مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

خالقكم الصفات الناقصات الزائلات ، وأزحتم عنه ما وصف به نفسه من البقاء في كل الحالات ، فلا تجدون بدا من أحد هذين المعنيين المحالين الباطلين في الله ، المخالفين ، اللذين تكونون بانتحال أحدهما بالله كافرين ، وفي دينه فاجرين ، ولجميع أهل الإسلام مخالفين ، ومن الإيمان والحق خارجين ، أو ترجعوا إلى قول المحقين ، وتتابعوا في مقالتهم الموحدين ، فتقولوا كما يقولون : إن معنى الوجه في الله سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه هو الله ، وإنه ليس بذي أعضاء ، ولا أبعاض ولا أجزاء ، وذلك فمعروف في العربية ، يعرف كل من فارق لسان الأعجمية ، من ذلك ما تقول العرب : (هذا وجه بني فلان) ، تريد أنه المنظور إليه منهم في كل شأن ، وأنه رجلهم وسيدهم ، والقائم في كل أمر دونهم ، وتقول العرب : (هذا وجه المتاع) ، تريد بذلك أنه أفضل ما يبتاع ، وتقول : (هذا وجه الرأي) ، أي محضه وصدقه ، وصوابه في كل أمر وحقه ، لا أن له وجها كما يعرف من الوجوه المخلوقة في البشر ، المجعولة المقدرة المركبة المصورة ، وفي ذلك وما كان كذلك ما يقول الشاعر :

وقد يهلك الإنسان من وجه أمنه

وينجو بإذن الله من حيث يحذر

فقال : من وجه أمنه ؛ وليس للأمن وجه ولا صورة ، وإنما أراد أنه يعطب من الوجوه المأمونة عنده المحمودة.

وقال آخر :

فأسلمت وجهي لمن أسلمت

له الأرض تحمل صخرا ثقالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت له

المزن تحمل عذبا زلالا

وقال آخر :

أضحت وجوههم شتى وكلهم

يرى لوجهته فضلا على الملل

فقال : أسلمت وجهي ، وإنما أراد : أسلمت ديني ، فاستسلمت وقصدت خالقي بكل عملي ، لا أنه أسلم وجهه دون قلبه ، ولا قلبه دون عمله ، ولا عمله دون نفسه وقوله.

ومن الحجة فيما قلنا به من البيان من أن وجهه هو لا بعضه ، في قيم اللغة واللسان ما يقول الشاعر :

١٢١

إني بوجه الله من شر البشر

أعوذ من لم يعذ الله دمر

وقال آخر :

إذا معقل راح البقيع وهجرا

أعوذ بوجه الله من شر معقل

ومما يحتج به أهل اللغة ، وبما قالت في ذلك ، ما يقول العلي الأعلى ، مما بين فيه أن وجهه هو لا بعضه ما يقول : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) [الروم : ٣٩] ، فقال : تريدون وجه الله ، وإنما أراد سبحانه : تريدون الله.

ومن ذلك ما حكى رب العالمين عن خير خلقه أجمعين محمد وأهل بيته الطيبين فيما كان من إطعامهم لمن ذكر الله من الأسير ، واليتيم ، والمسكين ، حين يقول : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان : ٩] ، فقال سبحانه : نطعمكم لوجه الله ذي العزة والسلطان ، وإنما أرادوا بذلك الله الواحد العزيز الرحمن. وقال سبحانه فيما نزل من الفرقان : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٤٨] ، فقال سبحانه : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) ، أي : لكل مؤتم وقبلة ، ولم يرد بذلك من القول والخبر ، أنه وجه مصور في صورة من الصور. وقال : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [البقرة : ١١٢] الآية ، فقال : (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) ، أراد بذلك سبحانه من سلم نفسه لربه ، واستسلم له في جميع أموره ، وأخلص له سبحانه دينه. وقال جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) [الروم : ٤٣] ، فأمره بإقامة وجهه للدين والإخلاص في ذلك لرب العالمين ، ولم يرد الوجه دون القلب وسائر الأبعاض والأعضاء ، وإنما أراد بذلك العلى الأعلى : أقم نفسك لخالقك وربك ؛ وتأويل : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) ، فهو : قم بالدين بكليتك لمصورك وجاعلك. وفي ذلك ما يقول الله سبحانه : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران : ٧٢] فلم يرد سبحانه فيما ذكر عنهم أن للنهار وجها ، كما يعقل من الوجوه ذوات التصاوير ، التي أمر بغسلها عند الوضوء ، فتقدس عن ذلك العلي الكبير. وقال عزوجل : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) ، يريد على حقيقتها وصدقها لا أن لها وجها عند جميع الخلق ، غير ما قلنا به من الحقيقة

١٢٢

والصدق.

ومن الحجة في ذلك والبيان ، ما يقول الله ذو الجلال والسلطان : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] ولو كان كما يصف المشبهون ، ويقول به في الله الجاهلون ، إنه وجه كما يعرف من وجوه المخلوقين ، تعالى وتقدس عن ذلك رب العالمين ، إذا لما كان في كل النواحي والأقطار ، فتعالى عن ذلك العلي الواحد الجبّار ، إذ المتوجه يتوجه شرقا وغربا ، ويمنا وشاما ، فلا يكون أبدا وجه واحد وجوها ، كما لا تكون الوجوه الكثيرة وجها ، وإنما أراد بقوله : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ، أي (١٠٧) الموجود بكل جهة الله الذي هو سبحانه بالمرصاد لا يغيب عنه شيء من ضمائر أسرار العباد ، وهو المحيط بالغيوب ، ذو المن والأياد.

باب تفسير (١٠٨) قول القائل (واحد) ومخارجه في اللسان وما ينفى من ذلك عن الرحمن عزوجل

إن سأل سائل ذو ارتياب ، عن الله رب الأرباب ، فقال المشبه الجاحد : ما معنى قولكم إن (١٠٩) الله واحد؟

قلنا : إن الواحد يخرج على معان كثيرة ، غير معنى ولا معنيين ، فمنها الواحد في الجماعة والاثنين ، ومنها النظير من نظيره ، والشبه في الرؤية من شبيهه ، ومنها الجزء من الأجزاء ، والعضو الواحد من الأعضاء المتباينة والمؤتلفة ، والمجتمعة والمختلفة ، التي بالتئامها يكمل الواحد المصور ، وباختلافها ينقص المجعول المقدر ، مثل أبعاض الإنسان المختلفة المجتمعة في كل شأن ، التي بكمالها يكمل تصويره ويتم ، وبنقصانها يزول عنه اسم التمام

__________________

(١٠٧) في (ب) : أن.

(١٠٨) في (ب) : باب تفسير معنى.

(١٠٩) زيادة من (ب)

١٢٣

ويعدم ، فهذه أعضاء ذات أعداد ، بهن يكمل الواحد ذو الأنداد.

ومن ذلك فالشيء المنقلب من الحالة إلى الحالة ، مثل الإنسان وخلق الله له من السلالة التي خلقها وقدرها من طين ، وجعله إياه نطفة في قرار مكين ، ثم خلق النطفة علقة ، ثم خلق العلقة مضغة ، ثم خلق المضغة عظاما ، ثم كسا العظام لحما ، ثم أنشأه خلقا آخر ؛ فتم بقدرته في الحالات جسما واحدا ، كامل الأدوات وذلك قوله جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤]. والخلق الآخر فقد يحتمل أن يكون ما جعل فيه من بعد أن كساه لحما من العروق والعصب ، والمفاصل والقصب (١١٠) ، وما فطر من عجيب خلق الرأس ، الذي جعله سواء في جميع الناس ، فجعله سبحانه قواما للبدن كله ، وأظهر فيه أعاجيب صنعه وفعله ، فخلقه قطعا ، وجعل فيه طرقا ، لما فيه من الأدوات ، فكلهن فيه سالكات جاريات متشعبات ، ولخالقهن بالقدرة شاهدات ، وبلطيف تدبيره فيهن ناطقات ، ثم ركب فيه العينين وحجر فيه المحجرين ، وجعل في المحجرين الغارين ، وصور في الغارين المقلتين ، وخلق في المقلتين الناظرين وجعل المحيط بإنسانهما (١١١) ـ لتكامل التحقيق من عيانهما ـ أغشية من مدلهمات الجلابيب ، ومتكاثفات اسوداد الغرابيب ، صافيتي الأنطاق ، ناصعتي الأطباق ، جعلهما جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله شحمتين ، اختص أوساطهما بالسواد ، وجعله آلة للنظر في القرب والإبعاد ، ولغير ذلك من الانحدار والاصعاد ، ثم جعلهما حصينتي الاطباق ، حديدتي الآماق (١١٢) للإدارة والإطراق ، وتقلب المقلة في الحملاق (١١٣) ، وغشاهما بأرواق (١١٤)

__________________

(١١٠) الأمعاء. نخ من هامش (أ).

(١١١) قال في القاموس : الإنسان : المثال الذي يرى في سواد العين جمعه أناسي. ا ه منه باللفظ من هامش (أ).

(١١٢) الآماق : جمع مأق العين وهو طرفها مما يلي الأنف. ا ه من القاموس.

١٢٤

الأجفان ، بالرأفة منه سبحانه والإحسان ، والعائدة بالفضل على الإنسان ، ليلتئم عند الهجوع مطابقهما ، وتطمئن لذلك علائقهما ، وتريح من الحركة مدامعهما ، ليقوى نظرهما ، ويثقب بصرهما ، ولو كان مكان سواد إطباقهما ناصعا ببياض نطاقهما ، لقصرتا عن بلوغ مناظرهما ، ولعجزتا عن تحديد أبصارهما ، ولكثر إغماضهما ، ولقل إيماضهما. ثم حجب عنهما سبحانه بأجفانهما الأذى ، وأماط عنهما بأشعارهما القذى ، فلما أحكمهما بالتقدير ، وأتقنهما بالتدبير ، غشاهما بالحاجبين ، وأظل بالحاجبين ما استجن من العينين ؛ لعلمه سبحانه بضرورة الناظرين إلى ما ركب من الحاجبين. ثم جعل فيهما من بعد إتقان تدبيرهما شعرا مسودا ظاهرا عليهما ، ليزيد سواده في قوة نظرهما عند استقبالهما لبعد اعتمادهما ، ولو لم يكونا بزينة الشعر مخصوصتين ، وكانتا مما زينتا به محظوظتين ، لنقص من العينين نظرهما ، ولتضوع في أرجائهما نورهما ، ولغشي عن مقر التحقيق بصرهما.

ثم مثل بينهما خالقهما أنفا مستروحا لأنفاسه ، موقوفا لرجعه واحتباسه ، فأقام رسم خده ، وأحسن التصوير في قدس‌سره ، وجعله هواء معتدلا سواء ، ولو لا ما دبر فيه ، وركبه من الإحكام عليه ، لم يؤد بلطيف اعتباره ، ودقيق اختياره المحسوس إلى قراره ، ولعجز عن بلوغ مدى الاسترواح ، ومستقر غاية الأرواح ، فجعل سبحانه من أصليته ناشرا ، وجعل في سوائه حاجزا ، لتوقيف رجع الأنفاس ، بين العجلة والاحتباس ، قسمه بحكمته ، لتكامل لطيف نعمته.

ثم شق تحت وتر أرنبته ، مسلك ما قدر من أغذيته ، وخلق فمه مؤديا عن منطقه ولفظه ، بين طبقتين خلقهما لحفظه ، فجعله لحما ، وأجرى فيه عروقا ودما ، ولو جعله عصبا قاسيا ، أو فطره عظما جاسيا ، لكان ذلك من الترجمة مانعا ، وعن الجولان بالحركات قاطعا ، فسبحان من جعله معبرا عن ضمائر الصدور ، ومترجما لكل ما تميزه العقول من الأمور ، وركب فيه استطاعة لفظه ، وخصه بالوافر من حظه ، وأجرى فيه

__________________

(١١٣) الحملاق : باطن الجفن. تمت

(١١٤) أرواق العين : جوانبها. ا ه من القاموس.

١٢٥

عذوبة ريقه ، لتمييزه بين مختلف ذوقه.

ثم علق على أقاصيه عقد لهاته ؛ لتعرف بها لذيذ شهواته ، نعمة من الخالق على خلقه ، ليلتذوا بالطيبات من رزقه ، ولو كان موضعها منها عاطلا ، لم يكن الالتذاذ إلى ملتذه واصلا ، ولرجعت مختلفات أنفاسه ، إلى المكنون من أم رأسه.

ثم فتق سبحانه وعظم عن كل شأن شأنه بعد ذلك في مرتقها سمعا ، جمع به محكم الآلات جمعا ، فأدى ذلك إلى العقول عظمة خالقها ، وشملت الجوارح به نعمة جاعلها ، وألبس أرجاء السمع أذنا ، لاستقرار جولان الوحي في محاله (١١٥) ، وازاحة الشك النازل به وإبطاله ، ثم عطف سبحانه أطراف غرضوفهما ، على البواطن من حروفهما ؛ للحوق جولان الأصوات ، ولو لا ذلك لعجزت عن درك القالات ، مع ما ركب من غير ذلك في ظاهره وباطنه من المركبات ، وجعل فيه سبحانه كلما يحتاج إليه الجسم من الآلات والأدوات ، ثم علق في صدره قلبا ، وركب فيه لبا ، ثم جعله وعاء للعقل الكامل ، وحصنا للروح الجائل ، حفظه من مزدحمات الأغذية بانحطاطه ، ورفعه عن مقرها من الجوف بمتعلق نياطه ، فقر بتدبير الخالق في أحصن حصن وأبعده مما ركب ، وجعل في البطن وفوقه من الصدر هواء ، وتحته أدوات ومعا ، فهو مقر لثابت الأنفاس ، متملك لخدمة جميع الحواس ، إن شاء شيئا شئنه ، وإن أباه بلا شك أبينه ، به تنزل مدلهمات الغموم ، وإليه مأوى نوازل الهموم ، وعند انشراحه للشيء يوجد به الفرح والسرور ، وبقبوله تكمل الغبطة به في كل الأمور ، جعله الله آلة للفطن والفكرة ، وفطره الله تعالى على ذلك من الفطرة ، وذلك قول الرحمن ، فيما نزل من الفرقان : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] ، وقال سبحانه وعظم عن كل شأن شأنه : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق : ٣٧)] يقول : إن فيما تقدم من فعلنا ، بمن مضى ممن نزل عليه ما نزل من عذابنا ، لذكرى لمن كان له قلب يعقل به ، ويفهم ويتدبر

__________________

(١١٥) في (ب) : مجاله.

١٢٦

ما يرى من فعلنا ، فيعلم.

وقد يحتمل ويكون معنى قول الرحمن فيما نزل من واضح النور والفرقان : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤)] : هو ما ميز من خلق الأنثى والذكر ، فيكون لما أن كسا العظام لحما جعله من بعد ذلك ذكرا أو أنثى ، فحينئذ بقدرة الله تمت السلالة ، وفيما قلنا به من الخلق ما يقول الله عزوجل في سورة القيامة من خلق الزوجين (١١٦) ، فهذا عندي والله أعلم فأشبه القولين.

ثم نرجع من بعد شرحنا للواحد المؤتلف ، والواحد المنتقل المختلف ، والله فبري من ذلك تبارك وتعالى أن يكون ربنا كذلك.

فنقول : إنه قد يخرج معنى قول القائل : واحد في اللسان ، وفيما يقال به فيه من المعنى والبيان ، أن يكون الواحد من الاثنين المتشابهين في المعنى ، المتقاربين في الصفة والاستواء ، فيقال هذا وهذا مثلان ، وهما إذا ذكرا وقيسا شيئان ، وهما في التشابه والاتفاق واحد بغير ما افتراق. والله سبحانه فعن مشابهة الأشياء كلها أو مشاكلتها فبري ، وعن مناظرة المجعولات فمتعال عليّ.

وقد يخرج معنى الواحد ، فيقال به فيه ، ويستدل به في لغة العرب عليه ، على معنيين :

أحدهما : البائن بالسؤدد والإفضال ، فيقال : هذا واحد في فعله من الرجال ؛ إذا فعل ما لا يفعله غيره ، ويقصر عنه آله وقومه.

والآخر : إثبات الواحد ونفي الثاني ، إذ الواحد لا أول قبله ، والثاني فقبله عدد وبعده. ويخرج معنى قولنا الواحد على أنه لا شبيه له ولا نظير ، ولا كفو صغير ولا كبير ، وهو الله الواحد الأحد الخبير ، فالله سبحانه الواحد في فعله ، الذي لم يصنع أحد كصنعه ، الخالق الذي لا خالق سواه ، كما قال تقدست أسماؤه : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ) [فاطر : ٣]. وهو الواحد الذي لم يكن من شيء ، وهو الموجد لكل شيء ، لم يكن سبحانه من

__________________

(١١٦) يعني قوله تعالى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ا ه من هامش (أ).

١٢٧

أصل ، ولا يكون منه أبدا فصل : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص.]. الواحد في الربوبية والقدرة والعزة ، والملك والكبرياء والعظمة ، وكل قادر فمقدور عليه ، وكل ملك فمسلوب ملكه من يديه ، وكل عزيز فأيسر العزة نال ، غير الله الواحد ذي الجلال (١١٧) ، وذي العز الكامل الدائم ، والملك السرمد الباقي الدائم ، القادر فلا يقدر عليه ، العادل فلا ظلم لديه ، البري من أفعال العباد ، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، لا تحيط به الأقطار ، ولا تجول بتحديد فيه الأفكار ، ولا تنتظمه الصفات والأخبار ، ولا تدركه سبحانه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. القائم سبحانه بنفسه ، الذي لا قوام لغيره إلا به ، لا تجري عليه الأزمنة ، ولا تحويه (١١٨) الأمكنة ، وكيف تجري الأزمنة أو تحوي الأمكنة من كوّن كل مكان ، وأوجد بعد العدم كل زمان؟! وهو الله الواحد الرحمن ، سبحانه وتعالى ذو المن والإحسان.

باب الرد على من قال : إن الله جسم ، وجواب من سأل عن معنى قول الموحدين : إن الله شيء لا كالأشياء

إن سأل من الخلق سائل أو تعنت متعنت قائل ، فقال : ما ذا تقولون ، وإلى أي معنى من المعاني تذهبون ، في الله ذي الجلال وذي الجبروت والمحال ، أشيء هو تقولون أم غير ذلك تزعمون؟

قلنا : بل نقول : إن ربنا جل وتقدس إلهنا شيء لا كالأشياء ، سبحانه تبارك وتعالى ، لا يشبهه ولا يدانيه شيء ، ولم يزل سبحانه (١١٩) قبل كل شيء ، وهو المشيّئ لكل الأشياء ،

__________________

(١١٧) يعني أن كل عزيز لم ينل إلا أيسر العزة ، يعني القليل منها ، ولم ينل العزة الكاملة إلا الله.

(١١٨) زيادة من (ب) ، والأصل : (تحوزه).

(١١٩) زيادة من (ب).

١٢٨

المتفرد بالخلق والإماتة والإحياء ، الموجد لما يتوهم ، أو يرى بالأعين وغيرها من الحواس ، من الذوق ، والشم ، أو السمع أو الحواس. لا تحيط به الأفهام ، ولا يقع عليه بتحديد الأوهام ، وهو الأول في آخريته ، والآخر في أوليته ، والظاهر في باطنيته ، والباطن في ظاهريته ، المتفرد بالوحدانية ، البائن بالأزلية ، الشاهد الداني في علوه ، البعيد النائي في دنوه ، كما قال سبحانه : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد : ٣] وكذلك ربنا الرحمن الرحيم. يعلم ما يكون قبل كينونته ، كما يعلمه من بعد بينونته ، علمه بما استجن في قعور البحار ، وما انطوت عليه الجوانح من ضمائر الأسرار ، كعلمه بما ظهر وأنار ، من واضح القول والأخبار. الصمد الذي لا غاية بعده تصمد ، والواحد الذي ليس كمثله أحد ، لم يكن له مثل ولا ند ، ولا يكون أبدا له قبل ولا بعد ، مبيد الأحياء ، وباعث الموتى ، ووارث الآخرة والدنيا.

فإن قال قائل : فما ذا تريدون ، وما إليه تذهبون بقولكم : (شيء)؟

قلنا : نريد بقولنا (شيء) إثبات الموجود ، ونفي العدم المفقود ، لأن الإثبات أن نقول : شيء ، والعدم أن لا نثبت شيئا ، لأن من أثبت شيئا فقد أثبت صانعا مدبرا ، ومن لم يثبت شيئا كان في أمره ذلك متحيرا ، ودخل عليه ضد الإقرار ، وهو النفي والشك والإنكار.

الرد على من قال جسم لا كالأجسام

فإن سأل وتردد في الضلال فقال : فلم لا تقولون ، وعلى ما قلتم تقيسون ، فتقولون : إنه جسم لا كالأجسام؟ فيكون هذا يخرج على ما يخرج عليه أول الكلام.

قلنا له : ليس الصواب كالمحال ، وهذا في الله فأحول المقال ، لأنه وإن اشتبه عندك فيما ترى ، مخالف لما تقدم من (الشيء) في كل معنى ؛ لأنّا نرى الجسم أبدا متجسما ، ولسنا نرى كل الأشياء كائنا جسما. فالشيء يعم الأشياء كلها ، والجسم فإنما يقع على بعضها ، فلما اختلف معناه في الخاص والعام ، اختلف جميع قياسه في الكلام ، وكذلك كلما قيس أو ضرب له مثل ، فإنما يقاس ويشبه بما كان مثله في كل ما سبب وحال ، كما يحذا المثال على المثال ، فأما الضد فلا يقاس بضده ، إذ حده على خلاف حده. وفيما قلنا به في الشيء الذي لا كالأشياء ما يقول الله الواحد الأعلى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ

١٢٩

شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٩] فذكر سبحانه وتعالى عما يصف المبطلون ، ويقول به عليه الملحدون ، أنه شيء موجود ، لا يذكر ولا يوصف بحد من الحدود ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. ألا ترى أن جميع أهل الإسلام ، الذين هم على دين محمد عليه‌السلام ، يقولون لمن اتهموه بسخافة دين ، أو قلة خشية أو يقين : ما تعبد من شيء ، ولا توقن بشيء ؛ يريدون : ما تعبد الذي يعلم أمرك ، ويوفيك أجرك.

ذكر الأعراض

فإن قال قائل : فما دليلكم على أن من الأشياء المشاهدة المعلومة ، بدلائلها المفهومة ، ما ليس هو بجسم معروف ، أوجدونا ذلك في أي صنف شئتم من الصنوف؟

قلنا له : من ذلك أفعال العباد ، وما يكون منهم من سوء ورشاد ، من الصدقة والقيام ، والصلاة والصيام ، وغير ذلك من حركات السحاب في السير ، وما يسمع من خفقان أجنحة الطير ، وما يكثر ، لو شرحناه ، به الأقاويل ، ويطول به الكلام والتأويل ، وكل ذلك من أفعال الخلق ، فقد سماه الله بأحق الحق شيئا وأشياء في قوله تبارك وتعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر : ٥٢] فسمى أفعالهم شيئا وأشياء ، وبين ذلك فيما نزل من النور والضياء ، وهي أعراض ليست بأجسام ، إذ لا تقوم إلا بالأجسام ، وإنما هي صفات ودلالات ، وحركات وعلامات ، تتفرع من الأجسام غير متلاحقات ، فهي أشياء وليست بأجسام ، والأجسام أبدا فليست غير الأجسام (١٢٠).

فإن قال : فما دليلكم على أن ما يكون من حركاتكم التي هي متفرعة من أجسامكم هي غير أجسامكم ، وأن أجسامكم هي غير حركاتكم؟

قلنا له : علمنا ذلك وفهمناه ، ووقفنا عليه وعرفناه ، لأنا نجد الأجسام تكون منها

__________________

(١٢٠) في (ب) : غير أجسام.

١٣٠

حركات بالقعود والقيام ، وهي مجتمعة متلاحقة ، وتسكن وتهدأ ، وهي قائمة بأعيانها غير مفترقة ، والأفعال والحركات غير متلاحقة ولا مؤتلفة ، بل هي متصرفة متباينة مختلفة ، بعضها لا يلحق بعضا ، ولا يعلم لها بعد خروجها طولا ولا عرضا ، فاستدللنا بذلك على الفرق بين الأجسام والأفعال ، في كل ما حال من الحال ؛ فلذلك قلنا : إن كل جسم شيء ، وأن ليس بجسم كل شيء ، فلما أن خرج بعض الأشياء من أن ينتظمه اسم الجسم ، ولم يخرج الجسم من أن ينتظمه اسم الشيء في الحكم ؛ قلنا : إن الله سبحانه وتعالى ليس كسائر الأشياء. ولو كان كما يقول المبطلون إنه صورة أو جسم من الأجسام ؛ لكان ذو الجلال والإكرام مشابها لما خلق من الصور والأجسام ، وللحقت به الفكر والأوهام ، ولجرت عليه حوادث الليالي والأيام ، ولكان مضطرا محتاجا إلى المكان ، ولو احتاج إلى المكان ؛ لخلت منه مواضع كثيرة عظيمة الشأن ، ولو كان كذلك ، تعالى الله سبحانه عن ذلك ؛ لما كان كما قال ، وذكر عن نفسه ذو الجلال والجبروت والمحال ، حين يقول : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) [المجادلة : ٧] ومن خلا منه مكان ، فقد حواه مكان ، ومن حواه مكان ؛ فقد حد بالنواحي والحدود ، وخرج بلا شك من صفة المعبود ، وصار إلى حد المحدودين ، وانتظمه شبه المربوبين ، فتعالى عن ذلك الله رب العالمين ، وتقدس عن مشابهة المخلوقين ، فيا ويل المشبهين للرحمن ، بما خلق وذرأ من الإنسان ، أما يسمعونه كيف نفى ذلك عن نفسه فيما نزله من فرقانه ووحيه ، فقال : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص] ؛ والأحد فهو : الواحد الذي ليس كمثله أحد ؛ والصمد فهو : الغاية والمقصد ، الذي ليس من ورائه مقصد ؛ والذي لم يلد ولم يولد فهو : الله الذي لم يلد ، فيكون ولده له شبيها ومثلا ، ولم يولد ، فيكون والده له بدءا وأصلا ، بل هو خالق الوالد والأولاد ، وفاطر السماوات والأرض ذات المهاد ؛ ولم يكن له كفؤا أحد ، والكفؤ فهو : المثل والنظير ، والعديل في الكثير كان أو اليسير ، في بعض الأشياء كان أو في كلها ، صغيرها وكبيرها ؛ والأحد فهو : الواحد الذي ليس معه ثان. فكيف يقولون ويلهم في الله بما لا يعلمون ، وقد يرون قوله في نفسه ويسمعون ، فهم في قولهم وافترائهم ، كما قال الله ذو الجلال والجبروت ، وذو العزة والعظمة والملكوت : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ

١٣١

أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) [النحل : ٦٢] ، فنعوذ بالله من الحيرة عن الهدى ، ومن التكمه في الغي والردى ، وحسبي الله العلي الأعلى.

ذكر صفات الفعل

إن سأل سائل مسترشد أو قال متعنت قائل : أتقولون إن الله ذا الجلال والإكرام ، وذا القدرة والملكوت والإنعام ، لم يزل متفضلا جوادا كريما ، توابا محسنا غفورا رحيما؟

قيل له : إن هذا الذي ذكرت مما عنه سألت وسطرت أفاعيل من الواحد الجليل ، وقد كان سبحانه وجل عن كل شأن شانه ولما يفعل الجود والرحمة والعفو والإحسان والنعمة ، ثم فعلها وبعد العدم أوجدها ، ونحن فنقول : لم يزل المتفضل الجواد الكريم المحسن الغفور التواب الرحيم ، فندخل في ذلك الألف واللام ليكون قولنا وخبرنا عن الواحد الرحمن ذي الجلال والسلطان ، ولا نطلق القول (١٢١) والكلام في ذلك بغير الألف واللام ، لأن في ذلك توهيم قدم الخليقة من المرحومين ، وتثبيتا لأزلية التوابين المربوبين (١٢٢).

__________________

(١٢١) في (ب) زيادة (عليه).

(١٢٢) فإن قلت : ما هو الفرق الذي أوجدته الألف واللام؟ قلت : لأن المعنى مع الألف واللام : أنه لم يزل الكامل في هذه الصفة كما تقول العرب : زيد الفارس ، أو الكريم ؛ بمعنى الكامل في هذه الصفة.

فإن قلت إن هذا لا يكون إلا مع (ال) المعرفة ، وقد نص النحاة أن الألف واللام الداخلة على اسم الفاعل واسم المفعول لا تكون إلا موصولة. قلنا : ليست هذه الصفات أعني المتفضل ، الجواد المنعم ، الخالق ، ونحوها في حق الله أسماء فاعل وإن كانت بصيغته ، وليست إلا صفاتا مشبهة لأنها ليست متعدية لكون فعل الله هو نفس المفعول ، كما مر ذلك للهادي عليه‌السلام. وفي حاشية للمولى الحجة العلامة / مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيّده الله وأدام في ظله : فتكون (ال) الداخلة عليها معرّفة كما في سائر الصفات المشبهة وهذا من دقائق العلم التي اختص الله بها أهل بيته عليهم‌السلام فتأمل على أن الرضي قد نص على أن للموصولة ما للمعرفة من المعاني.

١٣٢

فإن قال : أفتقولون إنه كان غير تواب رحيم ولا متفضل محسن كريم؟

قلنا له : لا نقول ذلك لما فيه من توهيم البخل والفظاظة وضد الإحسان ، والله فبري من ذلك له الأسماء الحسنى في كل شأن.

فإن قال : أفتقولون إنه لم يزل صمدا؟

قيل له : نقول لم يزل الواحد الصمد ، ولا نطلق في ذلك القول بغير الألف واللام ؛ لأن الصمد عند أهل المعرفة والتمام هو الغاية المعمود والنهاية المقصود الذي ليس من ورائه مصمد ، ولا يوجد بعده للمطلوبات مقصد ، الذي تقصده البرية في شأنها ، وتضرع إليه في كل أسبابها ، وفي اطلاقنا ذلك على ما قلت ، وقولنا فيه بما ذكرت توهيم أن البرية الحادثة الفانية من الخليقة الضارعة لم تزل ، وهذا فاحش من المقال ، مستنكر في كل حال ، ولكن نقول لم يزل الصمد ، وكذلك نقول : لم يزل المشكور المحمود ، ولا نطلق القول بلا ألف ولا لام ، لما في ذلك من توهيم السامع من الأنام من أنه لم يزل الحامد أزليا مع المحمود ، والشاكر قديما مع المشكور.

فإن قال أحد من أهل الضلال : أفتقولون إنه كان في زمن من الأزمان غير مشكور ولا محمود في كل شأن؟

قلنا له : لا نطلق ما تقول لما فيه من توهيم الذم في اللفظ والقول ، ولكن نقول : لم يزل المحمود المشكور ذو الطول ؛ لأن الحمد لا يكون إلا من حامد بالحمد ناطق ، والشكر لا يكون إلا من شاكر راتق فاتق ، فمتى أطلق القول في الله ذي الجلال والحول بأنه لم يزل محمودا مشكورا فقد أثبت معه أزلية الحامد الشكور ، وفي هذا إبطال التوحيد ، الذي لا يكون إلا لله الحميد ، الذي لم يزل من قبل أن يوجد كل حامد شاكر أو ضال مخالف على الله كافر.

الإرادة

إن سأل مسترشد أو ضال أو متعنت في المقال عن إرادة الله تبارك وتعالى فقال : ما هي وعلى أي الوجوه هي؟

١٣٣

قيل له : إن الإرادة تخرج على ثلاثة معان وكلهن معروف في اللغة جار :

فأولهن : إرادة الله لإيجاد المخلوقين ، وفتق رتق السماوات والأرضين ، فلما أراد ذلك كان بلا كلفة ولا عون أعوان ، إذا أراد شيئا أوجده ، وإذا أوجده فقد أراده ، فمشيئته إرادته ، وإرادته مشيئته ، ليس له مثل ولا نظير ، وهو الواحد اللطيف الخبير.

والثاني : فهو إرادة الأمر وهو قوله سبحانه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس : ٨٢] ومن ذلك قوله : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] يقول سبحانه : يأمركم بما فيه التسهيل لكم ، والتيسير عليكم ، وكذلك كلما أراد ذو الجلال ، وذو القدرة والمحال من عباده من جميع الأفعال ، فإنما هو أمر ونهي من رب العالمين ، يأمر به وينهى عنه جميع المخلوقين. فأما قوله سبحانه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] فليس يتوهم أن ثمة مخاطبة من الله للعدم ، وإنما ذلك منه ـ سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه ـ إخبار عن نفاذ قدرته ، وإمضاء ما أراد من مشيئته ، فتعالى من ليس له شبيه ولا عديل ، ولا ضد ولا مثيل ، وهو الله الواحد الجليل ، ذو القدرة والسلطان كما قال سبحانه في وحيه وذكر تعالى عن نفسه فقال فيما نزل من الفرقان ، وبيّن لعباده من التبيان : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١٢] ، الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء ، وجعل الأرض قرارا ، وجعل خلالها أنهارا ، مجيب المضطرين ، وكاشف السوء عن المكروبين ، والمهلك لمن شاء من العالمين ، والهادي في الظلمات ، والرازق في كل الحالات ، والباري لخلق المخلوقين ، والمعيد لهم يوم الدين ، والرازق لجميع عباده المرزوقين. وفيما ذكرنا من منّته على خلقه ما يقول سبحانه في محكم تنزيله ووحيه ، ويحتج به على عباده (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ

١٣٤

عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [النمل : ٦٠ ـ ٦٤].

والوجه الثالث : فهو إرادة المخلوقين ، وهي بالنية والضمير تعالى عن ذلك رب العالمين ، وتقدس عن مشابهة المربوبين ، وإنما يحتاج إلى النية والضمير من لم يكن بعالم ولا خبير بعواقب أفعاله ، ومتصرفات نوافذ أعماله ، فهو ينوي ويضمر ، ويدبر ما يورد ويصدر ، لقلة فهمه بالعواقب ، ولحاجته إلى المعين والأعوان ، وإلى الآلات في كل حال وأوان ، إذا أراد أن يصدر فيه من شأنه شأنا.

فالحمد لله الذي بان عن مشابهة العجزة المربوبين ، وتقدس عن مماثلة المتحرفين المتصرفين ، والعاقبة للمتقين ، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين ، وعلى أهل بيته الطيبين.

باب تفسير العلم في الله والرد على من قال إن لله علما سواه به يعلم الأشياء

إن سأل سائل : فقال : ما تقولون في الله ذي الجلال : أله علم؟

قيل له : إن معنى قولك : (لله علم) ، يخرج على ثلاثة معان معروفة بينه وكلها في اللسان فواضحة منيرة :

منهن : أن تكون تريد أن له علما أنزله على المرسلين ، وعلّمه إياهم ومن تبعهم من المؤمنين ، مثل : التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان الجليل ، فنحن بذلك في الله نقول.

والثاني : أن تكون تريد أنه العالم بالأشياء ، الذي لا يخفى عليه سر ولا نجوى ، وأنه يعلم ما لم يكن مما سيكون ؛ كما يعلم ما قد كان من الفعل وبان ، فكذلك قولنا في الله ذي السلطان.

والثالث : أن تكون تقصد ، وفيما ذكرت من قولك تعمد ، أن لله علما سواه ، به يعلم في الحالات ما يكون من المعلومات ، وهذا في الله سبحانه فأحول المحال ، وأبطل ما يقال به من المقال ؛ لأنه لو كان كما تقول وتعبّر ، أو كان على شيء مما تذكر وتسطر لم يخل من أحد معنيين ، وكلاهما عن الله سبحانه زائلان :

١٣٥

إما أن يكون هذا العلم الذي شرحت وقلت وادعيت وذكرت علما أزليا قديما مع الله أوليا ، فتثبت حينئذ الأزلية لشئين ، ويصح القدم لقديمين اثنين ، وهذا فإبطال التوحيد ، والإشراك بالواحد الحميد ، ودفع ما قال في كتابه ، الذي أنزله على خير عباده ، حين يقول سبحانه وجل عن كل شأن شأنه : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد : ٣] ، وقوله سبحانه : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الزمر : ٦٢] ، وكيف يكون أوليا أبديا من كان معه في الأولية ثان؟ وكيف يخلق كل شيء من قد كان معه قبل خلق الأشياء شيء؟! فتعالى عن ذلك الرحمن العلي.

أو أن يكون هذا العلم الذي ذكرت ، وفيه تكمهت وقلت شيئا أوجده الخالق المصور من بعد ، وأخرجه من العدم إلى الوجود الواحد المقدر ، فيكون في هذا غاية التجهيل لمن له القدرة المهيمن الجليل ؛ لأنه إن كان إنما علم الأشياء بما خلق من العلم وذرأ ، فقد كان الله الواحد الكريم من قبل إيجاد العلم غير عليم ، ومتى زال عنه في حالة من الحالات أن يكون عالما بالسرائر والخفيات ، أعقب ذلك الجهل أكبر الجهالات ، لأن العلم والجهل ضدان مختلفان ، وفي كل المعاني متباينان ، ومن نسب إلى الله سبحانه الجهل في حالة من الحالات أو نفى عنه العلم في وقت من الأوقات ، فقد أشرك به ، جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله ، ومن أشرك به فقد جحده ، ومن جحده فقد أنكره ، ومن أنكره فلم يعرفه ، ومن لم يعرفه فلم يعبده ، ومن لم يعبده بعرفان ، ويعرفه بغاية الإيقان ، فهو كما قال الله سبحانه في واضح الفرقان فيما نزل على نبيه من النور والبرهان حين يقول : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٤] وكما قال سبحانه : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩] صدق الله ورسوله ، إن في خلقه لمن هو كذلك ، وعلى ما ذكر الله سبحانه من ذلك ، من غير أن يكون أدخلهم فيه ، ولا جبلهم عليه ، تبارك وتعالى ، بل هو منهم اكتساب ، وقلة إنصاف منهم للألباب ، ومكابرة للحق ، ومعاندة للصدق ، واقتداء من الأبناء بمن مضى من جهلة الآباء ، فتبارك الله العالم بنفسه ، العادل في كل فعله ، الذي لم يزل عالما خابرا ، ولم يكن في وقت من الأوقات بشيء جاهلا.

١٣٦

باب تفسير القدرة والرد على من زعم أن لله قدرة سواه بها قدر على الأشياء

وكذلك قولنا لمن سأل عن قدرة ربنا فقال : هل لله قدرة فيما تقولون وإليه تذهبون مما تتقلدون؟

قيل له : إن معنى قولك هذا يحتمل ثلاثة معان مختلفات ، متفرقات غير مجتمعات في شيء من الجهات :

فمنهنّ : أن تكون تريد بسؤالك عن قدرة الرحمن على ما خلق وذرأ ذو المن والسلطان من عجائب ما خلق من المخلوقات ، ومدبرات ما دبر وافتطر من المفطورات ، من الأرضين والسماوات ، وما سوى ذلك من المجعولات ، اللواتي يشهدن لمدبرهنّ بالحول والقوة ، وينطقنّ له في كل أوان بالقدرة ، فكذلك نقول وإليه بلا شك نؤول.

أو أن يكون رأيك ومقصدك ، ومذهبك في ذلك ومعتمدك ، ما خلق سبحانه وأعطى ، وبث في الخلق وذرأ ، من القدرة التي أعطاها جميع الخلق ، من الاستطاعة التي بثّ في جميع أهل الباطل والحق ، ليعبدوه بها ويطيعوه ، ويستعملوها في طاعته ويرضوه ، ثم هداهم النجدين ومكنهم في ذلك من العملين ، ولم يحل بينهم وبين أفعالهم ليجازيهم على جميع أعمالهم ، ثم أمرهم بالطاعة ، ونهاهم عن المعصية ، ثم قال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النمل : ٨٩] ، وقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨] ، ثم قال من بعد الإعذار والإنذار ، والدعاء والتبصير والإخبار : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) [الكهف : ٢٩] ، فقصد للطاعة قاصدون ، ونكب عنها ناكبون ، ورفض قوم الهوى ، وركبوا التقى ، وترك قوم التقى ، واتبعوا الهوى ، فحق للمطيعين الوعد من الرحمن بالجنان ، ووجب على العاصين ما أوعد من النيران ، وفي أولئك ومن كان من الخلق كذلك ما يقول ذو السلطان والجبروت ، وذو الرأفة والقدرة والملكوت : (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٣٧ : ٤١)] ،

١٣٧

وقال فيمن دعي إلى الحق فأبى ، وأمر بالطاعة فعصى ، وآثر على الحق الهوى : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص : ٥٠] ، وقال جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية : ٢٣] ، وقال : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) [الفرقان : ٤٣.] ، فإن كنت تريد هذا القول ، فإنّا به ، ولله الحمد ، نقول ، ونشهد بالمنة فيه للعلي ذي الطول.

وإن كنت تريد بقولك ، وما تتكلم به من كلامك : أن لله قدرة سواه بها يقدر على ما يريد ويشاء ، تعالى الله عن ذلك العلي الأعلى ، فهذا ما لا نقوله ولا نذهب إليه ، ولا نجيزه ؛ لأنه من المقال قول فاسد محال ؛ لأن القدرة لو كانت كذلك ، تعالى الله عن ذلك ، لم تخل من أن تكون قديمة أولية ؛ فتكون ثابتة (١٢٣) مع الله أزلية ، وهذا فإبطال التوحيد ، وعين المضادة لله الواحد الحميد ، وإبطال القرآن ، وتكذيب الرحمن ؛ لأنه سبحانه يقول : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد : ٣] ، ويقول : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] ، فقال سبحانه : هو الأول ، فذكر أنه الأول قبل كل شيء ، ولا يكون الأول إلا فردا لا ثاني معه ، كما لا يكون الآخر إلا الذي لا شيء بعده ، وكذلك الواحد فهو الذي لا ثاني معه ، وذلك الله الجليل الرحمن ، المتعالي عمّا يقول حزب الشيطان ، فهذا من قولهم فمعنى فاسد باطل ، وعن الحق والحمد لله حائل.

أو تكون محدثة مكونة تعلم ويكون الله أوجدها من بعد العدم ، فيدخل بذلك العجز على الله والتضعيف ، فتعالى عن ذلك القوي اللطيف ، لأن ضد القدرة العجز ، فمتى عدمت القدرة ثبت العجز ، فيلزم من قال بإحداث قدرة المهيمن القادر أن يقول إن الله كان عاجزا غير قادر ، فإن كان كما يقول الجاهلون ، وينسب إليه الضالون : إنه كان ولا يقدر ، حتى أوجد وخلق ما به قدر ، فبما ذا ويلهم خلق القدرة التي يذكرون أنه خلقها من

__________________

(١٢٣) في (ب) و (ج) : ثانية.

١٣٨

بعد العدم ويقولون ، فإن كان الله أحدثها وهو غير قادر ، وأوجدها وصورها وفطرها وهي التي لا شيء يعدلها ، ولا شيء من المجعولات إلا وهو دونها ، إذ لا يوجد شيئا ولا يخلق إلا بها بغير ما قدرة منه عليها فلقد كان فعله في غيرها أنفذ ، ومراده في سواها أوكد (١٢٤) ، فبم ويلهم خلقها وأوجدها وهو يوجد مثلها بغيرها؟ فلقد كان عنها مستغنيا ، وبما خلقها به مكتفيا مستعليا ، فتبارك عن ذلك ذو الجلال وذو الجبروت ، الواحد الحي الصمد الذي لا يموت ، القادر العالم بنفسه ، البري من شبه خلقه ، الذي لم يزل ولا يزال ، وهو الواحد ذو القدرة والجلال ، الأول لا ثاني معه والآخر الذي لا شيء مثله.

باب تفسير معنى قوله الحي

لو قال قائل أو سأل عن معنى الحي سائل.

قيل له : الحي يخرج على ثلاثة وجوه :

فمنهن : المتحرك من ذوي الحواس المفهومة ، من الملائكة والجن والإنس وغير ذلك من الخلائق المعلومة وغير المعلومة ، ذوات الأرواح الجائلة المستجنة فيما خلق الله لها من الأبدان ، التي هي فيها مستكنة ، كما قال عزوجل : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [النور : ٤٥] ، فكلها حي ما دام فيه روحه ، فإذا خرج روحه حلت به وفاته وموته ، والله من ذلك سبحانه فبري ، وعن التجسم والزوال فمتقدس عليّ.

والمعنى الثاني : فما يحييه وينشئه لجميع المخلوقين مما يذرأ ويخرج للعباد ، بالماء المبارك في الأرض ذات المهاد ، من النخيل الصنوان وغير الصنوان ، ذات الطلع الهضيم ، وغيرها من

__________________

(١٢٤) يريد : أنه إذ كان خلق القدرة ، بغير قدرة ، وهي أعظم الأشياء فخلق غيرها بغير قدرة أهون فلما ذا يوجدها؟

١٣٩

رزق الواحد الكريم ، من النبات والفواكه والأشجار ، التي تخرج وتحيا بما ينزل عليها من الأمطار ، كما قال ذو المن المهيمن الجبار : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء : ٣٠] ، وقال سبحانه : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج : ٥] ، وقال جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) [الفرقان : ٤٨] ، ومثل هذا مما ذكره الله أنه يحييه بالماء مما نعاين ونرى (١٢٥) فكثير غير قليل ، في واضح ما أنزل الله من التنزيل ، فهذه أجسام تحيا بالماء ، ليست بذوات أرواح جائلة في الأجسام ، كما تجول الأرواح فيما خلق الله من الدواب والهوام ، وإنما حياتها اخضرارها ، وكمون الماء فيها وارتوائها ، فسمى الله ما كان كذلك حيا كما ذكر سبحانه في كتابه ، وكذلك تقول العرب لما كان من الأشجار على ذلك ، تقول : هذه نخلة حية ، إذا كانت مخضرة روية ، والله سبحانه فبريء من هذا المعنى ، ومن مشابهة شيء من الأشياء.

والمعنى الثالث : فهو الذي لا يجوز غيره في الله ذي السلطان وذي الجبروت والرأفة والإحسان ، وهو أن معنى الحي هو الذي يجوز منه الفعل والتدبير ، وذلك فهو الله الحي الدائم اللطيف الخبير.

باب تفسير قوله السميع والرد على من قال إنه سبحانه يسمع بجارحة (١٢٦)

إن سأل سائل : عمّا ذكر الكريم في القرآن من قوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام : ١٣] ، فقال ما معنى السميع عندكم وما معناه في أصل قولكم؟.

قيل له : يخرج ذلك على معان أربعة معلومة معروفة عند جميع العرب مفهومة.

__________________

(١٢٥) في (ب) و (ج) : مما يعاين ويرى.

(١٢٦) في (ب) : بحاسة.

١٤٠