مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) [يونس : ٨٨] ، يقول : آتيتهم يا رب هذه الأموال والأبدان والخيل والرجال ـ يعني أنه خلقهم لا أنه ملكهم ـ (رَبَّنا لِيُضِلُّوا) ، يقول : لئلا يضلوا عن سبيلك ، فضلوا وصرفوا نعمتك التي أمرتهم أن يصرفونها في طاعتك لا في معصيتك ، فعند ما فعلوا ذلك (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا) ، يقول : إنهم لا يؤمنون اختيارا من أنفسهم المعصية والكفر.

ثم قال : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [الأعراف : ١٥٥] ، يقول : إن هي إلا محنتك ، (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) ، يقول : توقع اسم الضلال على من يستحقه بعد هذه الفتنة ، قامت بها مقام بعد.

وقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [الرعد : ٦] ، يقول بعد ظلمهم إذا تابوا ، وقال : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] ، يقول : على جذوع النخل ، قامت (في) مقام (على) ، وقال : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) ، يقول على القوم (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) [الأنبياء : ٧٧].

وقال : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) [يوسف : ٨٢] ، يقول أهل القرية وأهل العير. وقال : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) [آل عمران : ١٧٥] ، يقول : يخوف الناس بأوليائه ، وقال : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) ، يقول : يحبون أندادهم كحب المؤمنين لله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة : ١٦٥]. وقال : (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ) [النساء : ٧٧] ، يقول : يخشون الناس كخشية المؤمنين لله.

وقال : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧] ، والعرش فهو : الملك ، كما قال : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [النمل : ٢٦] ، قال الشاعر :

تداركتما عبسا وقد ثل عرشها

وذبيان قد زلت بأقدامها النعل

يقول : إنه انهد عزها وملكها ، ومعنى يحمل : يتقلدون أمر الله ونهيه في خلقه ، كما قال : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] ، يقول : يتقلدون أمورهم ، وقال :

حمّلت أمرا جليلا فاضطلعت به

وقمت فيه بحق الله يا عمرا

٨١

يقول : قلدت أمرا جليلا.

(فَوْقَهُمْ) ، يقول : منهم ، قامت (فوق) مقام (من) ، (ثَمانِيَةٌ) ، يمكن أن تكون ثمانية أصناف أو ثمانية آلاف ، أو ثمانية أنفس.

ويقول : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢] ، يقول : عن شدة ، كما قال :

قامت بنا الحرب على ساق فشمرنا على

ويقول إبليس اللعين : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) [الحجر : ٣٩] ، يقول : دعوتني بهذا الاسم بعد أن استوجبته ، و (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) [هود : ٣٤] ، يقول : يعذبكم ، الإغواء في هذا الموضع : العذاب كما قال : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم : ٩٥].

تنزيه الأنبياء

قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

اعلم أن الأنبياء صلوات الله عليهم لم يعص أحد منهم متعمدا يعلم أن لله معصية فيتعمدها ، وذلك لا يجوز على الأنبياء ؛ لأنهم أصفياؤه ورسله ؛ اختارهم على علم سبق منه فيهم أنه إذا بعثهم إلى خلقه سيبلغون الرسالة ، ويؤدون الأمانة ، ولا يعصونه في شيء من الأشياء ، فعلى ذلك اصطفاهم واختارهم.

قال في قصة آدم عليه‌السلام : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥].

وقال في قصة نوح عند ما دعا ربه : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ، فقال له ربه : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ، يقول : ليس من أهل طاعتك ، (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، فقال نوح : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) [هود : ٤٥ ـ ٤٧] ، فتاب عليه‌السلام من ذلك.

وكذلك يوسف صلى الله عليه عند ما أخذ أخاه على دين الملك ، فقال رب العالمين في ذلك : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) [يوسف : ٧٦].

وقال موسى عند ما قتل القبطي : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [القصص : ١٦] ، و

٨٢

(هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [القصص : ١٥] ، وقال : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٢٠] ، يقول : من الجاهلين لعاقبة أمري.

وداود عليه‌السلام عند ما نظر إلى امرأة أوريا فأعجبته ، ثم كان يذكرها في نفسه دائما ويقول : لو دريت أن هذه المرأة على هذه الصفة لتزوجتها قبل أن يتزوجها أوريا ، فلما أن بعث الله إليه الملكين اللذين تخاصما إليه وحكم داود بينهما بالحق علم أنه مخطئ في ذلك ، فتاب إلى ربه فتاب الله عليه.

وكذلك سليمان ، ويونس ، وأيوب وجميع الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، ما كانت خطاياهم وعصيانهم إلا على وجه الزلل والنسيان ، فاعلم ذلك ، ولا تنسب إليهم ما لا يليق بهم ؛ لأنهم بررة أتقياء أصفياء صلوات الله عليهم.

تفسير الكتاب

قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه :

تفسير (الكتاب) في القرآن على وجوه شتى :

فوجه منها : علم ، كما قال الله تبارك وتعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) [فاطر : ١١] ، يقول : في علم الله ، ويقول : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد : ٢٢] ، يقول : في علم الله من قبل أن يخلق الأنفس ، ويقول : (كَتَبَ اللهُ) ، يقول : علم الله ، (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] ، وقال : (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩] ، يقول : في علم مبين ، وقال : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) [القمر : ٥٢] ، يقول : في علم الله ، وقال : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) [الجاثية : ٢٩] ، يعني : علمه عزوجل.

وقال : (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) [آل عمران : ١٥٤] ، يقول : علم. فالكتاب هاهنا كتاب علم ؛ لأن الله تبارك وتعالى قد علم أنه سيختارون البراز إلى مضاجعهم ، فإذا برزوا اختيارا من أنفسهم للبراز قتلوا وقتلوا ، فالبراز فعل من البارز ، والقتل فعل من القاتل المعتدي ، وليس العلم الذي جبرهما على البراز والقتل ، والبراز والقتل فعل من البارز والقاتل ، وعلم الله محيط بهما كما قال عزوجل : (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ

٨٣

وَمَثْواكُمْ) [محمد : ١٩] ، التقلب من الخلق ، وعلم الخالق محيط بهم ، ولا يقدر أحد أن يخرج من علم الله ، وليس علم الله الذي يدخلهم في الطاعة ويخرجهم من المعصية ، ولكن (قوما) اختاروا الطاعة على المعصية فاستوجبوا من الله الرضى والرضوان ؛ لأنهم سعوا في إرادة الله ومشيئته ، واختار قوم المعصية على الطاعة ، فاستوجبوا من الله السخط والعقوبة ؛ لأنهم سعوا في سخط الله وكرهوا رضوانه ، (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ٢٨] ، واتبعوا أهواءهم ، وأرضوا الشيطان بفعلهم ، فصاروا في حزبه : (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) [المجادلة : ١٩] ؛ لأن الله لا يقدّر أبدا ما يكره ، ولا يقدّر إلا ما يرضى ، وليست مشيئته تقع إلا على رضاه ، ولا يكره إلا ما يسخطه ، فاعلم ذلك ، (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ، كما قال عزوجل : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌ) [هود : ١٠٥] ، في ذلك اليوم بعمله القبيح الذي قدمه في دار دنياه ، ومنهم سعيد بعمله الصالح الذي قدمه في هذه الدنيا ، ولذلك قال عزوجل : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩] ، يقول : إنه يعيدهم ويخلقهم يوم القيامة خلقا ثانيا ، من خرج من الدنيا عاصيا لجهنم ، وإن كان لفظ (ذرأنا) لفظ ماض فمعناه مستقبل ، كما قال : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٤٤] ، (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) ، يقول : إنهم سينادون ، لا أنه عزوجل خلقهم للنار في هذه الدنيا ، وهو سبحانه يقول : خلاف ذلك في كتابه ، قال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، لم يخلق جميع خلقه إلا لعبادته ، ولذلك ركب فيهم العقول وأرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم الكتب ؛ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم : ٣١] ، وقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] ، في الكرامة.

والوجه الثاني من كتاب الله : قوله سبحانه : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) ، يقول : فرضنا عليهم : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] ، إلى آخر الآية.

والوجه الثالث : قوله عزوجل : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [الزمر : ٢] ، يعني القرآن.

والوجه الرابع : قوله : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ١٢] ، يقول : أوجب على نفسه الرحمة ، أنهم إذا تابوا رحمهم ، وأوجب لهم على نفسه الرحمة ، فالكاتب والمكتوب

٨٤

عليه في هذا الموضع واحد ، وهو الله رب العالمين ، وكذلك قوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] ، يقول عيسى عليه‌السلام : تعلم ما غاب عني من أمري ، (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) ؛ يقول : لا أعلم ما غاب عني من أمرك ، وكذلك قوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ، وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] ، وقوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٤] ، وقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] ، (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧] ، فكل هذه الآيات وما أشبهها من الآيات فإنما يريد عزوجل ذاته ، لا أن ثم نفسا ووجها ويدا وعينا ويمينا سواه ، فاعلم ذلك ، وتفكر في جميعه يبن لك الصواب ، وينفى عنك الشك والارتياب بحول الله وقوته.

تم الكتاب والحمد لله وحده وصلواته على رسوله سيدنا محمد النبي وآله

وسلامه

٨٥

كتاب الدّيانة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

التوحيد

إنا ندين بأن الله واحد أحد ، ليس له شبه ، ولا نظير ، ولا مثل ، ولا عدل ، ولا كفؤ في وجه من الوجوه ، ولا معنى من المعاني ، وأنه ليس بذي صورة ، ولا حد ، ولا غاية ، ولا نهاية ، ولا بذي أجزاء ولا أعضاء ، ولا بعضه غير بعض ، ولا يقع عليه الطول والعرض ، ولا يوصف بالهبوط ، ولا الصعود ، والتحرك ، والسكون ، والزوال ، (والعجز ، والهرم ، والجهل) (٤٥) ، والانتقال ، والتغير من حال إلى حال. ولا يحويه مكان ، ولا يمر عليه وقت ولا زمان ، وأنه قبل كل مكان ، وحين وأوان ، ووقت وزمان ، وأنه خلق المكان من غير حاجة إليه ، وإنما خلقه لحاجة الخلق إليه ، وأنه في السماء إله ، وفي الأرض إله ، وفي كل مكان إله خالق ، مدبر من غير أن يحويه شيء ، ولا يحيط به ، ومن غير أن يكون حملة العرش يحملونه ، تعالى الله عن ذلك ، وأنهم يحملون العرش ، وأما الله سبحانه وبحمده فإنه أعز وأجل من أن يحمله أحد من الخلق ، والخلق أعجز وأضعف من أن ينالوا ذلك منه ، أو يقدروا عليه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ومن غير أن يكون كما يستوي الإنسان على

__________________

(٤٥) ساقط من (ب).

٨٦

سريره ، ولكن استوى على العرش ، والعرش فهو الملك ، واستواؤه ملكه وقهره ، بلا ند يشاوره ، ولا ضد ينافره ، ولا معين يوازره ، وهو كما قال الملك في كتابه ، بلا كيف ولا تمثيل ولا تحديد. وأنه شيء لا كالأشياء ، ولا شيء يعدله سبحانه وبحمده. وأنه ليس بجسم ولا جسد ، ولا فيه صفة من صفات الأجساد ، ونعتها وهيئتها ، من تأليفها واتصالها ، واجتماعها ، وافتراقها ، وكينونة بعضها على بعض ، على المجامعة ، والمفارقة ، والمباشرة ، والدخول ، والخروج ، والقرب في المسافة ، والبعد في العزلة والغيبة وطول السفر. وأنه لا يحتجب بشيء من خلقه ، ولا يستتر به ، ولا يبدو له فيدركه (٤٦). وأن الفكر لا تبلغه ، وأن العقول لا تقدره ، والأوهام لا تناله ، والضمائر لا تمثله ، والأبصار لا تدركه ، وأن العيون لا تراه في (٤٧) الدنيا ولا في الآخرة ، وأن من زعم أن الأبصار تدركه وأن العيون تراه مجاهرة فقد قال قولا عظيما ، وأن من زعم أن العيون تكيفه ، أو قال يرى في القيامة بشيء مما عليه العباد ، فيرونه بذلك الشيء ، أو يدركونه وسمّى ذلك الشيء ، حاش لله ، فقد قال إفكا وزورا ، لأن كل من وقعت عليه الرؤية فمحدث ، وما مسته الأيدي أو سمعته الأذان أو أدركه الذوق أو الشم فمحدث ، وكذلك كلما خلقه الله أو يخلقه فلا يدرك به إلا ما كان محدثا ، وكذلك ما في قدرته أن يخلقه مما (٤٨) ليس بحكمه أن يكون ، فلو خلقه أو صنعه لم يدرك به إلا ما كان محدثا (٤٩) ، والله فهو القديم الدائم ، فلا عين تراه ، ولا يدرك بأداة ، إنما يعرف بخلقه ، ويستدل عليه بآياته ، وتدبيره في سمائه وأرضه ، من صغير الخلق وكبيره ، وقليله وكثيره ، فذلك سبيل العلم به ، والوصول إلى معرفته ، وتحقيق ربوبيته ، وتصحيح الإيمان به أنه خالق هذا الخلق ومدبره ، وصانعه ومقدره ، وربه وإلهه ومالكه ، لا

__________________

(٤٦) أي ولا يبدو له الشيء فيدركه بعد أن كان غافلا عنه.

(٤٧) في (ب) : لا في.

(٤٨) في (ب) : مما ليس في حكمه أن يكونه.

(٤٩) في هذا إشارة إلى إنكار قول من يقول إن الله يرى بحاسة سادسة ، أو أنه يخلق بصرا غير هذا البصر يمكن به رؤية الله ، فهذا إنكار من الإمام عليه‌السلام لقول هؤلاء.

٨٧

شريك له ولا نظير ولا معين ، ولا وزير ، ولا ند ولا ضد ، ولا شبه ولا مثل.

وأن من شبهه بشيء من خلقه كائنا ذلك الشيء ما كان ، أو وصفه بتحديد ، أو زعم أن بيننا وبينه حجبا ساترة ، وأنه لو رفعت تلك الحجب لأدركناه ورأيناه فقد قال قولا عظيما. وأن من وصفه بالكيفية والماهية فقد جهل واجترى ، وأن من زعم أنه لا يعبد شيئا فهو كما أخبر عن نفسه لا يعبد شيئا ، ومن قال هو خالق الشيء ولا يقال له شيء فقد جار وحار عن طريق القصد والهدى.

العلم والقدرة والسمع والبصر

وأن الله علام الغيوب لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ولا في الدنيا ولا في الآخرة ، وأنه القادر الذي لا يعجزه شيء من الأشياء ، لم يزل عالما قادرا ، ولا يزال قادرا عالما ، ليس لقدرته غاية ، ولا لعلمه نهاية ، وليس علمه وقدرته سواه ، هو القادر لا بقدرة سواه ، والعالم لا بعلم سواه. وهو السميع البصير ، ليس سمعه غيره ، ولا بصره سواه ، ولا السمع غير البصر ، ولا البصر غير السمع ، ولا يوصف بسمع كأسماع المخلوقين ، ولا ببصر كأبصارهم ، تعالى الله عن ذلك ، ولكنه سميع لا تخفى عليه الأصوات ، ولا الكلام واللغات ، بصير لا تخفى عليه الأشخاص ، ولا الصور ولا الهيئات ، ولا مكان شيء من الأشياء وموضعه ، ولا يغيب عليه شيء من أمره وحاله ، لم يزل سميعا بصيرا ولا يزال كذلك تبارك وتعالى. وأن له قدرة وعلما وسمعا وبصرا ليس ذلك على إضافة شيء ثان له (٥٠) تبارك وتعالى ، ولا كما ظن المشبهون أن له وجها وصورة وتخطيطا وأنها نفس في جسد ، حاش لله من ذلك ، ولكنه على تحقيق إثباته جل جلاله.

وأن من زعم أن علمه محدث ، وقدرته محدثه ، كان غير عالم ثم علم ، وغير قادر ثم قدر فقد قال قولا عظيما ، ومن قال إن علمه وقدرته وسمعه وبصره صفات له ، وأنه لم يزل بها

__________________

(٥٠) في (ب) : (إليه) مكان (له).

٨٨

موصوفا قبل أن يخلق الخلق ، وقبل أن يكون أحد يصفه بها ، وقبل أن يصف هو بها نفسه ، وتلك الصفات زعم لا هي الله ولا هي غير الله فقد قال منكرا من القول وزورا.

ومن قال بهذه المقالة ، ثم زعم أن هذه الصفات لا هي الله ولا هي غير الله ، فقد أتى إثما مبينا.

ومن قال ليس لله علم ولا قدرة ، ولا سمع ، ولا بصر ، فقد جهل واجترى ، وقال مقالة الزور والفرى. ومن قال لا يقال لله علم ، ولا يقال ليس له علم ، فقد ضيع من الدين واللغة حظا نافعا. ومن قال علم الله هو الله ، وقدرة الله هي الله ، وسمع الله هو الله ، وبصر الله هو الله ، فقد قال في ذلك بالصواب.

ومن قال علم الله محدث أحدثه الله وفعل فعله ، وهو حركة والحركة زوال من مكان إلى مكان ، فقد افترى على الله الكذب. ومن قال لا يعلم الشيء حتى يقدره ، فإذا قدره علمه ، وكذلك من قال محال أن يعلم الشيء قبل أن يكون.

وكذلك من زعم أنه على العرش دون السماوات والأرض ، وأنه ليس في السماء ولا في الأرض ، ولكن علمه في السموات والأرض وفي كل مكان علمه ، وفي كل شيء علمه ، وعلمه معنا حيث ما كنّا ، وعلمه منّا قريب ، وهو إلينا أقرب من حبل الوريد. فأما الله فهو منّا بعيد ، لا أنه في موضع محدود ، وليس هو في سائر الخلق موجود. وكذلك من زعم أن له وجها حارا ، لو كشفه لأحرق ما أدركه بصره ، وأن له كفا محدودة ، وأصابع معدودة ، وأنامل باردة ، وساقا وقدما ، ولسانا وفما ، وكذلك من زعم أن له حدا ومقدارا ، وصورة من الصور وهيئة من الهيئات.

وكذلك من زعم أن الله تبدو له البدوات ، وأنه يريد أن يفعل الشيء ثم لا يفعله ، لنية تبدوا له فيه ، وأنه يخبر أنه سيفعل كذا وكذا ثم يبدو له فيه فلا يفعله فكل هؤلاء قد قال الكذب ، وقال ما لا برهان له به ، ولا سلطان ، فتعالى الله عمّا يقولون علوا كبيرا.

٨٩

قيام الحجة على أهل الفترات

وندين بأن حجة الله قائمة على أهل الفترات (٥١) البالغين ، الأصحاء السالمين بفطر عقولهم ، وما يجدونه في أنفسهم ، وما يرونه في سماوات الله وأرضه ، وما يأتي به الليل والنهار من عجائب تدبيره ، وما قد ورد عليهم من أخبار الأنبياء المتقدمين ، وأخبار كتبهم وشرائعهم ، وأحكامهم ، ودعوتهم القائمة إلى عبادته وحده ، وإثبات ربوبيته ، وطاعته ، وإثبات جنته وناره ، ووعده ووعيده ، والإيمان بالبعث والنشور ، وأن لا يشركوا بعبادته أحدا ، ولا يعبدوا شيئا سواه ، وأن لا يطاع المخلوق في معصية الخالق.

فمن عرف من أهل هذه الفترات حق الله الذي أوجبه عليه ، وآمن به وأطاعه ، ولم يعبد شيئا غيره ، واجتنب جميع ما حرم الله عليه ، وصدق الأنبياء ، وآمن بكتاب الله وملائكته ، ووعده ووعيده ، وجنته وناره ، وبالبعث بعد الموت ، والنشور والحشر إلى يوم القيامة ، والحساب ، والثواب ، والعقاب حتى يموت على ذلك فهو من أهل ثواب الله وجنته.

ومن خالف ذلك إلى الجحود والكفر والشرك ، فعبد شيئا مع الله ، أو شيئا دون الله ، أو جحد القيامة والبعث والنشور ، ولم يؤمن بجنة ولا نار ، ولا حساب ، ولا ثواب ، ولا عقاب ، ولا وعد ولا وعيد ، حتى يموت على ذلك ، فهو من أهل النار خالدا مخلدا فيها أبدا.

وندين بالإيمان باللوح المحفوظ على ما ذكره الله في كتابه ، ودان به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

رضا الله وسخطه حسب عمل العبد لا حسب علم الله بمآل العبد

وندين بأن من كان مؤمنا بالله ، عاملا بطاعته ، مؤديا لفرائضه ، مجتنبا لمحارمه ، وقد علم

__________________

(٥١) الفترة ما بين موت رسول إلى أن يبعث رسول.

٩٠

الله منه أنه سيغير ويبدل ، وينتقل من الإيمان إلى الكفر ، ومن هدى إلى ضلالة أنه في حال إيمانه وطاعته مستوجب لثوابه وجنته ، فإن الله محب له راض عنه ، ما دام متمسكا كذلك ، فإذا بدل وغيّر وانتقل من الإيمان إلى الكفر ، صار عند الله عدوا لله ملعونا ، مستوجبا لسخطه وناره. فلو (٥٢) أن عبدا كفر بالله وعمل بمعصيته ، وترك طاعته ، وفي علم الله أنه سيتوب ويؤمن أنه في حال كفره ومعصيته عدو لله ملعون مستوجب لسخط الله وناره ، فإذا تاب وآمن صار وليا لله مستوجبا لثوابه وجنته ؛ لأن الله جل جلاله لا يعادي على العلم ، ولا يوالي عليه ، ولا يثيب به (٥٣) ولا يعاقب عليه ، ولا يسخط على من لم يسخطه ، ولا يغضب على من لم يغضبه ، ولا يرضى على من لم يرضه.

تم الكتاب والحمد لله

__________________

(٥٢) في (ب) : ولو.

(٥٣) في (ب) : عليه.

٩١

وله أيضا صلوات الله عليه :

جواب لأهل صنعاء على كتاب كتبوه إليه عند قدومه البلد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

أما بعد ؛

فقد جاءني كتابكم تحذرون البدع المضلة ، والأهواء المغوية ، والآراء المحدثة ، والميل إلى الخلاف والفرقة ، وتحثون على لزوم الجماعة والأبرار الذين كانوا أعلام الهدى ، ومصابيح الدجى ، وذلك عند ما بلغكم من اجتماع الناس على عيي وطعنهم عليّ ، وتنقصهم إياي ، وشتمهم لي من غير حدث أحدثت ، ولا خلاف أظهرت ، ولا رأي قبيح ابتدعت. زعموا أني تركت المنهاج الأكبر ، وأني سلكت الطريق الأوعر. وتسألوني ما أنا عليه ، وما أنا متمسك به ، وإيضاح ذلك من لدن التوحيد إلى آخر فريضة من فرائض الله ، وقد فسرت جميع ذلك في كتابي هذا حسب طاقتي ، وبالله حولي وقوتي ، وعليه أتوكل في جميع أموري.

الإيمان بالله

أما الذي أرجو به الفوز ، وهو لي عدة من عذاب الله وحرز وجنّة : فإقراري لله عزوجل بالربوبية ، وشهادتي له بالوحدانية ، وإذعاني له بالعبودية ، وأنه خالق كل شيء مما يرى ومما لا يرى ، في بطن الأرض وما تحت الثرى ، وما في السموات العلى ، بلا معين أعانه عليه ، ولا دليل احتاج إليه ، ولا مثال احتذى عليه. تفرد بخلق الأشياء لا من أصول أولية ، ولا أوائل كانت قبله بدية ، لكن مثلها بحكمته ، وابتدعها بقدرته ، من غير مثال سبق إليه ،

٩٢

ولا لغوب دخل عليه.

لا تدركه الأبصار وهو يدرك الإبصار ، ولا يوصف بتجسيد ولا أقطار. أزلي صمدي على غير كيفية ، ولا وسوسة الصدور ، بل ارتفع عن تحديد بصر البصير.

الإيمان باليوم الآخر

وأشهد أن الجنة حق دار بقاء ونعمة ، خلقها وكونها من رضوانه ، فجعلها للمطيعين ثوابا. وأن النار دار شقاء ونقمة ، خلقها من سخطه ، فجعلها للعاصين عقابا. لا يفنى عذابه ، ولا يبيد ألمه ، ولا يخلف وعده ولا وعيده ، ولا يظلم عبيده ، وإليه نحشر يوم ينفخ في الصور ، عند صيحة النشور ، فنثور بعد البلاء من القبور ، ويدعوا الكافر المغرور بالويل والثبور ، ونعرض على الرحمن صفا ، ويعض الكافر (٥٤) من الندامة كفا ، فيفصل بيننا بعدل لا يجور ، فريق في الجنة وفريق في السعير.

فسبحان من ملكه دائم لا يزول.

الإيمان بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، اختاره بعلمه ، وبعثه إلى خلقه ، وائتمنه على وحيه ؛ فدعا الناس إلى الله بجد واجتهاد ، رحيما بالعباد ، ونورا للبلاد ، فافتتح الدعوة بقومه ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأبوا له التسليم ، وهموا به العظيم ، ومنعوه الأسواق ، وضيقوا عليه الآفاق ، ونصبوا له الحبايل ، وطلبوا له الغوائل ، وشحذوا له السيوف ليذيقوه الحتوف ، فعصمه الله منهم ، ورد كيدهم بينهم في نحورهم ، وأيده بنور ساطع ، وحجج حق وسيف قاطع ، وبراهين صدق في القلوب واقع ، فأدخلهم في الملة بين مسلم مستسلم ، وبين مستسلم متجشم ، يكتمون النفاق مخافة ضرب الأعناق ، فصلى الله على الناصح الشفيق ،

__________________

(٥٤) في (ج) : الظالم.

٩٣

محمد بن عبد الله الطيب الرفيق ، الدال على المنهاج الواضح ، والطريق اللائح ، صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الأخيار وعلى ابن عمه علي بن أبي طالب أسبق السابقين سبقا ، وأولهم ايمانا وسلما ، أنقذنا الله به من شفا الحفرة ، ومغاليط الكفرة ، وسحقات الفجرة.

الإيمان بالقرآن الكريم

ثم إني أشهد أن القرآن وحي الله وكتابه وتنزيله ، أنزله على نبيه عصمة لمن اعتصم به ، ونجاة لمن تمسك به. من عمل به نجا ، ومن خالفه غوى وفي النار غدا تردى ، مفصل آياته ، موصل محكماته ، كثيرة عجائبة ، سنية مذاهبه ، نيّر برهانه ، واضحة حجته.

الاقرار بفرائض الإسلام ومنهياته

وأشهد أن الصلاة واجبة ، وأن الزكاة لازمة ، وشهر رمضان فرض صيامه ، ولم توجب علينا النافلة قيامه. والحج على الناس دين من استطاع إليه سبيلا ، والاستطاعة الزاد والراحلة ، وأمان الطريق. والجهاد قسرا يقسر النفوس على القيام بالجهاد قسرا ، وفي الجهاد فضل الدرجات ، والبعد من النقمات.

ودفع الصدقات إلى أهلها ، مع اجتناب المحرمات ، والاغتسال من الجنابات ، مع الوضوء بالماء الطاهر ، أو التيمم بالصعيد الطيب ، والمحافظة لأوقات الصلوات.

والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وعمارة المساجد بالذكر والصلوات ، لا بالفواحش والزور من الشهادات ، كفعل أهل زماننا الفاسقين منهم والفاسقات.

والحب في الله والبغض في الله ، والموالاة فيها لأولياء الله ، والمعاداة لأعداء الله من كانوا وأين كانوا. وكل من خالف كتاب الله في شيء ، من العتق ، والطلاق ، وغير ذلك مردود إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والتسليم لأمر الله ، والرضا بما قضا الله.

واجتناب الكبائر ، والآثام دقها وجلها ، وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق ، والفرار من الزحف ، وأكل الربا ، واجتناب الزنى ، وأكل أموال اليتامى ظلما ، وترك التعرض

٩٤

لأموال المسلمين والمعاهدين ، مع ترك الأياس من روح الله ، ولا يؤمن مكر الله. وترك شرب المسكر ، وتعليم السحر ، ولا نصدق بالكهانة والطيرة.

مع العلم بأن محض الإيمان ترك النميمة ، والغيبة والبهتان ، والحسد ، والبغي ، والظلم ، والجور ، والفحش ، من قول الزور والخنا ، والخيانة ، ونقض العهد ، وخفر الأمانة ، والعظمة في النفس ، والإعجاب ، والكبر ، والجفاء بالحق وأهله ، والقسوة ، والغلظة ، والفظاظة ، والشحنا ، والسمعة ، والعصبية ، والعداوة ، والبغضاء ، والمغالبة والمكابرة ، واليمين الفاجرة ، والكذب ، والغدر ، وسوء الخلق ، والأياس من الرزق.

وعليكم بالعمل بتقوى الله ، والحياء من الله ، والتعظيم لأمر الله ، وصدق الحديث ، والمواساة في المال لذوي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وغض البصر ، وعفة البطن ، وحفظ الفرج ، وأكل الحلال ، والزهد في الحرام ، وترك الدنيا ، واستعمال الورع ، والتضرع في الدعاء ، والصيانة ، والخشوع ، والرحمة ، والخضوع ، والرأفة ، والرقة ، والرفق ، وحسن الخلق ، ومداراة الضعيف ، والمسلم ، وإغاثة الملهوف ، والحياء ، والكرم ، والحلم ، والصبر ، وكظم الغيظ ، وكف الأذى ، والعفو عمن ظلمك ، والكف عمن شتمك ، والتفضل على من حرمك ، وإفشاء السلام ، وإطعام الطعام ، والصلاة بالليل والناس نيام.

ورأس الأمر وأوله ، وآخره ووسطه ، وتمامه النصيحة للولي والعدو ، والبر والفاجر ، وترك الغش لجميع الخلق.

التمسك بأهل البيت دون من سواهم من الفرق

فهذا وفقكم الله دين المؤمنين وديني وما عليه اعتقادي ، لست بزنديق ولا دهري ، ولا ممن يقول بالطبع ، ولا ثنوي ، ولا مجبر قدري ، ولا حشوي ، ولا خارجي. وإلى الله أبرأ من كل رافضي غوي ، ومن كل حروري ناصبي ، ومن كل معتزلي غال ، ومن جميع الفرق الشاذة ، ونعوذ بالله من كل مقالة غالية ، ولا بد من فرقه ناجية عالية ، وهذه الفرق كلها عندي حجتهم داحضة.

والحمد لله ، وأنا متمسك بأهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومهبط الوحي ، ومعدن

٩٥

العلم وأهل الذكر ، الذين بهم وحّد الرحمن ، وفي بيتهم نزل القرآن ، والفرقان ، ولديهم التأويل والبيان ، وبمفاتيح منطقهم نطق كل لسان ، وبذلك حث عليهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله : «إني تارك فيكم الثقلين لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، مثلهم (٥٥) فيكم كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق وهوى.» فقد أصبحوا عندي بحمد الله مفاتيح الهدى ، ومصابيح الدجى ، لو طلبنا شرق الأرض وغربها لم نجد في الشرف مثلهم. فأنا أقفو آثارهم ، وأتمثل مثالهم ، وأقول بقولهم ، وأدين بدينهم ، وأحتذي بفعلهم.

من عناصر الإيمان

العمل من الإيمان والإيمان من العمل بمنزلة الروح من الجسد ، يزيد وينقص : بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة ، وبزيادته تفاضلوا في الدرجات عند الله ، وبالنقصان منه دخل المقصرون النار. وأنا مؤمن بقضاء الله وقدره ، ما كرهت نفسي من ذلك وما رضيت ، ومقر بأن القرآن كلام الله ووحية ، وتنزيله وحجته على خلقه ، أحكم تأليفه إحكاما ، وأنشأه بأحسن الإنشاء ؛ فجعله برهانا وتفصيلا ، سماه قرآنا عربيا لقوم يعقلون ، وأدين بأن المقاييس والرأي في الدين دين إبليس اللعين.

وأشهد أن لله المشيئة في جميع أفعاله ، من زيادة ذلك ونقصانه ، ومحوة وإثباته.

وأشهد أن الله تبارك وتعالى لم يقطع وحيه ، ولم يقبض نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى أكمل دينه ، وبين له جميع ما يحتاج إليه من الحلال والحرام ، والفرائض والأحكام ، والمواريث والأقسام ، وجميع ما فيه النجاة من النيران ، والوصول إلى دار السلام. وكذلك أشهد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتم شيئا من الحق ، بل أدّى عن الله الصدق ، ونهى عن الكذب ، والفسق ، والكفر ، والظلم ، والجور ، والبغي ، وكل ما

__________________

(٥٥) في (د) : مثلهما.

٩٦

لا يجوز في الدين ، هذه شهادتي عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

الترضية على الصحابة وأمهات المؤمنين

ولا أنتقص أحدا من الصحابة الصادقين والتابعين بإحسان ، المؤمنات منهم والمؤمنين ، أتولى جميع من هاجر ، ومن آوى منهم ونصر ، فمن سب مؤمنا عندي استحلالا فقد كفر ، ومن سبه استحراما فقد ضل عندي وفسق ، ولا أسب إلا من نقض العهد والعزيمة ، وفي كل وقت له هزيمة ، من الذين بالنفاق تفردوا وعلى الرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرة بعد مرة تمردوا ، وعلى أهل بيته اجترءوا وطعنوا. وإني أستغفر الله لأمهات المؤمنين اللواتي خرجن من الدنيا وهن من الدين على يقين ، وأجعل لعنة الله على من تناولهن بما لا يستحققن من ساير الناس أجمعين.

الحوض والشفاعة

ولا أنكر الحوض ولا الشفاعة ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤٢](مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦]

فهذا ديني واعتقادي ، والحمد لله رب العالمين ، وصلواته على خير خلقه أجمعين محمد وعترته الطاهرين.

٩٧

كتاب المسترشد في التوحيد

الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم (٥٦)

لحمد لله الذي علا بطوله ، وجل بحوله الداني في علوه ، والنائي في دنوه رب العالمين ، وفاطر السماوات والأرضين ، الذي بان عن مشابهة المخلوقين ، وتقدس عن مناظرة المحدودين ، المتجلي لعباده الموقنين بما أراهم من بدائع فعله في المربوبين ، بل بما أراهم في أنفسهم من عظيم تدبيره ، وبين لهم فيهم من لطيف صنعه وتقديره ، فكلهم يشهد له ضرورة بالرّبوبية ، وينطق له ويقر بالفعل والأزلية ، كما قال ذو الجلال والسلطان فيما نزله (٥٧) على نبيئه من النور والفرقان حين يقول سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [العنكبوت : ٦١] ، وقال سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [العنكبوت : ٦٣] ، فسبحان الذي علمه بخفيات ضمائر الصدور كعلمه بما ظهر (٥٨) وأنار من الأمور ، الذي لا تخفى عليه الخفيات ، ولا تستتر عنه المستورات ، ولا تحتجب عنه المحجوبات ، ولا تعروه الغفلة والسنات ، ولا تنتظمه بتجديد الصفات ، ولا تنقصه الأيّام والسّاعات ، بادئ خلق

__________________

(٥٦) في (ب) : الحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وآله الطيبين وسلم عليهم أجمعين.

(٥٧) في (ب) : نزل.

(٥٨) في (ب) : بما بان وظهر من الأمور.

٩٨

الإنسان من طين ، والباعث له يوم الدين والمجازي (٥٩) لعباده على أعمالهم ، المحيط بالصغير والكبير من أفعالهم ، مقيل العثرات ، وغافر السيئات ، المعطي على الحسنة الحسنات (٦٠) ، قابل التوبة من التائبين ، الواحد الفرد الكريم ، الرءوف بعباده الرحمن الرحيم ، العدل في أفعاله الجواد ، البري من جميع أفعال العباد ، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد ، كذلك الله ذو العزة والإياد ، وصلى الله على محمد خاتم النبيين ، ورسول رب العالمين ، والحجة على جميع المخلوقين ، المصلح لله في بلاده ، الداعي (٦١) إليه جميع عباده ، السراج الزاهر المنير ، وصفوة (٦٢) اللطيف الخبير ، وعلى آله.

معنى العزيز والعزة

ثم نقول من بعد الحمد لله والثناء عليه ، والصلاة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إن سأل سائل : فقال ما معنى قول الله ذي الجلال والإكرام (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] ، وقوله سبحانه (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات :

١٨٠] ، وقوله : (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ) [الحشر : ٢٣]؟

قلنا له إن شاء الله : إن معنى العزيز هو الممتنع (٦٣) الذي لا يرام ولا يناضا (٦٤) ولا يضام ، ولا يعز أبدا من أذلّ ، ولا يذل أبدا سبحانه من أعز ، الذي لا يعجزه شيء ، ولا يقدر عليه شيء ، مدرك مطلوبيه ، وغالب مغالبيه ، ومذلّ مناصبيه.

__________________

(٥٩) في (ب) : (المجازي) بدون واو.

(٦٠) في (ب) : حسنات.

(٦١) في (ب) : (والداعي) ، بالواو.

(٦٢) في (ب) : (صفوة) بدون واو.

(٦٣) المنيع. نخ. هامش (أ).

(٦٤) أي لا ينازع. تمت هامش (أ).

٩٩

وأما العزة فهي العزة التي أعز (٦٥) بها عباده المؤمنين ، وأوليائه المتقين. فأول اعزازه لهم محبته لهم (٦٦) ورضاه عنهم ، وغفرانه ذنوبهم ، وتأييدهم وتوفيقهم ، فإذا فعل ذلك لهم (٦٧) فقد أعزهم وأيّدهم ، وأعطاهم من العزة ما لم يعط غيرهم مع ما جعل وأعطى أهل المعرفة به والدين والإخلاص له ، والعلم واليقين من أهل بيت الرسول عليهم‌السلام من الكرامة والولاية ، والاستخلاف في الأرض والإمامة ، فحكم بالأمر والنهي ، والطاعة لمن كان كذلك منهم حكما ، وعزم لهم به دون غيرهم عزما ، فجعلهم خلفاء الأرض الهادين ، القائمين بقسط رب العالمين ، وأمناءه على جميع عباده المؤمنين.

يأمن في سلطان من كان على ما ذكرنا منهم المؤمنون ، ويخاف في دولتهم وقربهم الفاسقون ، خافضين لأجنحتهم ، واضعين لجبريّتهم (٦٨). أودّاهم المطيعون لله وإن بعدت أرحامهم ، وأعداؤهم المحادون له وإن قربت أنسابهم ، فهم كما قال الله سبحانه فيهم وفي من كان من أوليهم وآبائهم حين يقول : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة : ٤] ، اتبعوا قول الله تبارك وتعالى وعملوا به حين يقول جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ

__________________

(٦٥) في (ب) : الله.

(٦٦) في (ب) : إياهم.

(٦٧) في (ب) : بهم.

(٦٨) لجبريتهم : قال في القاموس جبّار ... ، والمتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقا فهو بين الجبريّة ، وذكر أيضا من لغاتها الجبريّة بمعناها.

١٠٠