مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

العسكر إليهما وهو يهزهما ، وهو حديد عجل الكلام قد أزيد على بني إسرائيل أسفا وغيظا وغيرة على من عصى الله ، وشدة في ذات الله عزوجل ، فلما رأت ذلك بنوا إسرائيل اجتمعوا إليه وقالوا : نجدد البيعة ، والعهد لله ، ونصح التوبة. فاصطفوا للصلاة والدعاء ، وبسط نبي الله كساه ، وكان لهم دليلا على قبول توبتهم أن تجتمع فيه ألوان شتى ، فيعلمون أن قد قبلت توبتهم.

في سحر يوم الجمعة عند انفلاق الفجر أمر موسى بالبوق فنفخ ، وهو أول من أحدث أبواق الصفر ؛ وذلك أن عساكره شكوا إليه أنهم لا يشعرون بحركته فألهمه الله لأبواق الصفر ، وقيل والجباجب (٥٤٠) أيضا ، ثم سار موسى صلى الله عليه بهم واصطفوا بعد التوبة للقتال فثبتت أقدامهم ، وانقلب العدو على أعقابهم مدبرين ، فمنح الله أكتافهم ، وغلب جند الله كما قال سبحانه : (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧٣]. فلما دخل عليه‌السلام القرية انبعث إليه بلعام بن باعورا وهو دالع لسانه ، قد ختم على فيه من الكلام وهو يلهث كما يلهث الكلب ، والخلائق ينظرون كيف غيّر أمر الله فغير الله به. فأقام عبرة ومنظرة للعالمين أياما على حاله ، ثم قضى عليه الموت فذكر الله ذلك لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف : ١٧٥].

قال القوم : فعلمنا أن الهادي رحمة الله عليه قد أزكن (٥٤١) أن انقلابنا على أعقابنا تلك العشية كان لسوء فعلنا.

__________________

(٥٤٠) الطبل.

(٥٤١) الزكن : ظن بمنزله اليقين عندك ، أو طرف من الظن. القاموس.

٥٤١

وصف لسيرة الهادي عليه‌السلام

وحدثنا محمد بن سعيد اليرسمي (٥٤٢) وزير الهادي رحمة الله عليه قال :

ولما نزل الهادي صعدة كان محله في دار الإمارة ، فكان يصلي بالناس الصلوات الخمس بالجماعة لا يقطع ذلك ليلا ولا نهارا ، ويجلس ما بين الصلاتين ، فيعظ الناس ويعلمهم فرائض الدين ، وفرائض المواريث ، ويتحاكمون إليه ، ويبين لهم ما يحتاجون إليه. ثم ينهض فيدور في الأسواق والسكك ونحن معه. فإذا رأى جدارا مائلا أمر أهله بالإصلاح له ، أو طريقا وعثا أمر بتنقيته ، أو خلفا مظلما أمر أهله أن يضيئوا فيه بالليل للمارّ والسالك إلى المساجد. وإن رأى امرأة أمرها بالحجاب ، فإن كانت من القواعد أمرها بالسترة ، وهو أحدث للنساء البراقع باليمن وأمرهن بذلك.

وكان يقف على كل أهل بضاعة فيأمرهم أن لا يغشوا بضائعهم ، ويأمرهم بتنقيتها من الغش وتفصيل ما يبيعون ، وإيفاء ما يسمون.

فقالوا له أليس التسعير حراما؟

فقال : أو ليس الغش حراما ، والظلم كذلك؟

قالوا : بلى.

قال : فإنما نهي عن التسعير على أهل التقى ، وأهل العفة ، فإذا ظهرت الظلامات والنجش (٥٤٣) في البيوع والنقص وجب على أولياء الله سبحانه أن ينهوا عن الفساد كله ، ويردوا الحق في مواضعه ، ويزيحوا الباطل عن مكانه ويأخذوا على يد الظالم عن ظلمة.

__________________

(٥٤٢) محمد بن سعيد اليرسمي ، كان فاضلا ناسكا مجاهدا ، صحب الإمام الهادي عليه‌السلام وكان من زعماء أصحابه الكرام ووجوههم ، وأحد مستشاري الإمام أحمد الناصر بن الإمام الهادي عليه‌السلام.

(٥٤٣) النّجش : قال في اللسان : قال أبو عبيد : هو أن يزيد الرجل ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها ، ولكنه ليسمعه غيره فيزيد بزيادته ، وهو الذي يروى فيه عن أبي الأوفى : الناجش آكل ربا خائن.

٥٤٢

قال : وكان يقف على السجن ثم يدخله ويأمر بتنقيته ، ويأمر من كان فيه قارئا أن يعلم من كان فيه لا يقرأ ، ويسألهم عن قصصهم وفيم حبسوا. فمن كان محبوسا في دين نظر في جدته وإفلاسه ، ومن كان مذنبا تفقد جرمه وأمره ، ويفحص عن أحوالهم ثم يرجع وقد أمر ونهى في جميع المصر. فأقام على ذلك أشهرا ما يفتر عن مواعظه ، وصدقاته ، وعيادته للمرضى ، وتنبيهه للقلوب ، ودعائه إلى الله عزوجل في السر والعلانية ، حتى إن اهل الفسوق والظلم طمعوا فيه لما رأوا من ابتذاله نفسه في ناديهم وبين منازلهم ، وفي خروجه بالأسحار إلى المسجد. فتبايع فساق على إصابته غيلة فلم يجسروا عليه ، فاشتوروا أن يقتعدوا له في صومعة المسجد ، وكان ذلك رأيهم ، فلما خرج صلى الله عليه عجلوا فرموه قبل دخوله المسجد وأخطأه السهم الأول ، وقد دخلت رجله المسجد ، واندفع بكله فولج باب المسجد فأصيب الباب بالنبل ، ووقع في كساء كان عليه سهمان ، وسلمه الله. فسكت حتى صلى بالناس وأسفر ، ثم أخبرهم فخرجوا فالتقطوا النبل من باب المسجد ، ثم قال :

اللهم إني أمّلت أن أسير فيهم بسيرة الاختلاط بهم ، وأن أصلا بنفسي ولاية أمرهم حتى أكون فيهم كأحدهم ، لا أحتجب عنهم ، ولا أغيب شخصي عن محاضرهم ، ولا أترك صلاة بهم ، ولا أكلهم إلى غيري ، فبدءوا بالمكيدة ، وأرادوا النفس بالقتل وإني ضارب الحجاب ، ومحترز منهم حتى يحكم الله بيني وبينهم.

وحدثني محمد بن سعيد أيضا قال : رأيته يفت الطعام للأيتام بيده ويثرده بالسمن ، ثم يقول : أدخلوهم. ثم ينظر فمن كان منهم ضعيف المأكل قال : هذا مغبون. فيأكل مع المساكين ثم يعزل له ، وكان لا يأكل طعاما حتى يطعم المساكين منه ، ثم يأكله بعد ذلك.

قال : وكان يأمر صاحب بيت مال المسلمين أن يطعم المساكين والزمنى (٥٤٤) عشيا وغديا على قدر قوتهم ، وعلى قدر ما في بيت مالهم. وكان يأمر بالكسوة لهم في كل

__________________

(٥٤٤) الزمنى : جمع زمن ، أي صاحب عاهة. انظر القاموس.

٥٤٣

وقت تخاط ثياب قد اشتريت للرجال والصبيان والنساء ، وكان يأمر في الشتاء من يتولى شراء الصوف ، ويقول : إن لكل وقت كسوة ، وإن لكل زمان لباسا.

قال : ورأيته يتفقد أهل الذمة ويقول : إن الحكم عليهم جار ، وقد أوصى بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول لهم : ما آذاكم من شيء فأعلموني به ، ومن اطلع على محرمكم أو تعرض لكم أحللت به ما أحل بنفسه ، ومن نكث عهد الله وعهد رسوله. فكان لا يزال يسلم منهم الواحد والاثنان ، والمرأة والمرأتان لما يرون من عدله ورفقه.

رحمة الله عليه ورضوانه ، وصلواته على جده محمد وعلى آله الطيبين وسلم.

٥٤٤

عهد الإمام الهادي عليه‌السلام لعمّاله

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلواته على النبي وعلى آله الطيبين ، وسلم تسليما ، هذا عهد عهده الإمام الهادي إلى الحق أمير المؤمنين يحي بن الحسين ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمر بنسخته لجميع العمال الموجهين إلى جميع المخاليف نسخة واحدة ، حجة عليهم بالغة ، يتخلص بها من أقامها ، ويهلك بها عند الله من خالفها ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤٢] :

أيها العمال قد استعملتكم على جباية أموال المسلمين ، وما استعملتكم حتى سألت عنكم ، وبحثت عن أموركم ، فذكر لي منكم من الخير ما استجزت به الاستعانة بكم على ضم أموال الله تبارك وتعالى.

الأمر بتقوى الله وبالتواضع

فأول ما أوصي به نفسي وإياكم ، وآمرها به وآمركم بتقوى الله عزوجل ، والمخافة له في السر والعلانية. وآمركم أيها العمال بالتواضع لله ، وترك الكبر على عباد الله ، وأن تعرفوا أنفسكم وما منه خلقتم ، وما إليه تصيرون ؛ وكل ما أراكم الله سبحانه محنة وخيرا ازددتم لله تواضعا وشكرا ، فإنكم إن فعلتم ذلك يحسن منقلبكم إلى خالقكم ، وسلمتم غدا من عذاب ربكم.

الأمر بتعريف الرعية ما أوجب الله عليها

وآمركم من بعد ذلك بتعريف الرعية بحق الله ، وتعليمها ما أوجب الله عليها من

٥٤٥

معرفته سبحانه ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والأمر بالمعروف الأكبر ، والنهي عن المنكر والمظالم ، وترك معاصي الله ، والتعدي في أمر الله.

التحري في اختيار العمال

ثم آمركم أن لا تبعثوا خارصا ، ولا تستعينوا في أموركم مستعانا ، حتى تستحلفوه على كتاب الله : ليجتهدنّ وينصحن ، ولا يحيفن على أحد من المسلمين ولا من المؤمنين ، وعلى أنه إن التبس عليه أمر أو شك فيه جعل الميل في ذلك على أموال الله دون أموال عباده من بعد الاجتهاد لنفسه ، والامتحان في ذلك لعقله.

أحكام العشور

ثم آمركم أن لا تأخذوا في طعام من الأطعمة كائنا ما كان من الأصناف المصنفة التي تكال بالمكاييل حتى تبلغ سبعة عشر ذهبا إلا ثلثا. فإذا بلغ كل صنف من الطعام سبعة عشر ذهبا إلا ثلثا بالمكوك ، أخذ مما يستقى منه بماء السماء ، أو بالعيون بالعيون عشرا كاملا ، وما يسقى منه بالسواني نصف العشر ، ولا يضم زبيب إلى ذرة ، ولا ذرة إلى شعير ولا شعير إلى حنطة.

وآمركم أن تأخذوا من كل ما لا يدخله المكيال من فاكهة أو قصب أو غير ذلك العشر ، إذا كان يؤدي كل صنف من صنوف الفاكهة مائتي درهم قفلة في السنة ، وكذلك القصب وجميع الخضر العشر كاملا إذا سقي بالعيون ، أو بماء السماء ، وما سقي من السواني من ذلك ففيه نصف العشر ، وكذلك الحكم في الورس ، وكل ما أنبتت الأرض ، مما لا يكال.

فأما العسل فمن كان له من النحل ما يستغل في كل سنة قيمة مائتي درهم قفلة عده من الحول إلى الحول ففيه العشر كاملا في قليله وكثيره ، إذا كان يأتي في السنة بمائتي درهم قفلة.

٥٤٦

أحكام زكاة الغنم

وآمركم أن تأخذوا ما أوجب الله في الغنم. وليس فيما دون أربعين شاة زكاة على مسلم ، فإذا بلغت أربعين ففيها شاة فارهة ، لا من خيار الغنم ولا من شرارها ، ثم ليس في الغنم غير تلك الشاة حتى تزيد على العشرين ومائة واحدة ، ففيها شاتان إلى المائتين. فإن زادت على المائتين شاة واحدة ففيها ثلاث شياه ، إلى ثلاث مائة ، فإن كثرت الغنم ففي كل مائة شاة ، يعد من أولادها ما قد مشى وأكل من الأرض.

أحكام زكاة البقر

وكذلك في البقر ؛ لا يجب فيما دون ثلاثين بقرة شيء فإذا وفت ثلاثين ففيها تبيع أو تبيعة. ثم ليس فيها شيء حتى تكون أربعين ، فيكون في الأربعين مسنة. ثم لا شيء فيها حتى تكون ستين ، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان. ثم لا شيء فيها حتى تكون سبعين ، فيكون فيها تبيع ومسنة ؛ إلى ثمانين ، فيكون في الثمانين مسنتان. ثم في كل أربعين مسنة ، وفي كل ثلاثين تبيع.

أحكام زكاة الذهب والفضة

ثم آمركم أن تقبضوا من كل من معه ذهب أو فضة من التجار وأصحاب الأموال ربع عشر ما معهم من ذلك ، من ذهب أو فضة أو عروض للتجارة. ولا يجب على أحد منهم في فضة زكاة حتى تبلغ مائتي درهم قفلة ؛ ولا تجب في ذهب زكاة حتى يبلغ عشرين مثقالا ، ثم يكون فيه ربع عشره ، وما زاد على العشرين فبحساب ذلك.

أحكام توزيع الزكاة

وآمركم إذا قبضتم جميع الزكوات التي سميت لكم أن تخرجوا ربع ما تجبون من كل مخلاف فتقسمونه على مساكين البلد وأهل فاقتهم وحاجتهم. ويخصون بذلك من لا حيلة له مجتدا ولا ملتدا ، دون من له حيلة ، ولا تعطوا من يجد متعدا حتى يكتفي من لا متعد له ،

٥٤٧

وتنفقوا من ذلك مار الطريق وابن السبيل ، ثم تضموا الثلاثة الأرباع الباقية حتى تصيروا بها إلينا إن شاء الله ، فنصرفها حيث أمر الله.

الأمر بالنزاهة

وآمركم أن لا تنزلوا على أحد ، ولا تقبلوا له هدية ، ولا تكلفوهم مئونة ، وانزلوا في منازل بالكراء ، واستنفقوا من أموال الله بالمعروف ، فقد أخرجت ما في رقبتي ، وأعذرت وأنذرت إليكم ، والله الشاهد سبحانه عليكم.

أحكام أموال أهل الذمة وأراضيهم

وكذلك من وجدتم من أهل الذمة فخذوا منه ما أوجب الله في رءوسهم مما حقن به دماءهم في الجزية ؛ وهي اثنا عشر درهما على فقرائهم ـ وهم الذين يملكون أربعة دنانير فصاعدا ، ومن لم يملك شيئا فلا شيء عليه ـ وعلى أوساطهم أربعة وعشرون درهما قفلة ، وعلى ملوكهم ـ الذين يملكون ألف دينار فما فوقه ناضا أو قيمة ثلاثة آلاف عرضا ـ ثمانية وأربعون درهما قفلة. ولا تأخذوا شيئا مما أمرتكم بأخذه إلا بأحسن الأمر وأرفقه ، ثم تجمعون من قبلكم من أهل الذمة فتخبرونهم أن الله تبارك وتعالى لم يجعل على ذمي في ماله صدقة ؛ لأن الصدقة ممّن أخذت منه تطهرة ، وأنه ليس على ذمي في شيء من الزرع ولا الفواكه ولا الذهب ولا الفضة ولا المواشي ، ولا شيء مما يؤخذ منه من المسلمين زكاة قليل ولا كثير. وأنهم قد شغلوا أرض الله وأمواله عن العشر ، وأنه لا يجوز لنا ترك ذلك في أيديهم ، فتخيرونهم : فإن أحبوا أن يبيعوا ما اشتروا من المسلمين هم وآباؤهم وأجدادهم حتى ترجع أموال الله إلى العشر الذي جعله الله على المسلمين معونة للإسلام وأهله فيفعلوا ؛ وإن أحبوا أن يقيموا عليها ويتركوا فيها ، على أنهم يصالحوننا عوضا من العشر على التسع مما يكال بالمكاييل مما يسقى بالعيون أو بماء السماء ، أو على نصف التسع مما يسقى بالسواني والدوالي ويؤخذ منهم ذلك في القليل والكثير والمد والذهب ؛ فأي هذين المعنيين أحبوا فافعلوه لهم.

٥٤٨

فإذا صاروا إلى أحدهما فذمة الله وذمة رسوله في رقاب المسلمين لأهل الذمة ، ولا يكلفون كلفة ، ولا يغرمون غرامة ، ولا يساء إليهم بحيلة. فمن تعدى ما ذكرنا فنحن المغيرون عليه ، ومن كان بعدنا من عباد الله قائما بما قمنا به من دين الله ، والله على ذلك شهيد ، ونشهد لهم عليهم جماعة من المسلمين ومنهم على ما أحبوا ورضوا من أحد هذين المعنيين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما.

٥٤٩

وله أيضا صلوات الله عليه :

جواب مسألة الرجل من أهل قم

بسم الله الرحمن الرحيم

ال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

سألت ـ عصمنا الله وإياك بعصمته ، ووفقنا وإياك لمرضاته ، وجعلنا وإياك من أهل طاعته ، وختم لنا ولك بمغفرته ، ونجانا وإياك من حيرة هذا الدهر برحمته ، ـ عن معرفة الله تبارك وتعالى ما تصرفها في الخلق ، وكيف تكوينها في العباد ، وما محلها في الأجساد ، وهل هي من أفعال المخلوقين ، أم هي خلق لأحسن الخالقين ، غريزة ركبها في عباده ، فجعلها سبحانه كما خلق وركب وجعل فيهم من العقول؟.

المعرفة

واعلم هداك الله أن المعرفة هي كمال العقل والعمل به ، فإذا كمل العقل وصح واستعمل تفرعت منه المعارف والأفهام لذوي الفكر والاعلام ، ومتى عدمت من الآدميين الألباب ، لم تصح فيهم المعارف بسبب من الأسباب ، بل تكون بنأيه أنأى من كل ناء ، وبدنوه أدنى من كل داني ، تحضر بحضوره ، وتعزب بعزوبه ، محتاجة إليه وهو فغير مضطر ولا محتاج إليها ، متفرعة من فروعه ، كامنة في أصوله ، كائنة بكينونته ، وهو فغير متفرع منها ولا محتاج مضطر إلى كينونتها ، بل هو مقيد العماد ، راسخ الأوتاد. فكل معرفة كانت من العباد بالأزلي الخالق الجواد فبالعقول استدركها المستدركون من ذوي الألباب ، واستخرجها المستخرجون ، ووقف على حدود شرائعها العالمون ، وعلى ذوي العقول افترضت معرفة الله وعبادته ، وهم الذين ينالون بأداء فرائض الله ثوابه ، ويستحقون برفضها

٥٥٠

دون غيرهم ممن سلب لبه عقابه ، فالعالمون من ذوي الألباب هم المجازون بالحسنة الحسنات ، وبالسيئات من الأفعال السيئات.

العقل

والعقلاء فهم الموقفون للحساب ، الخائفون لأليم العقاب ، والكائن منهم ما ذكر الله سبحانه حين يقول : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] وهو يوم تخشع الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ، فتبيض فيه وجوه من جاء بصالح الأعمال ، وتسود وجوه من جاء بسيئ الأفعال ، يكون حال من سلب لبه فيه كحال الأطفال ، آمنا إذ ذلك من هائل الأهوال ، لا يسألهم الواحد العدل المنان ، عمّا منهم في دنياهم كان ، فتبارك العادل بين خلقه الرحمن. وفيما نقله الثقات من ذوي العقول ثقة عن ثقة عن الرسول ، عليه‌السلام ، أنه قال : «لما أن خلق الله العقل قال له : أقبل! فأقبل ، ثم قال له : أدبر! فأدبر ، فقال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك ، بك أعطي وبك آخذ.» ، فقوله : «بك آخذ وبك أعطي» دليل على أنه لا يثاب على فعل فعله ولا يعاقب على جرم اجترمه إلا من ركب فيه لب حاضر ، ورأي صادر ، وفي قول الله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الرعد : ١٩] أكبر الدليل على أنه لا يكون تذكرة ولا تفكرة تعود إلى معرفة وبيان ، وحسن نظر وإتقان ، إلا بلب يتفرع منه التذكرة والمعرفة في الإنسان ، فتبارك من علم خفيات ضمائر القلوب عنده كالإعلان.

تفرع المعرفة عن العقل

فإن قيل لك : ابن لنا ما معنى تفرعها من العقل ، وكيف تتفرع؟ وما معنى قولك يستعمل العقل؟ وكيف يستعمل ، ومثّل ذلك لنا بمثل تقبله عقولنا ، وتفهمه أنفسنا.

فقل : مثل العقل في الآدمي كمثل الاستطاعة فيه ، فالاستطاعة هي سلامة أدواته ، فإذا استعملت الأدوات فيما تصلح له تفرعت أفعاله منها ، كمثل ما يتفرع من الكف من الحركة مما يؤدي إلى رفع أو وضع ، أو ما يتفرع من حركات الرجل من مشي أو عدو ،

٥٥١

أو ركوب ، أو نزول ، أو غير ذلك. وكل أداة ففعلها متفرع منها ، وتفرعه فهو خروجه ، وكلّ فعل أداة فغير كائن بغيرها من الأدوات ، ولن يوجد إلا بوجودها ، ويتغير بتغيرها ، ويزيد بزيادتها ، ويكمل بكمالها ، ويعدم بعدمها ، ويدخل عليه من الضرر ما يدخل عليها. وكذلك تفرع المعرفة من العقل وكسبها به كتفرع الحركات من الأدوات ، توجد بوجوده ، وتعدم بعدمه. والعقل فهو خلق الله وتركيبه في عباده ، والمعرفة فهي أفعال المخلوقين ، متفرعة من العقول ، فكل من أعمل عقله في شيء من آيات الله قاده إعماله لعقله من معرفة الله تبارك وتعالى إلى أبين بيان ، وتبين له بما يتفرع من المعرفة بالله أنوار البرهان ، فيثيب الله من قبل ما دل عليه مما تفرع من مركب لبه الذي جعله الله فيه ، من المعرفة بالله عزوجل ، فإذا ميز وأعمل النظر في صغير آيات الله دون كبيرها ، فعلم أن لها خالقا كريما ، ومدبرا عليما ، فقبل ذلك بأحسن القبول ، فاستوجب من الله الزيادة والتوفيق. ويعاقب من كابر لبه وأنكر آيات ربه واستوجب بذلك منه الخذلان ، وتمكنت منه وساوس الشيطان ، كما يثيب من عمل بكفه خيرا ، ويعاقب من اكتسب بها شرا. وأما استعمال العقل فهو الفكر به ، والنظر والتمييز بين الأشياء ، والبصر فيها وفي تركيبها وتدبيرها وحسن تقديرها ، حتى يقوده ويدله ما يتفرع من لبه عند استعماله له على معرفة علّام الغيوب ، ومقلب ما يشاء من القلوب.

فإذا ثبت عنده أن له خالقا ومصورا ، ولجميع الأشياء فاطرا ، ومدبرا وجب عليه أن ينظر في كتاب الله تبارك وتعالى ، ويسأل العلماء عمّا ذكر الله من كرسيه وعرشه ، ويده ووجهه ، حتى يبينه كل عالم بما يحضره من الجواب. والسؤال فواجب عليه ، لقول الله تبارك وتعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وهم آل محمد صلى الله عليه وعليهم. فإذا أنبي عمّا يسأل وجب عليه أن يتفكر بعقله ، فيضيف إلى الله سبحانه من الأشياء ما هو أولى به ، وينفي عنه الشبهات التي تكون في خلقه ، ويعلم أن ليس كمثله شيء كما قال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. فإذا علم أن الله واحد أحد ، وأنه مباين للأشياء كلها ، مخالف لها غير مشاكل لما خلق ، لا يحويه مكان ، ولا يشغله شأن عن شأن ، وهو بالمرصاد كما قال سبحانه وجب عليه أن يعلم أنه عدل لا يجور ، فإذا علم ذلك فقد أكمل معرفة ربه سبحانه.

٥٥٢

المعرفة بالتقليد

فإن قال قائل : فإنا نجد المعرفة باينة من العقل لا تدل على صفات الله ، ولا يقف صاحبها عليها من غير تعريف ولا سؤال ، فقال : إن المعرفة إنما هي تعليم من بعض لبعض ، مستغنية بنفسها غير محتاجة إلى العقل.

قيل له : فأخبرنا عمن عمل شيئا يجب على من أضافه إلى الله أن يكون ناسبا إلى الله الجور والظلم؟ وما يجب على من اعتقد أن يكون الله مشبها بخلقه؟ فقال بذلك واعتقده ، هل يكون بالله عارفا ، ولله موحدا؟

فإن قال : نعم ، كفر. وإن قال : لا. قيل له : أفرأيت إن اختلفت عليه الأقاويل ، فأمره قوم باعتقاد ما يلزمه به التشبيه والتجوير لربه ، وأمره آخرون باعتقاد التوحيد والقول بالعدل ، فالتبس عليه أمره ، وعمي عليه رشده ، ما الذي يجب عليه في ذلك؟

فإن قال : إنه يجب عليه أن يقلد أحد الفريقين قوله ويقول به ، وزعم أنه إذا قلد قوما قولا ثم عمل به واعتقده نجا من إثمه ، وكان عليهم وزره ، وجب عليه أن يقول : إن كل من أمر بدين من الأديان من اليهودية ، أو النصرانية ، أو أي دين كان من أديان الكفر وأشار به فقبله منه قابل ، وقلده إثمه ، ودخل فيه ، فأحل ما حرم الله ، وحرم ما أحل الله ، كان بذلك بريا من الوزر ، وكان جميع ذلك الأمر على من أمره به دون من قبله. ولو كان ذلك كذلك لم يعذب الله إلا المؤسسين لأنواع الشرك من القرون الأولة ، ولكان كل من عمل بعملهم ناجيا من سخطه وعقابه ، ولكان كل من قال على الله بالحق ودان بدين محمد صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين وسلم غير مثاب عليه ، ولكان الثواب واجبا في القياس للرسول ، ولم يكن لمن عمل به ثواب ولا محمدة ، ولم يكن المذنب بإجرامه بأهل بالعقوبة من المحسن في أعماله ، ولكان المطيع والعاصي في الثواب والمجازات على العقاب سيان ، إذ كانا من جميع أفعالهما بريان.

ثم يسأل فيقال له : أخبرنا عن إبليس إذا أمر العباد ، ووسوس وزين لهم المعاصي ، حتى يكونوا لها عاملين ، ولعظائمها مرتكبين ، على من أثمها؟

فإن قال : على إبليس دونهم.

٥٥٣

قيل له : فإنا نجد الله قد أخبرنا في كتابه أنه من أطاع إبليس ، فإنه من العاصين المعاقبين على ارتكاب ما يأمره بركوبه ، ويزينه له ويوسوس له به ، فقال سبحانه في ذلك : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٥] ، فهل وجب عندك على من أطاع إبليس وعمل بما يأمره به من المعاصي عقوبة النيران؟

فإن قال : لا ، كفر. وإن قال نعم ، ترك قوله وخرج من حد التقليد ، فلا يجد بدا من أن يقول : إن الواجب عليه عند التباس الأقوال ، واختلاف الأفنان ، أن يرجع إلى عقله في ذلك فيفكر به ، ويميز فينظر بعقله ويتخير لنفسه ، فيتفرع له من عقله من المعرفة ما يقول على الله به الحق ، ويذكره بما يشبهه من الذكر الذي لا يكون إلا له سبحانه فيعلم أن المعرفة كلها خارجة متفرعة من العقل ، وأنه لا يكون معرفة إلا بالعقل ومن العقل.

ومن الدليل على أن المعرفة هي ثبات العقل وكماله ، بأن علمنا أن شراب الخمور ، وأهل الدعارة والشرور ، إذا شربوها زالت عنهم الألباب ، وأنها مضطرة إليه محتاجة ، تعزب بعزوبه ، وتحضر بحضوره ، وتتفرع في ثباته وتعدم عند عدومه ، فعدمت بزواله منهم المعارف حتى يطيح عنهم واضح البيان ، ويزيح بما قد كان مؤديا لهم من بين اللغة واللسان ، وحتى تلتبس عليه حلائله من أخواته ، وأمهاته من خالاته ، ويأتي على لسانه من القذف والفحش والمنكر والدناءة في النادي والجماعات ما يفضحه ويشينه ، وما (٥٤٥) لعله لو عرض مفروجا عليه عند ثبات لبه وتفرع معرفته سوء ما كان منه إذ كان لا معرفة له بما سلف منه في حال كينونته ويأتي متيقظا (٥٤٦) واحدا من أفعاله في عزوب لبه ما فعل ذلك أبدا ، بل لعله يود أنه كان ميتا فانيا ، مفقودا نائيا ، ولا تبين منه الأشياء الفواضح ، والأفعال الطوالح ، ففي أقل ما ذكرنا دليل على أن المعرفة لا تثبت ولا تكون إلا بالعقل ومن العقل.

__________________

(٥٤٥) سقط لفظ (ما) من (ج).

(٥٤٦) حال من فاعل يأتي.

٥٥٤

إلهام البهائم

فإن احتج فقال : قد نرى البهائم التي نعلم نحن وأنت أنها عدمت العقول تعرف أولادها وأمهاتها وتعرف طعامها وشرابها من غيره ، وتعرف ما يضرها مما ينفعها فتعتزل المضار وتتبع المنافع.

قيل له : إنما كلامنا في المثابين والمعاقبين ، من الجنة والآدميين من المأمورين والمنهيين الذين ينالون الطاعة والمعصية بما ركب فيهم من الاستطاعة ، فيكونون متخيرين لأحدهما يثابون على طاعة (٥٤٧) إن كانت منهم ، ويعاقبون على معصية (٥٤٨) إن جاءوا بها ، ولا يكون تخير الواحد من الأمرين إلا من ذي لب واضح ، وعقل راجح ، فأمّا البهائم فإنها غير مأمورة ولا منهية ، ولا مثابة ولا معاقبة ، وإنما عدمت الثواب والعقاب بما سلبته من الألباب ، وأما ما يكون منها من شيء فعلى غير معرفة ثابتة ولا تمييز ، وإنما يكون ما يكون منها من معرفة الذكر للأنثى ، ومعرفتها لأربابها ، ومعرفة الذكر بما يكون لاقحا من الإناث فهو أعرف وأكثر من معرفة الطعام والشراب والأمهات والأولاد ، فإنه منها على الإلهام وإنهن لملهمات لذلك إلهاما ، كما يلهم الطفل في صغره معرفة الثدي وطلبه له ، وبكاه وسكوته وحزنه وسروره وكل ما كان من الطفل بغير تمييز ولا عرفان ، وإنما هو طبع وإلهام ، حتى إذا كمل من عقله ما يحوز به التمييز من الأشياء ميز حينئذ فاختار ، فأخذ وترك ، وعرف ما ينفعه مما يضره ، فاجتنب ما يضره ، وطلب ما ينفعه ، وهو في صغره لو وضع قدامه تمرا وجمرا ، وملحا وسكرا ، لكان حريا بالأخذ للضار له منهما ، لعدم عقله وذهاب معرفته وفهمه ، ففي أقل مما (٥٤٩) ذكرنا إن شاء الله ما بين وكفى عن التطويل وشفى من كان مسترشدا تابعا للهدى ، والحمد لله أولا وآخرا ، وصلى الله وملائكته

__________________

(٥٤٧) في (ج) : الطاعة.

(٥٤٨) في (ج) : المعصية.

(٥٤٩) في (ب) : أقل ما.

٥٥٥

وجميع الأنبياء والمرسلين من خلقه على محمد عبده ورسوله النبي الإمام الهادي المهدي ، وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار الصادقين الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

الدليل على أن الله خلق الأشياء لا من شيء

وقلت : ما الدليل على أن الله خلق الأشياء لا من شيء؟

والدليل في ذلك أنه لا يخلو أن يكون خلق أصل الأشياء ومبتداها من شيء ، أو من غير شيء. فإن خلقها من شيء أزلي ، فقد كان معه في الأزلية ، والقدم غيره من الأشياء ، ولو كان ذلك كذلك تعالى الله عن ذلك لم تصح له الأزلية ، وإذا لم تصح له الأزلية لم تصح له الوحدانية ، وإذا لم تصح له الربوبية ؛ لأن من كان معه شيء لا من خلقه فليس برب للأشياء كلها ، إذ لم يكن لكلها خالقا ، فمن هاهنا صح أنه خلق الأشياء لا من شيء ، وابتدع تكوين ابتداعها من غير شيء.

العلة في بعثة الرسل

وقلت : لأي علة بعث الله الرسل؟

وبعثهم ليكونوا حجة على خلقه ، وليبلغوا من عنده ما تعبدهم به من فرضه ، إذ مفروضاته سبحانه معقول ومسموع ، فما كان من المسموع فلا بد فيه من مسمع يؤديه

٥٥٦

وناطق به عن الله بما فيه ، وهم الرسل عليهم‌السلام ، المؤدون إلى خلق الله رسائله ، والمبلغون إليهم عنه مراده منهم ، فلهذا المعنى من تأديتهم عنه (٥٥٠) بعثهم.

تمّ ذلك والحمد لله كثيرا

__________________

(٥٥٠) سقط لفظ (عنه) من (ج).

٥٥٧

وله أيضا صلوات الله عليه :

جواب مسائل أبي القاسم الرازي رحمه‌الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

المساواة والتفضيل في العقل

قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥٥١) :

سألت يا أبا القاسم أكرمك الله بكرامته ، وأتم ما بك من نعمته ، وجعلك ممن اهتدى فزاده نورا وهدى ، فجمع لك بذلك خير الآخرة والدنيا ، فقلت :

أخبرني عن عقل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، هل كان مثل عقل أبي جهل؟

استواء العقول في ما تقام به الحجة

الجواب في ذلك :

إن كنت تريد بقولك هل هو مثله؟ أي : هل يعمل عقله إذا استعمله كعمل غيره فيما جعل له وركب عليه ، أو هل يستدرك به أداء فرض الله الذي افترضه الله عليه ، وينال به بلوغ ما أوجب الله عليه ، من تمييز الأمور وفهم واجب الفرائض ، وهل يستدرك به معرفة الخالق بما يرى من أثر صنعه ، وينال به التمييز بين طاعته ومعصيته ، فيكون بذلك بالغا من

__________________

(٥٥١) في (ج) : تسليما كثيرا.

٥٥٨

أداء حجج الله ، واستدراك الدليل على الله ، كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليستدرك بأصل حجة عقله من أداء فرضه ... فكذلك نقول : إن أبا جهل قد كان يستدرك وينال بأقل قليل عقله أكثر مما افترض عليه من دينه ، وفوق ما يحتاج إليه من الدلائل (٥٥٢) على معرفة ربه. فقد كان فيما أعطاه الله من أصل الحجة ، وثبت فيه من العقل لأداء الفريضة ، وفي الاستدلال إن استعمل عقله بالغا بعقله ما كان يبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بما أعطى من مبتدأ حجة العقل من المعرفة بأداء فرض الله ، والوقوف على دين الله ، الذي لم يرض من العباد إلا بأدائه.

ولو لا أنه قد ساوى بينهم فيما ينالون به معرفة ما افترضه عليهم ، وأداء حججه (٥٥٣) التي احتج بها عليهم ، ما كانت تجب له عليهم حجة ، ولكن الله عزوجل أعطى كلا ما ينالون به أداء حجته ، فساوى بينهم في إقامة الحجة عليهم ، وإثبات البراهين في صدورهم بما يبلغون به فرضه ، وينالون به معرفته.

فإن كنت أردت هذا المعنى ، فقد ساوى الله بين الخلق (٥٥٤) كلهم ، فيما يكون به بلوغ حجته ، وتمام منته ، ونهاية أداء فرضه من العقول المركبة في صدورهم الثابتة في قلوبهم ، وأثبت بذلك عليهم كلهم حجته لأن العقول المركبة فيهم من هذه الحجج اللازمة لهم من فعل الله لا من فعلهم ، ومن صنع الله عزوجل لا من صنعهم ، وتدبيره جل جلاله لا من تدبيرهم ؛ فمبتدأ ما أعطاهم الله من حججه منه لا منهم. فلما أن صح أن هذه العقول المركبة في الخلق فعل الله ، كان فعل الله في ذلك مشتبها ، وكان تدبيره في إثبات الحجج عليهم متساويا ، فاشتبهت وتساوت حجج الله على خلقه ، التي ركبها في صدور عباده ، بعدله فيهم وإحسانه إليهم في مبتدأ أمرهم ، كما استوت عليهم فروضه ، ووجبت عليهم شرائعه ، ولزمتهم بها عبادته. فكانت أصول ما أعطاهم من حججه فيهم سواء كما كانت

__________________

(٥٥٢) في (ب) الدلالة. وفي (ج) : الدليل.

(٥٥٣) في (أ) : حجته.

(٥٥٤) في (أ) : خلقه.

٥٥٩

فروضه عليهم كلهم سواء ، فتساوى المعنيان من الله في ذلك معنى الفرض والمعنى الذي ينال به الفرض ، فكانت فرائض الله على عباده كلهم سواء وجاء ما تعبدهم به منها سواء على المساوات والاستواء. وكذلك جاءت أصول ما أعطاهم الله من حجة العقل التي ينالون بها أداء هذه الفرائض على قياس ذلك سواء ، فاستوت المفروضات عليهم ، والحجة التي ينالون أداءها بها فيهم ، فساوى الله سبحانه بينهم في إثبات الحجة عليهم ، وإكمال البراهين فيهم ، وإيجاد السبيل لكلهم ، إلى أداء فرضه وبلوغ طاعته ، فكان ما أعطوا من أصل حجته العقل في ذلك بينهم سواء ، كما كان الفرض عليهم كلهم سواء.

تفضيل الله لمن يشاء في الزيادة في العقول

ثم فضل الله تبارك وتعالى من يشاء بعد المساواة بينهم ، والاكتفاء بما شاء بعد ذلك من الأشياء ، فلم (٥٥٥) يكن لعباد الله حجة على الله ، كما لم يكن لهم حجة فيما خلق وجعل وفطر من الأشياء ، وفعل من جعله لبعضهم أهل جمال وهيئة ، وجلد وهيبة ، وجعل بعضهم أهل لطافة ودمامة ، وأهل قلة وسماحة ، فمن تكلم فيما فضل الله به بعض الخلق على بعض في زيادات العقل ، وجب عليه أن يجيب فيما فضل الله به بعضهم على بعض فيما ذكرنا من زيادة الخلق في حسن الألوان وعظم الأبدان ، والكمال والبيان ... لا يجد من ذلك بدا ؛ لأن المعنى فيهما واحد مؤتلف ، متساو غير مختلف.

وليس في ذلك للخلق على الله حجة ، ولا يلحق به سبحانه لمتعنت تجوير ولا ظلم ، ولا يثبت به عليه حيف ولا غشم (٥٥٦) ؛ لأنه حكيم يمضي ما كان فيه الحكمة على كره من كرهه ، وإرادة من أراده ؛ لأن الحكمة هي رأس الحق وأصله ، والحق فلا يتبع أهواء العباد ، ولو اتبعه لفسدت البلاد والعباد ، كما قال ذو العزة والأياد حين يقول : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) [المؤمنون : ٧١].

__________________

(٥٥٥) في (أ) : ولم.

(٥٥٦) الظلم. من هامش (أ).

٥٦٠