مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

وأنه خلق خلقه لعبادته من غير حاجة إليهم ، ولا منفعة تصل إليه من عبادتهم ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، ولكنه تفضل عليهم بخلقه إياهم. وأنه طوقهم وقواهم ، ثم أمرهم ونهاهم ، فلم يكلف أحدا فوق طاقته ، ولم يعذبه على غير معصيته ، ولم يمنع أحدا ما ينال به طاعته ، وينتهي به عن معصيته ، وينجو به من عذابه ، ويصير به إلى ثوابه ، ولم يفعل بعباده إلا ما فيه رشدهم وصلاح أمرهم ، ولم يعب شيئا من قضائه ، ولم يقض شيئا عابه ، ولم يلم أحدا على شيء من تقديره وتدبيره ، ولم يعذب أحدا على أمر خلقه وأراده ، ولم يرد ما يسخطه ، ولم يغضب مما كوّنه ، ولم يكره شيئا أراده ، ولم يرض الكفر لعباده ، ولم يحب الفساد (١٤٥) ، ولا الجهر بالسوء من القول ، ولم يأمر بما لا يريد ، ولم ينه عمّا يريد.

وأنه أمر بالطاعة ، ونهى عن المعصية ، وأن كل ما أمر به منسوب إليه ، وكلما نهى عنه فغير مضاف إليه ولا منسوب.

وأنه لم يأخذ أحدا على الغرّة ، ولم يعذب إلا بعد قيام الحجة ، فأثاب على طاعته ، وعذب على معصيته ، فلم تزر وازرة وزر أخرى في حكمه ، وأنه ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يرى ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى.

وأن أكرم الخلق عند الله اتقاهم لله ، وأشرفهم عند الله أكثرهم طاعة له ، وأنه لا ذل ولا صغر في الجنة ، ولا عز ولا شرف في النار.

وأنه صادق الوعد والوعيد في أخباره كلها ، وأنه لا تبديل لكلمات الله ، ولا خلف لوعد الله ، وأنه لا يبدل القول لديه ، وأنه لا يخلف الميعاد ، وأن قوله أصوب الأقاويل ، وأن حديثه أصدق الأحاديث.

وأنه أنزل على محمد كتابا مهيمنا بلسان عربي مبين ، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، أحل فيه الحلال ، وحرم فيه الحرام ، وشرع فيه الشرائع ، ثم قال : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤٢] ، فدعا محمد الداعي إلى معرفة الله والإقرار بربوبيته ، وإلى خلع كل

__________________

(١٤٥) في (ب) : ولم يحب الفساد لعباده.

١٨١

معبود من دون الله ، وإلى معرفة نبوته ، والإقرار بذلك ظاهرا وباطنا حتى يشهدوا بألسنتهم وقلوبهم أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وإلى الإقرار بما جاء به من عند الله ، والضمان لأداء جميع ما فرض الله عليهم ، والإيمان بملائكته ورسله ، والإيمان بالموت والبعث والحساب والجنة والنار.

وأن يقيموا الصلوات الخمس في مواقيتها بحسن طهورها وإسباغ وضوئها وتكبيرها وخشوعها وقراءتها وركوعها وسجودها ، والغسل من الجنابة بماء طاهر وضوء وغسل إذا أمكن الماء وإلا فالتيمم بالصعيد الطيب ، وصيام شهر رمضان باجتناب الرفث والفسوق والعصيان وغض البصر ، والحج إلى بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا ، والسبيل الزاد والراحلة للأصحاء البالغين.

والجهاد في سبيل الله بنية صادقة ، ونصح لله ولدينه وللمؤمنين عامة ، والبغض في الله وموالاة أولياء الله من دان بدين الله واعتصم بحبل الله ، والمعاداة لأعداء الله من كفر بالله وفجر في دين الله.

وتحريم دماء المؤمنين وأموالهم وأذاهم ، وموازرتهم على الإيمان ، واستحلال دماء الكفار على ما كان يستحله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما خلا من أعطى الجزية من أهل الذمة من المجوس والنصارى والصابئين واليهود.

والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإظهار الحق بقدرة ، فمن لم يستطع فلا جناح عليه.

وأداء الزكاة ووضعها على ما أمر الله في كتابه من قوله : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) [التوبة : ٦٠] الآية ، ووضع الفيء والغنيمة على ما أمر الله في كتابه من قوله إذ يقول : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) [الحشر : ٧] ، وإذ يقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) [الأنفال : ٤١] الآية.

وإلى تحريم ما حرم الله في كتابه من (الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ) [المائدة : ٣] إلى قوله : (بِالْأَزْلامِ) ، واجتناب الخمور ، وشهادات الزور ، وقذف المحصنات ، والفرار من الزحف ، والبخس في المكيال والميزان ، مع ما حرم

١٨٢

الله من نكاح الأمهات والبنات والأخوات ، وما ذكر معهن إلى قوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٣] ، وأشباه ذلك مما قد ذكر الله من تحريم الزنى ، وأكل الربا ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وأكل أموال اليتامى ظلما ، وإتيان الذكران من العالمين ، وأخذ الرشا في الحكم ، وتعطيل الحدود ، والسرقة ، والخيانة.

حكم من لم تبلغه الرسل

فإن كان في الدنيا أحد لم تأته الأخبار فعلم أنه وما أشبهه مخلوق ، وأن الله خالقه وخالق الخلق ، وأنه قديم وما سواه محدث ، وأنه لا شبه له ولا نظير ، وأنه عدل لا يجور ، وحكيم لا يظلم ، فقد أصاب جملة التوحيد والعدل. فإن شبهه بعد ذلك بيسير ، أو شك في أنه يشبهه شيئا ، أو ظن أنه يظلم أو يجور ، فقد نقض جملته ، وخرج مما دخل فيه.

وأما من أتته الأنباء (١٤٦) والأخبار ، وقامت عليه الحجة بالرسل والكتب والأنبياء ، فإذا هو عرف الجملة وأقر بها ، وعرف الرسول ، وشهد الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأقر بجميع ما يأتي به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنه الحق ، وضمن أداء جميع ما فرض الله (١٤٧) عليه ، فهو يعد مؤمن مسلم ، فإن جحد ذلك أو شك فيه بعد (١٤٨) قيام الحجة عليه ، فقد نقض جملته وصار بذلك من الكافرين.

ومن العلم بدين الله عندنا (١٤٩) معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : معرفة من هو وممن هو ، وأنه لا نبي بعده ، وأنه لم يكن يعلم الغيب ولا ينتحله أحد بعده. وأن القرآن

__________________

(١٤٦) في (ب) : الأنبياء.

(١٤٧) زيادة من (ج).

(١٤٨) شيئا من تلك الأصول المنصوص عليها أو شك فيها بعد. (ب).

(١٤٩) زيادة من (ب).

١٨٣

كتاب الله ، وأنه أخبر فيه أن حجته بالغة ، وأنها عند جميع الناس في لغاتهم معروفة ، وأن أنبياء الله لم تزل تحتج بها وتقر أنها من خالقها ، وأنهم جميعا جاءوا بالبينات والآيات وهن الحجج ، وأن تلك الحجج ميراث الأنبياء يورثونها أتباعهم.

وأن الله أبان رسله بالأعلام والدلالة التي لا يقدر الخلق عليها ، ولا تكون إلا من فعل الخالق ، كإحياء الموتى ، وإلقاء العصا فصارت حية تسعى ، وكمجيء الشجرة ، وكلام الذئب ، وأن هذا ما لا يعطى أحد إلا الأنبياء والرسل.

وأن أتباع الرسل إنما يخبرون عن حجج الرسل ، ويدعون إليها الناس ، ويحتجون عليهم بها. وأن فيما احتج الله به أن جعل كتابه عربيا مبينا بلغة العرب وكلامهم ، وجعله مع ذلك لا يشبه الشعر ولا الرسائل ولا الخطب ولا السجع ، ولكنه أبانه من ذلك كله ، فلا يطيق أحد أن يأتي بمثله.

وأن الله قد أقام سنة نبيئه فيما لم يبينه في الكتاب مفسرا مشروحا ، من عدد الصلاة وأوقاتها وحدودها ، وتفسير الحج والعمرة ، وأن ذلك لا يكون إلا إلى الكعبة ، وأنه جعل الزكاة في الأموال تؤخذ من الأغنياء وتوضع للفقراء.

وأنه لا يحل مال أحد من أهل الصلاة إلا بطيب من نفسه ، أو بالميراث ، أو بفرض (١٥٠) يلزمه ، أو بحق يجب عليه ، وإن فجروا فقتلوا بالحدود ، ما لم يخرجوا من الملة وحرم منهم الدماء وجميع الحرمات ، إلا ما أحل الله من إقامة الحدود على من أصابها ممن أقر على نفسه في صحة من عقله ، أو قامت عليه بذلك بينة على ما بينه الله في كتابه وسنة رسوله عليه وعلى آله السلام.

وأن القصاص سواء بين أهل الملة جميعا فيما بين شريفهم ووضيعهم ، وأبرارهم وفجارهم ، ما لم يخرجوا من الملة.

وأن الله أوجب عليهم الامتناع من الظلم إذا قدروا ، ومعونة المظلومين إذا استطاعوا ، ولا يتعدوا في ذلك ولا في غيره حد الله.

__________________

(١٥٠) في (ب) : أو بقرض.

١٨٤

وأن الصيام في شهر معلوم ، شهر رمضان ، سوى ما يجب لله من كفارة اليمين والظهار ، وقتل الخطأ وفي التمتع بالعمرة إلى الحج إذا لم يجد الهدي ، وفيمن أوجب على نفسه نذرا ، وفيما أوجب على المسافر والحائض من قضاء ما فاتهم من شهر رمضان ، وكذلك المريض ثم يبرأ ، وفيما يتقون ويأتون من الطعام والشراب والنكاح ، ومن الغسل من الجنابة.

وأن من الكتاب ناسخا ومنسوخا نحو أمر القبلتين ، وإمساك النساء الفواجر في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا.

وأن من تعمد أن يخبر بما يعلم أنه لم يكن فيقول إنه قد كان ، أو بما يعلم أنه لا يكون فيقول إنه يكون ، أو يقول قد كان فهو كاذب ، أو بما لا يعلم أو بما لا يفعل فهو جاهل ، وأن الله من ذلك بري.

وأن شرائع الأنبياء كانت مختلفة ، وأنها على اختلافها يجمعها اسم الدين والطاعة ، والإيمان ، والهدى ، والتقوى ، والبر والإحسان ، وأن بعضهم لم يقصص علينا باسمه ، ولم يبين لنا في كتابه ، ولا سمى نبيا بعينه ، وأنّ علم ما جهلنا من ذلك كان دينا وإيمانا فرضه الله على تلك الأمم ووضعه عنا.

وأنه لا يجوز لمدع دعواه إلا ببينة ، فمن ادعا مما في يد غيره مما لا يدرك علمه إلا بالشهود لم يعط ما ادعا إلا بشاهدي عدل ، أو بإقرار من المدعى عليه للمدعي. ثم بين سنته في الشهود فأبطل شهادة كل فاسق منهم أو خصم ، وأن بعض الشهود ربما شهدوا بالزور والذي لا يعلمه إلا الله ، وأن على الحكام أن يمضوا الشهادة مع جهلهم بما يعيب (١٥١) به الشهود ، إلا أنّ الله يعلم أنهم قد شهدوا على باطل.

وأنّ أفضل الدين كله العلم بالله تبارك وتعالى وبدينه ، وأنه لا ينفع قول إلا بعمل ، ولا عمل إلا بعلم في إثبات اسم ولا ثواب ، وذلك أن من أقر بالحق ولم يعمل به لم يستحق الأسماء الزكية ، ولا ثواب أهلها ، ومن ضيع العلم بالله وبدينه لم ينتفع بشيء من عمله.

__________________

(١٥١) في (ج) : تغيّب.

١٨٥

وأنّ كلهم متعلم ، وكلهم محتاج إلى العلم مفضل له ولأهله ، وذام للجهل عائب له ولأهله.

وأنهم لم يزالوا يتقربون إلى الله بالقول السديد ، والعمل الصالح ، ويعبدونه بذلك ، ويدينون له بذلك.

وأنّ اسم دينهم الذي تعبدهم الله به ودانوا به الذي بلغ بالإيمان والإسلام والتقوى والبر ونحو ذلك.

وأنّ قد حرم الله على المسلمين أن يزكوا أنفسهم ، وأنّ قد أوجب عليهم أن ينسبوا جميع المسلمين إلى الإيمان والإسلام ، وأنهم قد كانوا يثبتون لهم اسم الإيمان ثم لا يعلمون سرائرهم ، وأنهم قد كانوا يتولى بعضهم بعضا على أنهم سمعوا منهم بعض ذلك وإن لم يروا منهم عملا ، وكذلك يفعلون فيمن يرونه يعمل وإن لم يسمعوا منهم قولا ، فإن الاسم الذي قد ثبت عندهم على الظاهر وإن لم يعلموا الباطن ، وأنه لا يحصي أحد منهم جميع ما فرض الله ، فإن الله لم يكلفهم إحصاءه ولا إحصاء أهله.

وأن دينهم أنهم يرجون ثواب الله ، ويخافون عقابه.

وأنه لا خوف على أولياء الله في الآخرة ولا هم يحزنون ، وأن أولياء الله المؤمنون.

وأن الله قد استحق ولاية وليه ، وعداوة عدوه على جميع العالمين الذين قد قامت عليهم بذلك حجة الدين ، وأن من لم تنفع ولايته وتضر عداوته معيب عندهم منقوص ، وأن الله أحق أن تنفع ولايته وتضر عداوته من جميع الخلق.

وأن الأنبياء لم تزل مستحقة لثواب الله منذ بعثها الله ، وأنها لم تكفر قط ، ولم تفسق ، ولم تقم على شيء من الذنوب بعلم ولا بعمد ، وربما أذنبت على الظن وطريق النسيان ، وأن ذنوبها صغائر مغفورة ، وأنها لا تأتي الكبائر ، وأن من قذف الأنبياء بالكفر والكبائر فهو أولى بالكفر.

وأن المؤمنين مقرون جميعا على أنفسهم بالذنوب ، وأنهم ينتفون من الكفر والفسق ، ويكرهون أن ينسبوا إليه.

وأن الله قد ميز بين صغائر الذنوب وكبائرها ، فلم يجعل السبة والكذبة والنظرة كالقتل والزنى والربا والسرقة وأشباههن ، ولم يجعل القتل وأشباهه كالكفر بالنبي صلى الله عليه

١٨٦

وآله وسلم والكتاب وأشباه ذلك. وأنه قد خالف بين أحكامهن وأسمائهن وأسماء أهلهن. وأنهم لا يشهدون على ذنب بعينه أنه صغير مغفور ، إلا أن يكون الله قد سمى من ذلك شيئا في الكتاب بعينه ، أو سماه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما خلا ذنوب الأنبياء عليهم‌السلام. وأنهم لا يزالون يفسقون أهل الكبائر من أصحاب الحدود ، ويبغضونهم ، ويشتمونهم ، ويحبون أهل الخير وإن أذنبوا على الظن والنسيان ، ما لم يخرجوا إلى الكبائر. وأنه لا ينبغي لأحد أن يشهد على ذنب بعينه أنه صغير مغفور. وأنهم لم يزالوا يعظمون القتل والزنى والسرقة ونحوهن ممن فعله. وأن معنى الكثير والقليل والعظيم واحد. وأن الجنة دار للمتقين ، وأن النار دار للفاسقين. وأنهم لا يزالون يبغضون من اطلعوا على فسقه ، وإن كان يستغفر حتى يظهر التوبة النصوح. وأنهم يستحبون أن يكتم كل امرئ على نفسه وإن أصاب حدا ، وأن التوبة عندهم مقبولة ممن حد وممن لم يحد. وأن من سمى أهل الحدود كافرين ثم حكم عليهم بحكم الكفار عابوه ، ومن سماهم مؤمنين وحكم لهم بحكم المؤمنين عابوه وعنفوه. وأن اسم الملة اسم يجمع جميع المنطوين (١٥٢) إلى الإسلام وإن كان فيهم فجور. وأن الله قد بين حكمه في جميع الكافرين من مشركي العرب من أهل اللات والعزى ، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والمتنقلين من جميع أصناف أهل الكفر من دين إلى دين ، والمرتدين عن الإسلام بعد إظهار الدين ، وبين حكمه في المؤمنين والفاسقين والمنافقين والمستسرين. وأنه لم يكن يقاتل أحدا من المشركين حتى يدعوه ، وأنه قد أبان ذلك كله وفصله ، وأنه لا يوجد في زمن النبي عليه‌السلام كافر ليس بمشرك. وأنهم لا يعتمدون أحدا ممن أقر بالنبي عليه‌السلام وعلى آله بكفر إلى يوم القيامة أو يلحق بالمرتدين. وأن النفاق استسرار بالطعن في دين الله ودين الرسول ، وأن الله قد أقام حجته فيما فرض من دينه بتحريم الشك فيه والإنكار له جميعا.

وأن التقية جائزة فيما حمل الناس عليه وهم له كارهون ، يخافون القتل والمثلة ، وذلك فيما لا يرجع ضرره على أحد من العالمين. وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد

__________________

(١٥٢) في الأصل (المنظوين) ، واللفظة من (ب) و (ج).

١٨٧

كان يعذر نفسه وغيره فيما لم يأت جبريل من الدين مما لم يعرف إلا بالسمع مما لم يأته جبريل عليه‌السلام حتى يأتيه به ، وأنه لم يكن يترك أهل دعوته يظهرون قبيحا ، وأنه لم يكن يكتم شيئا من الدين الذي أمره الله بإظهاره ، ولا يعطى فيه تقيه ، وأنه لم يزل له مظهرا يأمر أتباعه بإظهاره والدعاء إليه.

وأن الشيطان يحب دفن الدين ويدعو إلى إماتته. وأنه لا يجوز تغيير شيء مما أثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله ، وأن الدنيا فانية ، وأن الآخرة باقية الأبد.

وأن الملائكة والجن والإنس أجناس شتى ، وأن الملائكة أفضل برية الله ، وأنهم مقربون في كل خير ، مقربون في كل منزله ، مفضلون في كل ذكر.

وأنه جعل من دينه مؤقتا محدودا ، صلاة وصياما ونحوهما ، وجعل منه متمهلا فيه لا يدرك حده : بر الوالدين ، وصلة الرحم ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ونحو ذلك من الأمور التي تعرف عند المشاهدة.

وأن الله لا يلبس حكمه ، ولا يخلف قوله. وأن من دينهم التثبت فيما غاب عنهم حتى يجيئهم اليقين من تواتر الأخبار وتظاهرها.

وأن الله لا يظلم عباده شيئا ، ولا يعذب إلا بعد إنذار ، ولا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يحملها إلا طاقتها ، ولا يفرض طاعته إلا على أهل الصحة والسلامة والعقل والقوة ، وأنه دعا جميع عباده المكلفين إلى دينه ، وأنه يحب طاعته ، ويبغض معصيته.

وأنه جعل بعض الأعمال أفضل من بعض ، وبعض الأقاويل أفضل من بعض ، وبعض العلم أفضل من بعض. وأن من العلم غامضا خفيا ، ومنه واضحا جليا ، وأن جهل بعض ذلك واسع ، وجهل بعضه ضيق.

وأنه لا ينزل أحد من الناس كلهم منزلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تصديق له ولا في تكذيب ، ولا شك في قوله. وأنهم يعملون بالأخبار المجتمع عليها ، ويشكون في القول الشاذ ، وإن روي عن النبي عليه‌السلام.

وأن الله افترض اتخاذ الإمام العادل إماما ليؤتم به ، وسمي خليفة ليخلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أعماله. وأنه من خالف حكمه حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٨٨

وفارقه فليس بإمام ، ولا خليفة ، ولكنه متبر (١٥٣) ظالم.

وأن الأخذ بجميع ما أجمعوا عليه صواب بر وهدى ، وأن الترك لما أجمعوا عليه ضلال وخطأ.

فهذه صفات جملة الدين وكثير من تفسيرها في التوحيد وغيره ، ونرجوا أن تكون هذه الجملة تدل على الصواب كله ، وتنفي الخطأ كله ، وأن نكون قد ذكرنا فيها أمورا قد أقام الله بها حجته على جميع العالمين ، في جميع ما هم ذاكرون من خطأ أو صواب ، وأن يكون قد دخل في هذه الجملة جميع الاختلاف ، وقول أهل البدع ، فمن زعم أن هذه الجملة على غير ما ذكرنا ، فليعرض جميع ما قال الناس عليها ، فما وافقها قبله ، وما خالفها تركه ، فإنا نرجو أن لا يخرج من ذلك شيء أبدا إلا أدرك صوابه وخطاه من هذه الجملة إن شاء الله.

ومن ظن أن شيئا من هذه الجملة ليس بحق فليعرضه على كتاب الله وسنة رسوله عليه وآله السلام وفطرة العقول ، فمن فعل بما أمره الله به ، وانتهى عمّا نهاه الله ، ودان بذلك فله ما لنا وعليه ما علينا ، نتولى كل مهتد مضى قبلنا ، وسيرتنا في ولينا كسيرة نبينا عليه وعلى آله السلام في ولينا ، وسيرتنا في عدونا كسيرة نبينا في عدونا.

الله ربنا ، ومحمد نبينا ، والقرآن إمامنا ، والإسلام ديننا ، والكعبة قبلتنا ، والموت غايتنا ، والحشر يجمعنا ، والموقف موعدنا ، وحكم الله يفصل بيننا ، والجنة والنار أمامنا.

نسأل الله الجنة برحمته ، ونعوذ بالله من النار بعفوه ، إلى هذا ندعوا من أجابنا ونجيب

__________________

(١٥٣) في (ب) : مبير.

١٨٩

من دعانا ، هذا ديننا ونحلتنا ، والطيبون من آل محمد قادتنا ، فمن وافقنا على هذا فهو ولينا ، ومن خالفنا فهو عدونا ، والله ولي المؤمنين ، وعدو الفاسقين.

تم الأصل والحمد لله وصلى الله على محمد وآله

١٩٠

وله صلوات الله عليه :

كتاب أصول الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

سألت يا بني ، فهمك الله ونفعك ، عما ندين الله به ، ولا يسع أحدا من المكلفين جهله ، من معرفة الأصول من توحيد الله وعدله ، وإثبات وعده ووعيده ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإثبات الإمامة في المصطفين من آل نبي الله عليه‌السلام :

التوحيد

فإنا ندين بأن الله واحد أحد ، ليس كمثله شيء ، ولا له ند من الأشياء ولا ضد ؛ لأن الند لما يناده مكاف ، والضد لما يضاده مناف ، وليس من الأشياء ما يكافيه ، ولا يضاده فينافيه. وأنه ليس بجسم محدود ، ولا شبح مماثل ، وأنه بكل مكان على غير اجتنان ، ولا كينونة ، وكذلك قال تبارك وتعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] ، وقال : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) [المجادلة : ٧] ، وقال عزوجل : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] ، وقال : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤] ، مع آيات كثيرة تدل على أنه لا يحتاج إلى المكان ، وأنه بكل مكان مدبر ، وأنه كان قبل كل مكان وحين وأوان ، وأنه كان ولا سماء ولا أرض ، ولا عرش ولا كرسي ، ولا كلام ولا صوت ، ولا حروف. وأنه كان قبل التوراة والإنجيل والقرآن ، وأن القرآن أنزله على نبيه عليه‌السلام ، وأنشأه ، وخلقه ، ووصله ، وفصله ، وألفه ، وأحدثه ، وأنه يقدر أن يذهب به ،

١٩١

ويجيء بغيره ، وأنه محفوظ ، وأن الله حافظه ، وأنه يقدر أن يجيء بمثله ، كما قال سبحانه : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) [البقرة : ١٠٦].

وأن الله لا مثل له ولا نظير ، وأن الأبصار لا تدركه في الدنيا ولا في الآخرة ؛ وذلك أن كلما وقع عليه البصر فمحدود ضعيف ذليل ، محتاج ، محوي ، محاط به ، له كل وبعض ، ولون وطعم ، ورائحة ومحسة ، وفوق وتحت ، ويمين وشمال ، وخلف وأمام. وأن الله لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين ؛ لأنه غني قديم ، وهكذا قال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ؛ لأن الله تبارك وتعالى ليس بشخص ، فتجاهره الأبصار ؛ ولا هو صوت فتوعيه الأسماع ؛ ولا رائحة ، فتشمه المشام ؛ ولا حار ولا بارد ، فتذوقه اللهوات ؛ ولا لين ولا خشن فتلمسه الأيدي ؛ لأن الله سبحانه خلق الأيدي وما لمست ، وخلق الأبصار وما جاهرت ، والأسماع وما وعت ، والمشام وما شمت ، واللهوات وما ذاقت ، فهذه الخمس الحواس المدركات كلها مخلوقات مجعولات محدثات ، ليس فيها شيء يشبه الله ، ولا الله عزوجل يشبه شيئا منها ؛ ولذلك قال تبارك وتعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٠٣] ؛ لأن ما وقع عليه البصر فمحدود ضعيف ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (١٥٤).

العدل والحكمة

وندين بأن الله عزوجل عدل في قضائه ، جواد في عطائه ، رحيم بعباده ، ناظر لخلقه ، لا يكلفهم ما لا يطيقون ، ولا يسألهم ما لا يجدون ، (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٤٠] ، وأنه لم يخلق الظلم ولا الجور ، ولا (١٥٥) الكفر في العباد ، ولم يرد الظلم والفساد ، ولا الجهر بالسوء من القول.

__________________

(١٥٤) زيادة من (ب) و (ج).

(١٥٥) زيادة (ج).

١٩٢

وأنه لا يشاء قتل أوليائه ، ولا تكذيب رسله. ولا يقضي ولا يقدر شتم نفسه ، ولا الفرية عليه. وأن من فعل ذلك ، أو أراد معه الصاحبة والولد فغير حكيم ولا عليم.

وأن الله رحمن رحيم حكيم عليم لا يجوز عليه العبث ، فكيف يمنع عباده من الإيمان ثم يقول في كتابه : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) [الإسراء ٦٤] ، (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النساء : ٣٩] ، (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الانشقاق : ٢٠]؟! أو يأمرهم بالهدى ويصرفهم عنه ، ثم يقول (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) ، ويخلق فيهم الكفر ثم يقول : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) [مريم : ٩٠]!! بل نقول سهّل ربنا لعباده السبيل ، وأقام لهم الدليل ، وأرسل إليهم الرسول ، وأنزل عليهم القرآن ، وجعل فيه الشفاء والبرهان ، أحل فيه الحلال ، وحرم فيه الحرام ، وأقام الحدود والأحكام ، ثم مكنهم مما طوقهم ، ثم دعاهم جميعا إلى الإيمان به ، ثم أمرهم ونهاهم ، ثم آمنهم من ظلمه ، ورغبهم في جزيل ثوابه ، ولم يرد منهم غير ما به أمرهم ، ولم يزجرهم وينههم عما يريده منهم ويشاءه ، لما في ذلك من خلاف الحكمة والرحمة ، كما قال سبحانه : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف : ١٨٠] ، ويقول : (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١١٧] ، وقال : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) [النجم : ٣٩] ، (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

صدق الوعد والوعيد

وندين بأن الله صادق في أخباره كلها ، وأنه لا يخلف الميعاد ، ولا يبدل القول لديه.

وأن أهل الكبائر من أهل ملتنا إن لم يتوبوا من ذنوبهم ، وخرجوا من الدنيا مصرين عليها ، غير نادمين ولا مستغفرين ، أنهم من أهل النار ، خالدون مخلدون ، لا يخرجون منها ، ولا يغيبون عنها ، بل يبقون فيها أبدا سرمدا ، لقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) [النساء : ١٤] ، ولقوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) [الانفطار : ١٤] ، ولقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ

١٩٣

عَظِيمٌ) [النور : ٢٣] ، والملعون في الآخرة لا يدخل الجنة ؛ لأن الآخرة دار جزاء ، لا دار عمل وبلوى. ولقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) [النساء : ٣٠] ، وبمثل آية الفار من الزحف ، وبمثل آية القاتل ، وبمثل آية آكل أموال اليتامى ظلما ، فبهذه الآيات علمنا أن الله يعذب أهل الكبائر بالنار ثم يخلدهم فيها أبد الأبد.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وندين بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وأن نصر المظلوم والأخذ على يد الظالم فرض لازم ، وحق واجب ، لأن في ترك الأمر بالمعروف للحق إماتة ، وفي ترك النهي عن المنكر للباطل حياة ، ولذلك أوجبه الله على عباده ، وفرضه عليهم فرضا ، بكل ما أمكنهم ولذلك قال رب العالمين : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [المائدة : ٢] ، وقال : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] ، وقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة : ٧١] مع آيات كثيرة تدل على ما قلنا ، وتصحح ما شرحنا.

إمامة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام

وندين بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه خير هذه الأمة بعد نبيها عليه‌السلام ؛ لطاعته لربه ، وبذله لمهجته واستغراقه لقوته في طاعة الله وطاعة رسوله عليه‌السلام ، وقرب قرابته من رسول الرحمن ، وعلمه بما أنزل الله من القرآن ، وزهده في هذه الدنيا ، ولأقوال رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله المشهورة المعلومة فيه يوم غدير خم : «من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، واخذل من خذله ، وانصر من نصره.» ، ولقوله : «علي مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي.» ، «وأنت قاضي ديني ومنجز وعدي.» ، مع ما قد خصه الرسول عليه‌السلام من علم ما يكون من أمته من الأحداث والفتن ، وما كان علي ينادي به من قصة المرادي الذي قتله ،

١٩٤

وغير ذلك من الفرقة القاسطة والناكثة والمارقة ، مع إجماع أمتنا على أن خلال الخير كلها كانت مجتمعة فيه ، مفترقة في غيره ، وذلك أنهم أجمعوا أنه كان أحد السابقين ، وأحد العلماء ، وأحد الزهاد ، وأحد الباذلين لأنفسهم ، ولم يجمعوا على أن هذه الخصال اجتمعت في غيره ، فتبين فضله عليهم.

ثم كان ابن عم محمد عليه‌السلام ، وأبا السبطين الحسن والحسين ، وزوج فاطمة صلى الله عليهم أجمعين ، وقد أجمعوا جميعا أن عليا صلى الله عليه كان يصلح للخلافة موضعا لها يوم قبض الله نبيه عليه‌السلام ، واختلفوا في غيره فالحق ما أجمعوا عليه ، والباطل ما اختلفوا فيه.

الخلاف بين الأمة فيمن تكون فيهم الإمامة

وجميع أهل الصلاة عندنا خمسة أصناف : الشيعة ، والمعتزلة ، والخوارج ، والمرجئة ، والعامة.

فقالت المعتزلة ، والخوارج : الإمامة جائزة في الناس كلهم ، ما صلحوا بأنفسهم ، وكانوا عالمين بكتاب الله ربهم ، وسنة نبيهم عليه‌السلام.

وقالت المرجئة ، والعامة : الإمامة جائزة في قريش ، محظورة على غيرهم.

وقالت الشيعة : الإمامة جائزة في آل محمد ، محظورة على غيرهم.

فإذا ذلك إجماع من الفرق كلها في آل محمد ، وذلك أن من أجازها في قريش فقد أجازها في آل محمد ؛ إذ كانوا خير قريش وأوسطهم دارا. فأما المعتزلة والخوارج فشهادتهم ساقطة إذ ادعوها لأنفسهم ، وفي السنة أن لا تجاز شهادة الجار إلى نفسه. فجميع هذه الفرق قد أقرت للشيعة بجواز هذا الأمر في آل محمد ، وأنكرت الشيعة أن تكون جائزة في غيرهم ، فالحق ما أجمعوا عليه ، والباطل ما اختلفوا فيه.

وأجمعت الأمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما.» ، وقال هما «إمامان قاما أو قعدا.». وأجمعوا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم به لن

١٩٥

تضلوا من بعدي أبدا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ؛ إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض.» فكما لا يجوز ترك التمسك بالكتاب ، كذلك لا يجوز ترك التمسك بالعترة ؛ لأن الكتاب يدل على العترة ، والعترة تدل على الكتاب ، ولا يقوم واحد منهما إلا بصاحبه. وقال عليه‌السلام : «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق وهوى.» ، مع ما جاء فيهم ، وفي أبيهم ، من تواتر الأخبار ، وتظاهرها ، عليهم صلوات الله ورحمته وبركاته.

فهذه الأصول هي التي ندين الله بها ، فمن دان بها فهو أخونا وولينا. ندعوا إليها من أجابنا ، ونجيب من دعانا ، هذا ديننا ونحلتنا ، والطيبون من آل محمد قادتنا ، فمن وافقنا فهو ولينا ، ومن فارقنا عليه حاججناه بالمحكم من كتاب الله ، ورددناه إلى المجمع عليه من سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن قبل ذلك كان له ما لنا ، وعليه ما علينا. نتولى كل مهتد مضى قبلنا ، وسيرتنا في ولينا وعدونا سيرة نبينا. الله ربنا ، ومحمد نبينا ، والقرآن إمامنا ، والإسلام ديننا ، والموت غايتنا ، والحشر يجمعنا ، والموقف موعدنا ، وحكم الله يفصل بيننا ، فمن أقر بما أقررنا به وجبت ولايته ومؤاخاته ، ومن أبى إلا المخالفة للحق ، والمعاندة للصدق ، كان الله حسيبه وولي أمره ، والحاكم بيننا وبينه ، وهو خير الحاكمين.

تمت الأصول والحمد لله ، وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم

١٩٦

مسألة في العلم والقدرة والإرادة والمشيئة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

سألت ، أكرمك الله ، عمّا يقال لمن سأل عن علم الله وقدرته وإرادته ومشيئته فقال : هل بينهما في المعنى اختلاف أم معناهما مجتمع على الائتلاف؟

واعلم هداك الله أن ليس بين ذلك شيء من الاتفاق بل هما على غاية ما يكون من الافتراق.

والحجة في ذلك أن علم الله وقدرته صفتان قديمتان أزليتان دائمتان ـ وليس قولنا صفتان قديمتان أن مع الله صفة يوصف بها ، ولا أن ثم صفة ولا موصوفا ، ولا أن ثم شيئا سوى الله عند ذوي العقول مجهولا ولا معروفا ، وإنما نريد بقولنا صفتان أنهما غير محدثتين ولا مكونتين ، وأنهما الذات والذات هما ، فهو سبحانه العالم بنفسه ، القادر بنفسه ، فتعالى من (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ـ وأن إرادته ومشيئته حادثتان محدثتان.

واعلم هديت أن معنى الإرادة شاء ، وأن معنى شاء أراد ، ومعنى أراد هو شاء ، وأن معنى المشيئة من الله تعالى للشيء هو إحداثه وخلقه ، لا فرق بينهما في الله تبارك وتعالى ، ولا يقال لله إنه شاء أن يخلق ثم خلق من بعد المشيئة ، فيفصل بين المشيئة وبين الشيء بمهلة بعد ، قلّت أم كثرت ، وإنما يقع الفرق بين المشيئة وبين الشيء على الآدميين ، ومن لا يحيط علمه بعاقبة فعله من المخلوقين ، فيحتاج ويضطر إذا شاء الشيء أن ينويه ويضمره ، ثم ينتظر به من الأوقات ما يصلح له صنعه فيه من الليل والنهار ، وانتظار حركة منه أو قعود أو قيام ، أو انتظار من يأمر من الأعوان ، ثم لعله أن يعجز عمّا أراد ، أو يعجزوا هم ، ولا يتهيأ له ولا لهم ، والله تبارك وتعالى محيط بعلم الأشياء ، لا يعزب عنه شيء من الغيوب ،

١٩٧

ولا يعجزه (١٥٦) مستصعب من الأمور. إذا شاء شيئا كان بلا كلفة ولا اضطرار ، وليس المشيئة منه بالنية والإضمار ، ولا بالمهلة والانتظار ، مشيئته للأشياء إيجادها ، وإيجادها مشيئته ، فتبارك من كوّن الأشياء بقدرته ، ودل على نفسه بما ابتدع من فطرته.

فإن قال : قد فهمنا ما ذكرت وشرحت من الاختلاف بين العلم والقدرة وبين الإرادة والمشيئة ، فما تنكر أن يلتئم هذا كله في أحد المعنيين ، في أفضلهما وأقواهما وأكبرهما وأعلاهما؟

قيل له : أنكرنا التئام ذلك كله على معنى واحد من أحد هذين الوجهين ؛ لأنا علمنا أنا لو حملنا الإرادة والمشيئة على معنى العلم والقدرة ، وقد علمنا وصح في معقولنا أنهما غير محدثين ، ولا مخلوقين ، وأن الله القادر العالم بنفسه ، لوجب علينا أن نقول إن المشيئة والإرادة غير محدثتين ، ولا مخلوقتين وأنهما صفتان للقديم الواحد الدائم الماجد ؛ لأنه لا يكون قديما إلا الله وحده لا شريك له ، فلو قلنا ذلك ، لوجب علينا أن نقول : إن الله سبحانه قد شاء إغراق فرعون وقومه قبل خطيئتهم وعصيانهم له ، فتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، ولوجب علينا أن نقول : إن الله قد شاء أن يسخط على إبليس ، وشاء إخراجه من الجنة قبل خطيئته وعصيانه له. وقد بين وأخبر ربنا عن نفسه أنه لا يشاء عقوبة عبد من عبيده إلا من بعد الإعذار والإنذار. فإنا لو حملنا العلم والقدرة على معنى الإرادة والمشيئة ، وقد علمنا وصح عندنا أنهما حادثتان ، ولو قيل بذلك ، لكان يلزم من قال به أن يكون قد ألحق بالله تعالى عن ذلك الجهل في الدهر الذي كان قبل تكوين العلم وإحداثه ، ولكان يلحق بالله في قوله العجز ، إذ كانت القدرة حادثة فيما كان قبل تكوين القدرة وإحداثها.

فسبحان المتعالي عن قول القائلين ، وعن كل وصف الواصفين ، فقد بان ولله الحمد

__________________

(١٥٦) من (ج) وفي الأصل : (يعوزه).

١٩٨

وصح لذوي العقول والفطن والأفهام ما سميناه من الاختلاف ، وتباعد الائتلاف.

تمت المسألة بحمد الله ومنه

١٩٩

كتاب الرد على سليمان بن جرير

بسم الله الرحمن الرحيم

حدوث صفات أفعال الله تعالى

ذكر الهادي عليه‌السلام ومن وافقه من العلماء ـ ما خالفه في ذلك إلا سليمان بن جرير (١٥٧) وهو ممن يدعي العلم وهو من المجبرة ـ أن الرضى والسخط والولاية والمحبة من صفات الفعل ، وأنها محدثة ، وأنه تعالى لا يسخط ولا يرضى ولا يوالي ولا يعادي إلا عند وجود الأفعال من العبد التي يستحق بها ذلك.

ذكر عن سليمان بن جرير أنه قال : إن الله تعالى لم يزل ساخطا على من علم أنه يعصيه ، وراضيا على من علم أنه يطيعه ، مواليا من لم يوجد من أوليائه ، معاديا لمن هو معدوم من أعدائه ، وأن العبد قد يكون مؤمنا والله تعالى معاد له ساخط عليه ، إذا كان ممن يكفر في آخر عمره ، ويكون راضيا عن الكافر مواليا له محبا له ، إذا كان يؤمن بالله في آخر عمره.

قال الهادي إلى الحق عليه‌السلام :

واعلم أن السخط والرضى والولاية والمحبة كما ذكرنا من صفات الأفعال ، والسخط : اسم لكراهية الفعل إذا وقع لوجود المكروه ، وكذلك الرضى هو : اسم لإرادة الفعل إذا وقع من العبد على الوجوه المرادة. وكذلك يوصف من أراد فعل غيره ، ووقع على مراده

__________________

(١٥٧) في (ب) : وله صلوات الله عليه الرد على سليمان بن جرير ، بسم الله الرحمن الرحيم

٢٠٠