مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

ـ يعني موضعا بالكوفة يقال له الكناس ـ لم يسبقه الأولون ولا الآخرون فضلا».

وفيه عنه محمد بن علي بن الحسين باقر العلم ، أن قوما وفدوا إليه فقالوا : يا ابن رسول الله ، إن أخاك زيدا فينا ، وهو يسألنا البيعة ، أفنبايعه؟ فقال لهم محمد : بايعوه ، فإنه اليوم أفضلنا.

وعنه أيضا أنه اجتمع زيد ومحمد في مجلس فتحدثوا ، ثم قام زيد فمضى ، فأتبعه محمد بصره ، ثم قال : لقد أنجبت أمك يا زيد.

وفيه ما قال جعفر بن محمد الصادق رحمة الله عليه ، لما أراد زيد الخروج إلى الكوفة من المدينة ؛ قال له جعفر : أنا معك يا عم. فقال له زيد : أو ما علمت يا ابن أخي أن قائمنا لقاعدنا وقاعدنا لقائمنا ، فإذا خرجت أنا وأنت فمن يخلفنا في حرمنا ، فتخلف جعفر بأمر عمه زيد.

وعن جعفر أيضا لما أراد يحيى بن زيد اللحوق إلى أبيه ، قال له ابن عمه جعفر : أقرئه عني السلام ، وقل له : فإني أسأل الله أن ينصرك ويبقيك ، ولا يرينا فيك مكروها ، وإن كنت أزعم أني عليك إمام فأنا مشرك.

وعنه أيضا لما جاءه خبر قتل أبي قرة الصقيل بين يدي زيد بن علي ، تلا هذه الآية : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [النساء : ١٠٠] ، رحم الله أبا قرة.

وعنه أيضا لما جاءه خبر قتل حمزة بين يدي زيد بن علي تلا هذه الآية : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٣٢].

وعنه لما جاءه قتل عمه زيد وأصحابه ، قال : ذهب والله زيد بن علي كما ذهب علي بن أبي طالب والحسن والحسين وأصحابهم شهداء إلى الجنة ، التابع لهم مؤمن ، والشاك فيهم ضال ، والراد عليهم كافر.

وإنما فرّق بين زيد وجعفر قوم كانوا بايعوا زيد بن علي ، فلما بلغهم أن سلطان الكوفة يطلب من بايع زيدا ويعاقبهم ، خافوا على أنفسهم فخرجوا من بيعة زيد ورفضوه مخافة من هذا السلطان ، ثم لم يدروا بم يحتجون على من لامهم وعاب عليهم فعلهم ، فقالوا

٦١

بالوصية حينئذ ، فقالوا : كانت الوصية من علي بن الحسين إلى ابنه محمد ، ومن محمد إلى جعفر ، ليموهوا به على الناس ، فضلوا وأضلوا كثيرا ، وضلوا عن سواء السبيل ، اتبعوا أهواء أنفسهم ، وآثروا الدنيا على الآخرة ، وتبعهم على قولهم من أحب البقاء وكره الجهاد في سبيل الله.

ثم جاء قوم من بعد أولئك فوجدوا كلاما مرسوما في كتب ودفاتر ، فأخذوا بذلك على غير تمييز ولا برهان ، بل كابروا عقولهم ، ونسبوا فعلهم هذا إلى الأخيار منهم ؛ من ولد رسول الله عليه وعليهم‌السلام ، كما نسبت الحشوية ما روت من أباطيلها وزور أقاويلها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليثبت لهم باطلهم على من اتخذوه مأكلة لهم ، وجعلوهم خدما وخولا ، كما قال الله عزوجل في أشباههم : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ) [الأعراف : ١٦٩].

وكذلك هؤلاء الذين رفضوا زيد بن علي وتركوه ، ثم لم يرضوا بما أتوا من الكبائر ؛ حتى نسبوا ذلك إلى المصطفين من آل الرسول ؛ فلما كان فعلهم على ما ذكرنا ، سماهم حينئذ زيد روافض ، ورفع يديه فقال : «اللهم اجعل لعنتك ولعنة آبائي وأجدادي ولعنتي على هؤلاء الذين رفضوني ، وخرجوا من بيعتي ، كما رفض أهل حروراء علي بن أبي طالب عليه‌السلام حتى حاربوه.»

فهذا كان خبر من رفض زيد بن علي وخرج من بيعته.

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه قال لعلي بن أبي طالب : «يا علي ، إنه سيخرج قوم في آخر الزمان ، لهم نبز يعرفون به ، يقال لهم : الرافضة ، فإن أدركتهم فاقتلهم ، فإنهم مشركون ، فهم لعمري شر الخلق والخليقة.».

وأما الوصية فكل من قال بإمامة أمير المؤمنين ووصيته ، فهو يقول بالوصية ، على أن الله عزوجل أوصى بخلقه على لسان النبي إلى علي بن أبي طالب والحسن والحسين ، وإلى الأخيار من ذرية الحسن والحسين ، أولهم علي بن الحسين وآخرهم المهدي ، ثم الأئمة فيما بينهما.

٦٢

وذلك أن تثبيت الإمامة عند أهل الحق في هؤلاء الأئمة من الله عزوجل على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن ثبت الله فيه الإمامة ، واختاره واصطفاه ، وبين فيه صفات الإمام ؛ فهو إمام عندهم مستوجب للإمامة ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ يقول : «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو خليفة الله في أرضه ، وخليفة كتابه ، وخليفة رسوله.» قال : من ذريتي ، فولد الحسن والحسين من ذرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم قال : «عليكم بأهل بيتي ، فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى ، ولن يدخلوكم في باب ردى.» ، وقال : «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق وهوى.» ، وقال : «النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهبت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون ، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون» يعني في جميع ذلك : الصالحين من ولده ، وقال صلى الله عليه وعلى أهل بيته : «من سمع واعيتنا أهل البيت فلم ينصره لم يقبل الله له توبة حتى تلفحه جهنم.» ثم قال : «من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية.».

النهي عن إمامة الظالمين

والله عزوجل قد جعل الأمر والنهي في خيار آل محمد عليه وعلى آله السلام ، وزواه عن ظالميهم وظالمي غيرهم ، ومكن أهل الحق منهم وأجازه لهم ، وذلك قوله تبارك وتعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج : ٤١] ، ثم قال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [النور : ٥٥] ، وقال سبحانه لرسله : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) [إبراهيم : ١٣ ـ ١٤] ، وقوله لإبراهيم صلى الله عليه : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] ، وعلى هذا النحو قال تبارك وتعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) [آل عمران : ٢٦] ،

٦٣

يعني الأنبياء ومن تبعهم من الأئمة الصادقين ، كقوله : (اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة : ١١٩] ، وكقول إبراهيم عليه‌السلام : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) [إبراهيم : ٣٦] ، ثم قال : (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) [آل عمران : ٢٦] ، فقد نزع الملك من الفراعنة والجبابرة ، وإنما الملك هو الأمر والنهي ، لا المال والسعة والجدة ، كما قال عزوجل عند ما قالوا : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٤٧] ، فقد بين عزوجل في هذه الآية أن الملك هو الأمر والنهي ، لا سعة المال ، ثم قال : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) [آل عمران : ٢٦] ، فقد أعز الأنبياء ومن تبعهم من الأئمة الصادقين وأوليائهم الصالحين ، وذلك قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] ، والمؤمن لا يملك من متاع الدنيا شيئا ، فسماه الله عزيزا ؛ إذ فعله ذلك يوصله إلى دار العز أبد الأبد ، ثم قال : (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) [آل عمران : ٢٦] ، فقد أذل الفراعنة ومن تبعهم من الظالمين ؛ لأنهم معتدون غير محقين.

فكل من كان في يده أمر ونهي ، وكان فعله مخالفا للكتاب والسنة فهو فرعون من الفراعنة ، وكل عالم متمرد فهو إبليس من الأبالسة ، وكل من عصى الرحمن من سائر الناس فهو شيطان من الشياطين ، وذلك قوله : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] ، ثم قال : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [الناس : ٦].

والظالم وإن اتسع في هذه الدنيا من مال غيره ، وأكثر من مظالم الناس ، ووقع عند الجاهل أنه عزيز ، فهو عند الله عزوجل وعند أوليائه ذليل ؛ لأن فعله ذلك يورده إلى دار الذل أبد الأبد ، كما قال الله عزوجل : (مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [آل عمران : ١٩٧] ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأمراء الظالمين : «طعمة قليلة وندامة طويلة.».

أعوان الظلمة

وفعل هؤلاء الظالمين وأمرهم وسلطنتهم إنما تقوم بأعوانهم الذين يتبعونهم ، ويعينونهم على ظلمهم ، وإذا تفرق الأعوان منهم وأسلموهم لم تقم لهم دولة ، ولا تثبت لهم راية ،

٦٤

فمتى كثرت جماعتهم تقووا بهم على باطلهم ، واستضعفوا المستضعفين من خلق الله ، وأمهل لهم ربهم وتركهم ، ولم يحل بينهم وبين من يظلمونهم ؛ إذ كلّ ظالم ، القوي والمستضعف ، وذلك قوله عزوجل : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الأنعام : ١٢٩] ، وقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) [مريم : ٨٣] ، يقول : خليناهم عليهم ، كما قال : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) [الإسراء : ٥٠] ، وكما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم ، حتى إذا بلغ الكتاب أجله كان الله المنتصر لنفسه ، فيقول : ما منعكم إذ رأيتموني أعصى أن لا تغضبوا فيّ.».

فمن هذه الجهة ترك الظالمين ولم يأخذهم ؛ لأن الرعية في ظلمهم وتظالمهم فيما بينهم أصناف :

فقوم يقولون على الله بالجبر والتشبيه ، وينفون عنه العدل والتوحيد ، وينسبون إليه عزوجل أفعال العباد ، ويقولون : إن هذا الذي نزل بهم بقضاء وقدر ، ولو لا أن الله قضى عليهم بهذا الظلم الذي نزل بهم من هؤلاء الظالمين ما إذا قدر الظالم أن يظلمهم ، غير أن هذا الظلم مقدر عليهم عند الله على يدي هذا الظالم. فإذا كانت معرفتهم هذه المعرفة ، وكان معبودهم الذي يزعمون أنهم يعبدونه هذا فعله بهم ؛ فمتى يصل هؤلاء إلى معرفة الخالق ، ومتى يدعونه ويستعينون به على ظالمهم؟ إنما هم يدعون هذا الذي يزعمون أنه قضى عليهم بهذا الظلم وقدره ، ولهذا يصلّون ، وله يصومون ويحجون ، وبه في جميع ما ينزل بهم من الظلم والجور والمصائب في المال والولد والبدن يستغيثون به على دفع هذه المضار والبلوى التي نزلت بهم. فهم يعبدون صورة مصورة ، وعلى هذا النحو أسلمهم ربهم ، وتركهم من التوفيق والتسديد ، وخذلهم ولم ينصرهم على ظالمهم ، وكيف ينصرهم على ظالمهم وهو المقدر لهذا الظالم عليهم الذي نزل بهم؟ فهو الذي يدعونه بزعمهم.

أما إنهم لو أنصفوا عقولهم ، وعرفوا الله عزوجل حق معرفته ، ونفوا عنه ظلم عباده ، كما نفاه عزوجل عن نفسه ، ثم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ودعوا ربهم حينئذ على ظالمهم ؛ إذا لاستجاب لهم دعوتهم ، وكشف ما بهم من الظلم والجور ، وذلك قوله عز

٦٥

وجل : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] ، وقال : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم : ٤٧] ، (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس : ١٠٣].

مجموعة من المفاهيم الأصولية

الهدى

قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

الهدى من الله عزوجل هديان : هدى مبتدأ ، وهدى مكافأة.

فأما الهدى المبتدأ : فقد هدى الله به البرّ والفاجر ، وهو العقل والرسول والكتاب. فمن أنصف عقله وصدق رسوله وآمن بكتابه وحلل حلاله وحرم حرامه ؛ استوجب من الله الزيادة بالهدى الثاني ؛ جزاء على عمله ، ومكافأة على فعله ، كما قال عزوجل : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧] ، وقال : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [مريم : ٦٧].

ومن كابر عقله وكذب رسوله ورد كتابه ؛ استوجب من الله الخذلان ، وتركه من التوفيق والتسديد ، وأضله وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ، وذلك قوله تبارك وتعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) عني الهدى الثاني ، (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) ، يقول : ومن يرد أن يوقع اسم الضلال عليه ، بعد أن استوجب بفعله القبيح : (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٢٥] ، فقد بين عزوجل في آخر الآية أنه لم يضله ، ولم يضيق صدره إلا بعد عصيانه وكفره وضلاله ؛ لأنه يقول : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ، ولم يقل إنه يجعل الرجس على الذين آمنوا.

ثم قال : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) [الجاثية : ٢٣] ، (كما اتخذ إلهه هواه أوقع عليه اسم الضلال ، وسماه ودعاه بعد أن اتخذ إلهه هواه وختم على سمعه) ، وتركه من التوفيق والتسديد وخذله ، ولم يؤيده ولم يسدده كما أيد وسدد الذي عبده ، عزوجل.

٦٦

ثم قال : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [النحل : ٩٣ ، فاطر : ٨].

ثم قال : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦] ، وقال : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) [غافر : ٧٤] ، (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) [غافر : ٣٤] ، (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر : ٣٥].

الضلال

قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

الضلال في كتاب الله عزوجل على وجوه :

فوجه منها : قول الله تبارك وتعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٥] ، يقول : إنهم ضلوا عن سواء السبيل ، وهم النصارى.

والوجه الثاني : قوله سبحانه : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى : ٧] ، يقول عن شرائع النبوة ، فهداك الله.

وقال موسى : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٢٠] ، يقول : من الجاهلين بعاقبة فعلي. وقال أولاد يعقوب : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [يوسف : ٨] ، يقولون : جاهل عند ما يؤثر يوسف علينا ، ونحن أنفع له من يوسف صلى الله عليه.

والوجه الثالث : قوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) [البقرة : ٢٨٢] ، أي تنسى إحداهما الشهادة فتذكر إحداهما الأخرى.

والوجه الرابع : قوله : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ١ ، ٨] ، يقول : أبطل أعمالهم.

والوجه الخامس : قوله سبحانه ، في قصة فرعون والسامري ، حيث يقول : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [طه : ٧٩] ، يقول : أغواهم وأرداهم ولم يرشدهم.

والوجه السادس : قوله سبحانه : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) [الجاثية : ٢٣] ، وقوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [النحل : ٩٣ ، فاطر : ٨] ، و (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم : ٢٧] ، و (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) [غافر : ٣٤] ، ونحو هذا في القرآن كثير ، يعني في جميع ذلك : أنه يوقع عليه اسم الضلال ، ويدعوه به بعد العصيان والطغيان ، لا أنه يغويهم عن الصراط المستقيم ، كما أغوى وأضل فرعون قومه.

٦٧

وإن اشتبه اللفظ فمعناه متباين مفترق عند أهل العلم ، إذ الله عزوجل رحيم بعباده ، ناظر لخلقه ، وفرعون لعين ملعون مضل غوي ، وهو عزوجل قد عذب فرعون على فعله وضلاله ، وقبح سوء فعله بنفسه وقومه ، وكيف يغوي خلقه ويضلهم ولا يرشدهم ، ثمّ يعذبهم على فعله؟ إذا لكان لهم ظالما ، وعليهم متعديا ، وهو مع ذلك يعيب على من فعل مثل هذا الفعل ، إذ يقول عزوجل : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [النساء : ١١٢] ، وبعث إليهم الرسول ، وأنزل عليهم الكتاب ، ثم قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة : ٢٠٨] ، فأمرهم أن يدخلوا كلهم في الإسلام والإيمان. فلو كان كما يقول الجاهلون إنه هدى قوما وأضل قوما ولم يهدهم ؛ لم يكن لقوله : (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) معنى ، إذ كان عزوجل بزعمهم أدخل قوما في الإسلام ، وحال بين قوم وبين الدخول في الإسلام ، فما معنى قوله لقوم داخلين في الإسلام : ادخلوا ؛ وهم داخلون ، كما لا يقول لقائم : قم ؛ وكما لا يقول لجالس : اجلس. ويقول لقوم حال بينهم وبين الدخول في الإسلام ، كما لم يقل لمقعد : قم ؛ ولا لأعمى : أبصر.

وهو عزوجل قد فرض الجهاد على جميع الناس ، فقال : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة : ٤١] ، ثم قال لمن أعمى بصره ولم يعطه من القوة ما أعطى غيره : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) [النور : ٦١ ، الفتح : ٧١] ، فعذره في تخلفه عن الجهاد ؛ إذ لم يقدره على ذلك.

وقال سبحانه : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] ، فلو كان عزوجل فعل لهم ما يقول المبطلون ، لكان من عصى وكفر وظلم وقتل أنبياءه وأولياءه ، وقال عليه بالزور والبهتان معذورا عنده سبحانه ، ساعيا في قضائه وقدره ، ولم يكن يوجد على الأرض عاص ، إذ كان المطيع يسعى بقضاء الله وقدره ، وكان العاصي كذلك يسعى ببعض قضائه وقدره ؛ إذ يزعمون أنه خلق قوما للجنة وخلق قوما للنار ، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا وخسروا خسرانا مبينا.

العبادة

قال يحيى بن الحسين ، صلوات الله عليه :

٦٨

تفسير العبادة على ثلاثة أوجه :

فوجه منها : قول الله تبارك وتعالى : (يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، يقول : لا تطيعوه (وَأَنِ اعْبُدُونِي) [يس : ٦٠] ، يقول : أطيعوني ، وليس على وجه الأرض أحد يصلي للشيطان ولا يصوم له ، بل كلهم يجمعون على لعنته ، غير أنهم يعملون عمله ، ويسعون في مرضاته ، ويساعدونه على إرادته ، فجعل الله عزوجل فعلهم ذلك للشيطان طاعة وعبادة ، وذلك أن كل مطاع عنده عزوجل معبود.

وكذلك قال رب العالمين في قصة إبراهيم الخليل صلى الله عليه حيث يقول لأبيه : (لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) [مريم : ٤٤] ، وقال فرعون اللعين : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) [المؤمنون : ٤٧] ، يقول : مطيعون.

وقال : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١] ، فكل من أطاع عدوا من أعداء الله وعاضده أو كاتفه فقد أشرك بعبادة ربه غيره.

وقال عزوجل : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء : ٨٩] ، يعني : العابد والمعبود من الجن والإنس ، لا أنه يعني أنه يعبد المعبودات من الجماد ، وذلك أن الجماد هو كما قال إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبيه : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] ، فضرر عبادة الصنم لا يعدو صاحبه ، وهو مأخوذ بفعله معاقب على عمله ، وضرر عبادة شياطين الإنس والجن على عابده وعلى الإسلام والمسلمين ، وذلك أن الصنم جماد ، والجماد لا يفتق ولا يرتق ، ولا يأمر ولا ينهى ، وشيطان الإنس يأمر من تبعه وأطاعه بقتل المسلمين ، وهتك حرمتهم ، وأخذ أموالهم ، ويأمرهم بالفسق والفجور ، والقول على الله بالزور والبهتان وبطاعة إبليس اللعين.

الإرادة

قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

٦٩

الإرادة من الله عزوجل في خلقه على معنيين :

إرادة حتم وجبر وقسر : وهي إرادة الله عزوجل في خلق السماوات والأرض وما بينهما من الخلق من الملائكة والجن والإنس والطير والدواب وغير ذلك. إرادة حتم وجبر ، فجاء خلقه كما أراد ، لم يمتنع منه شيء ، ولم يغلبه شيء من الأشياء كما قال عزوجل : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] ، وقال : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ، يقول : كوّنهما فكانتا ، من غير مخاطبة ولا أمر ، وذلك أن الله عزوجل لم يخاطب أحدا من خلقه إلا ذوي العقول من الملائكة والجن والإنس ، وسائر خلقه حيوان لا عقول لها ، وجماد لا روح فيه ، وإنما خاطب الله عزوجل أهل العقول ، وأمرهم ونهاهم ، وأرسل إليهم الرسل ، وأنزل عليهم الكتب ، وبين لهم الحلال والحرام ، فمن أطاع وائتمر بأمره وانتهى عن نهيه استوجب من الله الحفظ والحياطة في دنياه الفانية ، والثواب الجزيل في آخرته الباقية ، ومن عصاه منهم عذبه في الدنيا والآخرة. والذي لا عقل له من خلقه لا يجب له ثواب ولا عليه عقاب.

قال عزوجل : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] ، يقول : إذا كوناه كان بلا كلفة ولا اضطراب ، ولا تحيل ولا إضمار ولا تفكر ، ولا تتقدم إرادته فعله ، ولا فعله إرادته ، بل إرادته للشيء إيجاده وكونه ، وإذا أراده فقد كونه ، وإذا كونه فقد أراده ، لا وقت بين إرادته للشيء وكونه.

والإرادة الثانية من الله عزوجل : إرادة تخيير وتحذير ، معها تمكين وتفويض ، أراد من خلقه الإيمان على هذا الوجه ؛ لأنه لو أراد منهم الإيمان على نحو ما أراد خلقهم ؛ ما إذا قدر واحد من خلقه أن يخرج من الإيمان إلى الكفر ، كما لا يقدرون أن يتحولوا من صورهم إلى صور غيرهم من الخلق ، ولكن ركب فيهم العقول ، وأرسل إليهم الرسول ، وهداهم النجدين ، ومكنهم من العملين ، ثم قال : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] ، وقال : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] ، وقال : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧] ، فدل على أنه هداهم ، واستحبوا هم العمى على الهدى اختيارا من أنفسهم واستحبابا ، ثم قال : (اعْمَلُوا

٧٠

ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] ، لو لا أن لهم مشيئة لم يقل : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) ثم قال : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) [الكهف : ٧٧] ، لو لا أن موسى صلى الله عليه علم أن للعالم فيما يريد مشيئة ما قال : (لَوْ شِئْتَ) ، ثم قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) [النحل : ١٠٧] ، قال : استحبوا هم لأنفسهم ، ثم قال : (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) [الحشر : ٩] ، وقال : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] ، وقال : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) [الأنفال : ٦٧] ، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) [التوبة : ٣٢] ، (يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) [النساء : ٩١].

ثم قال سبحانه : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) [التوبة : ٤٢] ، فرد عليهم رب العالمين : (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [التوبة : ٤٢] ، فبين عزوجل أنهم قادرون على الخروج مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي هذا القرآن من هذا النحو كثير.

ثم قال الله عزوجل : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ، لو لا أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدر على أن يحب لم يقل له ربه : (مَنْ أَحْبَبْتَ) ، ثم قال : (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] ، وقال : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [السجدة : ١٣] ، وقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩] ، وقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) [هود : ١١٣] ، وقال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [الأنعام : ٣٥] ، وقال : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩] ، يعني عزوجل في هذه الآيات كلها وما أشبهها أنه سبحانه لو شاء أن يجبرهم على الإيمان والهدى مشيئة حتم وجبر ويقسرهم عليه لأمكنه ذلك ، وما قدر واحد من خلقه أن يخرج مما حتم عليه وجبره وقسره ؛ إذ كان محمد يعجز عن قسرهم على الإيمان ، فقال له ربه : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) [آل عمران : ٢٠] ، فقد أبلغت وأديت ونصحت ، وعرفتهم بما ينفعهم ، (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ، فتريد أن تقتل نفسك : (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف : ٦] ، يقول : حزنا عليهم وشفقة ، فذرهم : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل : ١٢٧] ، فقال : مما يمكرون ، ولو لا أنهم يقدرون على المكر والخديعة والمعصية ما قال : يمكرون.

٧١

ثم قال في أهل الجنة : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأنعام : ١٣٢] ، (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الواقعة : ٢٢ ـ ٢٤] ، ثم قال : في أهل النار : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام : ٩٣] ، وقال : (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) [فصلت : ٢٨] ، و (يَصْنَعُونَ) (٣٦) ، و (يَمْكُرُونَ) (٣٧) ، و (يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٨) ، و (يَسْخَرُونَ) (٣٩) ، و (يَخْدَعُونَ) (٤٠) ، و (يُكَذِّبُونَ) (٤١) ، و (يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) (٤٢) ، و (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٤٣) ، كل هذا اختيار من أنفسهم.

الإذن

قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

الإذن في كتاب الله على وجهين : علم ، وأمر :

[الإذن الأول] : قال الله عزوجل : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [التغابن : ١١

__________________

(٣٦) المائدة : ١٤ ، ٦٣ ؛ والنحل : ١١٢ ؛ والنور : ٣٠ ؛ وفاطر : ٨.

(٣٧) الأنعام : ١٢٣ ، ١٢٤ ؛ ويوسف : ١٠٢ ؛ والنحل : ١٢٧ ؛ والنمل : ٧٠ ؛ وفاطر : ١٠.

(٣٨) الأنعام : ٥ ، ١٠ ؛ وهود : ٨ ؛ والحجرات : ١١ ؛ والنحل : ٣٤ ؛ والأنبياء : ٤١ ؛ والشعراء : ٦ ؛ والروم : ١٠ ؛ ويس : ٣٠ ؛ والزمر : ٤٨ ؛ وغافر : ٨٣ ؛ والزخرف : ٧ ؛ والجاثية : ٣٣ ؛ والأحقاف : ٢٦.

(٣٩) البقرة : ٢١٢ ؛ والصافات : ١٢.

(٤٠) البقرة : ٩.

(٤١) المطففين : ١١ ؛ والانشقاق : ٢٢.

(٤٢) البقرة : ٦١.

(٤٣) آل عمران : ٢١.

٧٢

] ، يقول : بعلم الله ، ويقول : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ١٠٢] ، يقول : بعلم الله ، ويقول : (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) [الأنبياء : ١٠٩] ، يقول : أعلمتكم ، وقال : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة : ٢٧٩] ، يقول : اعلموا أنكم إن لم تقلعوا من الربا صرتم حربا لله ولرسوله.

والإذن الثاني : إذن أمر ، قال الله عزوجل : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [يونس : ١٠٠] ، يقول : بأمر الله ، لو لا أن الله أمرها بالإيمان لم تؤمن ، ولكن جعل في الإنسان العقل ثم أمره بالإيمان فآمن بإذن الله وأمره.

الكفر

قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

الكفر في كتاب الله على معنيين :

أحدهما : كفر جحود وإنكار وتعطيل ، وذلك قول الله سبحانه يحكي عن قوم من خلقه : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] ، فهؤلاء الدهريون المعطلون ، الزنادقة ، الملحدون.

والكفر الثاني : كفر النعمة ، وذلك قوله سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم : ٧] ، يقول : حكم الله لشاكر النعمة بالزيادة ، ولكافر النعمة بالعذاب الأليم.

ثم قال : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤] ، والكافر فهو كل من ارتكب معاصي الله وخالف أمره وضاد حكمه ، فهو كافر لنعم الله معاند لله تجب البراءة منه والمعاداة له ، كما قال الله سبحانه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة : ٢٢] ، فحرم الله موادة من كان لله عاصيا وله معاندا.

٧٣

الشرك

قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

الشرك في كتاب الله على وجوه.

[الوجه الأول] : قال الله عزوجل : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] ، فالمشرك من عبد مع الله غيره كائنا ما كان ، من الجمادات والحيوان ، فالجماد مثل ما كان المشركون يعبدون في الجاهلية من الأصنام ، من حجر أو عود أو نجم ، ويقولون إذا سئلوا عن عباداتهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، وقوم منهم على وجه التقليد يقولون : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣].

والوجه الثاني من الشرك : فهو كما قال الله عزوجل : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) [فصلت : ٦ ـ ٧] ، فسماهم مشركين بتركهم لأداء زكاتهم.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مانع الزكاة وآكل الربا حرباي في الدنيا والآخرة» ، ومن كان حربا للنبي فهو مشرك ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقبل الله صلاة إلا بزكاة ، كما لا يقبل صدقة من غلول.» ، يعني أنه إذا غل الإنسان زكاة ماله ثم تصدق ببعض ماله أو بكله أن تلك الصدقة لا تقبل ، وقال : «لا تقبل صلاة إلا بزكاة.» وقال : «الزكاة قنطرة الإسلام.».

والوجه الثالث من الشرك : أنه من أطاع عدوا من أعداء الله فهو مشرك بالله ، كما قال الله سبحانه : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١] ، فمن أطاع شيطانا من الشياطين ـ كان المطاع ظالما أو عالما متمردا ـ فقد عبده.

والوجه الرابع من الشرك : فقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مدمن الخمر كعابد وثن.» ، قيل : وما مدمنه يا رسول الله؟ قال : «الذي كل ما وجده شربه ، ولو كان في كل عام مرة» ، فجعل شارب الخمر كعابد الحجر ، والخمر فهو : ما خامر العقل فأفسده ، كان من عنب أو زبيب ، أو تمر أو عسل ، أو ذرة أو شعير ، وكل ما أسكر فهو حرام

٧٤

لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أسكر كثيره فقليله حرام.» ، وقال الله عزوجل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : ٢١٩] ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يتعاملون في الخمر والميسر فيربحون فيهما ؛ فقال لهم ربهم : (إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) ، فالخمر هو ما خامر العقل فأفسده ، والميسر فهو القمار كله ، من نرد أو شطرنج ، أو لهو ، ثم قال عزوجل : (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) [الأنعام : ١٤٥] ، والرجس ، والإثم في كتاب الله محرمان ، قال الله عزوجل : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً) [الأنعام : ١٤٥] ، فجعلها مثل الدم المسفوح ولحم الخنزير ، وقال : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) [الأعراف : ٣٣] ، فذكر أن الإثم محرم ، فلما نزلت الآية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تحريم الخمر كان قوم من أصحابه يشربونه قبل التحريم ؛ فقالوا : يا رسول الله فكيف بصلاتنا وإخواننا الذين كانوا يشربون الخمر حتى ماتوا؟ فأنزل الله على رسوله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا) [المائدة : ٩٣] ، يقول : ليس عليهم جناح فيما شربوا قبل التحريم إذا تركوه من اليوم وأقلعوا منه ، فكانت هذه الآية إلى آخرها معذرة للماضين ، وحجة على الباقين ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حقيق على الله من ملأ جوفه في هذه الدنيا خمرا أن يملأه الله يوم القيامة جمرا إلا من تاب وآمن.» ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «جمعت الشرور في بيت ، ثم كان مفتاحه الخمر.».

وأما قوله سبحانه : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] ، يعني سكر النوم ، وذلك أن قوما من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يصلون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة العشاء (٤٤) ثم يجلسون ينتظرون العتمة ، فإذا جاءت العتمة قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي بهم ، فيقومون وراءه وليس هم يدرون ما يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما بهم من الغلبة والسكر والنوم ، فنهاهم الله عن الصلاة وهم في

__________________

(٤٤) يعني الأولى التي هي المغرب.

٧٥

ذلك حتى يعلموا ما يقولون ؛ لأن الله عزوجل لم يحل لأحد من خلقه خمرا قط.

الزكاة

قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

وأما الزكاة فواجبة على الإنسان في ماله إذا بلغ من الطعام خمسة أوسق في سنته وجب عليه أن يخرج عشر ما وقع من الطعام ، والوسق : ستون صاعا ، والستون صاعا : عشرون مكوكا ، ثم ما زاد على ذلك فبحساب ذلك ، كانت زيادتها قليلا أو كثيرا.

وأما الماشية ففي أربعين شاة شاة ، وفي ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة ، وفي خمس من الإبل شاة ، وفي عشر شاتان ، وفي خمس عشرة ثلاث شياة ، وفي عشرين أربع شياة ، وفي خمس وعشرين ابنة مخاض ، وفي ست وثلاثين ابنة لبون ، فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة ، وإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة شاة ، وإذا كثرت البقر ففي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة ، وفي كل أربعين مسنة.

وفي الذهب والفضة كائنا ما كان من نقد أو حلي أو دين أو صداق ، فإذا حال على وزن عشرين مثقالا ذهبا ففيه ربع عشره ، وما زاد على العشرين فبحساب ذلك.

وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم قفلة ، وحال عليها الحول وجب فيها ربع عشرها.

وأما العطب ، والقضب ، والثمار ما لم يكن يكال ، فإذا باع صاحبها في سنته بمائتي درهم قفلة أخرج عشرها.

والزكاة كلها إلى إمام المسلمين من ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يحكم بكتاب الله رب العالمين ، ويسير في رعيته بسيرة جده خاتم النبيين ، لقول الله عزوجل لرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة : ١٠٣] ، ثم أمر خلقه أن يدفعوا إليه ، فقال : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا) [الأنعام : ١٤١] ، يقول لا تدفعوا إلى غير المحق ، فإذا عدمت الرعية هذا الإمام ، ولم يوجد على ظاهر الدنيا في شرقها وغربها وجب عليهم أن يقسموها بين خمسة أصناف من المسلمين : بين الفقراء ، والمساكين ، وابن السبيل ، والغارم ، وفي الرقاب ، ويتركوا الثلاثة : العاملين عليها ،

٧٦

وهم الذين يقبضون الزكاة من الرعية لإمام المسلمين ؛ والمؤلفة قلوبهم ، وهم الذين لا يلحقون إمام المسلمين إلا بشيء يعطيهم ، ولا غناء للإمام عنهم يتألفهم بهذه الزكاة ؛ وفي سبيل الله.

فالسبيل هو : القتل والقتال وصلاح الإسلام والمسلمين.

فأما الفقير : فهو رجل ليس له مال ، وله عولة ، ومنزل وخادم ، فيجب له أن يأخذ من هذه الزكاة ما يقوم به وبعوله.

والمسكين : فهو الذي يدور ويطلب وليس معه شيء.

وابن السبيل : مار الطريق يحتاج إلى زاد وكسوة أو كراء.

وفي الرقاب : رجل يكون له عبد فيكاتبه على أنه يدفع إليه شيئا معروفا يتراضيان عليه ، العبد والمولى ، فيجب على صاحب الزكاة أن يعين هذا العبد على فك رقبته ، وذلك قول الله تبارك وتعالى : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) [النور : ٣٣] ، ثم قال لأصحاب الزكاة : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) [النور : ٣٣] ، فأمرهم أن يغيثوا المكاتبين من أموال الله التي آتاهم ، فلا يجوز لأحد من المسلمين أن يدفع هذه الزكاة إلى هؤلاء المسلمين من الفقير والمسكين وابن السبيل والغارم والمكاتب ، إلا أن يكونوا عارفين بالله عزوجل وبحدوده ، وأعدائه وأوليائه ، فيوالون أولياءه ، ويعادون أعداءه ، ويحلون حلاله ، ويحرمون حرامه ، ولا يتعدون حدا من حدوده ؛ وجب لهم حينئذ الزكاة. وإذا لم يكونوا على هذه الصفة لم يجب لهم من الزكاة شيء وإن كانوا معدمين فقراء ؛ لأن الله عزوجل جعل هذه الزكاة لعباده المسلمين وأوليائه الصالحين لأن يتسعوا فيما رزقهم الله ، ويستغنوا بفضل الله الذي أفضل عليهم ؛ ويثيب أهل الأموال فيما أخرجوا من زكوات أموالهم لأن يستعين كل بنعمة الله وفضله.

حرمة الزكاة على الظالم

فإذا كان الفقير على غير الاستواء ثم دفع صاحب الزكاة إليه شيئا من المال ، فقد قواه على فسقه وفجوره وطغيانه ، وكان له شريكا في عصيانه ، كدأب الذين يعينون الظالمين ، ويقيمون دولتهم بزرعهم وتجارتهم ، وينصرونهم على قتل المسلمين وهتك حريمهم وأخذ

٧٧

أموالهم ، ولو لا التجار والزارعون ما قامت للظالمين دولة ، ولا ثبتت لهم راية ، ولذلك قال الله تبارك وتعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود : ١١٣] ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله بعثني بالرحمة والملحمة ، وجعل رزقي في ظلال رمحي ، ولم يجعلني حراثا ولا تاجرا ، ألا إن شرار عباد الله الحراثون والتجار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق.» ؛ لأن الحراثين يحرثون والظالمين يلعبون ، ويحصدون وينامون ويجوعون ويشبعون ، ويسعون في صلاحهم وهم يسعون في هلاك الرعية ، فهم لهم خدم لا يؤجرون ، وأعوان لا يشكرون ، فراعنة جبازون ، وأهل خنا فاسقون ، إن استرحموا لم يرحموا ، وإن استنصفوا لم ينصفوا ، لا يذكرون المعاد ، ولا يصلحون البلاد ، ولا يرحمون العباد ، معتكفون على اللهو والطنابير ، وضرب المعازف والمزامير ، قد اتخذوا دين الله دغلا ، وعباده خولا ، وماله دولا ، بما يقويهم التجار والحراثون ، ثم هم يقولون : إنهم مستضعفون ، كأن لم يسمعوا قول الله تبارك الله وتعالى فيهم وفيمن اعتل بمثل علتهم ؛ إذ يحكي عنهم قولهم : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) [النساء : ٩٧] ، وقال سبحانه : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) [النساء : ١٠٠] ، يقول : من هاجر من دار الظالمين ولحق بدار الحق والمحقين ، رزقه الله من الرزق الواسع ما يرغم أنف من ألجأه إلى الخروج من وطنه ، وذلك ما يروى عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، أنه كان يقول : «يروى أن الله عزوجل يجعل أعوان الظالمين يوم القيامة في سرادق من نار ، ويجعل لهم أظافير من حديد يحكون بها أبدانهم حتى تبدوا أفئدتهم فتحرق ، فيقولون : يا ربنا ألم نكن نعبدك؟ قال : بلى ، ولكنكم كنتم أعوانا للظالمين.» ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ملعون ملعون من كثر سواد ظالم».

وفي معاداة الظالمين ما يقول الله عزوجل : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة : ٤] ، فباين إبراهيم والذين معه آباءهم وأبناءهم وإخوانهم الذين باينوا الله بالعداوة ، وكذلك يجب على كل مؤمن أن

٧٨

يقتدي بفعلهم.

المحكم والمتشابه

قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

اعلم أن القرآن محكم ومتشابه ، وتنزيل وتأويل ، وناسخ ومنسوخ ، وخاص وعام ، وحلال وحرام ، وأمثال وعبر وأخبار وقصص ، وظاهر وباطن ، وكل ما ذكرنا يصدّق بعضه بعضا ، فأوله كآخره ، وظاهره كباطنه ، ليس فيه تناقض ، وذلك أنه كتاب عزيز ، جاء من رب عزيز على يدي رسول كريم ، وتصديق ذلك في كتاب الله حيث يقول : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] ، ويقول : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : ٢١] ، ويقول : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].

فإذا فهم الرجل ذلك أخذ بمحكم القرآن ، وأقر بمتشابهه أنه من الله ، كما قال الله سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) [آل عمران : ٧] ، ثم بين عزوجل لأي معنى تركوا المحكم وأخذوا بالمتشابه ؛ قال : لابتغاء الفتنة والهلكة ، فلذلك جعل المحكم إماما للمتشابه ، كما جعله حيث يقول : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ).

فالمحكم كما قال الله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤] ، و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، و (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] ، ونحو ذلك ، والمتشابه مثل قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢] ، معناها بين عند أهل العلم ، وذلك أن تفسيره عندهم. أن الوجوه يومئذ تكون نضرة مشرقة ناعمة ، إلى ثواب ربها منتظرة ، كما تقول : لا أنظر إلا إلى الله وإلى محمد ، ومحمد غائب ، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، معناه : لا يبشرهم برحمته ، ولا ينيلهم ما أنال أهل الجنة من الثواب ، فعند ما لا ينظر الله إليهم يوم القيامة يراهم.

٧٩

ثم قال : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) ، يقول : ثواب ربه ، (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) [الكهف : ١١٠] ، وقال : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥].

وأما الله عزوجل فلا يرى في الدنيا ولا في الآخرة ، وذلك أن ما وقع عليه البصر فليس بخالق ولا قادر.

وكذلك يأخذ الإنسان في العدل والتوحيد بهذه الآيات : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨] ، (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧] ، وإذا مر عليه شيء من القرآن يقع عنده أنه مخالف لهذه الآية فليعلم أن تفسيره مثل تفسير المحكم ، إلا أنه جهل تفسيره ، مثل قول الله عزوجل : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) [الإسراء : ٤] ، أي : تختارون اسم الفساد ، كما قال : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) [الحجر : ٦٦] ، يقول : أعلمناه.

والوجه الثاني في القضاء : أمر ، كما قال سبحانه : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣].

والوجه الثالث : قضاء خلق ، وذلك قوله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ١٢] ، يقول : خلقهن في يومين ، فأما أن يكون يقضي رب العالمين على خلقه بمعصية ثم يعذبهم عليها ، فهذا محال باطل من المقال.

ثم قال : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) [المائدة : ٦٠] ، فتفسيرها على التقديم والتأخير. يقول : قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وعبد الطّاغوت أولئك شرّ مكانا ، وجعل منهم القردة والخنازير خارج من الكلام.

ثم قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) ، بيانها في أولها حيث يقول : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) [المائدة : ٤١] ، بعد ما كان من عصيانهم ، ومن مخالفتهم للحق وأهله.

ثم قال عزوجل : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ

٨٠