مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

مفتر على الله أقبح الكذب. فنبرأ إلى الله من هذه المقالة ، وممن قال على الله بها.

فبالله (١٨٢) إن الأمر لواضح ، وإن الشبهة في هذه المعرفة لبينة ، وفقنا الله وإياك لأجمل الأقاويل وأحسنها وأليقها بالله ؛ لأن الله سبحانه يقول : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف : ١٨٠] ، فالله أحق بكل اسم حسن ، وأبعد من كل اسم قبيح من هذا الخلق الذي يقولون عليه بهذا القول الذي يبرءون أنفسهم منه ويزعمون أنه لو كان منهم كان أكبر الظلم.

وزعم هؤلاء القوم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثه الله ومن قبله من الأنبياء عليهم‌السلام يدعون عباد الله إلى عبادة الله ، ولعمري إن ذلك كذلك ، قال الله سبحانه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] ، وقال موسى وهارون عليهما‌السلام ، لفرعون لعنه الله : (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) [طه : ٤٧] ، وقال : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] ، معناها : ويزيدون ؛ لأن الله سبحانه لا تخفى عليه خافية ولا تعروه سنة ولا يدخل [عليه] شك ، وهذا في أشعار العرب كثير ، قال الشاعر :

فلو كان البكاء يرد ميتا

بكيت على عمير أو عقاق

ثم قال مبينا أنه يبكي عليهما جميعا في البيت الثاني :

على المرءين إذ هلكا جميعا

لشأنهما بحزن واحتراق

فأقام (أو) مقام (الواو). وكذلك قال عزوجل : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) [يس : ١٤].

فإذا كان الأمر على ما قال هؤلاء الظالمون : إن الله تبارك وتعالى قضى على قوم بالمعصية لا يقدرون يعملون غيرها ولا يخرجون منها إلى شيء من الطاعة ولا من أعمال البر ؛ وقضى على آخرين بالطاعة له وبالعمل بما يرضيه لا يقدرون يخرجون من الطاعة إلى

__________________

(١٨٢) في (ب) : فيا لله.

٢٦١

العمل بشيء من المعصية ؛ ممنوعا من ذلك الفريقان ، وكان مستعملا فيما حتم في رقبته وقضى عليه لا يطيق الخروج منه إلى غيره ، فإلى من أرسل الله الأنبياء والمرسلين ، وإلى من دعوا؟ ومن خاطبوا؟ وعلى من احتجوا؟ أم من تبعهم وأطاعهم؟ أم من كانت حاجة العباد إليهم؟ أم ما كان المعنى عند الله سبحانه في إرسالهم؟ أتراه أرسلهم عبثا أم سخريا؟ أم بيانا وتوكيدا للحجة على العباد وتوقيفا؟ فإن كان سبحانه أرسلهم إلى قوم وقد منعهم من طاعته ؛ يدعونهم إلى الدخول فيها وقد حال بينهم وبين ذلك ومنعهم ؛ طالبا للحجة عليهم بلا حجة لازمة بينة ، فهذا أكبر الظلم وأحول المحال.

ليس أحكم الحاكمين يعبث ولا يغلو (١٨٣) ولا يسخر ولا يستهزئ ، ولا خلق الجنة والنار باطلا ، ولا أرسل المرسلين عبثا.

لو كان الله سبحانه على ما يقولون ؛ ما أرسل إلى خلقه رسولا ، ولا دعاهم إلى طاعة ، ولا دلهم على ما يرضيه مما يسخطه ، ولا احتج عليهم بالآيات المعجزات ، ولا بالبراهين الواضحات التي عجز عنها جميع الكهنة والسحرة ، والفراعنة وشياطين الإنس والجن فلم يقدروا أن يأتوا منها بشيء ، مثل التسع آيات التي كانت مع موسى عليه‌السلام ، والمعجزات التي جاء بها غيره من الأنبياء ، كل هذا احتجاج من الله سبحانه على خلقه ، ليطيعوا أنبياءه ورسله ، ويجيبوهم إلى خلع الأنداد والأصنام والأوثان والآلهة المعبودة من دونه. ولكن الله سبحانه مكنهم وفوضهم ، وأرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى ما هم قادرون عليه ، ويندبونهم إليه ليخرجوهم بذلك من ظلمة الشرك إلى نور الإسلام. ألا ترى إلى قوله عزوجل : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٢٥٧] ، فلولا أن الله تبارك وتعالى قد علم أن عباده يقدرون على طاعة رسله ما أرسلهم إليهم ، ولا أمر بطاعتهم ولا حثهم على أداء ما جاءوا به من فرائضه ، وما دعوا به من اتباع مرضاته ، وذلك لما مكنهم الله منه ، وجعل فيهم من القوة

__________________

(١٨٣) هكذا في الأصل.

٢٦٢

والاستطاعة ليركبوا بها طبقا عن طبق ، تفضلا منه عليهم ، وإحسانا منه إليهم ، وإكمالا للحجة فيهم وعليهم لئلا يكون لأحد على الله حجة بعد رسله ، وما شرع من فرائضه ، وما دعا إليه من طاعته ، وحذر من معصيته ، وذلك قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥].

ومن أكبر عجائبهم أنهم يزعمون أن الله تبارك وتعالى قضى على العباد بالمعاصي قضاء حتما لا يمكنهم الخروج من ذلك القضاء ، وقدره عليهم وشاءه لهم ؛ ثم زعموا مع هذا القول أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل إلى الناس كافة ، وأن كل ما أمر به أو نهى عنه من تحليل شيء أو تحريم آخر لله رضى وطاعة ومرادا ومشيئة ، إذ رجعوا فأكذبوا أنفسهم وطعنوا على نبيهم فزعموا أن جميع ما نهى الله عنه قضاء ومراد ومشيئة.

فانظر ـ يا بني ـ ما بين هذين القولين من التناقض والعمى والحيرة ، بينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحث على طاعة الله والقيام بأمره والأداء لفرضه ، إذ صار ينهى عن جميع ذلك.

وانظر إلى ما هو أعجب من هذا ، قولهم في إبليس ـ لعنه الله ـ يزعمون مرة أنه لله عاص وعليه مفتر ، بل (١٨٤) قد افترض عليه ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتارة يزعمون أن إبليس لله ولي يدعو إلى قضائه في معنى قولهم ، وما تلزمهم إياه الحجة. وإن كانوا غير مصرحين بولايته لله غير أنهم زعموا أن جميع الفواحش التي يدعو إليها إبليس شاءها الله وأرادها ، ومن كان إلى طاعة الله ومشيئته ومراده داعيا (١٨٥) ، فهو ولي لله مطيع ، فمرة (عندهم إبليس مطيع ، ومرة) (١٨٦) عدو مفتر.

وانظر أيضا إلى هذا التمييز وهذه العقول التي جعلوا بها سبيل محمد وسبيل إبليس سواء ، حتى جعلوا الصفة فيهما واحدة متشابهة كلاهما ، وهو عندهم يدعو إلى قضاء الله

__________________

(١٨٤) في (ب) هنا زيادة : قد افترى.

(١٨٥) سقط من (ب).

(١٨٦) سقط من (ب).

٢٦٣

وأمره ومراده ، ويصدقون محمدا عليه‌السلام مرة فيما جاء به من القرآن والدعاء إلى الله وإلى أمره ومراده. ومرة أخرى يكذبون ذلك ويقولون إن المعاصي من الله ، وإن الله شاءها وأرادها من العباد ، وإنه عليه‌السلام نهى عن مشيئة الله وإرادته. فإن كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى عما ذكروا أن إبليس يدعو إلى ذلك الذي أراده الله من العباد فلا تراه في قياسهم لله عاصيا ، ولا عليه مفتريا إذ كان في الدعاء إلى قضاء الله مجتهدا ، ومن كانت هذه سبيله فهي غير سبيل العاصين ، ولا أعرف ـ كما قلنا وعلى قولهم ـ بينه وبين محمد عليه‌السلام فرقا في الدعاء إلى قضاء الله ، خاصة إذ كان محمد يدعو إلى بعض قضاء الله ، ثم أمر ونهى بزعمهم عن بعض قضاء الله وأمره ، وكذلك إبليس ـ لعنه الله ـ يدعو على قولهم إلى بعض قضاء الله وأمره وينهى عن بعض قضاء الله وأمره ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عما يدعو إليه إبليس من هذا القضاء ، وإبليس ـ لعنه الله ـ يدعو إلى ما ينهى عنه محمد ، وكلاهما عدو الآخر.

فيا سبحان الله!! ما ذا بينهما من التباعد! وما أشد اختلافهما ، وأبين تناقض أمرهما عند أهل المعرفة والعقل ، وأخبث قولهم هذا الذي قالوا به.

ومن الحجة عليهم ، أيضا ، التي لا يجدون لها نقضا ، ولا بد لهم عندها من أن يكذبوا أنفسهم وقولهم ، أو يلزموا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعصية والتعدي فيما أمره الله به ، يقال لهم : أخبرونا عن محمد عليه‌السلام حين أمره الله بدعاء الناس كافة إلى عبادته والعمل بفرائضه ، فوجدهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما كانوا عليه وبه عاملين من عبادة النار والحجارة والأصنام والأنداد ، وأكل الربا وشهادة الزور ، وعقوق الوالدين ، وقتل الأطفال ، وسفك الدم الحرام ، والقول إن الله ثالث ثلاثة ، وإن له ولدا وصاحبة ، وإنه بخيل ، وإن يده مغلولة ، وما أشبه هذا القول من الفواحش ؛ أمرهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلزوم ذلك ، وحثهم على العمل به والاجتهاد فيه؟ وأمر أيضا من وجده يعبد الله وحده ، ويقول إنه ليس معه شريك ، ولا له شبيه ، ويسجد له من دون المعبودات كلها ، ويحرم الزنا ، والربا ، وأكل مال اليتيم ، وقتل الطفل ، ويأمر بخلع المعبودات كلها من دون الله ، أمرهم بلزوم ما هم عليه ، وحثهم على أدائه؟ لم يغير على أحد من العالمين شيئا ، ولم ينههم عن شيء ، ولم يأمرهم بشيء غير الاجتهاد فيما هم فيه؟ فقد صدق من زعم

٢٦٤

أن جميع الأشياء من الله ، وله رضا وقضاء وأمر ومشيئة. وإن كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن شيء مما ذكرنا من العملين وميز بين المنزلتين ، وسمى أحدهما طاعة ووعد من عمل بها الجنة ؛ وسمى المنزلة الأخرى معصية ، وتوعد من عمل بها النار ، فقد كذب من زعم أن كل شيء مراد الله وقضاء. فإن أحبوا فيكذبوا أنفسهم للزوم الحجة لهم ، وإن أحبوا أن يقولوا إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاص متعد عليه ، ناه عن قضائه وأمره ، وأن الله تبارك وتعالى لم يأمرهم بتحريم شيء مما حرم ، وأن جميع ما حرم أحل منه بالتكليف منه لا من الله ، نقض من قال بهذا كتاب الله عزوجل ، إذ يقول له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) [الأعراف : ٢٠٣] ، وهذه الصفة والقول لا يجوزان في محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا له.

ومن الحجة عليهم أن يقال لهم : أخبرونا عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكان عندكم رءوفا رحيما حريصا على العباد شفيقا مريدا لهم أن يطيعوا الله ولا يعصوه؟ وعن قول الله سبحانه فيه : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة : ١٢٨] ، أكان كذلك أم كان عندكم على غير هذه الصفة من قلة الرأفة والرحمة والحرص؟ فلن يجدوا بدا من أن يقولوا : كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رءوفا رحيما ، كما وصفه الله ، فحينئذ يقال لهم : فأين الرأفة والرحمة ممن يأمر العباد بترك طاعة الله ، والخروج عن مشيئته ومراده ، والرد لقضائه وأمره ، وكيف يكون عندكم حال من نهى عما ذكرنا وحال من أطاعه في ترك ما ذكرنا مما هو لله مشيئة ومراد؟ وأين الرأفة والرحمة ممن يأمر العباد بما لهم فيه الهلاك والغضب عند الله؟ هذا قول ينقض القرآن ويفسده ، وهو حجة الله العظمى على عباده ، وفيه تحريم ما حرم وتحليل ما أحل ، فإذا كان المؤدي له في قولكم وعلى مذهبكم ينهى عن طاعة الله ومشيئته فكيف السبيل عندكم أن يوثق به فيما أدى إلينا من تحليل وتحريم إذ كان ينهى عن قضائه ومراده ، فقد احتمل إن كان يفعل ذلك بلسانه أن يفعله ومثله في الكتاب الذي أداه فيحلل الحرام ويحرم الحلال.

تعالى الله عما أسند إليه أهل هذه المقالة الحمقاء من التلعب بعباده والعبث بخلقه ، وجل شأن محمد عليه‌السلام أن يكون فيه شيء من هذه الصفة ، أو يكون على شيء مما يكره

٢٦٥

الله سبحانه. بل لم يزل صلوات الله عليه ناهيا عن نهي الله داعيا إلى أمر الله ، مستقلا في ذلك كله بعداوة الآدميين والناس أجمعين ، باذلا لنفسه ، داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، حتى قبضه الله إليه وقد غفر ذنبه وشكر فعله صلوات الله عليه وعلى آله. فميز يا بني القولين ، وفكر فيما بين المنزلتين ، تصح لك الحجة ، ويبن لك الحق ؛ لأن الحق غير خفي على ذي مرة سوي. نسأل الله التوفيق والتسديد ، ونعوذ به مما أسند إليه المبطلون وقال به فيه الجاهلون. فكل من قال على الله سبحانه شيئا مما ذكرنا وأسند إليه سبحانه ما حكينا من قول أهل الضلالة والردى ، والحيرة والعمى ، فما عرف الله العلي الأعلى في شيء من أيام الدنيا ، وهو عند الله من أجهل الجاهلين ، وأكفر الكافرين ، وأضل الضالين ؛ لأنه قد نسبه سبحانه إلى أقبح صفات المخلوقين المستهزئين العباثين المتفكهين بعباد الله ، الحاكمين فيهم بغير حكم الله ، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

تم الكتاب والحمد لله رب الأرباب ، وصلى الله على محمد النبي وعلى

آله الطيبين وسلم ، (وحسبنا الله ونعم الوكيل) (١٨٧).

__________________

(١٨٧) سقط من (ب).

٢٦٦

كتاب الرد على الحسن بن محمد بن الحنفية

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الكتاب

الحمد لله الذي علا على الأشياء بطوله ، وتقدس عن مشابهة المخلوقين بحوله. الذي علا فقدر ، وقدر فقهر ، وعصي فغفر ، وأطيع فشكر. الذي لا مثل له فيساويه ، ولا ضد له فيناويه. الذي لا تدركه الأبصار ، ولا تجن (١٨٨) منه الأستار. العالم بما تجن قعور البحور ، وما تكن جوانح الصدور ، العالم بما سيكون ـ سبحانه ـ من قبل أن يكون. اللطيف الخبير ، السميع البصير ، الجليل الحكيم ، الكريم الرحيم. الذي دنا فنأى ، ونأى سبحانه فدنا ، رابع كل ثلاثة ، وسادس كل خمسة ، الداني من الأشياء بغير ملامسة ، المحيط بها من غير مخالطة ، العالم بباطنها من غير ممازجة ، فعلمه بما تحت الأرضين السفلى كعلمه بما فوق السماوات العلى. الموجد للأشياء من غير شيء ، وجاعل الروح في كل حي. خلق خلقه حين أراده ، وإذا شاء سبحانه أباده ، بلا كلفة ولا اضطرار ، ولا بتخيل ولا إضمار ، ولا حاجة منه إلى الأعوان ، إذا أراد إيجاد شيء كان ، بلا كلفة. البريء من أفعال العباد ، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد ، الذي لم يلده والد فيكون مولودا ، ولم يلد ولدا فيكون لذلك محدودا ، الخالق غير مخلوق ، والرازق غير مرزوق. الذي بقدرته قامت

__________________

(١٨٨) تحجب.

٢٦٧

السماوات بغير عماد (١٨٩) ، وفرش لعباده الأرض ذات المهاد ، فاستقلت الأقطار ، وسجرت (١٩٠) البحار ، وهطلت الأمطار ، ونبتت الأشجار ، وجرت الأنهار ، وأينعت الثمار ، فالق الحب والنوى ، ومالك الآخرة والدنيا ، زارع كل ما يحرثون ، ومنزل الماء الذي يشربون ، وخالق النار التي يورون ، محصي الأعمال ، ومؤجل الآجال ، ومجري الأرزاق ، ومسبب الأرفاق. الصادق في كل قول قوله ، النافذ في كل شيء فعله ، الذي أمر ونهى ، فأمر بالتقوى ، وزهد في الدنيا ، ونهى عن العصيان ، وحض على الإحسان (١٩١) ، وخلق ثوابا وجعل عقابا ، فأعد للمطيعين الجنان ، وأجج للعاصين النيران (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم : ٣١] ، قابل التوبة ، مقيل العثرة ، مجيب الدعوة ، الذي لا يغافص (١٩٢) من عصاه ، ولا يخيب أبدا من رجاه ، يقبل اليسير الصغير ، ويعطي عليه الكثير (١٩٣) ، الذي لم يزل قادرا ولا يزال ، فسبحان ذي القدرة والعز والجلال.

أحمده على نعمائه ، وأعوذ به من بلوائه ، وأستجير به من نقمته ، وأستديمه لنعمته ، الذي شملت خلائقه نعماؤه ، وتظاهر عليهم إحسانه وآلاؤه ، سائق كل غنيمة وفضل ، وكاشف كل عظيمة وأزل (١٩٤). أشهد له سبحانه بالربوبية والعدل (١٩٥) والصدق والوحدانية ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، مقلب القلوب ، الغافر لمن تاب من موبقات

__________________

(١٨٩) في (ب) : عمد.

(١٩٠) فاضت.

(١٩١) في (ب) : الإيمان.

(١٩٢) قال في اللسان : غافص الرجل مغافصة وغفاصا : أخذه على غرة فركبه بمساءة.

(١٩٣) في (ب) : الكبير.

(١٩٤) قال في اللسان : الأزل : الضيق والشدة.

(١٩٥) في (أ) : وبالعدل.

٢٦٨

الذنوب ، البريء المتعالي عن كل نصب ولغوب (١٩٦) ، البائن عن الصفات ، فليست تحده القالات ، ولا تنقصه الساعات ، ولا تعروه السنات ، المحمود في كل الحالات.

وأشهد أن محمدا عبده ، ورسوله إلى خلقه ، وأمينه على وحيه ، صلى الله عليه وعلى آله ، الداعي إليه ، بعثه سبحانه بحجته ، واستنقذ به من النار أهل طاعته ، بعثه في طامية طمياء (١٩٧) ، ودياجير مظلمة عمياء ، وأهاويل فتنة دهماء ، فدفع فنيق الكفر والفساد ، وأنهج سبيل الحق والرشاد ، وأدحض عبادة الأوثان ، وأخلص عبادة الرحمن ، وصدع بأمر ربه ، وأنفذ ما أمره به ، ودعا إليه علانية وسرا ، وأمر بعبادته سبحانه جهرا ، صابرا على التكذيب والأذى ، داعيا لهم إلى الخير والهدى ، حتى قبضه الله إليه ، وقد رضي عمله ، وتقبل سعيه ، وغفر ذنبه ، وشكر فعله ، فصلوات (١٩٨) الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار ، الصادقين الأبرار.

ثم نقول ، بعد الحمد والثناء عليه ، والصلاة على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم :

أما بعد ...

فإنه وقع إلينا كلام الحسن بن محمد بن الحنفية (١٩٩) ، يؤكد فيه الجبر ، ويشدد في ذلك

__________________

(١٩٦) التعب والإعياء الشديد.

(١٩٧) في (ب) : طخياء ، قال في اللسان : ليلة طخياء شديدة الظلمة قد وارى السحاب قمرها.

(١٩٨) في (ب) : صلوات الله.

(١٩٩) الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأمه جمال بنت قيس بن مخرمه بن المطلب بن عبد مناف بن قصي. وكان الحسن يكنى أبا محمد ، وكان من ظرفاء بني هاشم ، وأهل العقل منهم ذكروا أنه أول من تكلم في الإرجاء ، وذكروا أن الإرجاء هو أنه قال : (يرجي أهل الفتنة بمعنى أن يتوقف عن الكلام فيمن تحارب مع أمير المؤمنين عليه‌السلام). وقد ذكروا أيضا أنه قال لزاذان وميسرة حين لاماه على الكتاب الذي وضعه في الإرجاء ، فقال لزاذان : يا أبا عمر لوددت أني كنت مت ولم أكتبه. وقد ذكر

٢٦٩

__________________

ماهر جرار أن يوسف فان إس قد قام بدراسة هذا الرسالة ؛ ولم نطلع عليها ، ولم نعرف من أين عثر عليها ، ولكن هل هو مؤلف هذا الكتاب الذي رد عليه الإمام الهادي عليه‌السلام أم أنه نسب إليه وليس منه ، أم أنه كان رأيه ورجع عنه.

هناك دلالات تدل على أنه منه ، وهناك أخرى تنفي أن يكون منه ، وقد حاول الدكتور محمد عمارة في (رسائل العدل والتوحيد) أن يدل على أنه غيره من ذرية محمد بن الحنفية المتأخرين ، ومن جملة ما رجّح به نفي أن يكون الحسن بن الحنفية هو المؤلف ما نقله عن الحاكم المحسن بن كرامة من كتابه (شرح عيون المسائل) حين قال : ومنهم ـ أي من الطبقة الثالثة للمعتزلة ـ الحسن بن محمد ، وهو أستاذ غيلان الدمشقي.

وكذلك قال المولى العلامة الحسن بن الحسين الحوثي في كتابه تخريج الشافي (تحت التحقيق) : وقال بعض الإخوان مترجما له أي للحسن بن محمد : هو شيخ غيلان بن مسلم في العدل والتوحيد ، وقد ذكره العلامة ابن عقيل في كتابه (العتب الجميل) وقال : إنه كان من أهل العبادة والفضل والدين.

هذا ، وكونه حفيد الإمام علي عليه‌السلام وتشدد بني هاشم في نفي الجبر ورده حتى قيل العدل هاشمي والجبر أموي ؛ يبعد أن يكون هو المؤلف ، ولكن مدح السنية له مع ذمهم لأخيه كما فعله السخاوي في كتابه التحفة اللطيفة له شيء من الدلالة على نسبته إليه ، وإن كانت دلالة ضعيفة. وقد ذكر ماهر جرار في مقدمته على كتاب (أخبار فخ) بأنه قد وصلتهم رسائل من القرون الثلاثة الأولى للهجرة لفرق متعددة ، وقال في الهامش : انظر خاصة دراسات هلموت ريتر ، ويوسف فان إس عن كتاب الإرجاء للحسن بن محمد بن الحنفية ، ودراسته لرسائل عمر بن عبد العزيز ، ورسالة الحسن بن محمد بن الحنفية في الرد على القدرية.

ولكن هل وصلته الرسالة مستقلة أم أخذها من كتاب الإمام الهادي في الرد عليه ، يبقى هذا سؤال ، ويمكن أن يكون ما نقله المولى العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه‌الله في كتابه تخريج الشافي حلا حيث قال : وقال بعض الإخوان مترجما له : هو شيخ غيلان بن

٢٧٠

منه الأمر ، ويزعم فيه أن الله سبحانه جبر العباد أجمعين ، من الملائكة المقربين ، والأنبياء المرسلين ، وجميع الثقلين ، على كل الأعمال ، من صالح أو فاسد أو طالح ، فرأينا أن نجيبه في ذلك ، وننقض عليه ما جاء به من المهالك ، ونثبت عليه في ذلك كله ، لربنا وسيدنا وخالقنا ما هو أهله مما هو عليه ، وما لا يجوز لخلق (٢٠٠) الله ، أن يقول بغيره فيه ، فاختصرنا له في قوله الجواب ، وتركنا ـ خشية التطويل ـ كثيرا من الأسباب (٢٠١) فلينظر من نظر في قولنا وقوله ، وجوابنا لسؤاله بلب حاضر ، ورأي حي صادر ، يبن (٢٠٢) له الحق إن شاء الله ، ويثبت في قلبه الصدق. والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على خير خلقه أجمعين ، محمد ، خاتم النبيين ، وعلى أهل بيته الطاهرين وسلم.

__________________

مسلم في العدل والتوحيد ... وقد نقل السيد العلامة إبراهيم بن القاسم توبته من كل ما خالف فيه أهله.

هذا ، وقد ترجم له المولى العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رحمه‌الله في التخريج (تحت التحقيق) ، والعلامة ابن عقيل في العتب الجميل ص ٤٣ ، وشمس الدين السخاوي في التحفة اللطيفة ج ١ ص ٢٨٦ ، والزركلي في الأعلام ج ٢ ص ٢١٢ ، والدكتور محمد عمارة في رسائل العدل والتوحيد ج ٢ ص ١١٤ ، وذكره المسعودي في كتابه مروج الذهب ج ٣ ص ٨٥ ، وذكر أن ابن الزبير كان حبسه في سجن عارم وأراد قتله ، وأنه عمل الحيلة حتى تخلص من السجن. كما ترجمه في الطبقات الكبرى ج ٥ ص ٣٢٨ ، وفي التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري. وذكر أنه توفى في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة ٩٩ ه‍.

(٢٠٠) في (ب) : لخلق عند الله. ولعلها : عبد الله.

(٢٠١) الطرق والسبل والأدلة.

(٢٠٢) في (أ ، ب) : يبين. وما أثبتناه من (ج).

٢٧١

المسألة الأولى : عن استطاعة الرسل من بني آدم ترك البلاغ وتغيير الوحي

فكان أول ما سأل عنه أن قال : أخبرونا عن رسل الله ، من بني آدم ، هل جعل الله لهم السبيل والاستطاعة إلى ترك البلاغ؟ ولو شاءوا لغيروا ما أمروا به من تبليغ الوحي والعمل بالسنن؟ أو ألزموا على ذلك إلزاما ، فلا يستطيعون على تركه ولا الزيادة فيه ولا النقصان منه؟

فإن قالوا : نعم ، قد جعل الله لهم سبيلا واستطاعة لترك البلاغ ، فلوا شاءوا لغيروا ما نزل إليهم من كتابه وحكمته ؛ فقد دخلوا في أعظم مما كرهوا حين زعموا أن الرسل لو شاءوا لم يعبدوا الله بالتوحيد ، ولم يعملوا له بطاعة ، إذ زعموا أنهم كانوا يقدرون على كتمان الوحي والسنن (٢٠٣)

فيقال لهم : وأنتم الآن لا تدرون هل بلغت الرسل كل ما جاءهم من الوحي والسنن أم لا؟

فإن قالوا : نعم ، يقدر الرسل على كتمان الوحي والسنن إذا أرادت ذلك ؛ احتج عليهم. وإن قالوا : لم يكن الرسل يقدرون على كتمان الوحي ولا إبدال الفرائض ولا ترك البلاغ ، لأن الله ألزمهم البلاغ إلزاما ، فلا يقدرون على تركه وكتمانه ؛ فقد أجابوا ، وفي ذلك نقض لقولهم.

جوابها :

بسم الله الرحمن الرحيم

فكان أول ما سأل عنه ، أن قال : أخبرونا عن قولكم فيما نسأل عنه ، نبئونا ، هل الأنبياء صلوات الله عليهم ، مستطيعون لعمل فعلين متضادين في حالين مختلفين؟

__________________

(٢٠٣) في (ب) : من السنن.

٢٧٢

وقولنا في ذلك ، والله الموفق لكل رشد وخير ، والدافع لكل سوء وضير : أن رسل الله صلوات الله عليهم ، قد أدوا ما أمرهم الله بأدائه ، على ما أمرهم ، لم يشبهم في ذلك تقصير ، ولم يتعلق عليهم في ذلك من التفريط جليل ولا صغير ، وأنهم كانوا في ذلك كله لأمر الله مؤثرين ، وعلى طاعته سبحانه مثابرين ، وأن الله سبحانه لم يكلفهم أداء الرسالة حتى أوجد فيهم ما يحتاجون إليه من الاستطاعة ، ثم أمرهم بعد ونهاهم ، وكلفهم من أداء الوحي ما كلفهم ، فبلّغوا عنه ما به أمرهم على اختيار منهم لذلك ، وإيثار منهم لطاعته ، وحياطة لمرضاته ، لم يكن منه جبر لهم على أدائه ، ولا إدخال لهم قسرا في تبليغه ، بل أمرهم بالتبليغ فبلغوا ، وحثهم على الصبر فصبروا ، فقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٦٧] ، فقال : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ، ولو لم يكن التبليغ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، باستطاعة وتخيير ، لم يقل له : (بَلِّغْ) ؛ إذ الأمر لمن لا يقدر أن يفعل فعلا حتى يدخل فيه إدخالا ، ويقلّب فيه تقليبا محال ؛ لأن الفاعل هو المدخل لا المدخل ، والمقلّب لا المقلّب. فلم يأمر الله عزوجل أحدا بأمر إلا وهو يعلم أنه يقدر على ضده ، فحثه بأمره على طاعته ، ونهاه عن معصيته ، ألا تسمع كيف يقول : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) [الأحقاف : ٣٥] ، فأمره باحتذاء ما فعل من هو قبله من الرسل ، من الصبر على الأذى والتكذيب ، والشتم والترهيب ، ولو كان الله سبحانه هو (٢٠٤) المدخل لهم في الصبر إدخالا ، ولم يكن منهم له افتعالا ، لقال : صبرناك كما صبرناهم ؛ ولم يقل : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). وكيف يأمر ذو الحكمة والفضل مأمورا بما يعلم أنه يفعله من الفعل؟ فجل الله عن ذلك ، وجل عن أن يكون كذلك. فهل سمعه من جهله سبحانه يأمر أحدا من خلقه أن يفعل شيئا مما هو من فعله مما يتولى إحداثه فيهم ، ويقضي به تبارك وتعالى عليهم ، مما ليس لهم فيه فعل ، ولا افتعال ، ولا تصرف بإدخال ولا إخراج ، مثل الموت والحياة ، وإيجاد

__________________

(٢٠٤) سقطت من (ب).

٢٧٣

السمع والبصر والأفئدة؟! بل ذكر ذلك كله عن نفسه ، وأضاف فعله إليه بأسره ، فقال : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) [ق : ٤٣] ، ولم يأمرهم أن يموتوا ولا بأن يحيوا. وقال سبحانه إخبارا عمن سلف ، وتوقيفا واحتجاجا على من جاء بعدهم وخلف : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأحقاف : ٢٦] ، فقال : (جَعَلْنا لَهُمْ) ، ولم يقل : اجعلوا ولا تجعلوا. ثم قال : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) ، فأراد سبحانه منهم إذ فعل لهم الأسماع (٢٠٥) أن يفعلوا هم الاستماع بها (٢٠٦) ، فيستمعوا (٢٠٧) ما جاء به الرسول من أخبار من هلك من قبلهم ، وإنذار من أنذر ممن هو أشد منهم بطشا فلم يقبل الهدى فأهلك ، قال سبحانه : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق : ٣٧] ، فأراد إذ فعل لهم سمعا أن يسمعوا به أخبار من نزل به ما نزل ، فينتهوا ، ويسمعوا لرسله ويطيعوا ويسلموا للحق ويجيبوا ، وكذلك إذ فعل لهم أبصارا أراد أن يبصروا بها إلى ما خلق من السماوات والأرض وأنفسهم وما ذرأ وبث ، فيعلموا أن لهذا خالقا ومدبرا فيؤمنوا ، وكذلك الأفئدة أراد بجعلها لهم إذ أوجدها فيهم أن يفكروا ويدبروا فيعتبروا ويميزوا فيهتدوا ، ولو كان سبحانه وتعالى عن ذلك المتولي لفعل أفعالهم لم يحتاجوا إلى الإسماع (٢٠٨) والتبصير والتفكير ، إذ كان الله المتولي لإنفاذ ما أرادوا ، والممضي دونهم لكل فعل منهم ، ولم يقل عزوجل : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ) ،

__________________

(٢٠٥) في (ب) : السمع.

(٢٠٦) سقط من (ب).

(٢٠٧) في (أ ، ج) : فيسمعوا.

(٢٠٨) في (ب) : الاستماع.

٢٧٤

وكيف يستمعون إذا أسمعوا (٢٠٩) ، ويستبصرون إذا أبصروا ، وينتفعون إذا فكروا ، وهم لا ينالون ذلك ولا يقدرون عليه ، وغيرهم الفاعل له المصرف لهم فيه؟

فتعالى من فعله غير فعل خلقه ، ومن أمر عباده باتباع حقه ، ألا تسمع كيف قوله سبحانه ، وإخباره عن المؤمنين والفاسقين ، فقال : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [النحل : ٣٠] ، وقال في الفاسقين : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النحل : ٢٤] ، فمدح المؤمنين على ما قالوا من الصدق في رب العالمين ، وذم الفاسقين على قولهم الباطل في أحسن الخالقين. ولو لم يكن العباد متخيرين ، ولا مما أرادوا متمكنين ، وكان الحامل لهم على أفعالهم ، المدخل لهم في كل أعمالهم رب العالمين ، لكان هو القائل لما نزل من الحق : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، ولم يكن القائلون بما قالوا من قولهم ، والناطقون بما أنطقهم ـ عند العدل الجواد الرءوف الرحيم بالعباد ـ بمذمومين ، ولا عليه بمعاقبين ، ففي أقل من ذلك حجة لذوي الإيمان المميزين.

وأما ما قال : من أنهم إن كانوا صلوات الله عليهم ، قادرين على التبليغ والترك ، وكان تبليغهم اختيارا منهم للطاعة على المعصية ، ولرضاه على سخطه ، فما يدريكم لعلهم قد تركوا وبدلوا وغيروا وخانوا (أو ستروا واجبا (٢١٠)) وخالفوا؟

قيل له : في ذلك من الحجة ، والحمد لله ، أبين البيان ، وأنور القول والبرهان ، ألا تعلم أيها السائل (٢١١) أن الله سبحانه لا يزكي إلا زكيا رفيعا ، ولا يذكر بالطاعة إلا سامعا مطيعا ولا بالأداء إلا مؤديا. وقد وجدنا الله سبحانه ذكر في توراته التي أنزلها على موسى بن عمران تبليغ من بعثه من أنبيائه بوحيه ، من نوح وإبراهيم وغيرهما ، وأثنى عليهم بذلك ، وحض موسى صلوات الله عليه على الاقتداء بهم ، والإيثار لما آثروا من الطاعة لربهم ، ثم

__________________

(٢٠٩) سقطت من (ب).

(٢١٠) سقطت من (ب).

(٢١١) في (ب) : القائل.

٢٧٥

قص قصة موسى صلى الله عليه ، وذكر فضله وتبليغه (٢١٢) وصبره واجتهاده ، وفعله في الإنجيل الذي أنزله على عبده المسيح ، المطهر من كل قبيح ، صلوات الله عليه ، ثم قص قصة عيسى على محمد ، وذكر له قصته من اجتهاده وتبليغه ، وتبليغ غيره من الرسل ، فقال : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦] ، فصدق بما جاء به موسى ، وبشر بما أمر من التبشير به من البشير النذير ، الرءوف بالمؤمنين الرحيم محمد الرسول الكريم ، ثم ذكر لنا في كتابه أن رسوله قد بلغ وأنذر ، وأخبر أنه قد أدى كل ما يجب عليه ، فقال : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) [المائدة : ٩٩] المبين ، وقال : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) [الذاريات : ٥٤] ، ولو كان منه صلى‌الله‌عليه‌وآله غير الاجتهاد لم يقل سبحانه : (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) ، فقد برأه الله من كل دنس ولوم.

فقد بطلت حجة من أراد الطعن على الأنبياء المهتدين ، المؤدين لأمر الله الخانعين (٢١٣) ، بما قال عنهم وذكر فيهم رب السماوات والأرضين ، والحمد لله وسلامه على المرسلين.

(تمت المسألة (٢١٤))

المسألة الثانية : من أخطر المعصية على بال إبليس وكيف علم إبليس عن ذرية آدم؟

ثم أتبع هذه المسألة ، فقال : أخبرونا عن إبليس ، ما أخطر المعصية على باله؟ أو من أوقع التكبر في نفسه؟

فإن قالوا : نفسه أمرته بالمعصية ، وهواه حمله على التكبر.

فقل : من (٢١٥) جعل نفسه أمارة بالمعصية ، وهواه حاملا على التكبر؟

__________________

(٢١٢) سقطت من (ب).

(٢١٣) في (ب) : الخائفين.

(٢١٤) سقطت من (ب).

(٢١٥) في (ب) : ما.

٢٧٦

فإن قالوا : الله ؛ كان ذلك نقضا لقولهم.

ويقال لهم : فمن أعطاه علم الخديعة والمكر؟ آلله جعل ذلك في نفسه؟ أو شيء جعله هو لنفسه؟

فإن قالوا : الله جعل ذلك له ؛ كان ذلك نقضا لقولهم. وإن قالوا : إن ذلك لم يكن من الله عطاء ولا قسما ؛ فقد دخل عليهم أعظم مما هربوا منه حين زعموا أن غير الله يجعل في خلقه ما لم يرد الله أن يكون فيهم ، فما أعظم هذا من القول!!

وسلهم : من أين علم إبليس أن آدم يكون له ذرية ، وأن الموت يقضي عليهم ، وأنه يكون بينهم لله عباد مخلصون ، وأنه يحتنكهم إلا قليلا منهم؟

فإن قالوا : إن الله علمه ذلك ؛ فقد نقض ذلك قولهم. وإن قالوا : إن إبليس علمه من قبل نفسه ؛ فقد زعموا أن إبليس يعلم الغيب ، فسبحان الله العظيم.

جوابها :

وأما ما سأل عنه ، وقاله من أمر إبليس فقال : من أخطر المعصية على باله؟ ومن أوقع التكبر والمكر والخديعة في نفسه؟

فإنا نقول في ذلك : إن الله أعطى إبليس من الفهم واللب ما يقدر به على التمييز بين الأمور ، ويعرف به الخيرات من الشرور ، ويقف به على الصالح من ذلك والطالح. وإنما أعطاه الله ذلك ، وجعله وكل الخلق المتعبدين كذلك لأن يعرفوا قوله ويعرفوا ما افترض الله عليهم وعليه ، فيتبع ذلك دون غيره ، ويثابر عليه ، ويعرف ما يسخط الله فيتجنبه ويتقيه ، ويحاذر انتقامه فيه. ولو لم يعطه وغيره ذلك لم يهتدوا أبدا إلى فعل خير ولا شر ، ولا تخير طاعة ، ولا إيثار هوى ، ولا اتباع تقوى ، ولو كان الخلق كذلك لكان معنى الثواب ساقطا عنهم ، ولما جرى أبدا عقاب عليهم ، ولو لم يجر عقاب ولم ينل ثواب لم

٢٧٧

يحتج إلى جنة ولا نار ، ولما وقع تمييز بين فجار ولا أبرار ، وقد ميز الله ذلك فقال : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠] ، ولو كان ذلك كذلك لكان معنى الملك والتمليك عند الله سبحانه ساقطا هنالك (٢١٦) ولكنه سبحانه لما خلق الخلق لم يكن للخلق بد من عمل ، ولم يكن العمل كله لله رضا ، ولا كله سخطا طرا معا ، ولما كان من الأعمال مرض لله ومسخط ، لم يكن بد من الأمر بالعمل المرضي ، والنهي عن العمل المسخط. فلما كان ذلك كذلك لم يكن بد من الترغيب على العمل الصالح بالثواب ، والترهيب على العمل الطالح بالعقاب ، فجعل الجنان ترغيبا ، والنيران ترهيبا. وترهيب الشيء من الشيء الذي لا يستطيع أن يرهبه محال ، كما أن ترغيب الشيء فيما لا يقدر على أن يرغب فيه فاحش من الفعال ، ولا يكون ترغيب إلا لمن يقدر على الرغبة ، ولا ترهيب إلا لمن يقدر على الرهبة ، ولا أمر ولا نهي إلا لمن يميز بين المأمور به والمنهي عنه. فجعل الله وركب فيهم استطاعة وتمييزا ، ليعرفوا رضاه فيتبعوه ، ويفهموا سخطه فيتجنبوه ، فيثيبهم أو يعاقبهم على ما يكون من أفعالهم باختيارهم ؛ لأن المثيب على فعله إنما هو مجاز لنفسه ، ثم أمرهم عزوجل ونهاهم ، ثم قال : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] ، ولو لم يعلم أن له مشيئة وتمييزا واقتدارا على الفعل والترك لم يقل : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ، وقال سبحانه : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢] ، ولو لم يكن فيه استطاعة مركبة قبل الأمر ، ولم يكن قادرا على أخذ الكتاب ، لم يقل (خُذِ) ، وهو لا يقدر على الأخذ ؛ لأن القائل للحجارة ، وما كان مثلها ، يقال : مخطئ محيل في المقال ، فتعالى الله عن ذلك. وقال : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الجاثية : ١٤] ، ولو لم يكن المؤمنون يقدرون على الغفران لمن أمروا بالمغفرة له لم يقل : (يَغْفِرُوا) ، وكان يحدث فيهم الغفران لأولئك ، فيغفرون ، ولم يكن ليأمرهم من الأمر بما لا يطيقون.

__________________

(٢١٦) في (أ) : هناك.

٢٧٨

وأعطى إبليس اللعين ما أعطاه من الفهم والتمييز لأن يطيعه ولا يعصيه ، وأراد أن يطيعه تخيرا وإيثارا لطاعته ، فكانت هذه إرادة معها تمكين واستطاعة ، ولم يرد أن يطيعه قسرا ، ولا أن يمنعه من المعصية جبرا ، (فيكون إبليس اللعين في ذلك غير محسن ولا مسيء فلم يحل بينه وبين المعصية قسرا ، ولم يحمله على الطاعة جبرا) (٢١٧) فمكنه وهداه ، ثم أمره ونهاه ، فرفض ـ له الويل ـ تقواه ، واتبع هواه ، وكفر نعم ربه ، وكره تنزيله وحكمه ، فكان كما قال الله سبحانه : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ٨] ، فلو كانت الكراهة لما أنزل الله قضاء له فيهم ، وفعلا أدخله سبحانه عليهم ، لكانت من الله ، لا منهم ، ولكان الكاره لتنزيله لا هم ، ولكانوا ناجين من العقاب ، وكانوا متصرفين في أمره في كل الأسباب. وكذلك المهتدون ، لو كان هو الذي فعل هداهم ، وزادهم في تقواهم ، لم يقل : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧] ، ولو كان ذلك كما يقول الجاهلون ، وينسب إلى الله الضالون ، لكان من اهتدى ومن كره وأبى في الأمر عند الله شرعا واحدا ، إذ كان كلهم في أمره وقضائه له مطيعا متقلبا متصرفا في إرادته سريعا.

وأما قوله : من أين علم إبليس أن آدم يكون له ذرية؟ وأن الموت يقضي عليهم؟

فإن جوابنا له في ذلك : أن الله أعلمه ملائكته ، فسمعه إبليس من ملائكة الله فيما كان يسترق من السمع كما قالوا وحكى الله عنهم في قوله : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [الجن : ٩] ، فكانوا ـ قبل أن يبعث الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويكرمه بما أكرمه من الوحي إليه ـ يسترقون السمع ، فلما أن بعثه الله حجبهم عن المقاعد التي كانوا يقعدونها من السماء ويسترقون من الملائكة الأخبار فيها ، فيهبطون بها إلى إخوانهم من كهنة الإنس وأوليائهم ، كما قال ذو المن والجلال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام : ١١٣] ، فلما أرسل الله رسوله بالوحي البالغ ، والنور الساطع حجبهم عن

__________________

(٢١٧) ساقط من (أ ، ج).

٢٧٩

علم شيء من أخبار السماء ، لكيلا يسبقوا به ولا يفشوه إلى إخوانهم من كهنة أهل الدنيا ، فقذفهم بما جعل لهم من النجوم شهبا رصدا فرماهم بالنجوم من السماء ، ولم يكن قبل ذلك بشيء منها يرمى فهيل لذلك أهل الأرض والشياطين في الهواء ، فقالوا في ذلك كما أخبر الله به عنهم وحكى من قولهم : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) [الجن : ٩] ، فمن الملائكة علم إبليس أخبار آدم وذريته. ولو لم يعلم الله الملائكة بذلك لم يعلمه إبليس ولا هم ، كما لم يعلموا ما كتمهم من أسماء الأشياء التي أعلمهم آدم بأسمائها في وقت ما علمه الله أسمائها وكتم الملائكة إياها ، كما قال سبحانه : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة : ٣١ ـ ٣٣] ، فأنبأهم حين أمره الله أن ينبئهم بأسمائهم ما كان قد غبي عنهم علمه من الأشياء ، فعند ما رأى إبليس اللعين الرجس من كرامة الله لآدم وتعظيمه لقدره ، وإسجاده الملائكة من أجله ، ولما أظهر فيه من عجائب تدبيره وصنعه ، حسده على ذلك غاية الحسد حتى أخرجه حسده لآدم (إلى الكفر) (٢١٨) بربه ، وخالف فيما ترك من السجود عن أمره ، ثم خشي أن يؤاخذه الله تعالى مغافصة على ذنبه ، فطلب الإنظار والتأخير من ربه ، فأنظره وأمهله الله إلى يوم حشره.

ولو حجب الله علم (٢١٩) آدم وذريته عن الملائكة لم يكن ليعلمه إبليس ولا هم. وليس إعلامه إياهم سبحانه أنه سيجعل لآدم ذرية إلا كإعلامه ـ من قبل إيجاده لآدم ـ بآدم حين يقول عزوجل : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، وكما أعلمنا في كتابه على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بما يكون في دار الآخرة

__________________

(٢١٨) في (ب) : إلى أن كفر.

(٢١٩) في (ب) : على.

٢٨٠