مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

يستطيعون أن يكونوا على غير ما وصفهم الله به؟ وأن يتركوا ما خلقهم له؟ فإن قالوا : لا يستطيعون ؛ فقد أجابوا وصدقوا. وإن قالوا : نعم ، هم يستطيعون أن يكونوا على غير ما خلقهم ؛ فقد كذبوا وخالفوا. وإن زعموا أن الله جل ثناؤه إنما خلق أهل الإيمان للرحمة ، فنحن نقبل منكم ونصدقكم إن زعمتم أن الله جل ثناؤه خلق خلقا من خلقه خصهم بالرحمة ، فلا يستطيعون أن يكونوا على غير ما خلقهم ؛ لأنه قد استثنى لهم.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) فإنا نقول : إن معنى قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) هو إخبار عن قدرته وإنفاذ ما شاء من إرادته. فأخبر سبحانه : أنه لو شاء أن يجعلهم أمة واحدة لجعلهم قسرا ، ولأدخلهم في طاعته جبرا ، ولكنه لم يرد قسرهم على ذلك ، ولم يرد أن يدخلهم في الطاعة كذلك ، للحكمة النيرة ، والحجة الباهرة ، ليثيب على عملهم المثابين ، ويعاقب على اجترامهم المعاقبين ، لا ما يقول به المبطلون ويذهب إليه الجاهلون من أنه لم يرد من العاصين الطاعة ، ولم يكره من الفجرة المعصية ، وأنه لو أراد ذلك منهم لفعلوه ، ولو شاء أن يعبدوه لعبدوه ، وقالوا على الله عزوجل الأقاويل الردية ، وضاهوا في ذلك قول الجاهلية حين قالوا : (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) [الزخرف : ٢٠] ، وقال سبحانه يكذبهم فيما وهموا من أنه يريد عبادة أحد دونه ، أو أنه لا يشاء أن يعبدوه : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) [الزخرف : ٢١] ، ثم أخبر بما به عبدوا من يعبدون ، ومن به في ذلك يقتدون ، فقال : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢] ، ثم أخبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقول من كان قبلهم ممن أهلك بمثل قولهم ، فقال : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى

٣٨١

أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] ، فكيف يقول الجهال ، وأهل الغي والضلال إنّ الله سبحانه يشاء من عباده ، أو لهم ، الكفر ، وقد يسمعون في ذلك قوله ، ويرون ما نزل بإخوانهم على قولهم من نكير قولهم؟ أو لم يسمعوا الله سبحانه يقول : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧] ، فقال : (إِنْ تَكْفُرُوا) ، فأخبر بذلك أن الكفر فعل منهم ولهم ، إذ نسبه سبحانه إليهم ، وذكره عنهم ، ثم قال : (لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) فأخبر أنه لا يرضى ما كان من كفرهم. فكيف يقول الجاهلون في ربهم إنه قضى بما لم يرض لهم عليهم؟! فأكذبوا في ذلك رب الأرباب وعاندوه في كل الأسباب ، فقالوا : إنه رضي بما قال سبحانه إنه لم يرضه ، وقالوا : إنه سخط ما قال إنه رضيه فعاندوه في ذلك عنادا ، وجاهروه بالمكابرة جهارا ففي هذا والحمد لله من البيان ما يكفي عن ذكر غيره من الحجج والبرهان.

وأما قوله جل جلاله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) ، فإنا نقول في ذلك بالحق المبين (٣٦٩) على رب السماوات والأرضين ، فنقول : إن معنى قوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) ، أي لا يزال أهل الحق لأهل الباطل مخالفين وعليهم في باطلهم وفسقهم منكرين ، (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) رب العالمين ، وبه أمرهم سبحانه أكرم الأكرمين ، فخلق جميع خلقه ليعبدوه لا ليعصوه ، وأمرهم أن يطيعوه ولا يخالفوه ، وأن يجاهدوا الكافرين كافة أجمعين حتى يفيئوا إلى طاعة رب العالمين ، فخلقهم سبحانه لما شاء من ذلك وشاء ما أمرهم به ، وأمرهم بما خلقهم له من طاعته ومجاهدة أعدائه والنصر لأوليائه ، فقال سبحانه في ذلك : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ، وقال : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة : ١٢٣] ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة : ١] ، وقال : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ

__________________

(٣٦٩) سقطت من (ب).

٣٨٢

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة : ٢٢] ، ففي كل ذلك يأمر المحقين بمخالفة المبطلين ، وبالبراءة والعداوة للفاسقين الناكثين ، وبالتحاب والتواصل والتبار والتواخي على الدين ، ومن ذلك ما يقول جل جلاله أكرم الأكرمين : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات : ١٠]. وقد قيل في قوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) إنه مردود على ما ذكر من الرحمة ، وكل ذلك والحمد لله فجائز أن يقال به على ذي الجلال والقدرة ، لا ما يقول الضالون : إن الله عزوجل خلقهم للضلال والاختلاف ، وركب فيهم العداوة وقلة الائتلاف. وكيف يكون ذلك والله يأمر بقتال من بغى وظلم وتجاهل وأساء حتى يفيء إلى البر والتقوى ، وذلك قوله تبارك وتعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات : ٩] ، ففي هذا والحمد لله من الدلالة على ما قلنا ما أجزى وكفى.

تم جواب مسألته

المسألة الثامنة والعشرون : معنى قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً)

ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن قول الله سبحانه : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) ، فقال : خبرونا عن قول الله : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) ، ثم استثنى أيضا فقال : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) [المعارج : ١٩] ، فيقال لهم : ألا ترون أن الله عزوجل قد صنفهم صنفين ، فمنهم من خلقه هلوعا جزوعا ، ومنهم من لم يخلقه كذلك ، فأخبرونا : هل يستطيع هذا الذي خلقه هلوعا جزوعا منوعا أن يكون على غير ما خلقه الله عليه؟ فإن قالوا : نعم ؛ فقد زعموا أن الناس يقدرون على أن يبدلوا خلق الله الذي خلقهم عليه ، وإن قالوا : لا ؛ كان ذلك نقضا لقولهم.

تمت مسألته

٣٨٣

جوابها :

وأما ما سأل عنه ، وتوهم أنه قد تعلق في شيء منه بحجة له من قول الله : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) ، فقال : إن الله عزوجل قد صنفهم صنفين وخلقهم خلقين ، فجعل منهم هلعين جزعين (٣٧٠) ، وآخرين صابرين ، ثم قال : هل يقدر من خلقه الله هلوعا جزوعا منوعا أن يكون محسنا قويا صبورا؟ فقولنا في ذلك إن شاء الله بما هو الحق لا قول غيرنا.

فنقول : إن الله جل ثناؤه لم يخبر عن فعله ، ولا أنه خلق هلعهم ، ولا جعل في ذي الصبر والإحسان صبرهم ، وإنما أخبر سبحانه عن ضعف بنية الإنسان ، وأنه لا يحتمل ما اشتد وصعب من الشأن ، فدل بذلك من ضعف بنية الآدميين ، ومن قوة غيرهم من المخلوقين واختلاف طبائع المربوبين من الجان والملائكة المقربين على قدرة رب العالمين ، وخالق السماوات والأرضين ، وأخبر سبحانه أنه خلق خلقه أطوارا مختلفة ، وجعل البنية فيهم غير مؤتلفة ، فكلف كل صنف منهم دون ما يطيقه أضعفهم ، فكلف الملائكة المقربين ما لم يكلف الجان أجمعين ، (وكلف الإنسان دون) (٣٧١) ما يطيق من الشأن. فكانت بنية الملائكة وطاقتهم خلاف بنية الجان وحالتهم ، وكانت بنية الجان واقتدارهم خلاف بنية الإنس واستطاعتهم ، وكذلك افتراق كل ما خلق رب العالمين ، فكل ما خلقه فهو على تركيب رب العالمين ليس فيه تفاوت ، كما قال تبارك وتعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٣ ـ ٤] ، وكذلك كل شيء خلقه سبحانه من الأشياء ، وذلك كله فدليل على قدرة الرب الأعلى ، وخالق الأرضين والسماوات العلى. فأخبر الله سبحانه عن

__________________

(٣٧٠) سقطت من (ب).

(٣٧١) سقط من (ب).

٣٨٤

بنية الإنسان بالضعف والسحاقة (٣٧٢) ، ولم يكلفه في ذلك إلا دون الطاقة ، فلذلك ما قال سبحانه : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) ، يقول : جعل على بنية لا تطيق الأمر الشديد ، فهو يهلع ، ومن كل فادح يجزع ، ثم قال : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) ، وأخبر أن من كان لله مطيعا من المؤمنين أصبر عند المحنة من الفاسقين ، وأن المحنة لا يطيق لها ولا يقوم لها من الناس إلا ذوو الاصطبار من عباده الصالحين ، وأمر سبحانه نبيه والمؤمنين بالصبر ، فقال : (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان : ١٧] ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران : ٢٠٠] ، فأمرهم بالصبر وحضهم عليه في كل أمر ، ونهى من يطيق ويحتمل عن الوهن والعجز ، فقال : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) [آل عمران : ١٣٩] ، وقال : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) [محمد : ٣٥].

ولو كان خلق الوهن وما كان من أفعالهم لما كان جزع ولا هلع ولا صبر ، ولا عدد من أعمالهم ، بل كان عمله سبحانه ، لا عملهم ، وفعله كل ذلك لا فعلهم.

ولو كان ذلك فعل الرحمن لما أثاب على صبره الإنسان. ألا تسمع كيف يقول ذو الجلال والقدرة والطول : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران : ١٢٥] ، وقال سبحانه : (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب : ٣٥] ، فضمن للصابرين على الجهاد النصر ، وللعالمين المؤدين للفريضة المغفرة والأجر.

وقال سبحانه يحكي عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قال لأبي بكر إذ هما في الغار من المشركين مختفيان ، إذ هلع أبو بكر وحزن وجزع ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠] ، فنهاه عن الحزن. ولو كان الهلع والحزن

__________________

(٣٧٢) من معانيها : اللين الشديد ، وهو المراد هنا.

٣٨٥

والجزع تركيبا في الإنسان من الله الواحد ذي السلطان ، لما أمره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتركه ، ولما قدر على رفض ما كان فيه من ربه ، ولكان من هلع وجزع عند الله كمن أطاع وصبر وسمع ، إذ هما من الله فعل في العالمين ، وهم ـ إن كان ذلك ـ طرا مطيعون ، إذ هم في كل ما صرفوا متصرفون.

ولو كان ذلك فعلا من الله فيهم ، وكان على ذلك خلقهم لم يلمهم ولم يعاقبهم على الجزع والجبن ، والانهزام وتولية الأدبار ، عند لقاء الفسقة الأشرار ، وذلك قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الأنفال : ١٦] ، فكيف يوجب الغضب عليهم ويجعل النار مأواهم على فعل ما عليه خلقهم وسواهم؟! تعالى الله عن ذلك وتقدس أن يكون كذلك ، بل ذلك فعل منهم ، ولذلك رجع وباله عليهم ، فمن كان لله مريدا صبر عند المحنة ، ومن كان عنه بعيدا هلع ، وعند النوازل جزع ، وإنما يكون ذلك على قدر اليقين والتسليم لله من المؤمنين.

ومن ذلك يوم حنين حين انهزم المسلمون وجزعوا ، وثبت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين ثبتوا ، ثم ناداهم الرسول فرجعوا ، أفيقول الحسن بن محمد : إن الله سبحانه خلقهم جزعا ، فانهزموا لما خلقهم عليه من الجزع ، ثم ناداهم الرسول فاستحيوا منه ، فكرّوا ، وعن خلق الله الذي خلقهم عليه غيّروا ، فتركوا ما ركب الله فيهم من الجزع والجبن؟! أم يقول : إن الله عزوجل خلقهم في أول الأمر جزعا هلعا ، ثم نقل خلقهم آخر ، فجعلهم صبرا؟! لقد ضل إذا ضلالا بعيدا ، وخسر خسرانا مبينا ، بل ذلك منهم كله أوله وآخره ، ولذلك أثيبوا على الرجوع ، ولو لم يرجعوا لعوقبوا على الذهاب والشسوع. فليفرق من عقل بين ما أخبر الله سبحانه عنه ، وبين ما فعله وجعله ، فبينهما ولله الحمد فرق عند ذوي العقول عظيم ، وأمر واضح (٣٧٣) في اللسان بيّن جسيم.

تم جواب مسألته

__________________

(٣٧٣) سقط من (ب).

٣٨٦

المسألة التاسعة والعشرون : معنى قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)

ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه حين يقول للمؤمنين : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [الأنفال : ٢١] ، هل كان هؤلاء الذين ذكر يستطيعون أن يقبلوا الهدى ، وأن يسمعوا المنفعة في دينهم؟ فإن قالوا : نعم ؛ فقد كذبوا وجحدوا. وإن قالوا : لا ؛ كان ذلك نقضا لقولهم.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من قول الله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ، فتوهم أنهم كانوا لا يسمعون لصمم جعله الله سبحانه في آذانهم ، أو لسبب جعله حاجزا بين الهدى وبينهم ، وليس ذلك ـ والحمد لله ـ كذلك. ولو كان الله فعل ذلك بهم لما عاب صممهم ، ولكان أعذر لهم من أنفسهم ، ولما بعث إليهم المرسلين ، ولا أمرهم باتباع المهتدين. وإنما أراد الله سبحانه بذلك حض المؤمنين على الطاعة لرب العالمين ، والاستماع لسيد المرسلين ، فقال للمؤمنين : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ، يقول : لا تكونوا كالذين قالوا : أطعنا بألسنتهم وهم كاذبون في قلوبهم ، بل قلوبهم منكرة لذلك جاحدة له ، يدارون بالقول خوفا من المؤمنين والرسول ، ويكفرون من ورائه بكل الدين والتنزيل ، وهم الذين قال فيهم الرحمن الجليل : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] ، وقال : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح : ١١] ، وهم الذين قال الله فيهم من منافقي قريش والأعراب وغيرهم : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] ، فنهى المؤمنين عن مشابهة المنافقين ، ولم يكن قوله ما قال إخبارا منه بتركيب ما ذمه منهم فيهم. ولو كان الله سبحانه فعله فيهم لما نهى المؤمنين عن ذلك ، إذ هو فعله لا فعلهم ، فكيف ينهاهم عن أن يفعلوا فعله ،

٣٨٧

ولو جاز أن ينهاهم عن فعل ما فعله فيهم لكانوا مقتدرين على أن يفعلوا كفعله ، إذا لخلقوا كخلقه ، ولو خلقوا كخلقه لامتنعوا بلا شك مما يكرهون من أفعاله ، من موتهم وابتلائه إياهم بما يبتليهم به ، وليزيدوا (٣٧٤) فيما آتاهم مما يحبونه ، فتعالى من هو على خلاف ذلك ، والمتقدس عن أن يكون كذلك.

وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) ، فقال : هل كان هؤلاء يقدرون على أن يقبلوا الهدى؟ أو أن يسمعوا ما يدلون عليه منه؟ فصدق الله سبحانه : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [الأنفال : ٢٢] ، يقول : الذين لا يهتدون إن هدوا ، ولا يقبلون الحق إن دعوا ، ولا ينتهون إذا نهوا ، فضرب الله لهم ذلك مثلا إذ كانوا في الضلال على هذه الحال ، وهم في ذلك لقبول الحق مطيعون ، وعلى اتباع الصدق مقتدرون ، فلما أن تركوا ذلك شبههم بالصم البكم الذين لا يعقلون إذ تركوا فعل ما كانوا يطيقون.

تم جواب مسألته

المسألة الثلاثون : معنى قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)

ثم أتبع ذلك المسألة عما ضرب الله عزوجل للمنافقين من المثل في قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [البقرة : ١٨] ، فنقول : ألا يرن أن الله هو الذي ذهب بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون؟ فأخبرونا هل كان هؤلاء يستطيعون سماع الهدى ، وقد وصفهم الله سبحانه بالصمم؟ وهل كان لهم أن يقبلوا الهدى وقد وصفهم الله سبحانه بالعمى؟ وهل كانوا ينتفعون بنور الهدى ، وقد ذهب الله به؟ فإن قالوا : نعم ؛ فقد كذبوا بكتاب الله وجحدوا بآياته. وإن قالوا : لا ؛ كان ذلك نقضا لقولهم.

__________________

(٣٧٤) هكذا في الأصل.

٣٨٨

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من قول الله في المنافقين ، وما ضرب لهم من المثل في قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) ، فقال : ضرب مثلهم ؛ ثم جهل فقال : خلقهم وكفرهم ؛ فرجع عن الحق الذي نطق به في أول كلامه حين يقول : ضرب مثلا. ثم قال : هل يستطيعون سماع الهدى ، وقد وصفهم الله جل ثناؤه بالصمم والعمى؟

فقولنا في ذلك : إن الله جل وعلا ، لم يخلقهم كذلك ، ولم يجعلهم عميا ، ولا عن سماع الخير والتقى صما. وإن الله تبارك وتعالى ضرب لهم هذا مثلا ، فقال سبحانه : إن هؤلاء الذين أتاهم الهدى ، وكشف لهم عن الحق الغطاء فأنار لديهم ، وثبت في صدورهم ، وأيقنوا أنه من عند خالقهم ، فكفروا بربهم ، وخالفوا أمر نبيهم ، وآثروا ظلمتهم على ما أضاء من الحق لهم ، فتركهم الله وخذلهم ، ومثّلهم إذ تركوا حظهم ، وما أنار من الحق عندهم بمن استوقد نارا ، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم. فكان الذي شبهه بضوء النار هو الهدى الذي أخرجه الله لهم ، وامتن به عليهم ، فتركوه ولم يتبعوه ، ولم يستضيئوا بنوره وناصبوه وعاندوه ، لا ما يقول الحسن بن محمد أن الله سبحانه فعل ذلك بهم ، وجعلهم عن استماع الحق صما وعميا ، وعن قبول الصدق حاجزا (٣٧٥) ، فجهل الفرق بين المثل والفعل. وكيف يجعلهم الله كذلك ، ويخلقهم على ذلك ، ثم يرسل إليهم نبيه يدعوهم إلى الهدى ويخرجهم من الحيرة والعمى ، وهم عن الخروج ممنوعون ، وعن الدخول في الحق مصروفون؟ فالله سبحانه إذا أرسله يدعوهم إلى الخروج عما فيه أدخلهم وعليه ـ جل وعز عن ذلك ـ جبلهم!! فنسبوا في ذلك إلى الله الاستهزاء واللعب والإعماء والجهالة

__________________

(٣٧٥) هكذا في الأصل.

٣٨٩

والخطأ والظلم لعباده ، والفساد في بلاده! ، كذب القائلون على الله بذلك ، وضلوا ضلالا بعيدا.

تم جواب مسألته

المسألة الحادية والثلاثون : معنى قوله تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً)

ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله في الإملاء : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] ؛ فقال : خبرونا عن قول الله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ، فقال : أخبرونا عن هؤلاء الله أراد بهم في إملائه لهم ليزدادوا إثما ، كما قال؟ فإن قالوا : نعم ؛ نقض ذلك قولهم. وإن قالوا : لا ؛ كذبوا.

تمت المسألة

جوابها :

وأما ما سأل عنه من قول الله جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ، فقال : إن الله أملى لهم ليزدادوا في الكفر والاجتراء عليه ، وليس ذلك كما قال ، بل قوله أحول المحال ، وسنشرح ذلك والقوة بالله ونفسره ، ونذكر ما أراد الله إن شاء الله به.

فنقول : إن معنى إملائه لهم هو لأن لا يزدادوا إثما وليتوبوا ويرجعوا ، ومن وسن ضلالتهم ينتهوا ، لا ما يقول أهل الجهالة ممن تحير وتكمه في الضلالة : إن الله أملى لهم كي يزدادوا إثما وضلالة واجتراء. وكيف يملي لهم كذلك ، وقد نهاهم عن يسير ذلك ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات : ١٢] ، فنهاهم عن يسير الإثم وقليله ، فكيف يملي لهم ليزدادوا من عظيمه وكثيره؟

فأما قوله : (لِيَزْدادُوا إِثْماً) ، فإنما أراد سبحانه : لأن لا يزدادوا إثما ؛ فطرح (لا) وهو يريدها ، فخرج لفظ الكلام لفظ إخبار ، ومعناه معنى نفي ، والعرب تطرحها ، وهي

٣٩٠

تريدها ، وتثبتها وهي لا تريدها ، قال الله سبحانه : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد : ٢٩] ، فقال : (لِئَلَّا) ، فأثبت (لا) وهو لا يريدها ، فخرج لفظ الكلام لفظ إيجاب ، ومعناه معنى نفي ، أراد سبحانه : ليعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله. وهذا فموجود في أشعارهم مثبت في أخبارهم. قال الشاعر :

نزلتم منزل الأضياف منا

فعجلنا القرى أن تشتمونا

فقال : فعجلنا القرى أن تشتمونا ، وإنما معناه : فعجلنا القرى لأن لا تشتمونا ؛ فطرح (لا) وهو يريدها ، فخرج لفظ الكلام بخلاف معناه ، وقال آخر :

ما زال ذو الخيرات لا يقول

ويصدق القول ولا يحول

فقال : لا يقول ؛ فأتى ب (لا) وهو لا يريدها ، ولأن معناها : ما زال ذو الخيرات يقول ؛ فخرج اللفظ خلاف المعنى.

تم جواب مسألته

المسألة الثانية والثلاثون : معنى قوله تعالى (أَغْفَلْنا قَلْبَهُ)

ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله عزوجل في الإغفال : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف : ٢٨] ، فقال : أخبرونا عن هذا الذي أغفل الله قلبه عن ذكره ، هل أراد الله أن يطيعه؟ فإن قالوا : نعم ؛ فقد كذبوا وجحدوا. وإن قالوا : لا ؛ فقد نقض ذلك قولهم.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) ، فقال : خبرونا عن هذا الذي أغفل الله قلبه عن ذكره هل أراد الله أن يطيعه؟ فتوهم ـ ويله وغوله إن لم يتب من الله ويحه!! ـ أن الله تبارك وتعالى أدخله في الغفلة ، وحال بينه

٣٩١

بذلك وبين الطاعة ، فليس كما توهم. ألا يسمع إلى قول الله عزوجل : (وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) ، فأخبر سبحانه أنه متبع في ذلك لهواه ضال عن رشده ، تارك لهداه ، ولو كان ذلك من الله لم يكن العبد متبعا لنفسه هواه ، بل كان داخلا لله فيما شاء وارتضى ، وسنفسر معنى الآية إن شاء الله ، والقوة بالله وله. إن الله تبارك وتعالى نهى نبيه عن طاعة من أغفل قلبه ممن آثر هواه على هداه. وأما معنى ما ذكر الله سبحانه من الإغفال ، فقد يخرج على معنيين ، والحمد لله شافيين كافيين :

أحدهما : الخذلان من الله والترك لمن اتبع هواه وآثره على طاعة مولاه ، فلما أن عصى وضل وغوى ، وترك ما دل عليه من الهدى استوجب من الله الخذلان ، لما كان فيه من الضلال والكفران ، فغفل وضل وجهل إذ لم يكن معه من الله توفيق ولا إرشاد ، فتسربل سربال الغي والفساد.

وأما المعنى الآخر : فبيّن في لسان العرب موجود ، معروف عن كلها محدود ، وهو أن يكون معنى قوله : (أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) ، أي تركناه من ذكرنا ، والذكر فهو التذكرة من الله ، والتنبيه والتسديد ، والتعريف والهداية إلى الخير والتوفيق. فيقول سبحانه : تركنا قلبه من تذكيرنا وعوننا وهدايتنا بما أصر عليه من الإشراك بنا ، واجترأ علينا. تقول العرب : يا فلان أغفلت فلانا ، ويقول القائل : لا تغفلني ؛ أي تتركني. وتقول العرب : قم مني ، أي قم عني ، فتخلف بعض حروف الصفات ببعض ، وتقيم بعضها مقام بعض.

قال الشاعر :

شربن بماء البحر ثم ترفعت

لدى لجج خضر لهن نئيج (٣٧٦)

فقال : لدى لجج ؛ وإنما يريد : على لجج. فذكر السحاب وشربها من البحار واستقلالها بما فيها من الأمطار. وقال آخر :

أغفلت تغلب من معروفك الكاسي

فخلت قلبك منهم مغضبا قاسي

__________________

(٣٧٦) قال في اللسان : النئيج : الصوت.

٣٩٢

فقال : أغفلت تغلب من معروفك ؛ أي تركتها من عطائك ونوالك ومنتك وأوصالك. ثم قال : فخلت قلبك منهم مغضبا قاسي ؛ فقال : منهم ؛ وإنما يريد : عليهم مغضبا. فأقام حرف الصفة وهو (من) مقام أختها ، وهي (على) ، فأقام (منهم) مقام (عليهم) ، فهذا معنى الآية إن شاء الله ومخرجها ، لا ما توهم الجهال على ذي المعالي والجلال من الجبر لعباده والإضلال والظلم والتجبر بالإغفال.

تم جواب مسألته

المسألة الثالثة والثلاثون : معنى قوله تعالى : (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)

ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله في الأز ، فقال : خبرونا عن قول الله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) [مريم : ٨٣] ، فيقال لهم : هل أراد الله سبحانه أن يؤمن هؤلاء الذين أرسل عليهم الشياطين؟ فإن قالوا : نعم ؛ فقد كفروا وجحدوا ، وإن قالوا : لا ؛ فقد نقض ذلك قولهم.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) ، فقال : هل أراد الله من هؤلاء الذين أرسل عليهم الشياطين تأزّهم أن يكونوا به من المؤمنين؟ وبما أنزل عزوجل من المصدقين؟ وقد أرسل عليهم مردة الشياطين؟! فتوهم بجهله أن الله أرسل الشياطين على الآدميين إرسالا ، وجبرهم على تحييرهم وتضليلهم جبرا ، وأدخل الشياطين في إغوائهم قسرا ، ليضلوهم عن الهدى ، ويوقعوهم في الردى ، وأن ذلك كان من الله للشياطين أمرا وقضاء قضى به عليهم قسرا. وليس ذلك كما قال ، ولا على ما ذهب إليه من فاحش المقال. وكيف يرسل الشياطين على عباده إرسالا ، ويدخلها في الإغواء لهم إدخالا ، ثم يعذبها عليه ، ويعاقبها فيه؟! ألا تسمع كيف

٣٩٣

يقول سبحانه : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٥] ، فلم إن كان أرسله عليهم إذا يعاقبه على ما صنع فيهم؟ بل هو على غير ما يقول في الرحمن أهل الضلالة والطغيان.

ثم نقول من بعد ذلك : إن معنى قوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) ، هو : خلينا ولم نحل بين أحد من بعد أن أمرنا ونهينا (٣٧٧) وليس إرساله للشياطين إلا كإرساله للآدميين ، فكل قد أمره بطاعته ونهاه عن معصيته ، وجعل فيه ما يعبده به من استطاعته ، ثم بصرهم وهداهم ولم يحل بين أحد وبين العمل ، فمن عمل بالطاعة أثابه ، ومن عمل بالمعصية عاقبه ، ولم يخرج أحدا من معصيته جبرا ، ولم يدخله في طاعته قسرا. فكان ما أعطى من (٣٧٨) الجن والإنس من الاستطاعات وترك قسرهم على الطاعات إرسالا وتخلية منه لهم في الحالات ، لا ما يقول به أهل الجهالات ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤٢]. فلما أخذل الكافرين بكفرهم ، ولعنهم بجرائمهم ، وتبرأ منهم بعصيانهم ، غويت بهم الشياطين ، وسولت لهم فأملت فاتبعوها ، ولم يعصوها ويبعدوها ، ولم يتذكروا عند ما يطيف بهم طائف الشيطان ، بل تكمهوا وغووا وعموا. ولم يكونوا في ذلك عنده كالذين اتقوا عند إلمام الشيطان بهم كما فعلوا ، قال الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١] ، يقول سبحانه : ذكروا ما نهاهم الله عنه من طاعته ، وأمرهم به من مخالفته ، واتخاذه عدوا حين يقول : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر : ٦] ، فلما أن طاف بالمؤمنين ودعاهم إلى ما أجابه إليه من الكفر بالله الفاسقون ، ذكروا الله وتذكروا أمره ونهيه ، وما أمرهم به من طاعته وحذرهم من معصيته ، فأبصروا الحق واجتنبوا اللعين وعصوه ، وفيما دعاهم إليه من العصيان خالفوه. ألا تسمع كيف أثنى عليهم بذلك ربهم ،

__________________

(٣٧٧) العبارة في (ب) هكذا : خلينا ولم نحل وتبرأنا من بعد أن أمرنا ونهينا.

(٣٧٨) هكذا في الأصل.

٣٩٤

وذكر عنهم سيدهم وخالقهم حين يقول : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢] ، يقول سبحانه : إن عبادي المؤمنين ، وأوليائي المتقين لا يجعلون لك عليهم سلطانا ، ولا يطيعونك فيما تأمرهم به من العصيان ، بل يحترسون منك بطاعة الرحمن ، وتلاوة القرآن ، ويخلّفونك (٣٧٩) صاغرا في كل شأن ، فلا يجري ولا يجوز لك عليهم سلطان. وليس تخليته للشياطين إلا كإذنه للساحرين حين يقول : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ١٠٢] ، فإذنه في ذلك تخليته وترك الصرف لهم جبرا عن معصيته ، والإدخال لهم جبرا في طاعته.

تم جواب مسألته

المسألة الرابعة والثلاثون : هل كان فرعون يستطيع قتل موسى صلوات الله وسلامه عليه؟

ثم أتبع ذلك المسألة (عن قول الله سبحانه) (٣٨٠) في موسى ، وما وعد أمه أن يرده إليها ، ويجعله من المرسلين ، فقال (٣٨١) : خبرونا عن قول الله سبحانه : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٧] ، هل كان فرعون يستطيع أن يقتل موسى حتى لا يرده الله إلى أمه ولا يجعله من المرسلين؟ فإن قالوا : نعم ؛ كذبوا وجحدوا ؛ وإن قالوا : لا ؛ فقد نقض ذلك قولهم.

تمت مسألته

__________________

(٣٧٩) في (ب) : ويخالفونك.

(٣٨٠) سقط من (ب).

(٣٨١) سقط من (ب).

٣٩٥

جوابها :

وأما ما سأل عنه من قول الله عزوجل في موسى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، فقال : هل كان يستطيع فرعون أن يقتل موسى حتى لا يرده إلى أمه ولا يجعله من المرسلين؟ فقال : إن الله أخرج فرعون من أكبر المعاصي بعد الشرك به من قتله نبيه إخراجا ، ومنعه من معصيته منعا ، وقسره على الخروج قسرا. ولو جاز أن يخرج عدوه من معاصيه قسرا ، لكان قد أدخله في ضدها من الطاعة جبرا ، ولو كان يخرج العاصين من معاصي رب العالمين لكان عباده المؤمنون أولى بذلك ، ولو أخرج عباده ومنعهم من معاصيه قسرا لأدخلهم في طاعته جبرا ، ولو فعل ذلك بهم لسقط معنى الأمر والنهي ، ولكان العامل دونهم ، الفاعل لأفعالهم ، تعالى الله عن ذلك ؛ ولم يطع سبحانه مكرها ، ولم يعص جل جلاله مغلوبا ، بل نقول في ذلك بالحق إن شاء الله.

فنقول : إن الله لما أن علم أنه إذ ألقى على موسى صلى الله عليه من المحبة التي ذكر أنه ألقاها عليه في قوله : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩] ، فلما ألقى عليه المحبة أحبته لذلك امرأة فرعون ، فسألت فرعون تركه عند ما همّ به من قتله حين تبين له ما كان من فعله في صغره ، فتركه لها ، وصفح عنه بحب محبتها واتباع شأوها ، فكان ذلك نجاة لموسى مما هم به فيه فرعون الكافر الملعون ، فلما أن علم الله سبحانه أن ذلك سيكون من اختيار فرعون ، وأنه سيختار إجابة امرأته إلى ما طلبت من ترك قتل نبي الله ، حكم عليه بما علم من صيور أمره ، فكان ما ألقى عليه من المحبة منه سبحانه سببا لنجاته ، فنجاه الله من فرعون ورده إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن. فأخبر الله في ذلك ، ووعدها ما وعدها ، لعلمه بما سيكون من امرأة فرعون وطلبها في موسى ، وإجابة فرعون لها كما أخبر عما يكون يوم الدين ، فهذا معنى ما ذكر الله من ذلك إن شاء الله ، لا ما قاله الفاسقون ، وذهب إليه الضالون.

تم جواب مسألته

٣٩٦

المسألة الخامسة والثلاثون : معنى قوله تعالى : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) وهل كان في قدرة جميع العباد أن يطيعوا الله ولا يعصوه؟

ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) [غافر : ٦] ، وقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ، وقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [السجدة : ١٣] ، فقال (٣٨٢) : أخبرونا عن بني آدم كلهم ، هل كانوا يستطيعون أن يطيعوا الله جميعا فلا يعصوه؟ ويعبده كلهم حتى لا يعبدوا غيره؟ فيوجب لهم الجنة ، ويحرم عليهم النار ، فلا يدخلها أحد منهم؟ فإن قالوا : نعم ؛ فقد كذبوا بكتاب الله ، وزعموا أنهم يقدرون على أن يبطلوا قول الله تبارك وتعالى عن ذلك. وإن (٣٨٣) قالوا : لا ، لم يكونوا يستطيعون أن يطيعوا ولا يعبدوا ؛ كان ذلك نقضا لقولهم ، وإبطالا لحجتهم.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) ، فقال : خبرونا عن قول الله : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) ، فقال : هل يستطيع هؤلاء أن يطيعوا ، وقد حق عليهم من الله القول والأمر ، ووقع الحكم والجبر؟ فتوهم الحسن بن محمد لقلة علمه وكثرة جهله أن الله تبارك وتعالى حكم عليهم بما أدخلهم فيه وجبلهم عليه ، فظلّم ربه وكفر نفسه ، وليس ذلك على ما قال ، ولا على ما ذهب إليه من المحال ، وسنفسر ذلك من قول الله

__________________

(٣٨٢) في (ب) : فيقال.

(٣٨٣) في (ب) : فإن.

٣٩٧

تبارك وتعالى.

فنقول : إن الكلمة التي حقت هي حكمه على من كفر من الخلق بالنيران ، من الجنة والإنسان. فإن الله تبارك وتعالى ، علم بما سيكون منهم من العصيان والإحسان ، فأوجب للمحسنين الثواب ، وعلى المذنبين العقاب.

فأما ما سأل عنه من قوله : هل كانوا يستطيعون أن يطيعوا الله جميعا فلا يعصوه؟ فكذلك نقول : إنهم كانوا يستطيعون طاعته ، كما يطيقون معصيته ، ولكنهم افترقت بهم الأهواء ، فمنهم من اختار الإيمان والتقوى ، ومنهم من اختار الضلالة والعمى ، والله تبارك وتعالى فإنما حكم بالنيران على من اختار من الثقلين العصيان ، أو كره ما أنزل الرحمن ، فعلم الله وقع على اختيارهم وما يكون من أفعالهم ، ولم يدخلهم في صغيرة ، ولم يخرجهم من كبيرة ، ولو علم أنه إذا دعاهم وبصرهم وهداهم أجابوه باسرهم وأطاعوه في كل أمرهم ، إذا لأخبر بذلك عنهم ، كما أخبر به عن بعضهم ، وكذلك لو علم أنهم يختارون بأجمعهم المعصية ، لحكم عليهم بالنار كما حكم على الذين كفروا منهم.

وأما قوله سبحانه : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ، فكذلك الله سبحانه لو شاء أن يجبر العباد على طاعته جبرا ، ويخرجهم من معصيته قسرا ؛ لفعل ذلك بهم ، ولو فعل ذلك بهم ، وحكم به عليهم لم يكن ليوجد نارا ، ولا ليخلق ثوابا ، ولكان الناس كلهم مصروفين لا متصرفين ، ومفعولا بهم لا فاعلين ، ولكنه سبحانه أراد أن لا يثيب ولا يعاقب إلا عاقلا (٣٨٤) متخيرا مميزا ، فأمر العباد ونهاهم وبصرهم وهداهم ، وجعل منهم استطاعات ينالون بها المعاصي والطاعات ، ليطيع المطيع فيستأهل بعمله وتخيره الثواب ، ويعصي العاصي فيستوجب باكتسابه العقاب.

فأما قوله : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ، فهو :

وجب وحق الحكم مني بما حكمت به ومضى ووقع عليه ما جعلته من عقاب المذنبين ، وثواب المحسنين من الجنة والناس أجمعين. فهذا معنى قوله سبحانه ، لا ما قال المبطلون ،

__________________

(٣٨٤) في (ب) : عاملا.

٣٩٨

ونسب إليه سبحانه الجاهلون ، من ظلم العباد ، والإدخال لهم في الفساد.

تم جواب مسألته

المسألة السادسة والثلاثون : في تفضيل بعض الخلق على بعض

ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٢١] ، فيقال لهم : ألستم تقرون أنه قد فضل بعض خلقه على بعض في الدنيا والآخرة وخصهم؟ وخص بذلك بعض خلقه دون بعض؟ فإن قالوا : نعم ؛ انتقض قولهم ، فإن الطاعة والإيمان مما فضل الله به عباده وخصهم به من رحمته. وإن قالوا : لا ؛ فقد جحدوا بآيات الله وكذبوا كتابه.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من قول الله جل جلاله : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) ، فقال : إن الله سبحانه فضل قوما ـ بأن أدخلهم في الإيمان ـ على قوم أدخلهم في الكفر والعصيان ؛ فضلّ بذلك وغوي ، وهلك عند الله وشقى ، ونسب إلى الله سبحانه من ذلك الجور والردى ، فتعالى وتقدس عن ذلك ربنا. وليس كما قال الجهال من أهل السفاهة والضلال ، بل هو كما قال ذو الجلال حين يقول : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) [الشورى : ٤٩] ، وكما قال سبحانه لنبيه عليه‌السلام : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [طه : ١٣١] ، ففضل بعضهم على بعض بما وهب من الذكور ، وبما يجعل ويوسع به من الأرزاق ، ويمن به ويتفضل على من يشاء من الأرفاق ، وما يرزق من يشاء من الحسن والجمال والمنطق والكمال ، وكم قد رأينا وفهمنا وعاينا من مولود يولد أعمى ، وآخر يكون ذا زيادة ونقصان ، وآخر سوي غير زائد ولا ناقص ، قد تمت عليه من الله النعماء ، وصرفت عنه وعن والديه فيه البلوى. فهذا وما كان مثله مما فضل الله به بعضا على بعض

٣٩٩

مما ليس لهم فيه على الله حجة يفعل من ذلك ما يشاء سبحانه ذو الجلال والحكمة ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

وأما قوله : (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) ، يقول : إن إعطاءنا وامتنانا ومجازاتنا لأهل طاعتنا في معادهم وآخرتهم على أعمالهم أكبر درجات وأكبر تفضيلا ، على اجتهادهم في مرضاتنا ، فمن كثر عمله بالخير كان عند الله في الآخرة أكبر درجات ممن نقص عمله ، وذلك قوله سبحانه : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الأنعام : ١٦٠].

تم جواب مسألته

المسألة السابعة والثلاثون : في سلطان الشيطان

ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله تبارك وتعالى لإبليس : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجرات : ٤٢] ، وقال : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل : ٩٩] ، وقال إبليس : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر : ٣٩] ، فقال : أخبرونا عن هذا السلطان ، ما هو؟ فإن قالوا : هو التخييل ؛ فقل : فما أكثر ما لقي منه المؤمنون وأطفالهم. وإن قالوا : هو الدعاء ؛ فقل : فهذا ما (لا يدعوا) (٣٨٥) به المؤمن والكافر ، والخلق كلهم حتى عرض للأنبياء فدعاهم ، والتمس فتنتهم ، فدعاهم كلهم إلى المعصية. وإن قالوا : هو التضليل ، ولن يصل بذلك إلى عباد الله المؤمنين لأن الله عصمهم ، وهو الوكيل عليهم ؛ فقد أجابوا ، ونقض ذلك قولهم.

تمت مسألته

__________________

(٣٨٥) هكذا في الأصل ، ولعل الصواب حذف (لا).

٤٠٠