ٧] يريد تبارك وتعالى ضالا عن شرائع الدين ، وفروع ما أجمل في القرآن المبين ، فلم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدري كم يصلي الظهر ، ولا كم عدد العصر ، ولا كم يأخذ من أموال الناس المسلمين من الزكاة ، ولا كم فرض الله عزوجل فيها ، ولا متى تجب ، ولا في كم تجب ، بل كان ضالا عن ذلك كله ، وضلاله عنه فهو جهله به وقلة معرفته بما يريد الله أن يفترض عليه ، فلم يكن عليه‌السلام يعلم من ذلك إلا ما علمه ، ولم يفرض على الأمة إلا ما به أمر ، ولم يكن من المتكلفين ، ولا من غير ما أمر به من المتكلفين (٤٦٤)

__________________

(٤٦٤) في هامش (أ) : ولا لغير ما أمر به من المتكلفين. (ظنا).

٤٧٤

ومن الحجة في ذلك : أنه لو كان كما يقول الجاهلون ، ويتكلم به الضالون ، من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرع هذه الفروع من نفسه ، وأوجدها وبينها من دون ربه ، لكان محمد عليه‌السلام المفترض لجميع هذه الفرائض والأحكام على جميع الأنام ، دون الله الواحد ذي الجلال والإكرام ، ولو كان صلوات الله عليه المفترض لذلك والمحدد له الجاعل على أمته لكان هو المتعبد لها بفرضه ، المدخل لها في حكمه ، المصرف لها في عبادته ، دون الله ، تبارك وتعالى عن ذلك ، وحاشا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكون كذلك ، لأن الأمة إنما عبدت الله بهذه الشرائع ، وهذه الفروع ، وبإقامة هذه الأحكام ، وتحليل الحلال منها وتحريم الحرام.

فلو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يقول الجاهلون من أهل هذا المقال هو المفرع لهذه الفروع ، والناشر لها ، والمتخير فيها ، المحلل لحلالها ، المحرم لحرامها ، اختيارا منه بفعله وتمييزا منه بلبّه ، وحتما منه على أمته اختراعا له دون ربه ؛ لكان محمد مستعبدا للأمة بفرضه ، وكانت الأمة عابدة محمدا دون ربه ، إذ هي قائمة بفرائض محمد ساعية فيها ، مقيمة لها ، مستقيمة عليها ، وفي هذا ومثله ، وفي القول بيسيره أكفر الكفر بالله سبحانه ، وأجهل الجهل به ، وأكثر الطعن على رسوله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، بل القول في ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفترض فريضة دون الله ، ولم يحكم في دم ولا فرج إلا بالله ، وأن الله سبحانه هو مؤصل الأصول ، ومجمل المجمل ، ومفصل المفصل ، ومفرع المفرعات ، ومبين الملتبسات ، المتولي لتعبد خلقه بما شاء سبحانه من فرضه ، وأن نبيه صلوات الله عليه لم يزد ولم ينقص في شيء مما أمر بتبيينه للعباد ، وأنه قد بلغ وأرشد غاية الإرشاد.

السنة التي لا يأثم مخالفها

ثم نقول إن كلما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه حرام لا يجوز تحليله ، أو إنه حلال لا يجوز تحريمه ، ومحظور لا يجوز اطلاقه ، أو مطلق لا يجوز حظره ، فإنه من الله لا منه ، وإنه لم يفعل ذلك إلا بأمر الله ، ولم يتعدّ فيه فرض الله تعالى وإن ذلك لازم للأمة ،

٤٧٥

وإن لمن خالفه أو نقص بعضه العقاب والعذاب ، وإن لمن أداه على وجهه وعبد الله بما تعبده به الثواب ، فكل ما ذكرنا من ذلك من الحلال والحرام وشرائع الدين والأحكام فهي من الله حقا حقا. وليس حالها كحال غيرها مما جعله رسول الله عليه‌السلام من نفسه واختياره ورآه مما لم يجعل الله ولا رسوله على تاركه عقابا ، مثل ما سنّ من الوتر ، وتقليم الأظافر ، وحلق الشعر والسواك وتعفية اللحية وأخذ الشارب ، وغير ذلك مما سن وفعل واختار لنفسه من زيادات العبادة والصلاة ، مثل ما كان يصلي ويلزم ويحب من ركعات كان يصليهن فيما سوى الفريضة ، ومثل ما كان يرى من التعزيرات ، ويفعله عند النازلات ، وما كان يكون منه من التأديب لأمته على ما يكون من خطا أفعالها ؛ لأن الخطأ من أفعال الأمة على أربعة وجوه :

فوجه : يجب لله فيه حد ، وهو ما جعل فيه سبحانه حدا في كتاب الله وسماه ، مثل ضرب الزانيين ، وقطع السارقين ، وحد القاذفين ، وما أشبه ذلك مما جاء في الكتاب حده مبينا.

والوجه الثاني : فما نزل به جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحده له وأمره به ، من أدب من ارتكب شيئا محرما مثل حد الخمر المحرمة في الكتاب ، نزل بالحد فيها وفسره كما فسر غيره من الفروع جبريل لمحمد عليه‌السلام.

والوجه الثالث : فخطأ من أفعال العباد يجب للنبي عليه‌السلام فيه الأدب على فاعله ، وهو مثل رجل لو ضم امرأة إليه ، أو قبلها ، أو نظر إلى شعرها أو بشرها ، فلرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاختيار في أدبه وتعزيره ، على قدر ما كان من فعله وجرأته (٤٦٥) ، يقل الأدب أو يكثر على قدر ما يرى من بلوغ الأدب ، وجزع المؤدب ، وكذلك الأئمة لها في ذلك الاختيار تعزر بما رأت يقل الأدب أو يكثر على قدر ما ترى من عظم الجرم وصغره ، وبلوغ الأدب في المؤدب واحتماله للأدب ، عليها فرض أن تعمل النظر في ذلك ، وتتحرى التنكيل للمؤدبين قل الضرب في ذلك أو كثر ، تطلب بلوغ جزع

__________________

(٤٦٥) في (ج) : وجرمه.

٤٧٦

المؤدب ، والإبلاغ منه بما ترى فيه من الصلاح له.

والوجه الرابع : فهو اللمم الذي ذكر الله ، وهو فعل لا يجب فيه الحد لله ولا لرسوله ، ولا للأئمة أدب. واللمم : فهو ما ألم به صاحبه من غير تعمد ولا اعتقاد ، ولا هم ولا عزم ، بمثل النظر عن غير تعمد ، والمزاحمة للمرأة عن غير قصد ، وما أشبه ذلك مما لم يتقدم له ذكر في ذلك على فاعله ، ولم يقصد به اجتراء على خالقه ، ولا تعمدا لإتيان معصية ، ولا استحلال محرمة ، فهذا معنى اللمم الذي ذكر الله سبحانه.

ومن الحجة على من زعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرع من ذاته شيئا من الفرائض المحكمات ، أو شرع من ذاته شيئا من الأحكام المشروعات ، أن يقال له : برنا عن فعل الله هل هو فعل نبيه ، وعن فعل نبيه هل هو فعله؟ فمن أصل قوله إذا كان موحدا وبالله إذا كان عارفا أن يقول : لا. ثم يقول : فعل الله خلاف فعل محمد ، وفعل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلاف فعل الله عزوجل.

فيقال له حينئذ : ألا ترى أن هذا الذي ذكرت أن محمدا فرعه وشرعه وفصله ، وأمر العباد بفعله ، هو فعل لمحمد؟

فإذا قال : نعم ، قيل له : أفليس فعل محمد خلاف فعل الله؟

فإذا قال نعم ، قيل له : فمحمد إذا هو المفترض للفرائض على الأمة دون الله ، إذ كان فعل محمد خلاف فعل الله ، ومحمد إذا لو كان ذلك كذلك كان المعبود بأداء فرائضه دون الله ، إذ الفرض من محمد لا من الله.

فلا يجد بدا ، إن كان عارفا وله موحدا ، من أن يرد جميع ما تعبد به الأمة إلى الله عزوجل ، ويزعم ويقول ويعتقد أنه من الله ، حتى يصح له القول بأن المسلمين عبدوا الله لا غيره ، ويثبت الفعل في فرض المفروضات لله لا لغير الله ، لأن العبادة من العابدين لم تصح إلا بأداء الفرائض لمن افترضها ، فمن ثبتت له الشرائع والتفريع والتبيين ثبت له الفرائض ، ومن ثبت له الافتراض للمفروضات ثبتت له العبادة في كل الحالات من العابدين وهم المؤدون للفرائض المحكمة ، والشرائع المثبتة التي لا تصح لهم عبادة إلا بأدائها ، ولا ديانة إلا بإقامتها ، فهذه حجة على من عرف الله بالغة كاملة بينة نيرة تبين لمن أفكر فيها ، وتصح لمن تدبر معانيها ، والحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين.

٤٧٧

ومن الحجة على من قال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يقول المبطلون : من أنه لو فرع الفروع من (٤٦٦) نفسه ، وأوجبها على الأمة دون ربه ، لكان المتعبد لنفسه بالفرض الذي أوجبه عليها وفرعه لها ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أول العابدين ، وأخلص المخلصين ، وأقوم القائمين بهذه الفرائض المفروضات ، والفروع المفرعات ، فهو قائم بها عابد لمن فرضها بإقامته لحدودها ، فالفارض لها هو المعبود دون غيره ، فتبارك الله رب العالمين ، الذي فرض فرائضه على جميع المربوبين الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين وجميع الثقلين. وفي تبري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التكلف لشيء من فروع أحكام الله عزوجل وفرضه ، وما جعل من برهانه ودينه ، ما يقول الله تبارك وتعالى : (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) [الأعراف : ٢٠٣].

فإن قال قائل : ما معنى قول من يقول : سنة ، وما معنى دعاء من دعا إلى الكتاب والسنة؟

قيل له : معنى الدعاء إلى ذلك هو الدعاء إلى الأصول الموصلة ، والجمل المجملة ، والآيات المنزلة ، وإلى الفروع المفرعة ، والأحكام المحكمة ، والشرائع المبينة ، والطاعات المفترضة.

والكتاب فهو جزء من وحي الله وأحكامه ، وسنته جزء آخر من وحي الله وتبيانه ، فسمي الوحي الذي فيه أصول المحكمات من الأمهات المنزلات قرآنا ، لأنه جعل للأصول (٤٦٧) إماما وقواما ، وللفروع المفرعات أصولا وتبيانا ، وسمي الجزء الثاني من وحي الله عزوجل وفرائضه سنة وبرهانا ، فكان ما يتلى في آناء الليل والنهار أحق بأن يسمى قرآنا ، لما فيه من واجب التلاوات ، وما يتعبد به المتعبدون من الدراسات ، وكان ما فسر به المجملات مما بين به المتشابهات من الفروع المبينات أولى بأسماء السنة في البائن من اللغات ؛ لأن معنى السنة هو التبيين للموجبات للحجة ، لقول العرب سن فلان سنة ، تريد بيّن أمرا

__________________

(٤٦٦) في (ج) : عن

(٤٦٧) في جميع النسخ الأصول ، وفوقها في (أ) و (د) للأصول وظنّنها.

٤٧٨

وشرع خيرا ، وجعل شيئا يستن به فيه ، ومعنى يستن به أن (٤٦٨) يقتدى به فيه ويحتذى. وكذلك وعلى ذلك يخرج معنى قول القائل سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذا وكذا ، يريد أظهر وبين ما جاء به من عند الله.

والسنة فهي الأحكام المبينة ، والفرائض المفصلة ، فهي لله سبحانه ومنه ، لا من رسول الله صلوات الله عليه وآله ولا عنه ، وليس له فيها فعل غير التبليغ والأداء والنصيحة والإبلاء ، والسنة فهي سنة الله عزوجل ، وإنما نسبت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مجاز الكلام ، إذ هو المبلغ لها والآتي عن الله سبحانه بها ، كما يقال للقرآن كتاب محمد ، وكما يقال للإنجيل كتاب عيسى ، وكما يقال للتوراة كتاب موسى ، قال الله سبحانه في ذلك وما كان من الأمر كذلك : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا) [الأحقاف : ١٢] ، فسماه كتاب موسى ونسبه إليه ، وإنما هو كتاب الله عزوجل الذي نزل على موسى ، وكذلك مجرى السنة في قول القائل سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد سنة الله ، ومعنى سنة الله فهو فرض الله وحكمه وتبيانه لدينه وعزمه ، قال الله جل جلاله : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) [غافر : ٨٥] ، يريد سبحانه بقوله : (سُنَّتَ اللهِ) أي : ذكر الله وفعله ، وصنعه في خلقه وأمره.

ومن قال سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد بها غير ما ذكرنا من المعنى ، أو توهم في ذلك أنه شيء من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا من الله ، فقد جهل أمر الله ، وحرف معاني تأويل قول الله ، ونسب البهتان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال بأفحش القول في الله سبحانه وفيه.

والسنة فلم تعارض الكتاب أبدا بإبطال لحكم من أحكامه ، ولا أمر من أمره ، ولا نهي من نهيه ، ولا إزاحة شيء من خبره ، ولا رد شيء من منسوخه ، ولا نسخ شيء من مثبته ، ولا إحكام شيء من متشابهه ، ولا تغيير شيء من محكمه ، بل السنة محكمة لكل أمر

__________________

(٤٦٨) في (ب) : أي.

٤٧٩

الأحكام الموصلة ، المبينة للمعاني المفصلة ، مفرعة للمحكمات المتبينة (٤٦٩) عن التأويلات ، يشهد لها محكم الكتاب وتنبي عنها جميع الأسباب أنها من الله رب الأرباب.

وما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الفروع التي جاءته عن الله عزوجل تبارك وتعالى حتى يقال إنها من السنة فلم يشهد له الكتاب ولم يوجد فيه ذكرها مفصلا أو مجملا موصلا ثابتا فليس هو من الله ، وما لم يكن من الله فلم يقله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما لم يقله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحكه عن الله فهو ضد السنة لا منها ، وما لم يكن منها لم يجز في دين الله أن ينسب إليها.

وآيات الكتاب هي الأمهات لشرائع سننه المفرعات ، والأمهات فهي المحكمات ، وإليهن ترد المفصلات ، ومن الشواهد لما جاء من الروايات مما حكي من السنن المبينات وفي ذلك ما يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي ، فما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته ، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله.» ، يريد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن ما وافق الكتاب مما روي عنه من الأحكام ومن شرائع الإسلام فإنه منه أخذ ، وأنه جاء به عن الله ، وما خالف الكتاب فليس من السنة التي جاء بها عن الله ؛ لأن جميع الوحي الذي جاء عن الله سبحانه من السنة والقرآن فهما شيئان متشابهان متفقان ، لا يتضادان أبدا ولا يفترقان. وليس ما كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فعل أو اختيار جاء به عن نفسه منسوبا إلى الله ، ولا عنه ولا مشابها لشيء من أحكام السنن ، بل قد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رأى رأيا وفعل فعلا مما ليس هو فيه مخالف لسنة ولا لكتاب بين ذلك عن نفسه ، وأخبر أنه ليس من ربه ، مثل ما كان منه صلوات الله عليه وآله في الجد الذي لقيه في الجحفة راجعا من حجة الوداع ، فقال : يا رسول الله إن ابن ابني مات فما لي من ماله؟

فقال عليه‌السلام : لك السدس.

__________________

(٤٦٩) في (ب) : للمحملات المبينة.

٤٨٠