مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] ، فأراد سبحانه أن يثبت الحجة لنفسه على الجهال الذين يقولون مثل هذه المقالة فيه.

واحتجوا أيضا بقول الله سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [يونس : ١٠٠] ، فصدق الله عزوجل ، لو لا أنه أذن بالإيمان وخلّى بينهم وبينه ، ما عرفوه ، ولا دلهم عليه ، ولا أمرهم به ، ولا أرسل إليهم المرسلين حتى بينوا لهم فضله وشريف منزلته ، فأي إذن أكبر أو فعل أخطر مما فعل الله بهم ، ألا ترى إلى قوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) [الزمر : ٥٤].

واحتجوا أيضا بقوله عزوجل ذكره : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ٣٣] ، فصدق الله العظيم ، لقد علم منهم أنهم لا يؤمنون اختيارا منهم ومحبة للفسق ، ولو أنهم كانوا عنده مطيعين لا (١٧٢) مستحقين للفسق ما سماهم به ، وإنما حقت كلمته عليهم بعد فسقهم وصدهم عن أمره ونهيه ، وبعد الكفر منهم ، لا الابتداء منه لهم ، ألا ترى إلى قوله : (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) ، ولم يقل سبحانه : على الذين آمنوا ؛ ولا : على المسلمين ؛ وإنما معنى : (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) ، أي وجب عليهم حكمه ووعيده ، وقوله : (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) اختيارا منهم للكفر ومحبة له ، وأنه قد حكم عليهم بالفسق لما فسقوا وخالفوا عن أمره ونهيه.

وأما قوله : (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة : ٢٠٨] ، يعني بكافة : جميعا ، فإذا كان أمره للجميع فكيف يدخل قوم في السلم قد أدخلهم فيه؟ وكيف يأمر قوما بالدخول فيه ، وقد منعهم؟ هذا فعل متلعب عباث ، لا ينفذ له أمر في شيء مما يأمر به ، ولا مما يريده ، فتعالى الله عن ذلك أحكم الحاكمين.

ثم احتجوا بقوله سبحانه : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ، وجهلوا ما قبل ذلك من قوله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) [الجاثية : ٢٣] ، فصدق الله عزوجل ؛ لم

__________________

(١٧٢) في الأصل : بل.

٢٤١

يضله حتى اتخذ إلهه هواه وعبده من دون الله ، وعلم ذلك منه ومن فعله ، فأضله الله بعد ما فعل وبعد ما كان منه ، ولعلمه أنه لا يؤمن ولا يدع ما هو عليه من الكفر ، فهذا معنى علم الله به ، لم يدخله العلم في شيء ، ولم يحل بينه وبين شيء ، وإنما هو أخبر بإضلاله له. والإضلال من الله إنما هو في إهماله وترك تسديده ، وتوفيقه للخير ، ألا ترى كيف يقول سبحانه في موضع آخر : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦] ، وذلك لعلمه سبحانه أنه قد استحوذ عليهم إبليس وأحبوا ما هم فيه من الكفر والضلال حتى لم يتلفتوا إلى شيء مما يوعظون به ، ولا تعمل فيهم الموعظة ، ولا يتدبرون ما هم عليه من الكفر الذي قد دخل في قلوبهم ، فسواء أنذرتهم أم لم تنذرهم ، أو وعظتهم أم لم تعظهم لا يؤمنون ، أي لا يصدقون بشيء مما تدعوهم إليه ولا يخافون مما تخوفهم منه ، قد أعمت حلاوة الكفر أبصارهم ، وأصمّت أسماعهم ، وختمت على قلوبهم حتى منعت حلاوة الموعظة أن تصل أو تدخل في قلوبهم ، أو يلتفتون إلى شيء مما يعظهم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

واحتجوا أيضا بقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد : ٢٢] ، وتأولوا في ذلك بأقبح التأويل ، ولم يتدبروا الآية فيصح لهم فساد تأويلهم ، وزعموا أن المصيبة هي الكفر وغيره من أعمال الإثم ، وليس ذلك كذلك ؛ لأن آخر الآية يدل على غير ما تأولوا وقالوا ، وإنما أراد بقوله سبحانه : ما أصاب الناس في الأرض من مصيبة ، ولا أصابتكم في أنفسكم ، إلا وقد علم الله ذلك من قبل أن يبرأ النفس ، وهو خلقها برؤها ، فعنى ما في الدنيا من الآفات التي تقع في الأموال والثمار وغيرها من المصيبات التي يكثر شرحها ، ولم يرد بذلك سبحانه الإيمان والكفر والعصيان. ولو أراد سبحانه ، ما تأوله الجاهلون من الجبر على الإيمان والكفر ، ما قال : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ، وكيف يكون كافرا وفاسقا من كان محسنا صابرا ، ومبشرا بالخير؟ ألا ترى إلى تصديق ما قلنا في تمام الآية حين يقول : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [الحديد : ٢٣] ، فصح عند كل فهم أنه إنما أراد بهذا القول محن الدنيا وبلواها ،

٢٤٢

وفرحها وحزنها ، وكثرة المال ونقصانه ، وزكاة (١٧٣) ثماره ، ولو كان مراده عزوجل بهذا القول الكفر والإيمان لم يقل : لا تأسوا على الإيمان إن فاتكم ولا تسروا به إن نلتموه ، ولا تفرحوا بفوات الكفر لكم! فأي سرور يسر العبد إذا لم يسره الإيمان؟ وأي فرح أعظم منه على العبد وأحلى من فوات الكفر له وتخلصه منه؟ والحجة في هذا نفسه قول من قال بما ذكرناه ، ولم يقل : الذين إذا أصابهم الإيمان والكفر فقالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون. فبهذا علمنا أن المعنى هو ما ذكرنا من محن الدنيا وآفاتها ، ولو كان على ما تأوله الجاهلون ما سمي مصيبة ، ولا أمرهم بالصبر عليه للعلة التي شرحت لك ، كيف يجوز أن يأمرهم بالصبر على الكفر ويبشرهم بالثواب؟! هذا أحول المحال.

واحتجوا أيضا بقوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠] ، فصدق الله ، لو لا أنه يشاء لهم التعريف بالإيمان والكفر ، ودلهم على ما عرفوه فعرفهم به ، وأرسل إليهم المرسلين وحضهم على اتباعهم ، ما عرفوا الإيمان من الكفر ، والرضى من السخط ، ثم قال في ذلك : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٦] ، فهذه إرادة الله ومشيئته في خلقه ، لا ما قال به الجاهلون.

ومما احتجوا به أيضا : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ، فتأولوا ذلك على أحكم الحاكمين بأقبح التأويل ، ولعمري لو نظروا ما في الآية من قبل هذا الكلام لأسفر لهم الأمر ولعرفوه. ألا ترى كيف يقول سبحانه : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٥] ، يخبر عز ذكره أن ذلك الشقاء والسعادة إنما تكون في ذلك اليوم يعني يوم القيامة لا أيام الدنيا ، ولعمري أن يوم القيامة ليوم التغابن والحسرة والندامة ، فمنهم ذلك اليوم شقي وسعيد ؛ شقي قد شقي بعمله وبما وقع عليه من حكم الله له بالعذاب ، وسعيد قد سعد في ذلك اليوم بعمله وبما قد حكم الله له به من الثواب. والشقي أشقى الأشقياء من شقي في ذلك اليوم ، والسعيد أسعد السعداء من سعد في ذلك اليوم. وإنما أخبر الله سبحانه عن

__________________

(١٧٣) أي نموها وزيادتها.

٢٤٣

شقائهم وسعادتهم في ذلك اليوم ، لا في الدنيا ، ألا ترى كيف يقول : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود : ١٠٣] ، يعني يوم القيامة ، ولو كان الأمر على ما ظنوا لكانت المخاطبة عند أهل اللسان والمعرفة على غير هذا اللفظ ، وكان اسم الشقاء والسعادة قد انتظمهم قبل ذلك اليوم ، وكانوا مستغنين عن إرسال الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم ، ولم يكن لله سبحانه عليهم حجة إذ كان المشقى لبعض والمسعد لبعض ، والمدخل لأهل الشقاء في المعصية ، ولأهل السعادة في الطاعة. هذا أقبح ما نسب إلى الله وقيل به فيه ، فنعوذ بالله من الضلالة والعمى ، ونسأله الرشد والهدى.

ومما يحتجون به أيضا ، قول الله سبحانه : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣] ، يقول : بفعلهم وعملهم حق عليهم قولي وثبتت عليهم حجتي ووقع بهم العذاب ؛ لأن قولي وحكمي بالعذاب قد سبق مني على من عصاني ، ثم قال : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [السجدة : ١٤] ، فصدق الله عزوجل ، لو شاء أن يهديهم جميعا من جهة الجبر لهم لفعله ولم يغلبه ذلك ، ولكن لم يشأه سبحانه إلا بالتخيير والاختيار ؛ لأنه لو جبرهم على ذلك وأدخلهم فيه غصبا كان المستوجب للثواب دونهم. ألا ترى إلى قوله في آخر الآية متبرئا من فعلهم : (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، ولم يقل : بمشيئتي لكم ، ولا : بقضائي عليكم ، ولا بإرادتي فيكم ، ولا : بإدخالي لكم في القبيح من الفعل. فافهم ، وفقك الله ، ما شرحت لك.

والنسيان من الله ، هو : الترك لهم والإمهال ، تقول العرب : نسيت الشيء ونسأته أي : تركته ولم أفعله.

ومما يحتجون به أيضا قول الله سبحانه : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩] ، فصدق الله ، لو شاء ذلك لأمكنه أن يكرههم على الإيمان إن شاءوا أو أبوا ، ولم يكن ذلك بغالب له ، ولا ما هو أعظم منه ؛ إذ كان ذلك معجزا وغالبا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا يقدر على ذلك منهم ، ولا يمكنه فيهم ، فأخبر الله سبحانه أن ما لا تقدر عليه لو أراده هو من جهة الجبر والإكراه ، لأمكنه ، ولكنه لم يرده إلا من جهة التخيير منهم والاختيار والرغبة لما استوجبوا

٢٤٤

بذلك الفعل بثوابه وعقابه. فافهم ذلك وميزه إن شاء الله.

ومما يحتجون به قول الله سبحانه : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النساء : ٧٨] ، فصدق الله عزوجل في قوله ، غير أنهم لم يفهموا التأويل ؛ لأنه يقول سبحانه : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [آل عمران : ٧] ، وليسوا من أولئك. وإنما أراد الله عزوجل أن ينقض على الكفار قولهم لأنه إنما كان الكفار إذا أصابهم مما يحبون من جميع الخير مثل : الخصب ، وزكاء الزرع ، وكثرة النسل ، ابتداء لهم من الله بالإحسان والمن ، وتوكيدا للحجة عليهم والإنعام ، قالوا : هذا من عند الله ؛ وإذا أخذهم الله بشيء من فعلهم ، وخبث نيّاتهم ، وعظم جرمهم ، وإكذابهم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولما جاءهم به ، وابتلاهم الله بنقص الخصب ، وقلة المطر ، والزرع ، والنسل ، قالوا : شؤم محمد ، ومن معه. فأخبر الله سبحانه أن هذه الزيادة والنقصان في جميع ما ذكرنا من الله فقال : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، ثم شرح ذلك مبينا للخبر : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٨ ـ ٧٩] ، يقول : ثواب من الله سبحانه لكم على ما كان من الطاعة ، وخزي وعقاب منه سبحانه لكم على ما كان من أنفسكم من المعصية والعمل القبيح ، وترك الائتمار لأمره ، فيقول : ما أصابكم من الزيادة فيه والصلاح فمن نعم الله عليكم وتفضله وإحسانه إليكم ، وما أصابكم من نقصان ذلك وفساده فمن قبيح أعمالكم وسوء نياتكم ، وإصراركم على المعاصي ، وإنما دخل عليكم من أنفسكم لما فعلتم ما فعلتم حتى وجب الشنآن (١٧٤) عليكم بذلك الفعل من الله سبحانه ، وهذا تفسير ما جهلوا من ذلك.

ومما يحتجون به أيضا ، قول نوح عليه‌السلام لقومه عند ما جادلهم في الله ، فأكثر ، فقالوا : (يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [هود : ٣٢] ، فقال نوح عليه‌السلام : (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [هود :

__________________

(١٧٤) الشنآن : البغض.

٢٤٥

٣٣ ، ٣٤] ، يقول لهم صلى الله عليه : إن جدالي ونصحي لا ينفعكم إذا جاءكم عذاب ربكم ونزل بكم ؛ لأنه لا يرد عذاب الله سبحانه إذا نزل بقوم ، وهي سنته في الذين خلوا ، لا يقبل توبتهم إذا نزل العذاب بهم. وكذلك إذا أراد الله أن يغويكم ؛ فالإغواء من الله العذاب ، فيقول : لا ينفعكم نصحي إذا نزل بكم إغواء الله وهو عذابه ، كما قال عزوجل في موضع آخر : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم : ٥٩]. ولم يرد نوح عليه‌السلام بالإغواء ما تأوله الجاهلون من الضلال لهم وإمدادهم بالغي والتمادي والكفر ، وإنما أراد بالإغواء العذاب النازل ـ ثم كذلك الإغواء في جميع ألسن العرب : لقيت غيا ، أي عذابا وبغيا ، ولقي فلان غيا ـ كل هذا تحذير لهم لنزول العذاب بهم ، وأنه لا تنفعهم نصيحة إذا نزل العذاب بهم ، لم يصرف عنهم ، كذلك قال الله سبحانه : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) [غافر : ٨٥]. وكثير مثل ما ذكرنا في القرآن مما احتجوا به وتأولوه على غير ما أنزل الله ، وفي فساد ما أفسدنا عليهم من تأويلهم فيما ذكرنا واحتججنا عليهم به ما يغني عن كثير من حججهم وقبيح تأويلهم وباطل قولهم.

ما يستدل به أهل العدل على أهل الجبر

وقد قال الله سبحانه محتجا على من نسب مثل ما نسبوا إليه في كثير من القرآن ، وفي مواضع هي أكثر مما احتجوا به وتأولوه ، فقال سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل : ٩٠].

وقال عز ذكره مكذبا للمشركين ولمن قال بقولهم ، ومحتجا عليهم ومخبرا بإفكهم وعوارهم : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٢٨].

ثم قال عز ذكره : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) [التوبة : ١١٥] ، ينفي عن نفسه عزوجل ما أسندوا إليه من خلقهم شقيا وسعيدا ، ومن أن يضلهم بعد أن كان منه من الابتداء لهم بالإحسان والدعاء ، والدلالة على الهدى ،

٢٤٦

وعلى ما يحب وعلى ما يكره ، وما يحذرون ، وما يتقون ؛ فإذا تبين لهم ذلك ، فصدوا عنه حقت عليهم كلمة الضلال ، وحاق بهم الإضلال من الله بذنوبهم ودنيء فعلهم. ثم نسب من نسب إليه هذا القول وقال به عليه إلى قول الذين أشركوا : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٨ ـ ١٤٩] ، يقول : مثل هذا القول قاله الذين من قبل هؤلاء حتى نزل بأسنا وذاقوه ، وذلك أنهم كانوا يعملون الخبائث والمعاصي ، فإذا نهوا عنها وقال لهم أنبياؤهم ومن يتبع الأنبياء : لا تفعلوا ، ولا تعصوا ربكم ؛ قالوا : لو شاء ما أشركنا ، ولكنه أدخلنا في المعصية وقضاها علينا ؛ فأخبر الله عزوجل أن ذلك ليس كذلك ، وأنهم كانوا في ضلال وتكذيب لمن يقول لهم : إن الله لم يأمرهم ولم يقض عليهم بالمعصية ؛ حتى ذاقوا بأسه وهو عذابه. وتبرأ من ذلك ، وعلم أنه لو كان شاء لهم الإشراك ما نزل بهم بأسه. ثم قال محتجا عليهم : (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) ، يقول : من علم عن الله فبينوا لنا أن هذا الفعل والقول والمشيئة من عند الله. ثم قال مكذبا لهم أيضا : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٨] ، يقول : إن يتبعون إلا أهواءهم بما يظنون ، وإن هم إلا يخرصون ، أي يكذبون في قولهم على أنه شاء لهم ومنهم الكفر ، وأنه لو شاء ما أشركنا ، ولكنه أدخلنا فيه ومنعنا من الدخول في الطاعة. ثم قال : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩] ، يقول : فلله الحجة بما قدمه إليهم ودعاهم إليه ، وأنذرهم على ألسن رسله صلوات الله عليهم. ثم قال : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) ، يعني يجبركم جميعا على الهدى ، ولكنه لم يشأ ذلك إلا بالتخيير منكم والاختيار له ، وكذلك أرسل إليكم الرسل ، وأمركم بطاعتهم وحذركم معصيتهم ، ولو شاء لكم الإيمان بالجبر منه والإكراه والمنع لكم ما احتاج أن يرسل إليكم رسله ولا يدعوكم إلى طاعته ؛ لأنه إذا أجبركم على ما يريد ولم يمكّنكم ولم يفوضكم ولم يجعل لكم إرادة ولا قوة ولا استطاعة فهو الذي يجبركم على ما يريد ، ولا خيار لكم ولا حاجة له ولا لكم إلى الرسل ، ولا إلى الدعاة ؛ لأنه قد أشرككم فيما يريد من خير وشر ، ومن كانت هذه حاله فإنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، غير ملوم في عمل الشر ، ولا محمود في

٢٤٧

عمل البر ولا حجة عليه ؛ فإن عذب على قبيح فقد ظلم ، وإن أثيب فلم يستأهل ثوابا على جليل الطاعة ، وليست هذه الصفة من صفة الحكماء.

ألا ترى إلى قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات : ٥٦ ـ ٥٧] ، فأخبر سبحانه أنه لم يخلقهم إلا لعبادته ، ولم يخلقهم لمعصيته ، ولم يشق ولم يسعد ولم يجبر ، ولم يطبع أحدا على شيء من هذا ، ولم يسم مؤمنا ولا كافرا إلا بإيمانه وكفره وفعله ، لا بخلقه عزوجل ؛ لأنه ليس بظلام للعبيد. ولو طبعهم على شيء من هذا كان المحسن غير محسن ، والمسيء غير مسيء ؛ لأن كل من فعل به شيء وأدخل فيه غصبا كان غير محمود عليه ، ولا مذموما فيه ، وكان المحسن ليس بأحق باسم الإحسان من المسيء ، ولا المسيء بأحق باسم السواية من المحسن ، والتبس الأمر فيما بينهما ، وأمكن لكل أن يدعي ما أحب ؛ لو قال المسيء : أنا محسن ؛ لأمكنه ذلك ، ولما عرف المسيء من المحسن على قولهم وقياسهم.

ثم قال سبحانه : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣] ، يقول : (يَعْمَلْ) ، ولم يقل : عملت به وقضيت عليه ؛ وإنما كان أهل الكتاب ، يعني اليهود وغيرهم من أهل الكتاب يقولون : ليس يعذبنا الله ، نعمل ما شئنا ، نحن أبناء الله وأحباؤه ، فأكذبهم الله وأعلمهم وغيرهم أنه لا يظلم أحدا ، وأنه من عمل شيئا جزي به.

ثم قال سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) [إبراهيم : ٢٨] ، يقول : بدلوا ما أنعم الله به عليهم من إرسال الرسل والدعاة ، والدلالة على الخير كفرا بذلك ، أي جحدوا به ، ودعوا الناس إلى المعصية والكفر به وأحلوهم.

ثم قال مخبرا لهم محتجا عليهم : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأنعام : ١٥١] ، والله أعدل وأحكم من أن ينهى عن شيء وهو منه ، أو ينهى عبدا عن شيء قد أراده ، أو عن شيء لا يقدر على عمله أو على الخروج منه ، أو يأمرهم بشيء لا يمكنهم الدخول فيه ، ولم يكلف الله عباده إلا ما يقدرون عليه ويطيقونه برحمته ورأفته وفضله ، وكل ما نهى الله عنه فليس منه ولم يشأه ، ألا ترى إلى قوله عزوجل : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر : ٧] ، معنى الكفر هاهنا : الجحود له ولنعمه وفضله

٢٤٨

عليهم الذي ابتدأهم به ، وإن يشكروا أي يطيعوا فيعملوا بطاعته يرضى ذلك الفعل منهم ويثيبهم عليه.

ثم قال أيضا : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧] ، يخبر عز ذكره ، ويبين أن الذنوب من العباد بالاختيار والاستحباب منهم ، وأنه قد هداهم فاستحبوا الكفر وآثروه على ما فعل بهم من الهدى ، ثم قال : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى : ٣] ، أي ابتدأ الخلق بما ذكرنا من الدلالة لهم على الخير والهدى.

ثم قال عزوجل لنبيه عليه‌السلام متبرئا من الضلالة مسندا لها إليهم : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) [سبأ : ٥٠] ، معنى ذلك : إن ضللت فإنما أضل من نفسي ، (على) تقوم مقام (من) ؛ لأن حروف الصفات يخلف بعضها بعضا ، وهذا كثير في أشعار العرب ، قال الشاعر :

شربن بماء البحر ثم ترفعت

لدى لجج خضر لهن نئيج

يريد : من لجج ؛ فجعل مكانها : (لدى) ، وكذلك حروف الصفات يخلف بعضها بعضا. أفترى محمدا يضل من نفسه ويهتدي من الله ، وهذا الخلق يضلون من عند الله؟ معاذ الله!! كيف ننسب هذا الفعل القبيح والاسم إلى الله ، والظلم ونبرئ منه أنفسنا ، والله عزوجل يقول : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف : ١٨٠].

ثم قال عزوجل (١٧٥) : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) [الأعراف : ٢٨].

وقال : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] ، ولم يقل : وقضى ربك أن تكفروا به وتعبدوا سواه من الحجارة والنار وغيرهما من المعبودات ، فكان أمره وقضاؤه ومشيئته أن لا يعبدوا غيره ، بالتخيير من العباد لا من جهة الجبر لهم على تركها ، فقال : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) [الإسراء :

__________________

(١٧٥) في (ب) : عز ذكره.

٢٤٩

٣١] ، ثم قال أيضا : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢] ، ثم قال عزوجل : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) [الإسراء : ٣٣] ، (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء : ٣٤] ، ثم قال : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦] ، ثم قال : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) [الإسراء : ٣٩] ، أفترى الله سبحانه قضى أن يجعل معه إلها آخر ورضي ذلك أو أراده أو شيئا مما ذكرنا من قتل المشركين أولادهم ، ثم عظّم ذلك وذم عليه فاعله أشد الذم ، ورضي بالزنا ثم قال : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) ، وبقتل النفس بغير حق ، أو بأكل مال اليتيم ، أو الكذب ، ثم قال : (كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً). فإن كان قضاه سبحانه ، فكيف يسألهم عن شيء هو فعله بهم؟ وإن كان منهم فالسؤال لازم لهم والحجة عليهم. وإن كان منه ، فكيف يسألهم عن فعله؟! هو سبحانه أعلم بما يفعل بهم منهم بأنفسهم.

انظر إلى تبيان ذلك ، كيف يقول : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف : ٤ ـ ٦] ، أفترى الله ، سبحانه وتقدست أسماؤه ، قضى وأمر وشاء وأراد أن يقول الجاهلون : إنه اتخذ ولدا ؛ ثم قال : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ)؟ فكيف تكون كبيرة وهي قضاؤه وأمره؟ ثم قال : (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) ، فكيف يقضي عليهم سبحانه بالكذب أو يكذب نفسه؟ تعالى عن إكذاب نفسه وظلم عباده ، فهو يتبرأ منه وينسبه إلى عباده. ثم قال لنبيه عليه‌السلام عند ما عظم إشراكهم عنده : لعلك باخع نفسك إن لم يؤمنوا ، فلا تفعل بنفسك ذلك ، فإنا قادرون على جبرهم وقسرهم على الإيمان.

ثم قال : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) [الكهف : ٢٩] ، فقال مفوضا إليهم : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ، أفتراه قال هذا القول ، وقد منع الكافر من الدخول في الإيمان ، وحال بين الفريقين ، وبين المشيئة والاختيار لأنفسهم ، ثم قال ساخرا منهم مستهزئا بهم : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ)؟ معاذ الله ما كان ربي بظلام للعبيد ؛ لكن مكّنهم وأعطاهم

٢٥٠

من القوة والاستطاعة ما مكّنهم به من الإيمان والكفر ، ورغّبهم وحذّرهم ومكنهم وفوضهم ، ثم قال حينئذ : من شاء الكفر فقد جعلت السبيل إليه ، ومن شاء الإيمان ، فقد جعلت له الطريق. ثم أعلمهم أن الكفر ظلم لأنفسهم ، وأنه قد أعد للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ، زيادة لهم في الوعيد على معاصيه ، ثم قال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف : ٣٠] ، فأخبر أنه لا يضيع أجرهم إذا عملوا حسنا ، ترغيبا منه لهم بالوعد على طاعته ، وترك معصيته ، ولو كان قضاه عليهم ، ما قال : عملوا ؛ لأنهم مجبرون على ذلك الحسن ، ومن جبر على شيء فغير محمود فيه ، ولو كان ذلك كذلك لم يقل : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) ، كيف يكونون أحسنوا عملا ، وهو المحسن بهم والحاتم عليهم ، ثم ما أقبح ما أسند أهل هذا القول إلى الله سبحانه.

ثم قال : (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [النور : ٢١] ، فأخبر سبحانه أن الفحشاء والمنكر من الشيطان ، وتبرأ منهما ونسبهما إلى غيره ، ووعد من اتبعه العذاب ، فالله يبرئ نفسه من كل ظلم وفحشاء ومنكر وباطل وإضلال ، والجاهلون يلزمونه ذلك.

وقال : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) [الفرقان : ٤٣] ، كل هذا يخبر عنهم بالقدرة على المعصية والفعل لها ، وأن ذلك ليس منه ولا أراده ؛ لأنه أكرم من أن ينهى عن شيء وهو يريده ، أو يأمر بشيء وهو يريد غيره ، أو يحمل العباد عليه. وكل ما نهى الله عنه فليس منه ، وكيف يكون منه ما نهى عنه؟ هذه صفة اللّعابين ، تعالى الله عنها علوا كبيرا.

وقال مخبرا ومخيّرا : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النمل : ٨٩ ـ ٩٠] ، فأخبر سبحانه أنه يجزيهم بفعلهم في الحسنة والسيئة ، لا بفعله بهم وقضائه عليهم ، وأن ذلك منهم وفيهم ، ألا ترى كيف يقول : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)؟ أي لم

٢٥١

يظلمكم ولم يجزكم إلا بعملكم لا بغيره ، توفيقا (١٧٦) منه لهم ، وتبريا من الظلم إليهم. فلو كان قضى ذلك عليهم لما كانت عليهم حجة ولا تبرأ سبحانه من فعله ونسبه إليهم ، إذ كان ذلك أكبر الظلم لهم ، تبرأ الله عن ذلك ، ولم ينزهوه عنه ، فقد ظلموا أنفسهم.

ثم قال أيضا : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [القصص : ٨٤] ، وهذا أيضا القول فيه كالقول في الذي قبله.

ثم قال : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [العنكبوت : ٤] ، يقول : أم حسب الذين يعملون المعاصي أنهم يغلبون ويسبقون إلى العمل بها ، ولو شئنا ما سبقونا إليها ولا فاتونا بها ، فكل هذا يعلم أنه بريء من أفعال العباد ، وأنها منهم بغير أمر له إلا بما فوض إليهم ، ومكّنهم وخيّرهم.

ثم قال لا شريك له : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [العنكبوت : ٦]. وقال : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) [الروم : ٤٤] ، فانظر كيف تبرأ في جميع الحالات من أعمال العباد ، يخبر أنها منهم لا منه ، وأنه يجزيهم بفعلهم وعملهم ، لا بقضائه ولا بفعله ، ولا شيء كان منه مدخلا لهم في شيء من هذه الأعمال.

وقال في قصة لقمان صلى الله عليه : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، أفترى الله سبحانه استعظم الشرك وهو منه ، وقد قضاه وقدره وحتم به على فاعليه ، واستعظمه منهم وهو قضاه عليهم ، وحتمه في رقابهم ، وأدخلهم فيه ، يا سبحان الله!! ما أقبح هذا من القول والصفة في بني آدم ، فكيف في الحكم العدل؟

وقال : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) [المدثر : ٣٧] ، أفتراه لم يجعل فيهم مقدرة على التقدم ولا على التأخر ، وهو يقول : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ).

ثم قال : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد : ٣١] ، وقال : (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس : ١٤] ، فلو

__________________

(١٧٦) هكذا في الأصل ، ولعلها : توقيفا.

٢٥٢

كان الأمر على ما يقول الجاهلون ما كان إليهم تقدم ولا تأخر ، ولا احتاجوا إلى بلوى ولا لينظر عملهم. فكان بكل ما يدخلهم فيه عالما أنهم لا يقدرون على غيره. وأي مشيئة لهم حين يقول : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)؟ وكيف لهم بالتقدم والتأخر وقد منعهم من ذلك ، وحال بقضائه وحكمه عليهم بينهم وبين ما أمرهم به من التقدم والتأخر؟ ـ ومعنى : ننظر ، أي : نحكم عليكم بما يكون من خبركم ـ وكتاب الله كله على ما ذكرت من ثواب الله لعباده ، وعقابه لهم كل (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، و (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، وبما (كانُوا يَجْحَدُونَ) ، و (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) ، لم يقل عزوجل في شيء منه : بقضاي عليكم ، ولا بمشيئتي ولا بإرادتي ، ولا بقدرتي فيكم ، ولا بإدخالي لكم في الطاعة ، ولا بإخراجي لكم من المعصية. كل هذا بين أن ثوابه وعقابه على عملهم ، والكتاب كما قلنا يصدق بعضه بعضا ، ليس من كتاب الله شيء ينقض شيئا ؛ لأنه من حكيم عليم ، ولو لا ذلك لكان فيه الاختلاف ، كما قال سبحانه : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].

ثم قال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس : ٩ ـ ١٠] ، فكيف يقضي بالفواحش ، ثم يقول : (قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)؟ أفتراه خيب نفسه؟! تعالى عن ذلك علوا كبيرا!

ثم قالوا : (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) [ص : ٦١] ، وتعالى عن أن يقول هذا لنفسه ، ولكن قدّمه شياطين الإنس والجن ، ألا ترى إلى قوله : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب : ٦٧] ، اعترافا منهم بذنوبهم ، وأن عملهم وما نزل بهم من العقوبة كان بطاعتهم لسادتهم وكبرائهم ، ولم يقولوا ـ وقد احتاجوا إلى الحجة لعظم ما نزل بهم ـ : ربنا أطعناك واتبعنا قضائك وأمرك ، وما قدّرت لنا. ولو كان ذلك ما تركوا قوله لما لهم فيه من الحجة على الله سبحانه. والسبيل فهو سبيل القصد والخير ، ألا ترى كيف يقول : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] ، يقول : دللناه على سبيل الخير ، فإن شكر فذلك واجب عليه ولنفسه يعمل ويمهد ، وإن كفر بما قلنا به فذلك راجع ضرره عليه ، وإن الله غني حميد عن شكره ، وإنما ثواب شكره راجع عليه ، ونافع له.

٢٥٣

وقال سبحانه : (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) [فصلت : ٢٩] ، أفترى الله سبحانه أراد بهذا القول نفسه أن كان في قولهم هو المضل لعباده؟ سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيرا. ما أفحش ما يسندون إلى الله!!

ألا ترى إلى ما يقول آدم عليه‌السلام ، عند ما كان منه : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ٢٣] ، أفترى آدم عليه‌السلام استغفر ربه من قضائه عليه وقدره وحتمه لمعصيته عليه أم من ذنب عمله هو من نفسه ، والله بريء منه؟ أو ترى أن الله نهاه عن أكل الشجرة ، وقد قضى عليه أكلها وحتمه في رقبته. ولو كان ذلك كذلك ما أقر عليه‌السلام على نفسه بالخطيئة ، ولقال : هذا قضاؤك علي ومشيئتك ، وإنما أخطأت وأكلت من الشجرة ، ولو لا قضاؤك ومشيئتك ما قدرت على أكلها ، فلعلمه بالله أقر صلى الله عليه أن الخطيئة كانت منه ، وبرأ ربه منها ، تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيرا. وكذلك قال موسى عليه‌السلام لما وكز الرجل فقضى عليه ، فقال موسى عند ذلك : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) [القصص : ١٥] ، ولم يقل : هذا من قضاء الله علي ، ولا من تقديره في ، ولا من إضلاله لي ، فبرأ سبحانه من ذلك ، ونسبه إلى الشيطان وإلى نفسه ، فقال : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [القصص : ١٦]. فهذا قول أنبياء الله يلزمون أنفسهم الخطايا ، ويبرءون من ذلك خالقهم ، والجهال يبرءون أنفسهم من ذلك ويلزمون الذنوب خالقهم.

وانظر إلى قول الله سبحانه : (حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) [الزخرف : ٣٨] ، أفترى الله سبحانه يعني نفسه بذلك أم يعني مجترم الذنب؟ تعالى الله من أن يضل أحدا أو يكون له أحد قرينا.

ثم أخبر عن كفرهم وقولهم الكذب على الله ، وأنه غير راض بذلك ، فقال : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الصافات : ١٥١ ـ ١٥٢] ، أفترى الله أمرهم بالكذب عليه وقضاه عليهم ثم تبرأ من شيء هو فعله ، ورمي به غيره سبحانه؟ ألا ترى كيف يقول عزوجل : (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [النساء : ١١٢] ، أفترى الله عزوجل بهتهم بما لم يفعلوا ، وظلمهم بما لم يعملوا ، ووصف نفسه باحتمال البهتان والإثم

٢٥٤

المبين؟ كذب من قال على الله بهذا القول.

وقال تقدست أسماؤه : (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [الزمر : ٤١] ، فبين لهم أنه بريء من فعلهم ، وأنه إنما يجزيهم بما يكون فيهم بعد التبيين لهم ، والترغيب والتحذير : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤٢] ، أي من أهلك نفسه بالمعصية بعد ما عرفها فهو الهالك المهلك لها ؛ لأنه مدخل لنفسه فيها ، ومن أحياها بالطاعة فقد عرف طريق الطاعة بما قلناه من تعريف الله لهم الطريقين ، وهدايته لهم النجدين ، لكيلا يكون لأحد على الله حجة.

ثم قال عزوجل : (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) [طه : ٦١] ، أفتراه يعني نفسه بهذا السحت؟! ثم قال : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) [النساء : ١٧١] ، أفترى الله نهاهم عن قبيح اللفظ به وهو أمرهم به؟ وكره منهم أن يقولوا : (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣] ، وهو قضاه عليهم وشائه منهم ، وأراده لهم؟! جل الله عن هذه الصفة المشبهة لصفات اللعابين المتلعبين.

وقال أيضا لنبيه عليه‌السلام : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [التحريم : ١] ، أفترى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حرم ما أمر الله بتحريمه ، وقدره عليه وقضاه له ثم يستخبره عن ذلك التحريم فينهاه عنه ويعاتبه فيه ، ويعيبه عليه ، وهو الذي أدخله فيه وقضاه عليه؟! معاذ الله أن يكون هذا أبدا ، لكن هذا التحريم كان من فعل محمد لا من فعل الله. ألا ترى إلى أمر الله سبحانه له بترك ما لم يرضه من فعله في ذلك ، وأمره أن يرجع إلى ما أحل له ، ويكفر يمينه ، فقال : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) [التحريم : ٢].

ثم قال سبحانه : (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ) [ق : ٢٣ ـ ٢٦] ، ثم قال سبحانه : (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ٢٧ ـ ٢٩] ، وقال : (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ، أفترى الله سبحانه الذي أضله وأمره أن يجعل معه إلها آخر ثم يقول (فَأَلْقِياهُ) ، يعني : الضال والمضل؟ أفتراه أراد بهذا نفسه؟ إذ كان في قولهم

٢٥٥

أنه المضل لهم والمدخل لهم فيما دخلوا فيه من خير وشر ، فكيف وقد تبرأ في آخر الآية ، فقال : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) ، ولم يقل سبحانه : لا تخاصموني ولا تحتجوا عليّ ؛ لأنهم لم ينسبوا إليه شيئا من الظلم ولا من الضلال لهم ، ولا من إدخالهم في شيء مما نهاهم عنه ، وإنما نسب ذلك بعضهم إلى بعض. ولو نسبوا إليه كانت الخصومة معه لا مع غيره ، وكانت الحجة لهم ، والقول عليه ؛ ألا ترى إلى قول المذنب الذي جعل مع الله إلها آخر كيف يلزم الذنب غير ربه؟ وكيف لم يقل : أمرني ربي أن أجعل معه إلها غيره؟ ثم قال : (كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) ، أفترى أن هذه الصفات القبيح وصف الله بها نفسه؟! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!!

ثم قال سبحانه : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) ، أفترى الله سبحانه (١٧٧) أراد بذكر الشركاء غيره من المغوين أم نفسه بهذا التزيين؟ فإن كان شركاؤهم هم غيره ، فقد برأ نفسه سبحانه أن يضل ويزين شيئا (من المعاصي لأهلها ، وإن كان هو الشركاء فقد عنى إذا نفسه) (١٧٨) بهذا القول ، وهذا غير معروف في اللغة ، يذكر غيره ويخاطبه وهو يريد بالذكر نفسه ، هذا محال في القول لا يقبله العقل.

وانظر إلى قوله فيما يحكيه عن الهدهد ، فقال : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) [النمل : ٢٤] ، ولم يقل زيّن الله لهم السجود للشمس ، ولا أنه صدهم عن السبيل.

وكل نبي أو غيره ممن عقل يبرئ الله سبحانه من الذنوب ويستغفره منها ، ويسند الخطأ فيها إلى نفسه ، ألا ترى إلى قوله سبحانه لموسى صلى الله عليه : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ

__________________

(١٧٧) ساقط من (أ).

(١٧٨) ساقط من (أ).

٢٥٦

وَالْأُولى) [النازعات : ١٧ ـ ٢٥] ، أفترى الله تبارك وتعالى الذي أضل فرعون وأدبره عن الطاعة ، ومنعه أن يتزكى ، وأمره بالتكذيب والعصيان ، وأن يدعي أنه الله الأعلى ، وقد فطره الله على ذلك وحمله عليه ، ثم أرسل إليه موسى صلوات الله عليه ، يدعوه إلى أن يهتدي ويتزكى ، وقد منعه منهما ، وفطره على غيرهما ، وحال بينه وبين العمل بهما ، ثم يرسل إليه من أرسل ، وأنزل به العذاب عند ما كان من سعيه في طاعة الله وأمره؟ هذا أكبر الظلم وأقبح الصفة في المخلوقين ، تعالى الله عما أسند إليه الجاهلون من هذه المقالة الفاسدة الضالة. ألا ترى إلى قول الله سبحانه : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [طه : ٧٩] ، ينسب الضلالة إلى فرعون والإضلال ، ويبرئ منها نفسه.

وانظر أيضا إلى قوله عزوجل : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) [البقرة : ١٧٥] ، يقول سبحانه : استحبوا الضلالة على الهدى ، والعذاب على المغفرة ، ممثلا في ذلك بالبيع والشراء ؛ لأنه في كلام العرب هذا المثل.

وانظر أيضا إلى قوله في ابن آدم : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) [المائدة : ٣٠] ، ولم يقل سبحانه : قدرته ولا قضيته عليه ، ولا أمرته ولا رضيته منه ، بل برّأ نفسه من فعله ، وألزم المعصية أهلها وفاعلها ، ألا ترى إلى قوله : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أخبر أن ذلك الفعل من نفسه لا من غيرها.

وانظر إلى قوله تبارك وتعالى ، يحكي عن نوح صلى الله عليه : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) [هود : ٤٥] ، أفتراه قضى هذا القول على نوح ، ثم عابه عليه وعنفه فيه ، فقال : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦]. وانظر إلى تنزيه نوح عليه‌السلام لخالقه من ذلك ، وإلزامه الذنب نفسه ، فقال عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) [هود : ٤٧] ، فأخبره أن هذه المسألة منه ، فاستغفر منها (ولم يقل إنه قضاؤك وقدرك عليّ ، ولو كان قضاء الله عليه ما استغفر منها) (١٧٩) ، كيف يستغفر الله من فعله؟ إنما يتوب العباد إلى الله ويستغفرونه من أفعالهم لا

__________________

(١٧٩) ساقط من (ب).

٢٥٧

من فعله ، كذلك كل فاعل قبيح يتوب منه ويستغفر ربه من فعله ، ولا يستغفر ربه من فعل غيره ، ولا يلزم الله من فعل غيره شيئا.

وانظر إلى قوله عزوجل لنبيه عليه‌السلام : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) [النساء : ١٠٥] ، أفترى الله سبحانه نهى نبيه عليه‌السلام عن شيء هو يريده وقد قضى عليه فعله ، وأمر نبيه بترك شيء لا يقدر على تركه؟ لو كان ذلك كذلك ما نهاه عنه ، لعلمه أنه لا يقدر على تركه. وكثير في كتاب الله عزوجل مما نهى عنه أنبياءه وعابه عليهم وعاتبهم عليه ، أفترى الله سبحانه عاب ذلك عليهم ، وكرهه من أفعالهم ، وهم لا يجدون إلى الخروج سبيلا؟ أو عاتبهم عليه وهو يعلم (١٨٠) أنهم يطيقون رفضه والخروج منه ؛ فكذلك عاتبهم عليه وذمه من أفعالهم.

وانظر إلى ما يقول لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) [الشعراء : ٢١٣] ، أفتراه نهاه عن شيء يقدر عليه ، أو عما لا يقدر عليه؟ فإن كان نهاه عن شيء يقدر على تركه فالحجة لله سبحانه قائمة على خلقه. وإن كان نهاه عن شيء لا يقدر عليه فليس لله على خلقه حجة ، إذ كانت حاله كحالة من يدعى إلى ما لا يطيق ، وكلّف ما لا يقدر عليه ، وعذّب بذلك مظلوما. وكيف يكون ذلك كذلك والله سبحانه يقول : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء : ٢٩] ، فأين الرحمة ممن كلفهم ما لا يطيقون ، وافترض عليهم ما لا يقدرون على تأديته ، لمنعه لهم منه ، وحجزه إياهم عنه؟ كذب من قال على الله بهذا القول وخاب في الدنيا والآخرة.

ألا ترى كيف يخبر عن تمكينه لعباده وتخييره لهم وعن تخيره لهم ، وعن الاستطاعة والقدرة التي مكنهم بها من العمل للطاعة والمعصية ، فقال : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [المائدة : ٦٥] ، ثم قال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) [المائدة : ٦٦] ، ثم قال : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ

__________________

(١٨٠) في (ب) : عالم.

٢٥٨

السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف : ٩٦]. فانظر إلى قوله : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) ، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا) ، وهذا في القرآن كثير يدل عند أهل اللغة والمعرفة والنصفة على أنهم ممكنون مفوضون قادرون على ما أمروا به من العمل به والترك لما نهوا عنه ، وكثير مما في كتاب الله عزوجل يشهد لنا بما قلنا ، كرهنا بذكره التطويل عليك.

فميز يا بني ، علمك الله ، ما قد شرحت لك من هذا القول ، وتدبر ما حكيت لك من قول الكذابين على الله ، يبن لك الصدق ، وتعلم الحق ؛ لأنه واضح مبين لا يخفى على أهل المعرفة والعقل ؛ لأن العقل أكثر حجج الله سبحانه على عباده ، ولذلك لم يخاطب إلا ذوي الألباب والعقول ، وإياهم قصد بالأمر والفرض والنهي ، وأسقط جميع ذلك عن المجانين والصبيان الذين لا عقول لهم. فسبحان البر الرحيم بعباده ، المنصف لهم ، المتفضل عليهم بالإحسان ، الدال لهم على الإيمان ، المبتدي لهم بالنعمة قبل استحقاقها ، المعافي لهم من النقم بعد وجوبها.

واعلم ـ يا بني ـ أن جميع من قص الله عليك نبأه في كتابه من المخاطبين الأنبياء عليهم‌السلام فمن دونهم مقرون بالذنوب ، معترفون بها ، مستغفرون الله سبحانه من جميع ذلك ، وفي أقل مما ذكرت أكثر الحجج ، وأبلغ الكلام ، وأجمل الموعظة ، وأحسن الهداية عند من عقل وأنصف.

حجج العقل لأهل العدل والتوحيد

ومن أكبر الحجج عليه ما يصح ويثبت عند أهل النّهى أنهم زعموا أن جميع ما في الأرض من خير أو شر الله قضاه وأراده وشاءه وقدره. وفي الأرض من يقول : إن الله ثالث ثلاثة ، وأن له سبحانه ولدا وصاحبة ؛ ومنهم من يقول : أنه لا رب ولا خالق ، وأن الأشياء لم تزل كذا : ليل ونهار ، وشمس وقمر ، وسماء وأرض ، ومطر وصحو ، وموت وحياة ؛ ومن ينكح أمه وابنته واخته وعمته ، وكل ذي رحم محرم عليه ، ويأتي كل قبيح من الفعل رديء ، ويغشى الفواحش ما ظهر منها وما بطن ؛ ويقول : إن ذلك من الله ومن

٢٥٩

قضائه وإرادته ومشيئته ، وأن كل عامل عمل منه شيئا فبأمر الله ورضاه وإرادته.

فيا سبحان الله!! ما أعجب هذا من قول وأشنعه! وأحمق من زعم أن أحدا ما (١٨١) يعمل شيئا مما ذكرنا لله عاص! وما أجهل من ذكر المعصية!

كيف تكون المعصية عندهم؟ ومن صلّى ومن زنا كلاهما مطيع لله ؛ قضى لهذا بالصلاة ، وقضى على هذا بالزنا. فكل من عمل شيئا من الأشياء حسنا أو قبيحا ، إيمانا أو كفرا ، أو غيرهما من الأشياء كلها ففاعل ذلك الشيء مؤد لأمر الله وقضائه ، مستعمل نفسه في أداء مشيئته وإرادته. فليس على وجه الأرض عاص ، ولا تعرف المعصية من الطاعة ، ولا يعرف من يقع عليه اسم الطاعة ، ولا اسم المعصية ، ولا من يستحقه.

وكيف يكون من سعى في إرادة الله عاصيا؟! لا يعرف هذا الكلام في شيء من لغة العرب ولا العجم ، ولا اسم المعصية التي ذكرها الله في كتابه ، وسمى قوما عصاة ، وسمى من عمل به عاصيا ، وبطل كل ما جاء في الكتاب من ذكر ذلك ، على قولهم وقياسهم ، وكل ما جاء لغير معنى ؛ إلا أن تكون المعصية غير هذه الأشياء كلها التي نعرفها ونعقلها ، مكنونة عند الله لم يبينها لنا ، ولم يشرحها ولم يدلنا عليها ؛ غير أنه قد حذرنا العصيان ولم يعرّفناه ، وعرفناه وعرفنا الإحسان والطاعة وحدهما. فنحن للعصيان منكرون ، إذ كان أكبر الفواحش هي التي عددنا ، وهي عند أهل القبلة أشد الكفر ، وقد سموها جميعا كبائر من العصيان والذنوب.

وزعم هؤلاء أن الله شاءها وأمر بها وأرادها ، فما كان سواها وسوى ما سموا كبائر فأمره أقرب وهو أهون ، ولا يرى معصية ولا عاصيا ؛ إذ كان ما كان مضادا لما ذكرنا من الصلاة والصيام ، والحج والإيمان ، وجميع أعمال البر الله شاءها وقضاها وأمر بها ، فلا ترى بين المنزلتين فرقا ولا عنهما تأخرا ، كلاهما فرض ، وكل من عمل شيئا من الفعلين فهو لله مطيع ، والله بفعله راض ، وليس على وجه الأرض لله عاص ، كلا الفريقين مجتهد في أداء ما فرض الله عليه. فلا بد لمن قال بهذه المقالة أن يبين المعصية ، أين هي؟ وإلا فهو مبطل

__________________

(١٨١) هكذا في (أ) ، وفي (ب) : مما.

٢٦٠