مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

وعلى ما أراد بأنه راض عنه ؛ ويوصف من كره فعل غيره ، ووقع على ما كرهه بأنه ساخط له. وكذلك يوصف العبد بما دخل تحته من الأفعال. وقد يقال في الفعل الواحد إن زيدا راض به وعمرا ساخط له إذا أراده زيد ، وكرهه عمرو. وإذا لم تكن حقيقة السخط والرضا ما ذكرنا ، لم يمتنع أن تكون هذه الصفة من صفات الذات ، وإذا كانت كذلك ، فكان من علم أنه يطيعه مرضيا عنه وهو في حال كفره ، فإذا كان العلم هو الموجب للطاعة والمعصية فلا مخرج للعبد إذا من ذلك.

قال الهادي عليه‌السلام : وقد يكون العبد في المعاصي الجليلة فيكون الله ساخطا عليه معاديا له ، ثم ينتقل إلى الطاعة فينتقل عليه ضد ذلك من الرضا ، والولاية ، والمحبة والمعونة له ، وقد يكون في طاعة الله عزوجل فيكون الله راضيا عليه ، ثم ينتقل إلى المعاصي فينتقل عليه ضد ذلك الرضى وهو السخط.

واعلم أن الرضى بالفعل هو غير الرضى عن الفاعل ، وإنما يرضى عن الفاعل إذا أتى كمال مراده منه ، ولأن العبد قد يرضي الله في جميع أفعاله ، ويسخطه في وجه. تبيين ذلك أن الصغيرة الواقعة من الأنبياء عليهم‌السلام مسخطة لله ، وإن كان سائر أفعالهم مرضية له. وتبيين ذلك أيضا أن الواحد منا قد يكون مرضيا لغيره في وجه ، ومسخطا له في آخر. وكذلك في طاعة الكافر وكفره. فإذا صح ذلك لم يجز متى رضي تعالى ببعض أفعال المكلف أن يكون راضيا عنه ؛ لأن الرضا هاهنا معلق بالفعل. وإنما يتعلق الرضى بالفاعل إذا أرضى الله عزوجل في أفعاله على قولنا في استحقاق المدح والثواب ، فإذا كان العبد مسخطا لله في وجه ومرضيا له في وجه ، قيل إن الله راض ببعض فعله ساخط لبعضه ، ولم يتعلق السخط والرضا هاهنا بالفاعل ، فإذا علق بالفاعل كان محالا أن يوصف الله بأنه راض على من هو ساخط عليه ، فأما الولاية من الله تعالى للمؤمنين فإنما يتولى تعظيمهم ومدحهم ، ويأمر بذلك بعد استحقاقهم لذلك بأفعالهم. وأما العداوة فحقيقتها إنزال المضار بالعاصي ، واستعمال العداوة لله من الكافر مجاز ؛ لأن الكافر لا يقدر على إنزال المضار به تعالى ، وإنما يوصف بذلك من حيث كان عدوا لأوليائه. والمحبة من الله للمؤمنين فإنما المراد بها منه إيصال المنافع إليهم تفضلا واستحقاقا.

واعلم أن هذه الصفات إرادة من حيث كان عدوا لأوليائه والمحبة من الله

٢٠١

للمؤمنين ، فإنما يجوز أن يريد الأفعال ويكرهها ، والإرادة فقد صح أنها من صفات الفعل. وإنما يجب أن لا يجيز هذه الأوصاف على الله عزوجل من لا يثبته مريدا على الحقيقة ، ولا كارها ، فإذا صح أنها من صفات الفعل وجب القضاء بأنه إنما سخط ورضي بعد وجود ما يوجب ذلك ، وذلك لا يجوز إلا بعد التكليف ، وبعد تصرف المكلف بالطاعة والمعصية ؛ لأن جميع ذلك منه تعالى جزاء على الأفعال ، ولا يحسن مجازاة الفاعل قبل إقدامه على الفعل ، وذلك بين ، ومما لا يحتاج فيه إلى إطناب.

فأما ما ذكر عن سليمان بن جرير فإنما أتي من قبل قوله بأنه يقول : إن الله تعالى لم يزل مريدا ؛ ويثبت ذلك من صفات الذات ، فقال ما قاله ، وقد دللنا على بطلان ذلك ببطلان أصله الذي يتعلق به في أن الإرادة من صفات الذات. ومما يبين فساد ذلك أن الساخط إنما يحسن منه أن يسخط على من فعل قبيحا من علمه فاعلا لذلك القبيح ، لا لعمله بأن الفعل المسخط له سيقع ، ألا ترى أن ذلك يقبح فيه قبل وقوع القبيح كما يقبح منا أن تعاقب بالضرب والإيلام من لم يأت ما يستحق ذلك منه ، فإذا ثبت ذلك لم يجز منه تعالى أن يسخط على المؤمن من حيث علمه أنه سيكفر في آخر أمره ، ولو حسن منه ذلك لحسن أن يسخط عليه ويعاقبه ويجرمه (١٥٨) في حال إيمانه لعلمه بما سيقع منه ؛ لأنه بعلمه عاقبه لا بفعله ؛ لأنه لم يقع منه فعل يوجب عقابه ، لكن بعلمه عاقبته (١٥٩) ، ولو حسن ذلك منه لحسن أن يعاقبه وأن يقدره على الطاعة ، ولحسن أيضا أن يعاقبه مع أنه المانع له من الطاعة ، وفساد ذلك ظاهر ، وهذه طريقة ما سلكها أحد من

__________________

(١٥٨) في (أ) : ويجترمه.

(١٥٩) أي : بعلم الله لعاقبته.

٢٠٢

الأئمة ولا من العلماء من غيرهم سوى هذه المجبرة فاعلم ذلك.

تمّ والحمد لله وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه

٢٠٣

وله أيضا عليه‌السلام :

كتاب تفسير الكرسي

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

أما بعد ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله وعلى أهل بيته ، وأن يجعلك من أهل ولايته ، ويحبوك بحفظه وكلاءته ، ثم إني سأذكر لك نبأ أهل الزيغ من المشبهة عليها لعنة الله ، وأقص عليك سبيل ضلالها عن الهدى ومن حيث ضلت وعميت.

التشبيه في عهد رسول الله صلوات الله عليه وآله

واعلم رحمك الله أن فريقا من المشبهة كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى عهد علي أيضا رحمة الله عليه ، وقد ذكر الله عزوجل هولاء الذين كانوا على عهد نبيئه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في آي الكتاب الذي نزله فقال سبحانه : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩١] ، وفيهم يقول سبحانه : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢١ : ٢٣] ، فعاب الله تبارك وتعالى كفرهم في اعتقادهم التشبيه في الله عزوجل ، وجعل مصيرهم إلى النار بذلك.

٢٠٤

وكذلك هؤلاء الملحدون ، أيضا ، فهم على ذلك السبيل وبه يعتقدون ، وعنهم وعن أشياعهم نقلوا هذه الروايات.

أقوال المشبهة

فقالت فرقة منهم إن الله جل وتعالى خلق آدم صلى الله عليه على خلق نفسه ، وإنه يضحك حتى تبدوا نواجذه ، وقالت فرقة بل هو نور من الأنوار يكل عنه النظر ولا ينفذه البصر. وزعموا في زعمهم أن لله عرشا مشتملا عليه ، وأن النبي صلى الله عليه وعلى أهله أسري به إلى السماء ووصل إلى الله عزوجل ووجد برد أنامله في جسده ، وأنه سمع الله سبحانه وهو يقول : كن كن.

وقالت فرقة أيضا إن الله تعالى ذكره يظهر يوم القيامة ويرى عيانا. وإنه يكون يوم القيمة جالسا على العرش ، ورجلاه على العرش ، وإنه يكشف لهم ساقه ويحتجب عن الكفار فلا يرونه ، فصغروا الله ، سبحانه وجل ثناؤه ، غاية التصغير ، وجهلوا قول الله : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

فنقول لهم : أيها القوم إنكم جهلتم الله سبحانه فلم تعرفوه ، وأشركتم بالله عزوجل فلم توحدوه ، والله سبحانه فقد وصف نفسه بغير ما وصفتموه ، ونفى عن نفسه ما نسبتم إليه ، فاسمعوا إلى قولنا وأنصفوا من أنفسكم ، واقبلوا الحق إذا عرفتموه ، ولا يفتننكم الشيطان ليخرجكم من أديانكم ، فإن الله سبحانه يقول : (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) [الفرقان : ٢٩].

الاحتجاج على المشبهة

فمما نذكر لكم ونحتج به عليكم ما ذكر الله سبحانه في هذه الآية من قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة : ٢٥٥] ، فأخبر الله سبحانه أن كرسيه قد وسع السموات والأرض ، يريد عزوجل أن هذا الكرسي اشتمل على السموات السبع فأحاط بأقطارها ، وكذلك اشتمل على الأرضين السفل فأحاط

٢٠٥

بأقطارها أيضا ، فصار الكرسي مشتملا على السموات السبع ، عاليا فوقها ، واسعا لها. والواسع للشيء هو الذي انبسط فوقه حتى اشتمل عليه. فكانت السماوات والأرض أضيق من الكرسي ، وكان الكرسي أوسع منهما ، فنقول إن الكرسي قد اشتمل على السماوات والأرض حتى أحاط بما فوقهما وتحتهما وأحاط بأقطارهما ، فكانت السموات والأرض داخلتين في الكرسي ، فصار مثل الكرسي لإحاطته بالسماوات والارض كمثل البيضة المشتملة على الفرخ في جوفها ، فالبيضة مشتملة على هذا الفرخ في جوفها ، ملتئمة عليه ليس فيها صدع ولا ثقب ، ولا لما في جوفها منها مخرج ، حتى يأذن الله عزوجل لما في جوفها بالخروج. وهذا الكرسي أيضا مشتمل على هذه الأرض وهذه السماء كما اشتملت هذه البيضة على هذا الفرخ ؛ لأنه محيط بأقطار السماء وأقطار الأرض ، وكل شيء مما خلق الله عزوجل في السموات والأرض داخل في هذا الكرسي ، فليس لشيء مما خلقه الله سبحانه خروج من هذا الكرسي. وهذا الكرسي فليس وراءه منتهى ولا غاية ، فاعرف هذا الكرسي كيف هو ، فقد ثبت ، والحمد لله ، أن هذا الكرسي هو المحيط بجميع (١٦٠) الأشياء الواسع لها ، فصار هذا الكرسي خارجا منها ظاهرا عليها ، وباطنا فيها ظاهرا عليها ؛ لإحاطته بها ، وباطنا فيها ؛ لدخولها فيه ، وليست هذه الأشياء الداخلة في هذا الكرسي بممازجة له ؛ لأنها أصغر شيء في إحاطته.

سؤال أبي ذر رضي الله عنه عن آية الكرسي

وسأذكر لك في إحاطة الكرسي بالأشياء خبرا مذكورا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر عن أبي ذر الغفاري رحمة الله عليه أنه قال : «يا رسول الله أي آية أنزلها الله تبارك وتعالى عليك أعظم؟ قال : آية الكرسي ، ثم قال : يا أبا ذر ما السموات والأرض عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض.» ، فانظر إلى ما ذهب إليه النبي صلى

__________________

(١٦٠) في (ب) : بكل.

٢٠٦

الله عليه وعلى آله وسلم. يريد أن الكرسي اشتمل على السموات والأرض كما اشتملت الأرض على الحلقة الملقاة في جوفها ، فدخلت السموات والأرض في الكرسي كما دخلت الحلقة في الأرض ، فبطل كل شيء مما خلق الله عزوجل وهلك وغاب ، فذهب من كل عرش وسماء وأرض ، وثبت هذا الكرسي لا غيره ، وكان هذا الكرسي من وراء كل شيء واسعا لكل شيء. فلم يبق عرش ، ولا مخلوق ، ولا سماء ، ولا أرض ، ولا جنة ولا نار ، ولا جن ، ولا إنس ، ولا ملائكة ، ولا هواء ، ولا شيء مما خلق الله عزوجل حتى صار داخلا في هذا الكرسي ؛ لقول الله سبحانه : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] ، فكل شيء مما خلق الله سبحانه فقد أحاطت به السموات والأرض وما بينهما ، وهذا الكرسي فقد أحاط بالسماوات والأرض وجميع ما فيهما ، فاعرف هذا الكرسي معرفة جيدة ، وتدبره وانظر فيه نظرا مكررا ، فإني قد كررت لك الوصف فيه لتدبره وتعرفه كيف هو ، وقف على ما وصفت لك فيه وتيقنه فإذا عرفته ووقفت عليه بما وصفت لك سواء فانظر الآن إلى ما ذهبت إليه وما الذي أريد بذكر هذا الكرسي.

اعلم رحمك الله أن هذا الكرسي مثل ضربه الله لعباده ؛ ليستدل به العباد على عظمة الله تبارك وتعالى وإحاطته بالأشياء ، واتساعه لها ، فهذا الكرسي مثل يحكي عن الله سبحانه ، وليس ثم شيء سوى الله عزوجل ، وهذه الإحاطة بجميع الأشياء فإنما هي إحاطة الله عزوجل ، وليس ثم كرسي مخلوق ، ولا شيء سوى الخالق أحاط بجميع ما خلق ، فليس شيء مما خلق الله عزوجل إلا والله سبحانه محيط به ، وليس شيء مما خلق الله بمحيط به ، هو أصغر وأحقر من ذلك إذا لكان الشيء المحيط بالله جل الله أوسع من الله وأكبر منه ، وسأذكر لك في هذا أخبارا ، وأضرب لك فيه أمثالا ، حتى تتحقق في قلبك المعرفة بالله عزوجل ، ويحذف عن قلبك الشك والارتياب.

اعلم رحمك الله أن هذه الفرقة من المشبهة قوم هم عند الله أكذب الكاذبين ، وأخسر الخاسرين ، ولأقسمت يمينا بالله عزوجل صادقا إن الواحد منهم ممن يرى أنه على شيء ليصلي ويصوم ويتنفل ، وإن قلبه ليحكي له بعده من الله تبارك وتعالى ، وإنه لا يتقرب من الله أبدا ، ولا يزداد لكثرة عمله إلا بعدا ، وأن قلبه لنافر من الله سبحانه ؛ لأن القلوب إنما تقر وتهدأ وتطمئن على تحقيق المعرفة ، فإذا عرف اطمأن وهدأ. ونحن فلا نقول : إنهم

٢٠٧

جحدوا الله سبحانه ، وذلك أن الله فطرهم على معرفته ، ولكنا نقول : إنهم جهلوا الله وصغروه ، فلهم أصغر صغير ، وأحقر حقير عند الله عز ذكره ، فإذا عرفت الله سبحانه ووصفته بهذه الإحاطة التي ذكرت لك فقد عرفت الله سبحانه حق المعرفة ، ألا تسمع إلى قول الله عزوجل : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة : ٢٥٥] يخبر عزوجل أنه أعلى وأعظم من أن تحفظه السموات والأرض.

ونحن نقول إن الله سبحانه هو الحافظ للسماء والأرض. وسأصف لك السموات والأرض كيف هما ، وأصغرهما لك على عظمهما ، حتى تعلم أنه لا شيء أعظم من الله سبحانه ، ولا شيء أوسع من الله سبحانه ، فقف على ما أذهب إليه وتدبره.

يروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : «هل تدرون ما هذه التي فوقكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. فقال : إنها أرفع سقف محفوظ وموج مكفوف. هل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : إن بينكم وبينها مسيرة خمسين ومائة عام ، وبينها وبين السماء الأخرى مثل ذلك ، حتى عد سبع سماوات ، وغلظ كل سماء مسيرة خمسين ومائة سنة. ثم قال : هل تدرون ما هذه التي تحتكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنها الأرض ، وبينها وبين الأرض الأخرى مسيرة خمسين ومائة سنة ، حتى عد سبع أرضين ، وغلظ كل أرض خمسين ومائة سنة. ثم قال والذي نفس محمد بيده لو دليتم أحدكم حتى يصير إلى الأرض السابعة السفلى لكان الله عزوجل معه ، ثم تلا هذه الآية : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد : ٣].».

وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه : «لو أن ملكا من ملائكة الله عزوجل الذين عظم الله خلقهم هبط إلى الأرض لما وسعته.» ؛ لأن الله جعل السموات أوسع من الأرض والسماء العلياء من السموات أوسع من السماء السفلى ؛ لأن السماء العليا مشتملة عليها. فانظر إلى هذه السموات والأرضين ما أوسعها وأعظمها ، وسأصغرهما لك الآن في عظمته سبحانه ، حتى تعلم علما يقينا أنه لا شيء أعظم من الله عزوجل ، قال الله في الأرض والسماء : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ) [الزمر : ٦٧] ، فمثل الله سبحانه صغر الأرض في عظمته وقدرته كالقبضة في الكف ، فكان في هذا ما يدل على تعظيم الله سبحانه ، وكذلك قال :

٢٠٨

(وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧] ، فكان هذان مثلين من أمثال الله عزوجل يحكيان عن عظم الله تبارك وتعالى وصغر الأشياء ، أنها في عظمة (١٦١) سعته واقتداره أصغر صغيره عنده سبحانه وتعالى.

تم والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

__________________

(١٦١) في (ج) : في عظم سعته.

٢٠٩

وله أيضا عليه‌السلام :

كتاب العرش والكرسي

بسم الله الرحمن الرحيم

معنى العرش والكرسي والوجه والكتاب والصراط والميزان ...

قال يحي بن الحسين صلوات الله عليه :

والكرسي ، والعرش ، والقبضة ، والبطش ، والإتيان ، والمجيء ، والكتاب ، والصراط ، والميزان ، والكشف عن ساق ، واليدان ، والقبض ، والبسط ، والوجه ، والحجاب أمثال كلها ، لا يضاف شيء منها إلى صفات البشر ، فمن أضاف شيئا منها إلى صفات الخلق فقد كفر ، وإنما هذه الصفات من أمثال القرآن وهو قوله : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] ، وقد ذكر الله الأمثال في كثير من القرآن.

فنقول : إن المعنى في العرش والكرسي والوجه سواء ، ليس بينهما فرق ، والمعنى فيها واحد ، فنقول : إن معنى الوجه في الله هو الله ، ومعنى الكرسي في الله هو الله ، ومعنى العرش في الله هو الله ، لا شك في ذلك عندنا ولا ارتياب فيه.

ونقول : إن معنى قول الله سبحانه : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] ، كمعنى قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] ، ومعنى قوله عند ذكر الوجه : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ١١٥] ، كمعنى قوله عند ذكره الكرسي : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة : ٢٥٥] ، وكمعنى قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥]. وإنما هذه الثلاثة أصناف كلها تشريف لله عزوجل : فالوجه الذي ذكره الله يستدل به على بهائه وحسن عظمته ؛ والكرسي يستدل به على ملكه ، ومعنى

٢١٠

يستدل به على ملكه أنه يستدل به عليه لأنه الملك نفسه ، وليس شيء مما خلق يزيد في ملكه ؛ وكذلك الوجه يستدل به عليه ؛ وكذلك العرش يستدل به عليه ؛ لأنها أمثال قدمها الله تحكي من حسن الله وبهائه ، أعني حسنه في ذاته ، وبهاءه في ذاته ، وليس ذلك الحسن والبهاء الذي هو لله عزوجل على شيء من صفات حسن الخلق وبهائهم.

ولا نصف الله عزوجل بشيء من صفات البشر ، بل نقول : إن معناه ذلك كله ؛ إذ يعود كل صنف إلى أصله ، أنه هو الله عزوجل لا غيره ، وليس نقول : إن ثم عرشا مخلوقا ، ولا كرسيا مخلوقا ، ولا وجها مخلوقا ، وليس من هذه الثلاثة الأمثال العرش والكرسي والوجه يوجد أبدا بصفة من الصفات ، ولا بحلية من الحلات ، إنما المعنى في هذا كله الله الذي لا إله غيره وحده لا شريك له.

فإن قال قائل أو سألنا سائل ، فقال : ما معنى العرش الذي ذكره الله في كتابه؟

قلنا له : اسم يدل على الله في ارتفاعه وعلوه فوق خلقه من أهل سماواته وأرضه.

فإن قال لنا : ما الكرسي الذي ذكره الله في كتابه؟

قلنا له : اسم يحكى عن صفات الله في ذاته.

فإن قال : وكيف صفات الله في ذاته؟

قلنا له : إن الكرسي يدل على الله ، وهو اسم من أسماء ملك الله ، وليس ثمّ شيء سوى الله. ومعنى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] أنه هو وسع السموات والأرض بكرسيه ، ومعنى وسع السموات والأرض بكرسيه ، أي وسع السموات والأرض بعلوه واقتهاره ، ألا تسمع إلى قوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) [البقرة : ٢٥٥] ، يريد سبحانه أن السموات والأرض لا يحفظانه ، يخبر أنهما لا يمسكانه ، وكيف يمسكانه أو يحفظانه عزوجل ، وهو يخبر أنه خارج منهما ، محيط بأقطارهما؟ واصل من ورائهما ووراء ورائهما إلى ما لا يصل إليه غيره عزوجل. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر رحمة الله عليه : «يا أبا ذر ما السماوات والأرض في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في الأرض.» يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما السموات والأرض بأقطارهما في ورائهما مما هو أوسع منهما من حد أقطارهما إلى ما لا منتهى له ، إلا كالحلقة الملقاة في الأرض. فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعظمهما وجسمهما أنهما داخلتان في الكرسي كدخول الحلقة في الأرض فما

٢١١

لعسى موضع الحلقة من الأرض؟ أليس كأنما وراء الحلقة من أقطار الأرض إلى تخومها وجبالها وأشجارها وأنهارها وما فوقها وتحتها أوسع وأعظم وأرحب مما وسعت الحلقة منها ، وكانت الحلقة أصغر شيء منها ، وكان القليل الحقير الصغير اليسير ما قد وسعه الله ، وأحاط به ، وهو يخبر سبحانه أنه هو الذي وسعهما ، وأحاط بهما ، حتى صارتا بعظمهما وكبرهما في إحاطة علمه كالحلقة الملقاة في الأرض.

ومعنى قولي : في إحاطة علمه أي في إحاطته بنفسه ؛ لأنه لا علم له غيره ، فالله عزوجل قد أحاط بالسماوات والأرض كإحاطة الأرض بالحلقة الملقاة في جوفها ، وهاهنا والله تاهت العقول ، وضلت الأحلام ، وانقطعت الفكر في الله عزوجل.

وفي كتاب الله تصديق هذا الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول الله عزوجل : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] ، يخبر أنه هو الذي وسع السموات والأرض ، وأنهما لم تسعاه ، ولم تحوياه ، ولم تمسكاه ، ولم تحفظاه ، بل كان هو عزوجل المحيط بهما ، والواسع لهما ، والممسك لهما ، والحافظ لهما ، وذلك قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [فاطر : ٤١] ، يخبر عزوجل أنه يمسك السماء بعظمها في الهواء ، ويمسك السموات السبع أيضا ، وكل سماء منهن أعظم وأوسع مما دونها ، وكذلك الأرضون السبع ، كل أرض أوسع مما فوقها ، لأن السماء العليا مشتملة على السماء السفلى ، وكذلك الأرضون والسموات السبع معلقات في الهواء ، لا يرفدهن شيء ، ولا يمسكهن إلا الله عزوجل ، وكذلك الأرضون فكل ذلك في الهواء لا يمسكه إلا الله عزوجل ، وليس من وراء هذا شيء يمسك الله هو أصغر وأحقر وأضعف ، والله أوسع منه وأعظم.

والدليل على أن الله أوسع من السموات والأرض قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] ، فأخبر أن السموات والأرض داخلتان في كرسيه ، يريد سبحانه أنهما داخلتان في قبضته ، وأنهما أصغر صغير وأحقر حقير عنده ؛ إذ كان الممسك لهما في الهواء ، ولو لا إمساك الله لهما لسقطت السموات والأرض ، وما إمساك الله للسماء في مستقرها بعظمها وجسمها ورحبها ، إلا كإمساك الطير في جو السماء لا فرق بينهما عند الله عزوجل إلا بزيادة الخلق وسعة السماء ، والسماء والطير في ضعفهما وصغرهما

٢١٢

ودناءتهما سواء سواء وكلاهما فقد صار إلى الهواء ، وقد قال الله سبحانه فيهما : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الحج : ٦٥] ، وقال في الطير : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) [النحل : ٧٩] ، فصير الطير بضعفه وصغره كالسماء بعظمها وجسمها ، لا يمسكهما غيره.

الرد على من قال : إن الله عزوجل عرشا في السماء محيطا به

فمن قال : إن لله عزوجل عرشا في السماء محيطا به فقد زعم أن العرش أوسع منه وأعظم ، وأقوى وأجسم ، فزعم أن العرش هو المحيط بالأشياء ليس الله ، وأن العرش هو الواسع ليس الله ، وأن العرش هو القوي ليس الله. ويزعم في زعمه أن الله أصغر من العرش ، إذ كان في زعمه في جوف العرش ، وكان العرش مشتملا عليه محيطا به ، فصير العرش ربه. وزعم أن العرش هو الواسع العليم ؛ إذ زعم أنه أوسع من الله العزيز الحكيم ، وأخرج الله عزوجل من قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] ـ يريد أن بحياته حييتا ، وبقدرته استقامتا ، ولو لا هو لزالتا وامحتا وهلكتا ، وهلك ما عليهما ، لو لا إحياؤه لهما ـ وقد قال الله عزوجل : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد : ٣].

فنقول لهؤلاء الملحدين في الله سبحانه : أخبرونا عن العرش أهو الظاهر على الله ، أم الله الظاهر عليه؟

فإن قالوا : إن العرش هو الظاهر على الله.

قلنا لهم : فلقد أكذبكم الله في كتابه بقوله هو : (الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) ، فأخبر عزوجل أنه هو الظاهر ، وأنتم تقولون : إن العرش هو الظاهر ، فقد كذبتم على الله في قولكم ، وقلتم بخلاف قوله عزوجل ، وقد ضللتم ضلالا بعيدا بكذبكم على الله ، وافترائكم عليه.

وإن قالوا : بل الله هو الظاهر على جميع الأشياء ، لم يقدر أحد أن يدفع هذه الحجة عنهم.

قلنا لهم : قد قلتم بالحق ، ورجعتم إلى الصدق ، فإذا كان هو الظاهر على جميع الأشياء

٢١٣

كان ظاهرا على كل عرش وغيره ، والله من وراء ذلك العرش محيط ، كما قال الله عزوجل : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [البروج : ٢٠] ، فالله عزوجل من وراء كل عرش وغيره محيط ، وظاهر على كل شيء.

معنى قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] وقوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧].

فإن قال قائل : فإذا قلتم : إن العرش هو الله ؛ فما معنى قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] ، وقوله : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧].

قلنا له : إنما قلنا : إن العرش هو الله إذ كان العرش اسما يدل على الله ؛ لأن العرش من صفات الملك ، وليس هو عرش مخلوق ، إنما هو اسم من أسماء الملك يدل على ملك الله. ومعنى يدل على ملك الله أنه يدل على الله ، إذ هو الملك بنفسه ، فكان في المعنى عندنا سواء أن يقول القائل : لا ملك إلا ملك الله ، أو يقول : لا عرش إلا عرش الله ؛ فلذلك قلنا : إن العرش متصل بالله ، كاتصال الكف بساعدها ، لأنه في غاية المعنى أن العرش علو الله على جميع الأشياء بنفسه.

وإنما مثل الله علوه على جميع الأشياء وإحاطته بها كعلو الملك على سريره إذا استوى عليه ، واستعلى فوقه في المثل لا غيره ، وليس في الشبه والصفة إلا في المثل ، والعرش الذي ذكره الله عزوجل هو مثل ضربه الله في استوائه على ملكه ، وإنما تفسير هذا المثل الذي ضربه الله لعباده في العرش والكرسي أن الملك من ملوك الدنيا إذا قعد على كرسيه وعلى سريره استعلى فوقه ، والعرش فهو السرير ، فمثل الله عرشه وكرسيه بهذا العرش وهذا الكرسي ، فكان كرسي الملك من الملوك كرسيا ضعيفا صغيرا ، والذي استوى فوقه أضعف منه وأحقر منه ، وكذلك العرش أيضا فهو في الضعف والصغر كمثل الكرسي وسواء الكرسي والعرش ، كلاهما مقعد للملك يقعد عليه ، ويستوي فوقه.

وكرسي الله عزوجل فقد وسع السموات والأرض حتى صار من عظم سعته السماء والأرض في كرسيه كالحلقة الملقاة في الأرض ، وصار الكرسي محيطا بهما كإحاطة الأرض

٢١٤

بتلك الحلقة ، فكانت السموات والأرض لصغرهما وضيقهما في سعة الكرسي عليهما كضيق الحلقة ، وصغرهما في سعة الأرض عليها ، وكان الكرسي مشتملا على السموات والأرض كما اشتملت هذه الأرض على هذه الحلقة ، والواسع لهما بعظمهما كما وسعت الأرض هذه الحلقة الله الذي لا إله إلا هو ، وسع الأشياء كلها ، حتى أحاط بها وملأها وغمرها.

وليس ثم كرسي غير الله ، إنما هو مثل مثله الله لعباده ؛ ليستدل به على عظمته واتساعه على جميع الأشياء وإحاطته بها.

ومن الدليل على أن الله عزوجل أراد بذكر الكرسي والعرش أن يعرف عباده عظم سعته وإحاطته بالأشياء قوله عزوجل : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) [الطلاق : ١٢] ، وقوله : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [البروج : ٢٠] ، وكثير في كتاب الله مما يدل على أن الله محيط بالأشياء ، وهذا الكرسي مما يدل على إحاطة الله بجميع الأشياء واتساعه عليها ، وتفسير العرش أيضا كتفسير الكرسي سواء سواء فهذا معنى قولنا : إن العرش هو الله ، وإن الوجه هو الله ، وإن الكرسي هو الله.

معنى قوله تعالى : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة : ١٢٩] ، و (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون : ١١٦].

فإن قال قائل : ألستم تقولون : هو الله؟

قلنا له : نعم.

فإن قال : فما معنى قوله : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة : ١٢٩]؟ وقوله : (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون : ١١٦]؟

قلنا له : معنى ذلك عندنا كمعنى قوله سبحانه : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات : ١٨٠] ، وهو العزيز بنفسه. وكذلك قلنا : إن العرش هو الملك ، وهو الملك بنفسه. ومعنى رب الملك ورب العزة أي مالك الملك ومالك العزة ، يريد صاحب

٢١٥

الملك وصاحب العزة ، ومالك الشيء ورب الشيء سواء في المعنى ؛ فلذلك جعلنا العرش متصلا بالله ؛ لأنه ملك الله ، وملك الله متصل به ؛ ولذلك لم يكن بين الملك وبين الله فرق ؛ لأنه لو جاز لنا أن نفرق بين الله وبين ملكه لقلنا : إن الله خلق الملك في زمن الملك في ذاته ، وملك الله عزوجل فلا يقاس بملك العباد ؛ لأن العباد إنما صاروا ملوكا بما ملكوا ، والله فهو الملك بنفسه ، ولا يزيد بشيء مما خلق في ملكه.

معنى قول الله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧].

فإن قال قائل : فما معنى قوله : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧]؟

قلنا له : إن إحاطته بجميع الأشياء هي العرش العالي فوق جميع الأشياء ، وذلك العرش العالي فوق جميع الأشياء فهو الله العالي على جميع الأشياء ، فالله عزوجل هو المحيط بجميع الأشياء بعرشه يريد أنه المحيط بجميع الأشياء بملكه ، أي أنه علا فوق جميع الأشياء بنفسه ، ليس ثم عرش ولا ملك غيره. ومعنى قوله : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧] ، يريد : أنه كان المحيط بالماء من قبل خلقه للأرض والسماء ، فذلك العرش المحيط بالماء ، لم يتغير عن حاله ، ولم يزل هو المحيط بالماء ، والمحيط من بعد الماء بالأرض والسماء ، فذلك العرش إنما هو مقام الله.

ولا يجوز لنا أن نقول هو مجلس الله ، ولكنا نقول هو مقام الله تعالى ، وليس كمقام الانتصاب إنما ذلك كمال الله بنفسه ، فهو الجليل الكامل بنفسه ، العظيم الجبار ، ذو الشرف والبهاء والسناء العظيم ، فهذا معنى قول الله عزوجل : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧] ، يخبر أنها لم تكن أرض ولا سماء سوى الماء. ونحن نقول : إنه قد كان عرش الله ولا ماء ، ونقول : إن عرش الله لم يزل ، وإن أسماء الله لم تزل ، وإن صفات الله ومدائحه كلها لم تزل ؛ لأن الله يقول في كتابه : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] ، ولا يجوز لنا أن نقول : إنه لم يكن مستويا على عرش ثم استوى ، إذا لقلنا بخلاف قوله عزوجل ، بل نقول : إن الله لم يزل ذا عرش عظيم ، يريد بذلك العرش العظيم الله العظيم.

وقلنا له : ليس ثم عرش لله عزوجل ، وإنما ذكر العرش فعرفنا به الملك ، ولم يصفه بصفة

٢١٦

معلومة معروفة ، وأما قوله في يوم القيامة : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) [النازعات : ٤٠] ، فكذلك المقام هو ذلك العرش ، وذلك العرش هو الله العلي ، لا شيء استعلى ، إنما هو العلي بنفسه. تم والحمد لله حق حمده وصلواته على سيدنا محمد وآله.

فرغ من زبر هذا الكتاب الجليل ضحوة يوم الاثنين المبارك شهر رجب

الأصب سنة ١٣٣٥ ه‍ فلله الحمد كثيرا بكرة وأصيلا.

بقلم أسير ذنبه ورهين كسبه الفقير إلى الله الغني أحمد بن عبد الله بن

أحمد بن علي مشحم غفر الله لهم وللمؤمنين آمين (١٦٢).

تم الكتاب والحمد لله المنعم الوهاب

__________________

(١٦٢) هذا الكتاب في الأصل في آخر النسخة المعتمدة ، وإنما أعيد ترتيب الرسائل حال الطباعة.

٢١٧

وله أيضا عليه‌السلام :

كتاب الرد على المجبرة القدرية

بسم الله الرحمن الرحيم

قال يحي بن الحسين صلوات الله عليه :

الحمد لله الذي لا تراه عيون الناظرين ، ولا تحيط به ظنون المتظنّنين ، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. الداني في علوه ، العالي في دنوه. الذي أمر تخييرا ، ونهى تحذيرا ، وكلف يسيرا ، وأعطى على قليل كثيرا. البريء من أفعال العباد ، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد ، المتقدس عن القضاء بالفساد ، الممكن لعباده من العملين الدال لهم على النجدين ، المبين لهم ما أحل لهم ، الموضح لهم ما حرم عليهم ، المرسل إليهم الأنبياء ، الداعي لهم إلى الخير والهدى ، المخوف لهم بالنيران ، المرغب لهم بالجنان ، الذي لا تحويه الأقطار ، ولا تجنه البحار ، ولا تواريه الأستار ، وهو الواحد العلي الغفار.

وأشهد أن لا إله إلا هو سبحانه شهادة حقا ، أقولها له جل جلاله تعبدا ورقا ، الذي رفع السماء فبناها ، وسطح الأرض فطحاها ، ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالبينات ، ونزل معه الآيات ، وأنقذ به من الهلكات ، وأكمل به النعم والخيرات ، فبلغ رسالة ربه ، ونصح لأمته ، وعبد ربه حتى أتاه اليقين. ثم تولى فقيدا محمودا فصلوات الله عليه ، وعلى أهل بيته الطاهرين ، الطيبين الأخيار ، الصادقين الأبرار ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وجعلهم أمناء على وحيه ، ودعاة لخلقه ، أمر العباد بطاعتهم وافترض عليهم ما افترض من اتباعهم ، اختصهم دون غيرهم بذلك ، وجعلهم عنده كذلك ، تكريما منه لهم ، وتعظيما لما به خصهم من ولادة المصطفى ، محمد خير الأنبياء ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ

٢١٨

حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤٢].

ثم نقول من بعد الحمد لله والثناء عليه ، والصلاة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أما بعد :

فإن القدرية المجبرة الغاوية الضالة المضلة ، زعمت أنها إنما أتيت في ارتكاب سيئاتها ، وفعل كبائر عصيانها من ربها لا من أنفسها ، تبارك ربنا عن ذلك وتعالى علوا كبيرا.

ثم قالوا إنه سبحانه أدخلها بقضائه عليها في كبائر ذنوبها ، جبرها على ذلك جبرا ، وأدخلها فيه قسرا ، ليعذبها على قضائه إشقاء منه لها بذلك ، تعالى ربنا أن يكون كذلك ، ولعنة الله على أولئك.

فرأينا عند ما قالت وذكرت ، وبه على الله من عظيم القول اجترأت ، أن نضع كتابا نذكر فيه بعض ما ذكر الله في منزل الفرقان مما نزله على محمد خاتم النبيين في الكتاب من إكذاب القدرية المجبرين.

فكان أول ما نقول لهم من ذلك ، ونسألهم عنه ، أن نقول لهم خبرونا عن قول الله تبارك وتعالى فيما حكى عن الفاسقين الظلمة المنافقين الفجرة المتخلفين عن الجهاد مع رسول الله رب العالمين : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [التوبة : ٤٢] ، فقلنا للقدرية : أتزعمون أنهم حين تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا مستطيعين للخروج معه ، أو غير مستطيعين له؟ فإن قالوا : إنهم كانوا مستطيعين له ، وإنهم تركوه عنوة واجتراء على ذي الجلال والطول ، واطراحا لقول الله وقول رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ تركوا قولهم الذي كانوا يقولون به من أنه لا يستطيع أحد فعل شيء حتى يقضي الله عليه به ، ويدخله الله سبحانه فيه. وإن قالوا : إن المتخلفين عن الخروج مع الرسول لم يكونوا بمستطيعين للخروج معه ، وإنهم كانوا غير مستطيعين الجهاد ؛ فقد قالوا كما قال المتخلفون ، وصدقوا قول المنافقين ، وأكذبوا قول رب العالمين ؛ لأن الله سبحانه قد أكذبهم ، وشهد بخلاف ما قالوا من قولهم ، حين يقول : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [التوبة : ١٠٧] ؛ قالت المجبرة : هم صادقون لا يستطيعون ، ولو استطاعوا لخرجوا ، وقال الله سبحانه : هم الكاذبون فيما يقولون وشهد أنهم للخروج مستطيعون ، وأنهم لو أرادوا الخروج لخرجوا ، ولذلك أكذبهم الله في قولهم ؛ لأن الله تبارك

٢١٩

وتعالى لا يكذب صادقا ، ولا يصدق كاذبا.

ثم قلنا لهم : أخبرونا عن قول الله تبارك وتعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] ، أليس إنما أمر العباد أن يتقوا الله ما استطاعوا؟ فإذا قالوا : نعم. قيل لهم : فإن رجلا لم يصل ولم يصم من شهر رمضان إلا يوما واحدا ، أو ركعة واحدة في كل يوم وليلة ، هل كان يستطيع غير ذلك؟. فإن قالوا : نعم ؛ تركوا قولهم. وإن قالوا : لا يستطيع. قيل لهم : أفتأمرونه بالصلاة والصيام وهو لا يستطيع ذلك. فإن قالوا : لا نأمره بشيء من ذلك ؛ فقد أجازوا له ترك الصلاة والصيام. وإن قالوا : بل نأمره وإن كان غير مستطيع ؛ خالفوا القول وردوا كتاب الله ؛ لأن الله يقول : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] ، ويقول : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] ، ويقول : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) [الطلاق : ٧] ، فقد كلفتموه ما لم يؤته ربه. ثم يقال لهم : أرأيتم إنسانا جلدا قويا صحيحا قال : لست أقدر على أن أصوم من شهر رمضان أكثر من عشرة أيام. ما ذا كنتم تقولون له؟ وكذلك إن قال : لست أقدر على الصلاة؟ فإن قالوا : نأمره بالصلاة والصوم ، ونقول له أنت مطيق لذلك ؛ تركوا قولهم لأنه يقول لهم إنما أمرني الله أن أعبده ما استطعت ، ولست أستطيع غير هذا ، وأنتم تأمرونني أن أتعبد لربي بما لا أستطيع وأعبده بما لا أطيق ، فأيكم أولى أن أقبل قوله أنتم أو ربي ؛ لأن ربي لم يكلفني إلا ما أستطيع ، وأنتم تكلفوني ما لا أستطيع. وإن قالوا له : لا تصم ولا تصل لأنك لا تستطيع كما قلت ، ولو نزل عليك من الله الاستطاعة لفعلت ؛ كانوا قد أباحوا للعباد ترك الصيام والصلاة ، وهذا كفر بالله وشرك.

ويقال لهم : أخبرونا عن قول الله تبارك وتعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] ، ما هو السبيل عندكم؟ فإن قالوا : هو أمان الطريق ، وإمكان الزاد والراحلة ، وصحة البدن. قيل لهم : أفرأيتم رجلا كثير المال ، كثير الإبل ، صحيح البدن ، آمن الطريق جلس ولم يحج ، وقال : لم يقض لي بالحج ، ما ذا تقولون له؟ أتقولون : إن فرض الله قد لزمه أو لم يلزمه؟ فإن قالوا : قد لزمه وعليه أن يحج ؛ تركوا قولهم. وإن قالوا : لا يمكنه الحج حتى يقضى عليه به ؛ ردوا كتاب الله ونقضوا قوله ، وخالفوا كل الأمة.

٢٢٠