مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

ولا طلبة في ذلك يطلبونها. بصرهم وهداهم ، وركب فيهم ما كفاهم ، وبعث إليهم المرسلين مبشرين لهم ومنذرين ، فأمروهم ونهوهم ، وعذابه حذروهم ، وإلى ثوابه دعوهم ، وأروهم عجائب الآيات ، واحتجوا عليهم بالدلالات : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤٢].

فهذا قولنا في ربنا ، وشرحنا لما احتج به سبحانه علينا.

فإن قالوا وبما ندفعه ـ إن شاء الله بحقنا ـ تعلقوا : ألستم تزعمون ، وبغير شك تقولون : إن الله قسم العقول بين خلقه ، وجعلها لهم حجة فيهم ، نعمة أنعم بها عليهم ، وأيادي أكملها لديهم ؛ ثم تقولون إنه افترض عليهم فروضا فجعلها عليهم كلهم شرعا سواء ، إن أدوها أثيبوا ، وإن تركوها عوقبوا ؛ ثم تقولون ونقول : إن ذلك لا ينال إلا بالعقول ، وقد نرى اختلاف العقول في الناس أجمعين ، فنعلم أنهم فيها متفاضلون ، وأن ليس هم فيها على القسمة متساوين ، فأين ما تحوطون من عدل رب العالمين ، وقد ساوى بين عباده فيما افترض عليهم ، وجعل ذلك سبحانه سواء فيهم ، ثم فضل بعضهم على بعض فيما لا ينال أداء ما فرض من الطاعات ، ولا يوصل إلى تمييز شيء من شيء إلا به من الآلات ، من العقل الرصين ، والفهم المبين؟

قلنا لهم : قد سألتم ، فاسمعوا ما به أجبتم. فكذلك بالعدل على الله نقول ، وفي كل أمرنا فيه سبحانه نحول ، وسنبين لكم إن شاء الله الجواب ، ونشرح لكل ما تتكمهون فيه من الارتياب ، ونختصر ذلك لكم بما يقر في أفهامكم ويثبت ، إن كنتم للحق طالبين مريدين في ألبابكم.

فنقول : إن الله تبارك وتعالى افترض على خلقه فروضا ، وأوجب عليهم سبحانه أمورا ، ثم أعطاهم ما بأقل قليله ينال أداء ذلك من الآلات ، ويقتدر على أدائه متى قصد من الساعات. فجعل في أقلهم عقلا من العقل ما ينال بأقل قليله تمييز ما أوجب الله عليه تمييزه ، والإحاطة بما أوجب عليه الإحاطة به من معرفته ، والإقرار بوحدانيته ، والأداء لكل فرائضه. فساوى بين عباده فيما إليه يحتاجون ، وله في فرائضه يستعملون ، ثم زاد بعد أن ساوى بينهم في الحجة من شاء فضاعف له العطاء والكرامة ، وزاده في العقل والسلامة ، كما زاد بعضهم بسطة في العلم والجسم ، فليس لأحد على الله في ذلك حجة ، إذ قد أنالهم

٣٢١

من ذلك أكثر من البغية لئلا يكون للمخلوقين عليه حجة فيما فضل به بعضهم على بعض من الجلد والطول والجمال والهيئة والكمال والبياض والفصاحة ، فكل ما أدخلتم علينا (٢٨٦) فيما فضل الله به بعض الخلق من العقول ، فواجب عليكم لنا أن تجيبونا به فيما بين البياض والسواد والقصر والطول حذو المثال بالمثال ليس لكم ـ والحمد لله ـ عنه تحرف ولا انتقال إلا بأن ترجعوا إلى الصدق ؛ فقد بان لكم ـ والحمد لله ـ الحق ، فاتقوا إملاء الشيطان وتسويله وإغوائه وتخييله ، ولا تكونوا من الذين قال الله فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) [محمد : ٢٥] ، وسنضرب لكم بقوة (٢٨٧) الله وحوله في ذلك مثلا يبين لكم أموركم ، ويخامر نور حقه ضميركم وصدوركم.

أرأيتم رجلا له بيتان من حشيش ، وله غلامان ، فدفع إلى أحد غلاميه شمعة واحدة متوقدة ، ودفع إلى الآخر ثلاث شمعات ، ثم قال لهما : ليحرق كل واحد بما معه ما في أحد هذين البيتين من الحشيش ، فهل ترون لصاحب الشمعة الواحدة المتوقدة الملتهبة على مولاه حجة في أن أعطى صاحبه ثلاثا وأعطاه واحدة ، فيقول : لا والله ما أقدر أن أحرق بيتا من حشيش بهذه الشمعة الواحدة ، فأعطني ثلاثا مثل صاحبي ، وإلا فلا حلية لي في إحراقه؟

وقد يعلم كل ذي عقل سوي من رشيد أو غوي ، أن الذي يكفي هذا الحشيش من هذه الشمعة لفحة واحدة ، وأنه ومن معه ثلاث شمعات ، وعشر واحد في القدرة على إحراق ما أمر بإحراقه ، وإنفاذ أمر سيده فيه ، فهل تقولون لسيده : كلفته وصاحبه إحراق بيتين من حشيش متساويين ، ثم كلفته إحراقه بشمعة واحدة ، وكلفت صاحبه إحراق بيته بثلاث ، فأعطه ثلاثا ، وإلا فقد كلفته ما لا يناله بهذه الواحدة ولا يطيقه ، فأنت له في ذلك ظالم ، وعليه بفعلك هذا متحامل.

أم تقولون للعبد : أنت مخطئ في فعلك ، جاهل في قولك ، فأنت تنال بهذه الشمعة من

__________________

(٢٨٦) في (أ) : عليه.

(٢٨٧) في (ب) : بقدرة.

٣٢٢

حشيشك مثل ما ينال صاحبك بشمعاته في حشيشه ، والأمر في قليل النار وكثيرها عند تأججها والتهابها سواء ، لا حجة لك على مولاك فيما كلفك وأعطاك.

فكذلك ـ والحمد لله ـ الأمر فيما أعطى الله العباد من حجته فيما فضل به من شاء من بعد ذلك من خليقته. فأما من سلب عقله من المجانين والأطفال ، فلم يوجب الله عليهم الأعمال ، بل أزاح عنهم ذلك ، ولم يوجبه عليهم ، وحالهم في وقتهم ذلك عند الله فحال لا يسألهم فيها عما افترض من الأعمال حتى يفيقوا ، ومما هم فيه يخرجوا ، ويبلغ الأطفال من الفهم ما يصح لهم به التمييز ويخرجوا من حال الطفولية والصغر إلى حال القوة والكبر ، وفي ذلك ما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن الصبي حتى يعقل.».

والحمد لله العدل في فعله ، الرحيم بخلقه ، الذي كلف يسيرا ، وأعطى عليه كثيرا.

تم جواب مسألته

المسألة الثانية عشرة : نفوذ إرادة الله

ثم أتبع ذلك المسألة عن الإرادة ، فقال : أخبرونا عن الإرادة إذا أراد الله شيئا ، يكون أو لا يكون؟ فإنه قد قال : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج : ١٦] ، فإن قالوا : نعم ، قيل لهم : وهل أراد الله أن يدخل خلقه كلهم في الهدى؟ فإن قالوا : نعم ، قد أراد أن يدخلوا كلهم في الهدى على غير جبر منه ولا إكراه. فيقال لهم : فهل دخلوا في الهدى كما أراد على غير وجه الجبر منه لهم والإكراه؟

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من إرادة الله سبحانه ، فقال : إذا أراد الله شيئا يكون؟ أو لا؟ فإنه قد قال الله : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ، فكذلك قولنا في خالقنا ومصورنا وبارئنا ومميتنا ومحيينا ، سبحانه وجل وتقدست أسماؤه كما قال في نفسه : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ، فكل ما شاء أن

٣٢٣

يفعله سبحانه فعله.

ثم نقول من بعد إثبات القدرة للرحمن ونفي التشبيه والتجوير عنه في كل ما شاء : إن الإرادة من الله على معنيين نيرين ـ عند من علمه الله وفهمه ـ بينين :

فإحداهما : إرادة حتم وجبر (٢٨٨) ، والأخرى : إرادة أمر ، معها (٢٨٩) تمكين وتفويض.

فأما إرادة الحتم فهي : ما أراد من خلق السماوات والأرض والجبال ، وما أنبت من الأشجار : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٨] ، وما أراد سبحانه من قضاء الموت على خلقه من جميع أهل سماواته وأرضه ، والذهاب والفوت ، فقال سبحانه : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران : ١٨٥] ، وقال : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٦] ، فأخبر بما حكم به على خلقه ، وبما ألزمهم في ذلك وأوجبه عليهم من حتمه ، فقال : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الجاثية : ٢٦] ، وقال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إخبارا منه بما حتم عليه : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠].

ومن إرادة الحتم التي أراد الله فعلها ففعلها قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) [فصلت : ١١ ـ ١٢] ، فكان قضاؤه فيهن خلقه سبحانه لهن حين أراد إيجادهن وصورهن ، وأوحى ما شاء فيهن من أمرهن.

ومن ذلك ما يقول الواحد الجبار ذو الملكوت الغفار : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [الزمر : ٤٢] ، فذكر أن الموت منه ، وأنه يقضي به ويبديه ، فكان هذا منه إرادة حتم ليس لأحد فيها منهم فعل.

__________________

(٢٨٨) سقطت من (ب).

(٢٨٩) في (ب) : يتبعها.

٣٢٤

ومن ذلك ما قال الله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] ، فأراد خلقه فخلقه ، وقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات : ١٣] ، فأخبر عن نفسه بما أراد أن يجعله منهم ، فجعله وصوره وأوجده كما قال : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢].

وأما المعنى الآخر : فهو الإرادة التي معها تمكين ، وهو قوله سبحانه : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] ، فكان قضاؤه في ذلك سبحانه ما أمر به من أن لا نعبد معه غيره ، وما أمر به من البر والإحسان إلى الوالدين ، فأراد الله سبحانه من العباد أن يطيعوه ويعملوا له بما ركب فيهم وأحسن به إليهم من الاستطاعات ، وما أعطاهم من الآلات ، بالاختيار منهم لطاعته ، والإيثار منهم لمرضاته ، ليثيبهم على فعلهم ، ويعاقبهم على تركهم. ولو أراد منهم الطاعة جبرا ، وصرفهم عن المعصية قسرا لكان كلهم جاريا في طاعته تابعا لمرضاته ، ولم يكن المذنب الشاسع أولى بالعقوبة من المهتدي الطائع ، ولم يكن العامل بالطاعة أحق (٢٩٠) من عامل المعصية ، إذ كانا كلاهما أدخلا في عملهما إدخالا ، واستعملا في إرادة الله استعمالا ، فتبارك الله عن ظلم العباد ، وتقدس عن القضاء بالفساد ، الذي لم يطع كرها ، ولم يعص مغلوبا ، بل أمر ونهى ، وحذر وهدى ، وعرّف النجدين ، وبين العملين ، ثم أعطى كل شيء خلقه ، وأعد للمطيعين الثواب ، وللعاصين العقاب ، ثم قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢] ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ١٣٦] ، فأمرهم سبحانه بالإيمان ، وحضهم على التقى والإحسان ، ونهاهم عن الكفر والطغيان ، وعن جميع ما لم يرد من العصيان ، فقال سبحانه : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢] ، وقال : (وَلا

__________________

(٢٩٠) في (ب) : بأهل بالثواب.

٣٢٥

تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) [الأنعام : ١٥١] ، ومثل هذا في القرآن كثير ، وقال : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) [آل عمران : ١٣٠] ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] ... الآية (٢٩١) ، ولله الحمد بأبين البيان ، فأمرهم بما أراد من طاعته ، ونهاهم سبحانه عن معصيته.

ثم قال سبحانه من بعد أن أعطاهم من الاستطاعة ما أعطاهم ، ثم أمرهم ونهاهم ، فقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] ، وقال : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) [النساء : ١٢٣] ، ثم قال سبحانه : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة : ٨٨ ـ ٩٥].

ثم قال من بعد إكمال الحجة عليهم وإثباتها فيهم : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف : ٢٩].

أفلا ترى كيف بيّن ما كان منه فعلا ، وبيّن ما أمر به العباد أمرا؟ فلم يقل فيما حتم به عليهم حتما ، وما كان منه عليهم قضاء وحكما من الموت ، ولا من الخلق : موتوا ؛ ولا : لا تموتوا ؛ ولا : اخلقوا ؛ ولا : لا تخلقوا. ولم يقل فيما أراده منهم فعلا بتخيير واختيار لعظيم المنة والاختيار : كل من قضينا عليه المعاصي عاص ؛ كما قال : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) ، ولم يقل : أمرنا وقضينا عليه بالعصيان ؛ كما قال : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) [ق : ٤٣] ، بل أخبر أنه من ذلك بريء ، فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٢٨] ، فتبارك الله الواحد الأعلى الذي إذا أراد أن يفعل شيئا كان بلا كلفة ، ولا إضمار ، ولا تفكر ، ولا اضطراب ، إذا أراده أوجده ، وإذا أوجده فقد أراده ، فقضاؤه كائن ، وفعله من أفعال العباد بائن ، ليس له مثل ينال ، ولا شبه تضرب له فيه

__________________

(٢٩١) وتمام الآية : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).

٣٢٦

الأمثال ، وهو الواحد المتعال ، الصمد الواحد الأحد الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٣ ـ ٤].

تم جواب مسألته

المسألة الثالثة عشرة : الطبع والختم

ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن الطبع والختم ، فقال : أرأيتم من طبع الله على قلبه ، وختم على سمعه وبصره ، أهو ممن دعي إلى الإيمان ، فيثاب على أخذه ويعاقب على تركه؟ إن قالوا : نعم. فقل : وكيف يقبلون الإيمان وقد ختم على قلوبهم ، والله يقول : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [يس : ١٠]؟ هل ضرهم الطبع أو الختم؟ أم نفعهم؟ أم لم يضرهم ولم ينفعهم؟

فإن قالوا : إنما ختم على قلوبهم بكفرهم ، فقل : هل ضرهم الطبع حين فعل بهم ، وحال بينهم وبين التوبة ، والدخول في الإيمان؟ فإن قالوا : لم يضرهم ولو ساءوا آمنوا فالله قد كذبهم واجتروا على الرد على الله قوله ، فقل : فتراهم حين طبع على قلوبهم حين لم يقبلوا الإيمان ، فإن قالوا : فإنهم لا يقدرون على الإيمان حتى يفتح الله قلوبهم فقد أقروا لله بقدرته ، وانتقض عليهم قولهم ؛ إذ زعموا أن الختم قد ضرهم ، وأنهم يعذبون على ما كان من تركهم الإيمان وأخذهم بالكفر بعد الختم وعملهم بما لا يستطيعون تركه.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من الطبع والختم من الله ، فقال : أرأيتم من طبع الله على قلبه ، وختم على سمعه وبصره ، أهو ممن دعي إلى الإيمان فيثاب على أخذه ويعاقب على تركه؟ فقولنا في ذلك على الله بالحق :

٣٢٧

أن الله لم يرد بذلك إذ قاله أنه طبع (على قلوبهم [طبعا] لا يقدرون على الفهم معه ، ولا أنه ختم على سمعهم ختما لا يقدرون على) (٢٩٢) السمع والاستماع ، وعلى البصر فلا يقدرون على الإبصار والانطباع ، وذلك فأبين الأمر ولا ينكره من عقل. ألم تر وتسمع أن الجاهلية كانوا أرصن عقولا ، وأعظم أحلاما ، وأكثر أفهاما من أهل هذا الدهر؟ ولذلك قالت قريش للرسول فيما كان يعيب من آلهتهم ويبين لهم في ذلك من جهالتهم ، فكانوا يقولون لعمه أبي طالب ، ومن قام معه دون رسول الله صلى الله عليه وعلى أهل بيته وقرابته : عاب آلهتنا ، وسخف عقولنا ، وأطاش أحلامنا ؛ فكانوا ذوي أحلام وعقول جمة ، وأفهام ، فكيف يكون من طبع على قلبه على ما قد يسمعون عنه من فهمه؟ وكذلك كانوا يستمعون إلى الرسول إذا قرأ القرآن ، ويقولون في قراءته كل قول ، ويدبرون فيه التدبير ، ويسطرون فيما جاء به الأساطير. من ذلك ما كان يقول ويتبعونه عليه من القول منهم الوليد بن المغيرة اللعين ، وكانوا له على كفره تابعين ، حين تلا عليهم قول رب العالمين ، فقال ما حكى الله عنه في سورة (نون) حين يقول : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [القلم : ١٠ ـ ١٥]. كذلك كان يقول الوليد الملعون : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) ، ويقولون : (مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) ، كما حكى الله في الكتاب المكنون ، وقال فيهم ربهم ، وذكر عنهم ومنهم ، فقال سبحانه : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) [الدخان : ١٣] ، ويسمعهم ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحاججهم به ، ويقرأ القرآن عليهم ، ويأمره الله سبحانه بذلك فيهم ، فيقول : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٢١٤] ، وقال جل جلاله ، وصدق في كل قول مقاله : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) [المزمل : ١٠] ، وقال : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) [طه : ١٣٠].

__________________

(٢٩٢) ساقط من (ب).

٣٢٨

فهل يقول أحد من ذوي العقول إن من كانت هذه حاله كان مختوما على سمعه ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يناجيه ويناديه؟ وهل يجوز على الرسول أن ينادي ويناجي من سمعه مختوم؟

وكذلك كان نظرهم وأبصارهم فيما يأمرهم الله أن يبصروه من السماوات والأرض إذ يقول : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [ق : ٦] ، فهل يجوز على الله أن يأمر بالإبصار من هو بالختم أعمى؟ فهذا لا يجوز على ديّان الآخرة والدنيا ، ولن يقدر أحد أن يقول إنهم كانوا عميانا لا يبصرون ، وإنهم كانوا صما لا يسمعون ، ومن ذلك ما قد بان منهم ما كانوا عليه من الكمال والمعرفة ، والعقول والتمييز في كل حال.

فإن قالوا : إن الله طبع على قلوبهم ، وختم على سمعهم وأبصارهم عما جاء به الرسول من الحكمة والقول فقط ، وخلوا وما سوى ذلك ؛ فقد وقعوا في أعظم مما كرهوا من المهالك ، إذ زعموا أن الله سبحانه ختم على سمعهم وأبصارهم ، فلا يبصرونه ولا يسمعونه ، وطبع على قلوبهم فلا يفقهونه ولا يميزونه ؛ ثم أرسل نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعوهم إلى مغالبته ، ونفي ما فعل بهم ربهم وركّب فيهم ، وتغييره ـ تعالى الله عن ذلك ـ وإزاحته عن أنفسهم ؛ إذ كان قد أرسله إليهم يدعوهم إلى الإيمان والاهتداء والخير والبر والإحسان ، والطاعة له ولنبيه والاستماع لأمرهما ، والعمل بالقول وباللسان والضمير بطاعتهما ، وقد علم أنهم لا يقدرون على ذلك. فنسب ، من قال بهذا ، إلى الله العبث والاستهزاء بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وزعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتاهم يدعوهم إلى المحال ، ويأمرهم بالمغالبة والدفع لما فعل فيهم ذو الجلال.

ألا تسمع كيف قد أثبت لهم الفهم بما يقال لهم ، والمعرفة بما يتلى عليهم في قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) [محمد : ٢٥] ، فأخبر الله الواحد الجليل فيما أوحي ونزل من التنزيل أن الهدى قد تبين لهم وصح لديهم وثبت في قلوبهم ، ولو لا سلامة القلوب من الختم الذي يذهب إليه الجاهلون ويقول به على الله سبحانه الظالمون ، لم يثبت أبدا في قلوبهم الهدى ، ولو لم يثبت لم يبن. ثم أخبر الله ما سبب ارتدادهم في الطغيان ومعصيتهم من بعد أن بين لهم

٣٢٩

ذلك الرحمن ، فقال : (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) ، ولم يقل : الرحمن ردهم وأضلهم. ثم أخبر بالسبب الذي كان عنهم ، فتمكن إذ قالوه الشيطان منهم ، فقال سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) [محمد : ٢٦].

ثم أخبر بما يصيرون إليه عند موتهم من ضرب الملائكة لوجوههم وأدبارهم ، فقال : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) [محمد : ٢٧] ، ثم أخبر لم فعل ذلك بهم ، وحتم عليهم بضرب الملائكة لوجوههم وأدبارهم ، فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ٢٨] ، ثم قال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) [محمد : ١٠] ؛ أفيظن أحد ممن وهب لبا وتمييزا وعلما أن الله سبحانه أوجب ما أوجب عليهم ، وذكر ما ذكره عنهم ، وأمرهم بالسير (٢٩٣) في الأرضين ، والنظر في آثار الأولين ممن هلك بما هم عليه من الكفران ، وبما يختارونه من الفجور والعصيان ، ولم يجعل لهم إلى ذلك سبيلا ، ويركب إليهم فيه دليلا ، وهم لا يقدرون على ذلك لما قد فعله بهم من الختم على أسماعهم وأبصارهم والطبع على قلوبهم التي بها يعقلون ، وبسلامتها يميزون ويفهمون؟ كذب العادلون بالله والقائلون الزور على الله ؛ بل سلّم ذلك لهم ، ووفّره لإكمال الحجة عليهم ، ثم أمرهم بالتسديد ، (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

ثم نذكر من بعد دفع هذه المهالك ، ونشرح الصدق بما علمنا الله من ذلك ، فنقول :

إن معنى الختم والطبع من الله تبارك وتعالى ، هو على معنى التمثيل لهم والتقريع ، وإثبات الحجة عليهم ، وتبيين ضلالتهم لهم. فيقول سبحانه : إن امتناعكم من فعل الرشد ، وقلة قبولكم له كمن طبع على قلبه ـ بما منعه من لبّه ، وحرمه من تمييزه ونظره وجودة فهمه ، وبما عدم من النظر والغوصان في بحور الفكر ـ من البهائم التي قد منعها الله من ذلك كله ، إذ لم يجعل لها عقولا تميز بها. فلما أن لم يجعل لها سبيلا إلى ما يناله البشر من العقل

__________________

(٢٩٣) في (ب) : بالمسير.

٣٣٠

والفهم والتمييز والنظر ، كان ذلك منه فيها فعلا ، وكان منه طبعا على قلوبها عما فهمه من التمييز أربابها. فمثّلهم في قلة تفهمهم وإنصافهم لمعقولهم ، وتركهم لرشدهم ، واتباعهم لغيهم بمن طبع على قلبه وختم عن التمييز على سمعه وبصره ، عن أن يعلم ما يعلمون ، أو يفهم ما يفهمون من البهائم التي جعلت قلوبها على غير ما جعلت قلوبهم من ذلك ، وختم عليها فكانت بهائم سوائم كذلك. ألم تر كيف يقول ذو العزة والإنعام : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩] ، وقال : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٤] ، يقول : إذ أعطوا من الفهم والتمييز والنطق (٢٩٤) وجودة التحرف في غامض الفكر ما لم تعطه البهائم ، وما قد حجبها عنه العزيز العالم ، وخلقها على غيره من الخلق وصورها على ما قد يراه جميع الخلق ، فأبوا استعمال ما ركب فيهم ، وامتن الله به سبحانه عليهم ، وتركوا النصفة ، وأخذوا في المكابرة والمعاندة لربهم ، الكفر لنعمة خالقهم ، فكانوا لذلك وفيه أضل من الأنعام ، إذ تركوا ما لو علمته الأنعام وعرفته وميزته وفهمته لقبلته وتسارعت إليه ، ولدخلت بأجمعها فيه ، ثم لثابرت إلى الممات عليه. فهذا والحمد لله قول لا ينكسر على من قال به ، بل يصح وينير لذوي العقول ، ويستبين ويصح.

وقد يخرج ذلك على معنى آخر ، فيكون على قدر علمه منهم بما سيكون من اختيارهم للضلال ، وإيثارهم للسفال ، وتركهم للهدى ، وقلة رغبتهم في التقى ، وأنهم لعنتهم وحميتهم وشدة حسدهم لنبيهم ، لا يختارون ما جاء به من الله برأيهم ، وأنهم لا يطيعونه فيما دعاهم من حظهم إليه ، وأنهم سيجاهرون بالجرأة عليه ؛ فلما أن علم الله منهم أنهم يختارون ـ بما ركب فيهم من القدرة والاستطاعة وسلم لهم من الجوارح والآلة ـ معصيته على طاعته ، ومخالفة (٢٩٥) مرضاته ، وأنهم يلقونه يوم الحشر كفارا كذلك ، فختم لهم ، إذ قد علم من غاية أمرهم بذلك ، فختم عليها ولها بما علم أنه يكون آخر اختيارها وعملها. وكذلك قيل في محمد سيد المرسلين إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيين

__________________

(٢٩٤) في (ب) : والنظر.

(٢٩٥) في (ب) : ومخالفته على مرضاته.

٣٣١

فسمي خاتمهم إذ كان آخرهم ، فلما أن علم الله آخر أعمالهم وما عليه يكون فناء آجالهم ، ختم بذلك عليهم ودعاهم به ، وذكره عنهم وفيهم ، فكان ذلك العمل منهم اختيارا ، وكان ما قال الله فيهم منه إخبارا.

وأما ما ذكر الله من الطبع على قلب من على قلبه طبع ، فسنقول فيه بوجه ، من قال به إن شاء الله أصاب ، ووجده بينا نيرا في اللسان والإعراب ، وهو ما تقول به العرب لمن ذكر في ملأ من الناس عن إنسان شيئا مما يفعله ويكتسبه ويصنعه من الردى والخنا : يا فلان طبعت ويحك فلانا وأفسدته وطرحته بما طبعته به من أعينهم (٢٩٦) فعلى ذلك يخرّج الطبع من الله لقلوب الفاسقين عند ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين وعباده المؤمنين ، فيكون طبعه لها عندهم هو ما ذكر وأخبر به عنها من باطن إسرارها ، وفاحش إضمارها وفسادها ، وقلة قبولها للحق واهتدائها ، وكفرها لربها وحسدها لنبيها ، وبما فيها من الدّغل (٢٩٧) والعداوة لخاتم النبيين والمشاقة لرب العالمين ، والمنافقة للمؤمنين ، والصد عن سبيل أحكم الحاكمين ، كما قال أصدق الصادقين : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ٣٢] ، فيكون ما قص عنهم من قصصهم وأخبر به من الضلالة عنهم ومن الحيرة والتكمه (٢٩٨) والجهالة والكفر والشقاق والسفالة ، وما سماهم به من ذلك ودعاهم طبعا طبعهم به. فهذه ـ والحمد لله ـ حجة فيما سأل عنه من الختم والطبع ، شافيه مجزية لمن أراد الحق من جميع الناس كافية. والحمد لله على توفيقه ، ونشكره على تسديده ، وكذلك يقول المحقون ، لا ما قال في الله المبطلون : إنه سبحانه ختم على الأسماع فلا تسمع ، وعلى الأبصار فلا تنفع ، وأنه على قلوب الكافرين طبع ، ثم أمرهم بخلاف ما فعل بهم ، وكلفهم فعل ما منه منعهم ، وعنه سبحانه حجزهم ، ثم عذبهم على ترك ما لا

__________________

(٢٩٦) عبارة (ب) : طبعت ويحك عندهم وأفسدته وطرحته بما طبعته به من أعينهم.

(٢٩٧) الدغل : دخل في الأمر مفسد. تمت قاموس.

(٢٩٨) قال في القاموس : والكامه من يركب رأسه ، لا يدري أين توجه كالمتكمه.

٣٣٢

يقدرون على فعله لما قد حجزهم عنه به من طبعه وختمه ، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وخسر المبطلون خسرانا مبينا.

تم جواب مسألته

المسألة الرابعة عشرة : معنى زيادة المرض من الله في قلب الإنسان

ثم أتبع ذلك المسألة عن الزيادة ، فقال : خبرونا عن الزيادة ، فإن الله يقول : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة : ٩] ، وقوله لقوم : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) [التوبة : ٧٦] ، (ألستم تعلمون أن الله زادها مرضا ، ومد آخرين في طغيانهم يعمهون ، وأعقب قوما نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه؟) (٢٩٩) فإن قالوا : نعم ، ولكنه صنع ذلك بهم عقوبة بذنوبهم. فيقال لهم : فنعم ، أفليسوا معذورين بما عملوا من معصيته حين فعل بهم ذلك؟ فإن قالوا : لا. فقل : فقد دخلتم فيما عبتم إذ زعمتم أن الله يعذب قوما على ما لم يستطيعوا تركه ؛ لأنه فعل ذلك بهم.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه (٣٠٠) وتوهم فيه من التجوير له في فعله ، فقال :

__________________

(٢٩٩) ساقط من (ب).

(٣٠٠) غير موجودة في (ب).

٣٣٣

خبرونا عن الزيادة التي ذكرها الله سبحانه ، وعظم عن كل شأن شأنه حين يقول سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) ، وعن قول الله سبحانه : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) ، فسنجيب ، إن شاء الله في ذلك من الجواب بما يقبله ذوو الإنصاف والألباب ، فنقول في ذلك على الله سبحانه بالصواب :

فأما قوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) ، فهم المنافقون الذين كانوا يحتجرون من الرسول ومن المؤمنين بانتحال الإيمان وتلاوة ما أنزل من القرآن ، وقلوبهم لذلك منكرة ، وفي دين الله فاجرة ، وبه سبحانه كافرة. فهم يراءون بألسنتهم الرسول مخافة القتل والتنكيل ، وهم عن الله بضمائرهم حائدون ، وللحق بينهم وفي سرائرهم معاندون ، ألا تسمع كيف يقول فيهم ، ويدل بصفاتهم عليهم حين يقول : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] ، وقال سبحانه يخبر عنهم بما هم فيه وما يجتمعون في خلواتهم من المشاقة عليه : (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة : ٧٦] ، ومن ذلك ما قال سبحانه في الأعراب : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحجرات : ١٣] ، ومن قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ما يقول الله سبحانه : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح : ١١] ، فأخبر الله عنهم بما كان من كذبهم فيما ذكروا أنه شغلهم ، وأخبر بنفاقهم وتوهيمهم ما وهموا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إحقاقهم فيما طلبوا منه من الاستغفار لهم والصفح في ذلك عنهم ، فأمره الله سبحانه أن يخبرهم أن استغفاره لهم غير دافع عقوبة الله عنهم إذا أراد الله الانتقام في ذلك منهم ، فقال سبحانه : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) ، ثم أخبر نبيه صلى الله عليه

٣٣٤

وآله وسلم من أمورهم بما كانوا يتوهمون أنه قد خفي (٣٠١) عليه علمه مما كانوا ظنوه وأجنوه في صدورهم ، فقال ذو المعارج والجلال : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) [الفتح : ١٢] ، فأخبرهم سبحانه بما ظنوا من الظن القبيح في الرسول والمؤمنين وتوهموا ، وما زين في قلوبهم الشيطان من ذلك وأملى ، وأنهم كانوا في ذلك قوما بورا.

وأما قوله جل جلاله ، وتقدس عن أن يحويه قول ويشبهه شيء أو يناله (٣٠٢) : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) فقد تخرج على معنيين وكلاهما إن شاء الله للحق مضاف (٣٠٣)

فأما أحدهما : فأن يكون المرض الذي في قلوبهم هو الشك الذي هم فيه يلعبون من جحدانهم لما يرون من آيات ربهم ، فقلوبهم لذلك مريضة ، فلا يؤدون لله سبحانه من فرائضه فريضة ، فهم في شكهم ولعبهم يترددون وفي خطيئاتهم (٣٠٤) وطغياء حيرتهم يعمهون ، كما قال سبحانه : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) [الدخان : ٩] ، فقد تكون زيادة الله لهم من المرض الذي ذكر أنه في قلوبهم لشكهم وضلالهم الذي به مرضت قلوبهم ومنه دويت صدورهم ، فكلما زاد الله منه نبيه تبيانا وعلما وفضلا وحكما ازداد لذلك مرض قلوبهم تراكما ، وزادهم الله بتنزيل الحق غيظا وغما.

وقد يكون ذلك المرض حل في قلوبهم لشدة الحسد منهم لنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما جعل الله من البركات واليمن في كل الحالات لديه ، ولما خصه الله به دونهم وآثره به سبحانه عليهم من هبوط الملائكة نحوه ، وما عظّم به الله له خطره وقدره ، فجعله الله له صفيا يوحي إليه وينزل إليه وحيه بفرائضه عليه ، وما خصه به من أن جعل طاعته

__________________

(٣٠١) في (ب) : غبي.

(٣٠٢) في (ب) : عن أن يشبهه شيء أو يناله.

(٣٠٣) في (ب) : مصيبان.

(٣٠٤) غير موجودة في (ب).

٣٣٥

له طاعة ، ومعصيته له معصية ، فقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨] ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [النساء : ٥٩] ، وقال سبحانه : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] ، وقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [الفتح : ١٧]. فلما أن رأت قريش هذه الكرامات البينات النيرات التي لا يقدرون على دفعها ولا يأتون أبدا بمثلها ، اشتد لذلك حسدها لرسول رب العالمين ، وعهدوا عليه وعلى من تبعه من المؤمنين ؛ فمنعه الله منهم ، ورد حسدهم وبغيهم في نحورهم ، فنصبوا له المحاربة وطالبوه أشد المطالبة ، فردهم الله بغيظهم ، كما قال سبحانه : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) [الأحزاب : ٢٥] ، وذلك حين تحزبت قريش والعرب وطلبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غاية الطلب ، فكفاه الله في ذلك اليوم والمسلمين القتال بأخيه ووصيه علي بن أبي طالب أفضل المستشهدين ، فقتل عمرو بن عبد ود اللعين ، وكان عماد المشركين ، وفارس المتحزبين ، فانهزم بقتله جميع الكافرين ، وفل الله حد المبطلين ، وأظهر دعوة المحقين ، ونصر رسوله خاتم النبيين ، وكبت أعداءه المحادين ، قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) [المجادلة : ٥] ، فلما أن أذلهم وهزمهم ، وكبتهم كما كبت الذين من قبلهم ، تدارك الكبت في قلوبهم وترادفت الحسرات في صدورهم ومرضت لذلك وبه منهم القلوب ، وأحاطت به منهم الذنوب ، فهم في كل يوم يرون من نصر الله لنبيه ، ويسمعون عنه ما يزيدهم حسدا ، ويحدث لهم في قلوبهم مرضا ، حتى صدق الله رسوله الرؤيا بالحق التي كانت في غزوة الحديبية ، أراه وأكمل له من دخول مكة آمنا لا يخاف رصادا ، فنزل بالمشركين من ذلك ما كانوا يخافون ، وحقق الله لرسوله ما كانوا يحذرون ومن بغى عليه لينصرنه الله إن الله لقوي عزيز.

وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) ، فقد يمكن أن الله سبحانه لما أن كذبوه وأخلفوه خذلهم ، ومن الإرشاد والتوفيق تركهم ، فتكمهوا في

٣٣٦

ضلالهم ، وارتكبوا من أعمالهم ، فأعقبهم كثرة ضلالهم وعظيم اجترائهم على قول الزور والبهتان ، وارتكاب الضلال والعصيان تماديا في ذلك حتى مردوا على الكذب والفساد والنفاق ، وقول المحال والإلحاد ، فيجوز أن يقال : أعقبهم الله نفاقا ، إذ تركهم من التوفيق والتسديد (٣٠٥) والتحقيق ، حتى غلب عليهم الهوى ، ورفضوا الخير والهدى ، واستعملوا بينهم النفاق في كل أمرهم ، فعادوا منافقين وللرشد تاركين ، ينافق بعضهم بعضا ، ويفرضه في الغيب له فرضا.

وقد يكون الذي أعقبهم في قلوبهم النفاق هو فعلهم وكذبهم وغدرهم في موعدهم الذي أوجبوه لخالقهم ، وذلك أن الكذب والردى يجر بعضه بعضا ، فلما أن كذبوا فيما قالوا ووعدوا خالقهم من أنفسهم فأخلفوا ، كانوا لغيره فيما يعدون أخلف ، ولسواه سبحانه أكذب ، فكاذبوا بيناتهم وأبطلوا بالزور قالاتهم ، فدعت حالة حالة ، حتى تكمهوا في الغي والضلالة ، ودعا ما كان منهم أولا من الكذب والإخلاف إلى قلة الصدق والإنصاف ، فحل بينهم التضاغن وذهب عنهم الائتلاف ، فعاد كل منافق في قوله غير صادق. فكان الذي أعقبهم النفاق آخرا هو فعلهم للكذب والإخلاف أولا ، فجر فعل الصغائر (٣٠٦) إلى ارتكاب موبقات الكبائر حتى صار ذلك لهم عادات ، وكان لهم وعليهم علامات يعرفون بها دون غيرهم ودلالات. فهذا أيضا معنى يصح في اللسان ، ويعرفه من كان ذا بيان ، والحمد لله ذي الجلال والبرهان والجبروت والسلطان.

وأما ما سأل عنه من معنى قول الله سبحانه : (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) : فقد يمكن أن يكون المعنيّ باللقاء هو الله الرحمن الأعلى ، يريد بقوله : (يَلْقَوْنَهُ) : أي يلقون حكمه ويعاينونه.

وقد يكون الذي يلقونه (٣٠٧) ما تقدم من عملهم ومضى ، فيعاينونه في الآخرة يوم الحساب ، ويجدونه عند الله مثبتا في الكتاب ، كما قال سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما

__________________

(٣٠٥) في (ب) : والرشد.

(٣٠٦) في (أ) : الضغائن.

(٣٠٧) في (ب) : يلقاه.

٣٣٧

قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [يس : ١٢] ، وقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] ، يقول سبحانه : يرى جزاءه ، ويعاين ما حكم عليه به من الخير والثواب والعذاب والعقاب ، فيكون لقاؤهم لأعمالهم هو توقيف الله لهم على القليل والكثير من أفعالهم ، وما يكون منه سبحانه على ذلك من جزائهم ؛ فيلقى المحسنون ما وعدهم الله في إحسانهم من الثواب ، ويلقى المجرمون ما وعدهم من العقاب.

تم جواب مسألته

المسألة الخامسة عشرة : هل يعذب الله عباده على ما صنعه فيهم؟

ثم أتبع ذلك (الحسن بن محمد) (٣٠٨) المسألة عن ما صنع الله بعباده ، فقال : خبرونا عما صنع الله بالعباد ، هل يعذبهم عليه؟ فإن قالوا : لا. فقل : خبرونا عمن زاده الله كفرا ، ومدّه في طغيانه ، وأعقبه النفاق في قلبه هل يعذبه عليه؟ فإن قالوا : نعم ؛ فقد دخلوا فيما كانوا يعيبون ، وإن قالوا : لا. فقل : فقد زعمتم أن الله لا يعذب من كان على الكفر ، ولا يضر من كان عليه ، وأنتم تزعمون أن الله إنما صنع ذلك عقوبة لهم. وسلهم : هل استطاع هؤلاء الترك لما صنع الله بهم ، والخروج منه؟ فإن قالوا : لا ؛ فقد أجابوا ، وإن قالوا : نعم ؛ فقد كذبوا بكتاب الله ، وخالفوا قول الله إذ يقول : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) ، (فإن كانوا يقدرون على أن يصرفوا من النفاق قلوبهم قبل أن يلقوه) (٣٠٩) ، فقول الله بزعمهم باطل في قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [البقرة : ٧].

تمت مسألته

__________________

(٣٠٨) سقطت من (أ).

(٣٠٩) سقط من (ج).

٣٣٨

جوابها :

وأما ما سأل عنه مما التبس عليه ، فتعسف بقول الزور فيه ، فقال : أخبرونا وبما عندكم نبئونا عن قول الله سبحانه : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام : ١١٠] ، وفيما صنع الله بالعباد ، تقولون : هل يعذبهم على ما فيه أدخلهم ، وعليه جبرهم؟

فلعمري ، لقد تقدم في ذلك الجواب ، وقلنا فيه إن شاء الله بالصواب ، ولا بد أن نقول فيما سأل عنه في هذا الجواب ، نأتي على شرحه إن شاء الله بشرح شاف فنقول :

إن معنى قوله سبحانه : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) : هو تركه (لهم من) (٣١٠) توفيقه وتسديده وعونه ولطفه وتأييده ، لما خرجوا من طاعته وارتكبوا بطغيانهم من معصيته ، فولى بعضهم بعضا ، ولم يقم لهم سبحانه أمرا ، كما قال سبحانه : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الأنعام : ١٢٩] ، فلم يبرأ سبحانه منهم ويكلهم إلى أنفسهم جل وعظم شأنه إلا من بعد أن تولوا وكفروا وتعدوا واستوجبوا منه الخذلان بما تمادوا فيه من الطغيان ، كما يستوجب الرشد والتوفيق بالطاعة منه المؤمنون ويستأهل بالاهتداء منه والزيادة في الهدى المهتدون ، كما قال أحكم الحاكمين ، وأصدق القائلين : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧] ، فأخبرنا سبحانه أنه ولي المتقين ، مجانب خاذل للفاسقين ، وكذلك قال سبحانه رب العالمين : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١] ، يريد سبحانه أنه ولي الذين آمنوا والمتولي في كل الأسباب لهم ، وأنه الخاذل للكافرين والتارك لتأييدهم ، الرافض لتوفيقهم وتسديدهم. ألا ترى كيف يقول ويخبر بتأييده وصنعه ، وتسديده ولطفه للمؤمنين ، وتخليته بين المؤمنين والكافرين ، وممن أطغاهم من الطاغوت والطواغيت ، فهم الذين أجابوهم إلى دعائهم واتبعوهم في أهوائهم من مستجيبي الشيطان ، وأبالسة الإنس الملاعين ، الذين أطغوهم واستهووهم في الردى والطغيان ، ومنوهم مع الإقامة على ذلك من الله الغفران ،

__________________

(٣١٠) سقطت من (أ ، ج).

٣٣٩

قال الله سبحانه : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة : ٢٥٧].

وأما ما قال وعنه سأل فقال : هل يعذب الله أحدا على فعله به؟ أم يقدر الخلق على الخروج مما أدخلهم جل جلاله فيه؟

فقولنا في ذلك على الله بما تقدم من شرحنا له ، من أن الله جلا جلاله أعز وأكرم وأرأف وأرحم وأحلم من أن يدخل عباده في سبب من الأسباب أراده ، ثم يعذبهم عليه ويعاقبهم فيه ، إن هذا إلا جور من الفعل ، وإنه من فاعله لأجهل الجهل. فلو كانت أفعاله لا تتم إلا بأفعالهم لكانت حاله في العجز كحالهم ، ولكان مضطرا إلى خلقهم وإيجادهم ، إذ لا يتم له فعل إلا بأعمالهم ، فلقد آتاهم إذا نظرا منه لنفسه لا لهم ، وضرورة الخالق إلى الخلق في فعله كضرورة الخلق إلى الخالق في أمره ، فكلّ إلى غيره محتاج. وذلك فبيّن على قياسهم في المنهاج ، ولو اشتبهت الحالات لاشتبهت بلا شك الذات ، فسبحان من بان عن خلقه فليس له حد ينال ، ولا مثل يضرب له به الأمثال ، الذي بان من كل فعل فعله ، وجل عن كل قول قوله.

وأما ما قال من قوله : هل يقدر الخلق على أن يخرجوا مما أدخلهم الله فيه وصنعه بهم؟ فإن إدخال الله وصنعه بالعباد يكون على معنيين كليهما متضادين :

أحدهما : إدخال حكم وأمر وافتراض منه ، معه تمكين واختيار ، لم يرد الله أن يدخلهم فيه جبرا ، بل أراد أن يدخلوا اختيارا بما ركب فيهم وأعطاهم من الآلات والاستطاعات ليكمل لهم الثواب على الطاعات ، ولو أدخل قوما في الطاعة ، وأدخل آخرين في المعصية ثم أثاب وعاقب لكان على غير (٣١١) فعلهم عاقب وأثاب ، جل الله عن ذلك رب الأرباب ، فهم قادرون على الخروج من هذا الفعل على ما ذكرنا من تمكين الله الواحد الأعلى.

وأما المعنى الثاني (٣١٢) الذي أدخلهم فيه وصنعه بهم : فهو ما خلقهم عليه وصورهم من

__________________

(٣١١) في (ب) : غيره.

(٣١٢) في (ب) : الآخر.

٣٤٠