مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

فأولهنّ : أن يكون معنى سميع هو عليم ، والحجة في ذلك قول الرحمن الرحيم : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف : ٨٠] ، والسر هو ما انطوت عليه الضمائر ولم يبد ، فذلك أسر السرائر ، والنجوى هو ما يتسار به ويخفيه المتناجون من الكلام والمحاورة في ما يخفون ويكتمون. والسر الذي في القلوب فلن يسمع ؛ لأنه مستجن لم يبن فيشرح ويسمع ، وإنما يسمع ما ترجمه اللسان ، وباح به ضمير الإنسان ، وإنما أراد ذو الجلال بما قال في ذلك من المقال التوبيخ لهم والإخزاء ، والتوقيف على ما يأتون به من الخطأ ، إذ يتوهمون أن الله يخفى عليه خافية ، سرا كانت أو علانية ، فقال : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) [الزخرف : ٨٠] يقول : لا نعلم ونحيط (١٢٧) من أمرهم ما يكتمونه من سرهم ، ويكنونه في غيابات ضمائرهم.

والمعنى الثاني : في اسم الواحد الباري أن يكون السميع هو المجيب للداعين ، ممن دعاه من عباده المؤمنين ، والحجة في ذلك فما حكى الواحد الكريم عن نبيئه زكريا وخليله إبراهيم ، حين يقول زكريا : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) [آل عمران : ٣٨] ، وقول خليله إبراهيم الأواه الحليم : (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) [ابراهيم : ٣٩] ، يعني عليه‌السلام : إن ربي لمجيب لمن يشاء من الأنام ، وفي ذلك ما تقول العرب لمن سأل من الله أو طلب : (سمع الله دعاك) ، أي : أجاب طلبتك.

والوجه الثالث : قول القائل من الراكعين المصلين : سمع الله لمن حمده ، ومعناه أي : قبل الله ممن حمده ، وأثاب على شكره من شكره.

فهذه الثلاثة الوجوه اللواتي يجوز أن يوصف بهن الرحمن وهن فواضحات عند من عرف العربية والبيان.

والوجه الرابع : فلن يجوز على الواحد الجليل ، في شيء من الأقاويل ، وهو موجود في المخلوقين ، متعال عنه رب العالمين ، وهو الإصغاء بالأذان والإنصات لجولان دواخل الأصوات ، ومستقر مفهوم القالات ، فتعالى عن ذلك المهيمن الكريم ، المتقدس الواحد الفرد

__________________

(١٢٧) في (ب) و (ج) : ونحفظ.

١٤١

العظيم. وكيف يكون سبحانه كذلك ، أو يجوز المقال لمن قال فيه بذلك ، وقد يسمع قول ذي الجلال والقدرة والمحال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، وقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص.] ، والكفؤ فهو المثل والنظير ، في الصغير كان أو في الكبير ، فلو كان ذا جوارح لكان ذا أعضاء ، ولو كان ذا أعضاء لكان جزءا فيه أجزاء ، ولو كان أجزاء لكان بلا شك جسما ، ولو كان جسما لجرت عليه الحوادث والأزمان ، ولأشبه ما خلق من الإنسان ، ولو كان كذلك لم يكن بخالق ولكان مخلوقا ؛ لأن كل جسم لا بدّ له من جاعل مجسّم ، إذ لا بد لكل مجعول من جاعل ، كما لا بد لكل مفعول من فاعل ، ولكل مصنوع من صانع ، ولكل مقطوع من قاطع ، فسبحان من ليس كذلك ولا على شيء من ذلك ، لا تحيط به الظنون ، ولا يصفه الواصفون ، إلا بما وصف به نفسه من قوله هو ، وأنه كما قال سبحانه في آخر الحشر : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الحشر : ٢٢ : ٢٤].

وكذلك وصفه أنبياؤه ورسله لمن حاربه وأنكره ، وجحد نعمته وعانده ، من ذلك قول الملعون اللعين فرعون للنبيين موسى وهارون صلى الله عليهما حين دعواه إلى الإيمان بربه ، والإقرار بوحدانيته ، فقال مجيبا لهما مكذبا لقولهما : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) [طه : ٤٩] ، فقال موسى صلى الله عليه : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] ، فقال فرعون العمي الأعمى : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) [طه : ٥١] ، فقال موسى : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) [طه : ٥٢ : ٥٤] ، ومثل هذا شيء (١٢٨) كثير غير قليل ، فيما نزل الله من واضح التنزيل ، من دلالة أنبيائه عليه ، وذكرهم له بما نسبوا من فعله إليه ، من ذلك قول هود صلى الله عليه لمن أرسل من الخلق إليه ، حين يقول : (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الشعراء : ١٣٣]. ومن ذلك قول شعيب صلى الله عليه

__________________

(١٢٨) سقط لفظ (شيء) من (ب) و (ج).

١٤٢

لأصحاب الأيكة المخسرين ، فيما أمرهم به من طاعة رب العالمين : (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ١٨٤]. ومن ذلك قول إبراهيم المطهر الكريم ، لعبدة الأصنام ، الشاكين في الله الطغام ، حين يقول صلى الله عليه : (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) [الشعراء : ٧٦ ـ ٨٥]. ومن ذلك قوله صلى الله عليه لأبيه وقومه ودلالته إياهم على ربهم وربه عزوجل حين يقول : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [الأنبياء : ٥٦].

فكل الأنبياء عليهم‌السلام يدل على ربه ذي الجلال والإكرام بآياته وفعله ، وما ذرأ وأوجد من خلقه ، لا بتبعيض ولا تصوير ولا تحديد ، ولا بمشابهة لما خلق من العبيد ، فسبحان من ليس له شبه ولا عديل ، ولا ضد ولا مثيل ، وهو الفرد الصمد الجليل ، الذي كينونته في السماوات العلى ككينونته في الأرض السابعة السفلى ، الذي لا تراه العيون الناظرة ، ولا تدركه الأوهام الخاطرة ، في الدنيا ولا في الآخرة ، النافذ قضاؤه ، والعزيز أولياؤه ، والذليل أعداؤه ، المرضي لمن أرضاه ، المعذب لمن عصاه ، الداعي إلى دار السلام ، المبتدي بالفضل والإنعام ، مبيد الأحياء ، وباعث الموتى ، وجامع الخلق ليوم لا ريب فيه ، المتكفل بالكفاية لمن توكل عليه ، المتولي الموفق الهادي لمن انقطع إليه ، كذلك الله أكرم الأكرمين ، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

باب تفسير قول الله سبحانه (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) آل عمران : ٢٠ والرد على من قال من أهل الإلحاد إنه يبصر بعين كأعين العباد

إن سأل سائل مسترشد عن ذلك أو تعنت متعنت ضال هالك.

قيل له : إن معنى بصير يخرج على معنيين بينين عند أهل العلم نيرين ، فأما أحدهما فهو العالم بالأشياء طرا. من ذلك قول العرب : فلان بصير بالفقه والنحو والحساب ، بصير

١٤٣

بالشعر والكلام في كل الأسباب ، يريد أنه به عالم ، وبه في كل حال قائم ، فعلى ذلك يخرج قول الرحمن ذي الأياد ، حين يقول : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) يريد عالم بهم ، محيط بكل أمرهم ، مطلع على خفي سرهم.

والمعنى الآخر فهو : البصر والنظر بالعين ، والله عن ذلك بري ، وعنه متعال علي ، إذ ذلك ومن كان كذلك مشابه للمخلوقين ، وقد نفى ذلك عن نفسه رب العالمين حين يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، ولو كان كما يقول من كفر بكتابه وجحد بآياته ، لكان مشبها لكل ما نراه ونجده ، ونحيط به ونعلمه من المبصرين بالأعين من المربوبين ، ولو كان ذلك كما يقولون ؛ لبطل قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، ولو بطل من الكتاب شيء يسير لبطل منه الجليل الكبير ، ولو بطل بعضه ، لأشبه الباطل كله ، بل هو يؤكد بعضه بعضا ، فلن يبطل منه حرف أبدا ، وكيف يبطل أو يتناقض ما أحكمه ذو الجلال والسلطان ، وحفظه من كل سوء الرحمن؟! ألا تسمع كيف يقول : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] ، ويقول جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : ٢١ ـ ٢٢] ، فكيف يتناقض أو يبطل ما حفظه الواحد الكريم ، وحاطه من كل باطل أو دنس ذميم ، ومنعه وحجره عن الشيطان الرجيم؟! كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا ، وجاروا عن قصد الحق جورا شديدا.

تم كتاب المسترشد من أوله إلى آخره وهو على التقديم والتأخير ، بحمد الله ومنه

والحمد لله أولا وآخرا وصلواته على محمد النبي وعلى أهل بيته الطاهرين.

١٤٤

باب (١٢٩) الرد على أهل الزيغ من المشبهين

بسم الله الرحمن الرحيم

قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين :

إن سأل مسترشد سائل أو قال متعنت قائل (١٣٠) : ما ذا يعبد الخلق؟

قيل له : يعبدون الخالق الذي فطرهم وصورهم وابتدعهم وأوجدهم.

فإن قال : وأين معبودهم أفي الأرض أم في السماء؟ أم فيما بينهما من الأشياء؟

قيل له : بل هو فيهما وفيما بينهما ، وفوق السماء السابعة العليا ، ومن وراء الأرضين السابعة السفلى ، لا تحيط به أقطار السماوات والأرضين ، وهو المحيط بهن وبما فيهن. فكينونته فيهن ككينونته في غيرهن مما فوقهن وتحتهن ، وكينونته فيما فوقهن وتحتهن ككينونته قبل إيجاد ما أوجد من سماواته وأرضه ، فهو الأول الموجود من قبل كل موجود ، المكوّن غير مكوّن ، والخالق غير مخلوق ، والقديم الأول الذي لا غاية له ولا نهاية ، الذي لم يحدث بعد عدم ، ولم تكن لأزليته غاية في القدم ، البري من أفعال العباد ، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد ، المتقدس عن القضاء بالفساد ، صادق الوعد والوعيد ، المحتج بالبراهين النيرة على العبيد ، العالي في دنوه ، والداني في علوه ، خالق السماوات والأرضين ، فهو الموجد لأولهن ، والمبيد آخرا لما أوجد منهن ، والمبدل لهن في يوم الدين غيرهن.

فإن قال : فما معنى كينونته فيهن وفي غيرهن مما بينهن ، ألعظم جسم أحاط بهن وكان

__________________

(١٢٩) هكذا في الأصل.

(١٣٠) في (ب) : أو ملحد.

١٤٥

كذلك فيهن؟ أم لسرعة تحول وانتقال منهن إلى غيرهن ومن غيرهن إليهن؟

قيل له : ليس إلهنا سبحانه كذلك ، ولا يقال فيه بذلك ، وهو سبحانه متعال عن الانتقال ، متقدس عن الزوال ، وعن التصوير في صورة الأجسام ، تعالى عن ذلك ذو الجلال والإكرام ، ولكن معنى قولنا : (إنه فيهنّ) هو أنه مدبر لهن ، قاهر لكل ما فيهنّ ، مالك لأمرهنّ ، ولأمر ما بينهنّ وما تحتهنّ ، لا أنه مستجن بهنّ ولا داخل كدخول الأشياء فيهنّ.

فإن قال السائل المتعنت : فما هو في ذاته عندكم ، إذ (١٣١) كان كذلك في قولكم وما تعتقدون في دينكم أجسم هو أم عرض؟

قيل له : تعالى عن ذلك ربنا علوا كبيرا ، لا نعتقد شيئا من ذلك ، وليس ربنا سبحانه كذلك ، لأن الجسم محدود مبعض ، والله فليس كذلك. والعرض لا قوام له إلا بغيره والله فهو المقيم لكل شيء ، الذي لا يحتاج إلى معونة شيء ، فلذلك قلنا إن ربنا على خلاف قولك.

فإن قال : أفنورا تعبدون ، أم ظلمة هو تقولون ، أم غير ذلك مما يعقل تذكرون؟ وإلا فما أراكم تعبدون شيئا عليه تقفون ، ولا تدعونني إلى عبادة شيء أعرفه ، ولا إلى الإقرار بإله يقف عقلي وفهمي على صفته. فكيف أعبد ما لا أعرف ، أو أتعبد لما لست عليه أقف؟! وإنما لا يجب علي أن أقرّ به فضلا على (١٣٢) أن أعبده ، وإنما يجب علي أن أعبد إلها عرفته فلم أنكره ، ووقعت عليه حواسي فلم أدفعه. فأما ما لم يقف عليه عقلي ، ولم أعرفه بشيء من حواسي ، فكيف يكون عندي ثابتا ، فضلا عن أن يكون واحدا فاعلا؟ والوحدانية فإنما تكون عندي وتثبت في قلبي لما عرفته بصفاته ، وحددته بذاته ، فحينئذ أقف على وحدانيته ، فأما ما لم أقف له على تحديد ، ولم أعرفه بكون ذاته فكيف أوحده ، بل كيف أعبده؟ أوجدوني بقولكم حجة وتبيانا ، وأظهروا بذلك لي حقا وسلطانا.

قيل له : لعجز حواسك وعقلك عن درك معبودك جل جلاله بالتحديد ، صح له

__________________

(١٣١) في (ب) و (ج) : إذا.

(١٣٢) في (ب) : عن.

١٤٦

سبحانه ما أنكرت من التوحيد ؛ لأن حواسك وعقلك أدوات مجعولات ، مركبات على درك المخلوقات مثلهنّ المصورات بالخلق كتصويرهنّ ، فأما ما لم يكن لهنّ مشابها ، ولا لمعانيهنّ مشاكلا ، وكان عن ذلك متعاليا ، ولم يكن له حد ينال ، ولا شبه تضرب له فيه الأمثال ، فلا يدرك جل جلاله بهنّ ، ولا تدرك معرفته سبحانه بشيء منهنّ ، ولا يستدل عليه إلا بما دل به على نفسه ، من أنه هو ، وأنه القائم بذاته ، فلمّا صح عند ذوي العقول والتبيان وثبت في عقل كل ذي فهم وبيان أن الحواس المخلوقة ، والألباب المجعولة لا تقع إلا على مثلها ، ولا تلحق إلا بشكلها ، ولا تحد إلا نظيرها ، صحت له سبحانه ـ لما عجزت عن درك تحديده ـ الوحدانية ، وثبتت للممتنع عليها من ذلك الربوبية ؛ لأنه مخالف لها في كل معانيها ، بائن عنها في كل أسبابها ، ولو شاكلها في سبب من الأسباب ، لوقع عليه ما يقع عليها من درك الألباب. فلما تباينت ذاته وذاتها ، وكانت هي فعله وكان هو فاعلها ، بانت بأحق الحقائق صفاته وصفاتها ، فكان درك الأفهام والعقول لها بالتبعيض والتحديد والانحدار منها والتصعيد ، وكان درك معرفته سبحانه بأفعاله وما أظهر من آياته ، ودل به على نفسه من دلالاته ، من خلق أرضه وسماواته ، وما ابتدع مما بينهما من خلقه. فكان الدرك بالصنع والأفعال للصانع الفاعل كالدرك بالعيان سواء سواء ، عند كل فهم عاقل ، وكان (١٣٣) درك الحواس لما شاكلها ، وما كان منها ومثلها بالتحديد والعيان ، وكان دركها لما باينها فلم يشابهها ، وكان على خلاف ما هي عليه من تقديرها وتصويرها ، متقدسا عن مشاكلتها بما تدركه من أفعاله ، وتقف عليه من آياته في أنفسها دون غيرها ، ثم في غيرها من بعدها. فلمّا أن وجدت العقول والحواس أجساما مثلها متصورات (١٣٤) في الخلق كتصويرها ، وأعراضا لا تقوم إلا بغيرها استدلت على الفاعل بفعله ، ووقفت على معرفة الخالق بخلقه ، كما تعرف كل ذي عمل بعمله ، وتستدل على كل صانع بفعله ؛ لأنك متى وقفت على جدار مبني علمت أن له فاعلا بانيا ، وكذلك إذا

__________________

(١٣٣) في (ب) : فكان.

(١٣٤) في (ب) و (ج) : مصورات.

١٤٧

وقفت على ثوب معمول علمت أن له عاملا غير مجهول ، وكذلك لو سمعت حاسة السمع صوتا لعلم السامع أن له مصوتا منه كان ، ومن بعد خروجه من حلقه بان لسامعه ووضح علمه لعالمه ، وكذلك لما أن رأت حاسة البصر الآيات المجعولات ، وما فطر الله من الأرضين والسماوات ، علم ذو الحاسة بعقله وتمييزه أن لذلك مدبرا جاعلا ، وخالقا محدثا فاعلا ليس لشيء من خلقه بمشابه ولا مشاكل ؛ لأن كل ما يدرك بالتحديد والتبعيض والعيان من الأشياء (١٣٥) ، فالأشياء لا تخلو من أن يكون غيرها جعلها ، أو هي جعلت أنفسها ، فلما أن كان ذلك كذلك نظرنا في خلقها لأنفسها ، فاستحال عندنا وامتنعت من قبوله عقولنا ، لأنها كانت من قبل الجعل عدما ، والعدم لا يجعل موجودا ، ولا يخلق جسما ، لأنه ليس بشيء ، وما لم يكن بشيء فلا يفعل أبدا شيئا ، فضلا عن أن يخلق جسما ، فلما أن بطل لما ذكرنا أن تكون جعلت نفسها ثبت أن الجاعل لها غيرها ، المصور المقدر لخلقها ، فلما أن ثبت أن فاعلها غيرها ثبت أنه بخلافها ، وأنه مباين في كل الأمور لها ، غير مشاكل لشيء منها ، فلما أن صح بعده عن مشاكلتها صح عجز المجعولات عن درك جاعلها ، وثبت انحسارها (١٣٦) عن تحديد خالقها ، فلما أن صح عجزها عن دركه وثبت انحسارها عن تحديد خالقها ثبت بذلك له أيها السائل ما أنكرت من معرفته سبحانه ، فلما ثبت لك معرفته صحت لك بلا شك وحدانيته ، ولما صحت له سبحانه الوحدانية وجبت له جل جلاله الربوبية. فافهم ما عنه سألت وانظر فيه إذا نظرت بلب حاضر ، ورأي وارد صادر يبن لك في ذلك الصواب ، وينكشف لك عنه الحجاب إن شاء الله والقوة بالله وله.

ومن الحجة في ذلك أيضا أن يقال لمن قال ذلك : أخبرنا عن العقل الذي تريد بزعمك أن تقف به على معرفة ربك ، أحجة لله هو فيك أم ليس بحجة له عليك؟

فلا تجد بدا من أن تقول : هو حجة لله فيّ ركبها سبحانه للاحتجاج بها عليّ.

وإذا قال ذلك ، وكان الأمر عنده فيه كذلك ، قيل له : أو ليس كذلك القرآن ، وهو

__________________

(١٣٥) قوله : (من الأشياء) خير (أنّ).

(١٣٦) الحسر : كشطك الشيء عن الشيء. تمت من اللسان.

١٤٨

حجة عليك وعلى غيرك من الرحمن؟

فإذا قال : نعم كذلك ، أقول ، وإلى ذلك اعتقادي يؤول.

قيل له : فهل يجوز أن تتضاد حجج الله وتختلف ، وتتباعد في المعاني فلا تأتلف ، فتدل إحداهن على معنى وتبطله وتنكره الأخرى ، فكلما أثبتت حجة العقل لله حجة على العباد ، أنكرتها ودفعتها وخالفتها وأبطلتها حجة الله في القرآن ، وكلما أثبتت حجة الله في القرآن شيئا دفعته حجة العقول دفعا.

فإن قال : نعم يكون ذلك ويوجد.

استغني (١٣٧) بجهله واستدل بذلك على كفره ، وخالف الخلق أجمعين ، وقال بما لم يقل به أحد من العالمين ، وافتضح عند نفسه فضلا عن غيره ، لأنه زعم أن حجج الله تتناقض وتتضاد وما تناقض وتضاد فليس بحجة لله على العباد.

وإن رجع إلى الحق ، وتعلق بالقول بالصدق ، فقال : لا يجوز ذلك ، ولا يكون أبدا كذلك ؛ لأن حجج الله على الخلق يؤكد بعضها بعضا ، ويشهد ناطقها من القرآن لمستجن مركبها في الإنسان ، ويشهد عقل الإنسان لنواطق حجج القرآن ، وكذلك ما نطق به الرسول يشهد له القرآن والعقول. من ذلك ما يروى عن النبي المصطفى السراج المنير ، والحجة لرب العالمين على عباده أجمعين ، عليه وآله أفضل صلوات أرحم الراحمين ، من أنه قال : «سيكذب عليّ من بعدي كما كذب على الأنبياء من قبلي ، فما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قتله ، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله.» ، فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه لا يأتي منه قول مخالف للكتاب ؛ لأنه حجة لله في كل الأسباب ، ولن تخالف حجة من حجج الله حجة.

وكذلك العقل فهو حجة لله على خلقه ، لا يوضح ولا يدل إلا على ما دل عليه وأوضحه القرآن ، فإذا فهم ما قلنا به من ذلك السائل ، وقال به ووقف على أن حجج الله يؤكد بعضها بعضا ولا يبطل شيء منها شيئا ، قيل له : كيف يا لك الخير تريد من العقل

__________________

(١٣٧) في (ب) و (ج) : استغني عن مناظرته بجهله.

١٤٩

المخلوق أن يصف لك الخالق ، ويقف لك عليه بتحديد ، وفي ذلك إبطال ما نطق به القرآن من توحيد الله الواحد الحميد ، وذلك قول الرحمن فيما نزل من النور والفرقان حين يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، ويقول سبحانه : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص] والكفؤ فهو : المثل والنظير ، في الصغير كان من الأمور أو الكبير ، وهذا كله وما كان من القرآن مثله فينفي عن الله التشبيه ، وكذلك حجة الله من العقول في الإنسان تنفي ما نفاه عن الله القرآن ، ولو ثبت عقلك أو صحح لك لبك أن ربك محدود ، أو أنه جسم كسائر الأجسام موجود ، لكان عقلك قد ثبت لك أن ربك كغيره من الأشياء ، فتعالى عن ذلك العلي الأعلى ، ولو كان ذلك كذلك لتناقضت حجج الرحمن في كل قول وبيان ، ولو تناقضت حججه لبطلت فرائضه ، ولو بطلت فرائضه لبطل معنى إرساله لرسله ، ولو بطل معنى إرساله لرسله لبطل معنى أمره ونهيه ، ولو بطل معنى أمره ونهيه لبطل معنى ثوابه وعقابه ، ولو بطل معنى ثوابه وعقابه لبطل معنى خلقه لدنياه وآخرته ، ولو بطل معنى خلقه لدنياه وآخرته لبطل معنى خلقه لسماواته وأرضه ، ولو بطل معنى خلقه لسماواته وأرضه لبطل معنى خلقه لما فيهما وبينهما من خلقه ، ولو بطل معنى خلقه لما فيهما وما بينهما من خلقه لما كان لما أوجد من ذلك معنى ، ولو لم يكن لجميع ما أوجد من الأشياء أو بعضها معنى ثابت مفهوم صحيح بين معلوم ؛ لدخل بذلك على الحكمة الفساد ؛ لأن الحكيم لا يفعل فعلا إلا لسبب وأمر ومعنى ، ومن فعل شيئا لغير معنى فإنما ذلك كان منه عبثا وجهلا ، ولو دخل على الحكيم ضد الحكمة ؛ لكان اسم الجهل له لازما ، ومن لزمه اسم الجهل ؛ فليس بخالق ، والخالق فهو الحكيم غير الجاهل ، فتعالى الله الرحمن الرحيم ، الخلاق الحكيم ، لا إله إلا هو الواحد الكريم عمّا يقول فيه المبطلون ، ويضيف إليه الفاسقون ، ويصفه به الجاهلون.

فلينظر من نظر في كتابنا هذا إلى ما يؤول إليه قول من قال بتناقض حجج الرحمن واختلافها في الشرح والبيان ؛ فإنه يؤول إلى جحدان الخالق وإبطاله ودفعه له بما يدخل عليه من الجهل في خلق ما يخلق ، إذ خلق ـ بزعم من جهل وفسق ـ لغير معنى ، وقد يعلم أن من فعل فعلا لغير سبب ولا معنى فإنما عبث واستهزى وضاد الحكمة فيما به أتى ،

١٥٠

والله سبحانه فمخالف لذلك ، متعال سبحانه عن الكينونة كذلك ، فقد بان بحمد الله ، لكل ذي عقل وعرفان وفهم وتمييز وبيان ، أمر من قال بتناقض حجج الله أنه غير عارف به ولا مقر ، ومن لم يعرف الله جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله فلم يعبده ، ومن لم يعبده فقد عبد غيره ، ومن عبد غيره فهو من الكافرين ، ومن كان من الكافرين فقد خرج بحمد الله من حد المؤمنين.

فنعوذ بالله من الجهل والعمى ، ونسأله الزيادة في الرحمة والهدى ، وحسبي الله فنعم المولى ونعم النصير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير.

تم كتاب المسترشد

١٥١

وله أيضا عليه‌السلام :

كتاب المنزلة بين المنزلتين

بسم الله الرحمن الرحيم

شهادة جميع الأمة لنا بحقية ما نحن عليه

قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

إن سأل سائل فقال : من أين زعمتم أن الحق في أيديكم دون غيركم ، وجميع من خالفكم يدعي مثل ما ادعيتم؟

قلنا له : إن أقرب الأشياء عندنا الذي قد علمنا به أنا على الحق ، ومن خالفنا على الباطل ، أن جميع فرق الأمة بجملة قولنا مصدقون ، ونحن لهم فيما انفردت به كل طائفة منهم مكذبون ، وهم في ما ندين الله به من أصول التوحيد والعدل ، وإثبات الوعد والوعيد ، والقول بالمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر مصدقون.

أصناف المسلمين

وجميع أهل الصلاة عندنا خمسة أصناف : الشيعة ، والمرجئة ، والخوارج ، والمعتزلة ، والعامة ، فقد شهدت لنا هذه الفرق كلها في أصل شهادتها بما نقول ، ثم نقض ذلك بعضهم ، فأقمنا على أصل ما شهدوا لنا به ، ولم ننقض ذلك كما نقضه بعضهم.

شهادتهم لنا في التوحيد

وذلك أنهم شهدوا أن الله واحد ليس كمثله شيء ، ثم نقضت ذلك المشبهة بقول من

١٥٢

قال منهم : إنه على صورة آدم ، وبقول من قال : إنه جسم محدود ، وبأقاويل لهم كثيرة كلها نقضت قولهم : واحد ليس كمثله شيء ، لوصفهم له بالأجزاء ، والأعضاء ، والحدود ، والزوال ، والانتقال ، تعالى الله عمّا قالوا علوا كبيرا ، فعلمنا أن الذي ليس كمثله شيء لا يكون على صورة شيء ، ولا يكون جسما محدودا ؛ لأن ما كان كذلك كان أجزاء كثيرة ، بعضها غير بعض ، ولم يكن واحدا ؛ لأن الواحد في الحقيقة لا يكون له أشباه ، ولا يكون له ثان. فلما شهدوا لنا أنه واحد ليس كمثله شيء ، أخذنا بذلك وتركنا اختلافهم ، إذ نقضوا به شهادتهم ، فهذا ديننا ، وشهادتنا ، وحجتنا على كل من خالفنا في التوحيد.

شهادتهم لنا في العدل

وأمّا شهادتهم لنا في العدل فإنهم شهدوا أن الله تبارك وتعالى عدل لا يظلم ولا يجور ، وأنه خير للخلق من الخلق لأنفسهم ، وهو أرحم الراحمين. ثم نقضت ذلك المجبرة بقول من قال منهم إنه كلف العباد ما لا يطيقون ، وإنه أخرجهم من الطاعة ، وإنه عذبهم على ما خلقه فيهم ، وبقول من قال منهم إن الله يريد أن يعصى ثم يغضب مما أراد ، وبقول من قال منهم إنه يعذب الطفل الصغير بجرم الشيخ الكبير ، وبأقاويل كثيرة كلها تنقض قولهم إنه عدل لا يجور ، تعالى الله عمّا قالوا. فعلمنا أن العدل الرحيم لا يفعل ذلك ، إذ كان ذلك ممن فعله جورا ، وظلما ، وعبثا ، تعالى الله عن ذلك ، فأخذنا بما شهدوا لنا به في أصل شهادتهم أنه لا يظلم ، ولا يجور ، ولا يعبث ، وأنه حكيم حيم ، عدل كريم ، وتركنا ما نقضوا به جملتهم عند اختلافهم ، فهذا ديننا ، وحجتنا على من خالفنا في العدل.

شهادتهم لنا في الوعد والوعيد

وأمّا شهادتهم لنا في الوعد والوعيد ، فإنهم شهدوا جميعا أن الله تبارك وتعالى صادق في جميع أخباره ، وأنه لا يخلف الميعاد ، ولا يبدل القول لديه ، صادق الوعد والوعيد في

١٥٣

أخباره ، ثم نقض ذلك المرجئة بقول من زعم أن الله جائز أن يغفر (١٣٨) لمن قد أخبر أنه يعذبه ، وخالف ذلك منهم من زعم أن الله يقول من زنى عذبته بالنار يوم القيامة ، فيأتي الخبر من الله ظاهرا مطلقا ليس معه استثناء ، ثم لا يعذب أحدا من الزناة يوم القيامة ، ولا تمسهم النار ؛ لأنهم زعموا أنه استثنى ذلك عند الملائكة ، فقال إني (١٣٩) أعذبهم إن شئت ، وإلا فإني أغفر لهم ، أو يقول إلا أن أتفضل عليهم بالعفو ، وإنما عنى أني أعذبهم إلا أن يغتسلوا من جنابة الزنى ، فإن اغتسلوا من جنابة الزنا وفعلوا شيئا من الخير غفرت لهم. فلما جوزوا ذلك في أخبار الله نقضوا معنى ما حكم الله به في وعده ووعيده ، وادعى بعضهم الخصوص في الأخبار ، فزعموا أن كل خبر جاء من الله عاما في الظاهر ، فقد يجوز أن يكون خاصا ، كقول الله عزوجل : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [التوبة : ٤٩] ، فزعموا أنه يجوز أن يكون عنى بعض الكافرين دون بعض ، وكذلك قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النور : ٢٣] ، وأنه يجوز عندهم أن يكون في بعض القاذفين دون بعض ، إلا أنهم يعلمون أن الكفار كلهم يعذبون بإجماع الناس على ذلك.

وأمّا أصحاب الكبائر فيجوز عندهم أن لا يعذب أحد منهم ، ولا تمسه النار ، وزعم بعضهم أنه ليس في أهل الصلاة وعيد ، وإنما الوعيد في الكفار خاصة دون غيرهم. وكل هؤلاء وغيرهم من أصناف المرجئة ناقضون لمعنى ما أخبر الله به في كتابه ، وحكم به من وعده ووعيده.

فلما شهدت لنا الفرق كلها أن الله صادق الوعد والوعيد ، لا خلف لوعده ، ولا تبديل لقوله ، أخذنا بما أجمعوا عليه من ذلك ، فلم ننقض معاني الأخبار كما فعلت المرجئة ، وعلمنا أن الله تبارك وتعالى إذا أخبر بشيء كان كما قال ، ولا تبديل لذلك ، ولا نقض ولا تكذيب ولا نكث ولا تنسخ أخباره أبدا بشيء ، ولا يظهر لنا خبرا ، ثم يفعل خلافه ،

__________________

(١٣٨) في (ب) و (ج) : يعفو.

(١٣٩) في (ب) : إنما.

١٥٤

ولا يظهر لنا عموم الأخبار في وعده ووعيده ثم يجعلها خاصة من حيث لا نعلم ؛ لأن ذلك كله غير جائز على الله ، تعالى عمّا قالت المجبرة والمرجئة علوا كبيرا ، فهذا ديننا ، وحجتنا على من خالفنا في الوعيد.

شهادتهم لنا في المنزلة بين المنزلتين

وأما شهادتهم لنا في المنزلة بين المنزلتين ، وقولنا إن أهل الكبائر من أهل الصلاة فساق فجار أعداء الله ظلمة معتدون ، فإنهم شهدوا لنا بذلك فشهدنا بما شهدوا ، ثم ادعى بعض الخوارج أنهم كفار ، وأن فسقهم قد بلغ بهم الكفر والنفاق دون الشرك ، ويقال إن الزيدية ، أو بعضهم ، يزعمون أن فسقهم قد بلغ بهم الكفر ، وادعت المرجئة أنهم مع فسقهم مؤمنون ، وخالفهم في ذلك عامة الأصناف.

وقالت المعتزلة هم فساق وفجار ، لا يبلغ بهم فسقهم كفرا ولا شركا ولا نفاقا ، وكذلك قالت المرجئة والعامة ، وقالت المعتزلة أيضا لا يجب لهم اسم الإيمان مع الفسوق ، وكذلك قالت الخوارج والشيعة الزيدية ، فوجدناهم كلهم قد أجمعوا على شهادة واحدة أنهم فساق فجار معتدون ، فأخذنا بما أجمعوا عليه من ذلك ، وتركنا ما اختلفوا فيه مما كذب فيه بعضهم بعضا فسميناهم فساقا فجارا ، وبرأناهم من الكفر والشرك والنفاق ، إذ كانوا فيه مختلفين ، ولم نوجب لهم اسم الإيمان إذ كانوا عليه عند إصابتهم الكبائر غير مجتمعين ، ولم يكن في شيء من اختلافهم حجة من حجج رب العالمين ، فهذا ديننا وحجتنا على من خالفنا في المنزلة بين المنزلتين.

شهادتهم لنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وأمّا شهادتهم لنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فإنهم شهدوا أن ذلك واجب إذا أمكن وقدر عليه ، وشهدوا أن نصرة المظلوم فرض ، والأخذ على يد الظالم فرض إذا أمكن ذلك ، ثم اختلفوا بعد ذلك. فقال منهم قائلون : لا ندفع الظالم عن أنفسنا ، ولا عن غيرنا إلا بالقول والكلام ، وإن انتهبت أموالنا ، وانتهكت حرماتنا لم نقاتل بالسلاح ، وإن كان

١٥٥

في ذلك دفع الظلم عنّا وعن المسلمين ، لكنا نترك الظالمين والباغين يبلغون منتهى حاجتهم منا ومن حرماتنا وأموالنا ، ثم يمضون سالمين. وقال آخرون نقاتل وندفع عن أنفسنا وحرماتنا وأموالنا بالسلاح وغيره ، فإن قتلنا رجونا أن نكون شهداء ، وإن قتلناهم رجونا أن نكون سعداء. فلما شهدوا أن نصرة المظلوم ودفع الظالم والأخذ على يد الظالم فريضة لازمة لمن قدر عليها ، علمنا أنه لا يخرجنا من هذه الفريضة إلا أداؤها ، والقيام بها بالسلاح وغيره إذا أمكننا ذلك ، فأخذنا بما أجمعوا عليه لنا في أصل شهادتهم ، ولم نترك ذلك كما تركه الآخرون وهم على دفعه قادرون. فهذا ديننا وحجتنا على من خالفنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودفع الظالم.

فمن أقام على هذه الأصول كما أقمنا ، ودان بها كما دنا ، وعمل بما استحق الله عليه فيها فهو منا وأخونا وولينا ، ندعوه إلى ما أجابنا ، ونجيبه إلى ما دعانا. ومن خالفنا وفارقنا عليها حاججناه بالمحكم من كتاب الله ، ورددناه إلى المجمع عليه من سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن قبل ذلك كان له ما لنا ، وعليه ما علينا ، وإن أبى إلا المخالفة للحق ، والمعاندة للصواب كان الله حسيبه (١٤٠) ، وولي أمره ، والحاكم بيننا وبينه ، وهو خير الحاكمين ، وقد ذكرنا من كتاب الله عزوجل تحقيق ما قلنا وتصديق ما وصفنا.

باب ذكر التوحيد

إن الله تبارك وتعالى ذكر التوحيد في كتابه فقال : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص.] ، فأخبر سبحانه أنه الواحد الأحد الذي ليس بوالد ولا ولد ، وأنه ليس له كفؤ ولا شبيه في وجه من الوجوه ، وقال : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) ، يقول : كفوا أو نظيرا ، وقال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، وقال : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٠٣]

__________________

(١٤٠) في (ب) و (ج) : حسبه.

١٥٦

ولم يقل في الدنيا دون الآخرة ، فنفى عن نفسه درك الأبصار في كل وقت من أوقات الدنيا والآخرة ، كما نفى عن نفسه السنة والنوم في الدنيا والآخرة ، فقال : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] ، كما نفى عن نفسه الظلم في الدنيا والآخرة فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس : ٤٤] ، وكما نفى عن نفسه أن يكون له شبيه في الدنيا والآخرة على كل وجه من الوجوه بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، وقال : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : ٨٤] ، فنفى عن نفسه أن يكون في مكان دون مكان ؛ لأن من كان في مكان دون مكان فمحدود ، والله غير محدود ، ولا يحيط به شيء ، وهو بكل شيء محيط ، وقال : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) [المجادلة : ٧] الآية ، فبهذه الآيات ونحوها احتججنا على من خالفنا ومن شبه الخالق بالمخلوق ، وعلمنا أن الله لا يشبهه شيء في وجه من الوجوه.

باب في خلق القرآن

وذكر الله القرآن فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] ، فأخبر أنه منزل محفوظ ، كما قال : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [الحديد : ٢٥] ، وكقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦] ، وقال : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) [ق : ٩] ولم يقل خلقنا الحديد والماء والأنعام ، وكل ذلك مخلوق ، وقوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرعد : ١٦] ، وقوله : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) [الروم : ٨] ، وكذلك القرآن ؛ لأنه شيء وهو بين السماوات والأرض ، وليس القرآن من أعمال العباد التي أضافها الله إليهم في كتابه ، ولا من صنعهم الذي نسبه الله إليهم ، فالقرآن داخل في هذه الآيات دون عمل العباد كالأنعام والحديد.

وقال : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى : ٥٢] ، وقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] ، فأخبر أنه نور والنور مخلوق.

١٥٧

وقال : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزخرف : ٣] ، وقال : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١] ، وكذلك خلق القرآن ، إذ جعله قرآنا عربيا كما جعل الشمس ضياء والقمر نورا ، بأن خلقهما كذلك.

وقال : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأنبياء : ٢] ، وقال : (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) [طه : ١١٣] ، فأخبر أنه محدث ، وأنه ليس بقديم ، وإذا كان محدثا فالله أحدثه ، وهو مخلوق والله خلقه.

وقال : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] ، وقال : (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ٧٥] وقال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢] ، وقال : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١] ، وقال : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [الحجر : ٢٩] ، وقال : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢] ، فأخبر أن القرآن كلامه ، وروح من أمره ، وأن عيسى كلمته وروح منه ، وأنه نفخ في آدم من روحه ، وكذلك في مريم ، ثم أجمل ذلك كله فقال : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) [آل عمران : ٥٩ ـ ٦٠] ، فأخبر أن معنى الكلمة والروح خلق من خلقه ، وتدبير من أمره ، وكذلك القرآن سماه كلامه وروحا من أمره ، ومعنى ذلك أنه خلق من خلقه ، وتدبير من تدبيره وأمره. وقال : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) [النحل : ١٠١] ، وقال : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٠٦] ، فبهذه الآيات ونحوها خالفنا من زعم أن القرآن ليس بمخلوق ، وعلمنا أنه مخلوق محدث وأن الله خالقه.

باب ذكر عدل الله في كتابه

قال الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ

١٥٨

الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل : ٩٠] ، وقال : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام : ١٥٢] ، وقال : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، وقال : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) [الأعراف : ٢٩] ، وقال : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٣] ، وقال : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٦٨] ، فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن العدل والإحسان من الله تبارك وتعالى ، وأن الظلم والعدوان من عمل الشيطان وفعل الإنسان ، والله من ذلك بري ، تبارك وتعالى عمّا يقول الجاهلون علوا كبيرا.

باب ذكر قضاء الله في كتابه

قال الله تبارك وتعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] ، فأخبر سبحانه أنه قضى بعبادته ، وبر الوالدين. وقال : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) [غافر : ٢٠] ، وقال : (يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) [الأنعام : ٥٧] ، ولم يقل إنه يقضي بالباطل ، وقال : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) [غافر : ٢٠] ، وقال : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [يونس : ٩٣] ، وقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران : ٧١] ، وقال : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء : ١٨] ، وقال : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) [الإسراء : ٨١] ، فأخبر أن الحق من عنده ومن قضائه ، وأن الباطل من المبطلين ، ولا يكون الباطل من عند أصدق الصادقين. فبهذه الآيات ونحوها علمنا أنه لا يقضي بالباطل إلا المبطلون ، ولا بالجور إلا الجائرون ، تعالى الله عن ذلك رب العالمين.

١٥٩

باب ذكر قدر الله في كتابه

قال الله عزوجل : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : ٣٨] ، وقال : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) [الواقعة : ٦٠] ، وقال : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [الفجر : ١٦] ، وقال : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [الأحزاب : ٣٨] ، وإنما أمر بالطاعة ، ولم يأمر بالمعصية وأمره بها قضاؤه وقدره ، والطاعة منسوبة إلى قضائه وقدره ؛ لأنه أمر بها ، والمعصية منسوبة إلى العصاة ؛ لأنهم ارتكبوها بعد ما نهاهم عنها.

وإنما ذكر الله القدر في خلقه وصنعه وتدبيره وأمره ومصالح عباده في دينهم ودنياهم ، ولم يجعله في شتمه والفري عليه ، ولا في قتل أنبيائه وتكذيب رسله ، ولا في شيء مما غضب منه وعابه ، وعاب أهله وعذبهم عليه.

فبهذه الآيات ونحوها علمنا أنه لا يسخط شيئا من تقديره ، ولا يقدر شيئا ثم يغضب منه ويعيبه ويعيب من فعله ؛ لأن الحكيم لا يغضب من تقديره ، ولا يعيب شيئا من تدبيره ، تعالى الله عمّا يقول الجاهلون علوا كبيرا.

باب ذكر الإرادة

ثم ذكر سبحانه الإرادة في كتابه فقال : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [النساء : ٢٦] ، وقال : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٧ ـ ٢٨] ، وقال : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ، وقال : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر : ٣١] ، وقال : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢] ، وقال : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ٦٠] ، وقال : (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) [النساء : ٤٤] ، فأخبر تبارك وتعالى أن إرادته الصلاح والرشد واليسر وأنها ليست في الظلم والغشم والكذب والفساد ، فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن الله إذا أمر بشيء فقد أراده إرادة أمر ، لا إرادة جبر ، وإذا نهى عن شيء لم يرده ، ولم

١٦٠