مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

فلما أن أبعد الشيخ رقّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورحمه لما بان له من ضعفه وقلة حيلته وكبر سنه ، فرده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : لك السدس الآخر.

فلما أن مضى الشيخ وأبعد رده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانية ، فقال : إن السدس الثاني مني طعمة لك.

فبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان منه وبين ما كان من الله ، فلما أن قال : «السدس الثاني طعمة مني» ، علمنا أن السدس الأول حكم من الله ، فبين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعله من فعل الله عزوجل ؛ لأن لا يقع على الأمة تخليط في دين الله ، ولأن يبين لها أحكام ربها وفعله ، لكيلا يكون لها عليه في شيء من الدين حجة. وكذلك كان عليه‌السلام يفعل في كل ما كان منه من تأديب أمته ، وأفعاله فيها وسياسته لها ، يبين فعله من فعل الله ، ويخبر بما جاء به عن الله.

وكذلك ما كان من فعله وكراهيته من حمل الحمير على الخيل ، وذلك قوله لعلي رحمة الله وصلواته عليهما حين قال : مما تكون هذه البغال؟

فقال : يحمل الحمار على الفرس ، فيخرج من بينهما بغل.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون.

أو قال : الذين لا يعقلون. فكره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تحمل الأشكال إلا على أشكالها ، أو أن تخلى الفحول إلا على أمثالها ، فكان هذا منه كراهية واختيارا ، ولم يكن هذا شيئا مما أتاه من الواحد الجبار.

ومثل هذا مما كان من رأيه وفعله ولم يأته في كتاب الله ولا في سنته مما كان يستحبه ويفعله من نوافل صلاته ، وتعبده من بعد الفرائض المفروضات ، لما كان يتعبد من النوافل المعروفات ، اللواتي كن منه اختيارا وعبادة ، يطلب بذلك من الله الفضيلة والزيادة ، كان ذلك منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استحسانا لنفسه ، ولم يكن فرضا من الله لا يسع تركه ، ولا يجب على من تركه الكفر بربه ، لأن بين الفرض وغيره من النوافل فرقا بينا ، وفضلا نيرا ، فكثير يعلمه العلماء ، ويفهمه الفهماء ، ليس بلازم واجب على المتعبدين ؛ إذ لم يكن فريضة من الله رب العالمين ، إن أخذ به آخذ فقد أخذ بركة ويمنا ، واتبع فضلا

٤٨١

ورشدا ، وإن تركه تارك من غير زهد فيه ، ولا قلة معرفة بفضله ، ولا استخفاف لحق (٤٧٠) فاعله (٤٧١) ، ولا اطراحا لرأي صانعه ، ولا مضادة له في فعله ، لم يكن بتركه له في دين الله فاجرا ، ولا بعهد رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم غادرا.

فافهم هديت ما به في السنة قلنا ، وأحسن الفكر والتمييز فيما منهما شرحنا ، تبن بذلك إن شاء الله من الجهال ، وتبعد بمعرفته من اسم الضلال ، وتسلم بحول الله من قول المحال ، والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطيبين وسلم كثيرا.

تم كتاب السنة ولله المنة

__________________

(٤٧٠) في (ب) : بحق.

(٤٧١) يريد بفاعله هنا الآمر به ، أي فاعل الأمر. والله أعلم.

٤٨٢

مسألة في الإمامة

بسم الله الرحمن الرحيم

بما وجب على الخلق طاعة أهل البيت

سألت يا أبا عبد الله ـ حفظك الله ووفر في الخيرات حظك ـ عن المعنى الذي وجبت به لنا على الخلق الطاعة ، ووجب به علينا جهاد من أبدى لنا المعصية ، وثبتت به لله سبحانه في ذلك علينا الحجة ، حتى حكمنا بالهلكة على المخالفين عن دعوتنا ، وبالنجاة للمسلمين لأمرنا ، الساعين في طاعتنا ، حتى سمينا من قتله الظالمون منّا شهيدا ، وحكمنا له بالوعد الذي وعد الله الشهداء وسمينا من قتلنا نحن من الظلمة كافرا متعديا ، وحكمنا عليه باستحقاق الوعيد من الله الأعلى.

وهذا أكرمك الله فقد وجب لنا على أنفسنا السؤال عنه ، والبحث لها فيه عند ما دعتنا إليه من دعاء الخلق إلى طاعتنا ، والمنادات إلى إجابتنا ، وضرب أعناق المحاربين لنا ، وأخذ أموالهم واستباحة ديارهم ، فسألناها فقلنا : ما الذي وجب لك به ذلك؟

فكان من جوابها لنا عند ما احتجنا إليه من علم ذلك منها أن قالت : وجب لي بما وجب للأئمة من قبلي من لدن القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام ومن تقدمه من الأئمة القائمين ، الذين كانوا حججا لله على العالمين سواء سواء.

فقلنا لها : فبما وجبت لأولئك صلوات الله عليهم الطاعة على الخلق؟

فقالت : لوجوب الإمامة التي عقدها الله لهم بأحق الحق ، وأوضح القول والصدق.

فقلنا لها : ولم عقد الله سبحانه الإمامة لأولئك ، وبأي معنى كانوا صلوات الله عليهم عند الله عزوجل كذلك؟

٤٨٣

فقالت : بولادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبمعرفتهم بذي الجلال والإكرام ، وبالورع الذي جعله الله قواما للإسلام ، وبالمعرفة بالحلال عند الله والحرام ، وبما يحتاج إليه في الدين جميع الأنام ، وبأخذ الحق وإعطائه ، وبقلة الرغبة في الدنيا ، والزهد في دار الفناء ، وبالرغبة والمحبة لدار البقاء ، وبكشف الروس ، وتجريد السيوف ، ورفع الرايات لله وفي الله عزوجل ، والمنابذة لأعداء الله ، وبإظهار الدعاء إلى الله ، والغضب لله والرضا ، وإقامة الدار ، والدعاء إلى الواحد القهار ، وإحياء الكتاب والسنة ، وإقامة الحق والعدل في الرعية ، والاطلاع على غامض كتاب الله ووحيه ، الذي لا يطلع عليه إلا من قلده الله السياسة ، وحكم له بالإمامة دون غيره ، فآتاه الحكمة ، وخصه بالفضيلة ، وأكمل له النعمة ، وجعله له على الخلق حجة ، وبالشجاعة عند اللقاء ، والصبر في البأساء والضراء ، وبالجود والسخاء ، مع النصفة للأولياء.

فصدقناها فيما احتجت به من الأمر الذي يجب به من الله سبحانه الإمامة لأهلها ، ويتأكد لهم به من الله عزوجل فرض الطاعة على خلقه. فلمّا أن أجمعنا نحن وهي على أن من كانت فيه هذه الخصال ، وثبت له ما ذكرنا في كل حال ، فقد وجبت له بحكم الله الإمامة ، وتأكدت له بفرض الله على الخلق الطاعة ، أوجبنا على أنفسنا المحنة فامتحناها فيما أجمعنا نحن وهي وغيرنا عليه من الشروط التي تجب بها الإمامة وتثبت بها لأهلها على الخلق الطاعة ، فلم نجدها ولله الحمد عن ذلك منصرفة ، ولا منه معوزة ، بل وجدناها به قائمة ، وبالتسمية به مستحقة (٤٧٢) ، فأجبناها إلى ما دعتنا إليه ، وأعناها بكليتنا عليه ، فصدقناها ولله المن بعد المحنة به. ولك ، يا أبا عبد الله ، أكرمك الله ، علينا من الحجة والسؤال والمحنة مثل الذي كان لنا على أنفسنا ، فانظر من ذلك معنا بمثل ما نظرنا نحن به مع أنفسنا ، فإن وجدت ما وجدنا وشهد عقلك لك في أمرنا بمثل ما شهدت به عقولنا لأنفسنا ، فقد حق لك ما طلبت ، وصح لك ما عنه سألت ، وجاءتك من نفسك البينات ، وأنارت لك من ذلك النيرات. وإن لم تجد الشروط التي نشهد نحن وأنت وكل المسلمين

__________________

(٤٧٢) (وللشهرة به مستحقة) ساقط من (ب).

٤٨٤

بأنها شروط الأئمة الهادين المفترضة طاعتهم ، والمحرمة معصيتهم كنت على بينة من أمرك ، ورخصه من فرضك وراحة من تعبك.

واعلم هداك الله أن الامتحان والنظر لا يكون إلا بالنصفة من المتناظرين ، وطلب الحق عن ذلك من المتسائلين ، وقبول الحق عند ظهوره ، وأخذه بأفضل قبوله ، ونحن ـ أكرمك الله ـ لكل ذلك لك باذلون ، وإليه لك مسرعون ، وله منك محبون ، فهذا الباب الذي وجبت به إمامة كل إمام على جميع من تقدم من أهل الإسلام ، وبه تجب إمامة من بقي من أئمة الهدى إلى آخر أيام الدنيا ، ولن تجب إمامة إمام أبدا لغير ما ذكرنا ، ولن يوجد سبب يثبت لأحد سوى ما شرحنا.

تمّ والحمد لله كثيرا.

٤٨٥

كتاب القياس للهادي عليه‌السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي فطر الأشياء على إرادته ، وجعلها كيف شاء بعزته ، وعم المخلوقين برحمته (٤٧٣) ، ولم يوجد شيئا لغير حكمة ، ولم تعدم منه في الموجدات آثار قدرته ، فكل شيء عليه سبحانه دليل ، فتبارك الله الواحد الأحد الجليل ، الذي لا تعزه كثرة المخلوقين ، ولا ينقصه قلة المربوبين ، الذي لا تتم لغيره الصالحات ، ولا تبلغ شكر آلائه القالات ، ولا تحيط بذكر إفضاله الصفات ، ولا تعروه السنات ، العالم بخفيات الغيوب ، المطلع على سرائر القلوب ، الذي لم يحل بين عباده وبين طاعته ، ولم يدخل أحدا من خلقه في معصيته ، الهادي للسبيلين ، والمبين للنجدين ، والفاصل بين العملين ، المحتج بالرسل على العالمين ، المتفضل على الخلق بالمرسلين ، الذي لم يزده إيجاد الخلق به خبرة ، ولم يترك لهم عليه سبحانه حجة ، الذي لم يزل ولا يزال الواحد الأحد الصمد ، ذو الجلال ، أول الأولين ، وآخر الآخرين ، وفاطر السموات والأرضين ، الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٠٣] ، الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٣ ـ ٤] ، (الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) [الإسراء : ١١١]. وصلى الله على محمد عبده ورسوله ، وأمينه على وحيه ، وخيرته من بريته ، صلى الله عليه وعلى أهل بيته وسلم تسليما.

__________________

(٤٧٣) في (ب) : بنعمته.

٤٨٦

ثم نقول من بعد الحمد لله والثناء عليه ، والصلاة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

سبب اختلاف الأمة هو لرفضها أهل البيت

إن سأل سائل فقال : من أين وقع في هذه الأمة هذا الاختلاف (٤٧٤) في الحلال والحرام؟ حتى صار كل يفتي برأيه ، ويتبع في قوله أئمة له مختلفين ، فيقول في ذلك بأقاويل قوم مفترقين ، فإذا وردت مسألة على وجه واحد أحلها محلل وحرمها محرم ، فكيف يجوز أن يكون معنى واحد مؤتلف ، يأتي فيه قول متشتت مختلف؟ فيحل على لسان مفت لمستفتيه ، ويحرم على لسان آخر على من نظر فيه.

قيل له : وقع هذا الاختلاف (٤٧٥) وكان ما عنه سألت من قلة الائتلاف ، لفساد هذه الأمة وافتراقها ، وقلة نظرها لأنفسها في أمورها ، وتركها لمن أمر الله باتباعه ، والاقتباس من علمه ، ورفضها لأئمتها وقادتها ، الذين أمرت بالتعلم منهم ، والسؤال لهم ، وجعلوا شفاء لداء الأمة ، ودليلا على كل مكرمة ، ونهاية لكل فضيلة (٤٧٦) ، (وأصلا لكل خير) (٤٧٧) ، وفرعا لكل بر ، وفصلا لكل خطاب ، ودليلا على كل الأسباب من حلال أو حرام أو شريعة من شرائع الإسلام. فلما أن تبرأت الأمة منهم ، واختارت غير ما اختار الله ، وقصدت غير ما قصد الله ، فرفضت علماءها ، وقتلت (٤٧٨) فقهاءها ، وأبادت أدلتها إلى النجاة والصواب ، وحارت لذلك عن رشد كل جواب ، ولم تهتد إلى وجه قول من

__________________

(٤٧٤) في (ب) : الخلاف.

(٤٧٥) في (ب) : الخلاف.

(٤٧٦) في (أ) : فاضلة.

(٤٧٧) ما بين القوسين في (ب).

(٤٧٨) في (ب) : وقلّدت.

٤٨٧

الأقوال في حرام ولا حلال ، فضلّت عند ذلك وأضلت ، وهلكت وأهلكت ، وتقحمت في الشبهات ، وقالت بالأقاويل المعضلات ، تخبطا في الدين ، وتجنبا عن اليقين ، ضلالا عن الحق ، ودخولا في طرق الفسق ، ظلما وطغيانا ، وضلالة وعصيانا. تركت ما به أمرت ، وقصدت ما عنه نهيت ، فقال كل واحد منها فيما يرد عليه من الدين بهوى نفسه ، وإرادة قلبه ، وتمييز صدره ، لم يهتد في ذلك بهدى ، ولم يلق فيه مصابيح الدجى ، ولم يسأل عنه أهل البر والتقوى ، ولم يهتد فيه بالأدلاء.

فكان مثلهم فيما فعلوا من ذلك ، كمثل قوم ركبوا مفازة مضلة ، وأخذوا معهم فيها أدلاء بصراء ، حتى إذا توسطوها قتلوا الأدلاء ، فبقوا في حيرة ، عميا لا يهتدون سبيلا ، ولا يعرفون ماء ولا طريقا ، فلم يزالوا فيها محيرين ذاهبين وجائين ، مقبلين ومدبرين ، حتى هلكوا أجمعين ، فكانوا سبب هلاك أنفسهم ، وسبيلا إلى تلفهم ، فذهبوا غير مقبولين ولا محمودين ، بل مذمومين عند الله معذبين.

كذلك مثل هذه الأمة ومعناها ، فيما نالته من فقهائها وأدلائها ، الذين جعلوا لمن تبعهم نورا وهدى ، ودليلا على الله العلي الأعلى ، وهم آل محمد صلى الله عليه وعليهم ، فضلّت الأمة بعدهم ، وهلكت عند مفارقتهم. ولعمري أن لو قصدت لرشدها ، وتعلقت بالحبل (٤٧٩) ، الذي جعل لها متعلقا وكهفا في كل أمر وملجئا لما ضلت عن رشدها أبدا ، ولا وقع اختلاف بين اثنين في فتيا ، ولا اشتبه مشتبه في حلال ولا حرام ، إلا وجدناه عن آل محمد عليه‌السلام ؛ لأنهم أهل ذلك وموضعه ومكانه ، ومركبه الذي ركبه الله عليه ، وجعله معدنا له وفيه ، اختاره لعلمه ، وفضّله على جميع خلقه ، نورا على نور ، وهدى على هدى ، وحاجزا من كل ضلالة وردى ، أئمة هادين ، ونجبة (٤٨٠) مصطفين ، لا يخاف من اتبعهم غيا ، ولا يخشى عمى ولا ضلالا ، محجة الإيمان ، وخلفاء الرحمن ، والسبيل إلى الجنان ، والحاجز عن النيران. تقاة أبرار ، وسادات أخيار ، أولاد النبيين ، وعترة المصطفين ،

__________________

(٤٧٩) من (ب) و (ج) و (د) ، وفي الأصل : (بحبلها).

(٤٨٠) في (أ) : ونخبه.

٤٨٨

وسلالة النبي ، ونسل الوصي ، وخيرة الواحد العلي. مشرب لا يظمأ من ورده ، ودواء لا يسقم من تداوى به ، شفاء الأدواء ، ووقاية من البلاء ، كهف حصين ، ودين رصين ، وعمود الدين ، وأئمة المسلمين ، قولهم صواب بلا خطأ ، وقربهم شفاء بلا ردى ؛ أعني بذلك الطاهرين المطهرين ، والأئمة الهادين ، من أهل بيت محمد المصطفى ، وموضع الطهر والرضى ، الوافين إن وعدوا ، والصادقين إن نطقوا ، والعادلين إن حكموا وبالله التوفيق.

فإن قال السائل عن الخلفة ، المتكلم في الفرقة : أفتقولون إنهم لو قصدوا هذا المعدن في علمهم ، واقتبسوا منه في حلالهم وحرامهم ، لم يضلوا ولم يفترقوا ، ولم يقع اختلاف بينهم فيما به تكلموا؟

قيل له : نعم ، كذلك نقول ، وإليه معنانا يؤول.

فإن قال : فكيف لا تقع الفرقة ، ولا تكون بين أولئك ـ صلوات الله عليهم ـ خلفة؟

قيل له : لأنهم أخذوا علمهم من الكتاب والسنة ، فلم يحتاجوا إلى إحداث رأي ولا بدعة. تكلموا بالكتاب الناطق ، واعتمدوا على الوحي الصادق ، فكان الكتاب والسنة لهم إماما يحتذون حذوه ، ويقتدون في الأمور قدوه ، فثبتت بذلك لهم الألفة ، وزالت عنهم الفرقة.

كل ما تحتاج إليه الأمة في كتاب الله وسنة رسوله

فإن قال السائل : فخبرونا فيما عنه نسألكم ، وأنبئونا عما نسمع من قولكم ، أتقولون : إن جميع ما يدور بين الناس من الحلال والحرام ، وما يرد من أحكام هذه الأمة على الحكام ، وما يجري بينها من القضايا والأحكام في قليل القضاء وكثيره ، وقديمه وحديثه ، وصغيره وكبيره ، هو كله في الكتاب موجود ، وفي قلوب الحكام من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثابت غير مفقود ، فكل ما ورد عليهم سبب من الأسباب ، وجدوه عند وروده مثبتا في الكتاب ، وكان في صدورهم محفوظا موجودا معلوما مصححا؟

قيل للسائل عن ذلك : إن الأصول كلها والفروع المحتاج إليها في

٤٨٩

الكتاب والسنة. فإذا علم العالم ذلك ، وأتى على معرفته ، وعرف مجمله ومحكمه ، وفروعه ومتشابهه ، ونظر في ذلك كله بقلب فهم سالم من الجهل ، بري من الخطل ، بعيد من الزلل ، ثم وردت عليه مسألة استدرك علمها ساعة ترد عليه ، إما بآية ناطقة ، أو شريعة باسقة ، تنطق له بالحكم فيما ورد عليه ، وتبين له ما يحتاج من ذلك إليه بقياس يصح من السنة ، ويثبت في الآيات المحكمة ، وتشهد له الشرائع المشروعة بكون هذا القياس فرعا من فروع الحق ثابتا ، ونورا شاهدا على ما فيه من الصدق ، فيكون القياس ممن علم ما قلنا ، وتفرع فيما ذكرنا ، وفهم ما شرحنا ، قياسا واحدا ، إذ كان له ذلك أصلا مؤصلا ، تخرج هذا القياس وتبينه وتشرعه وتوضحه وتدل عليه وتفرعه حجج الله التي في الصدور المركبة ، للتميز بين الأمور من هذه العقول المجعولة لما ذكرنا ، المركبة لما شرحنا ، من التمييز بين الباطل والحق ، والفرق بين البر والفسق.

فإذا علم الحاكم ما يحتاج إليه من الأصول والفروع لم يخرج كل ما يرد عليه من أن يكون حكمه وقياسه في أصول الكتاب وفروع السنة ، إما شيئا ناطقا قائما قد حكم به المجمل الموصل ، وبينه الفرع المفصل ، فيحكم فيه بحكمها ، ويحتذي العالم فيه بوحيهما. فإن عدم لفظ ما يأتي من الحكم والفتيا ، من أن يكون في المجمل أو المفصل منصوصا مفسرا ، لم يعدم قياسه والدليل عليه ، حتى يقف بالمثل على مثله ، ويعرف الشكل في ذلك بشكله ، ويقيس ما أتى من ذلك على أصله ؛ لأن أصل كل حق وهدى ، وقياس كل حكم أبدا ففي الكتاب والسنة موجودا ، يستخرجه العالم بعقله ، ويستدل على قياسه بمركب لبّه ، حتى يبين له نوره ، ويشرع له طريقه ، ويصح له قياسه على الحق الذي في الكتاب ، تشهد له بذلك شواهد القرآن ، وتنطق له بالتصديق السنة في كل شأن ، فيكون العالم في علمه واستخراجه بما يحتاجه إليه من حكمه من كتاب الله وسنته ، على قدر ما يكون من صفاء ذهنه ، وجودة تمييزه ، واستحكام عقله ، وإنصافه للبّه ، وجودة تمكن علم الأصول في قلبه ، وثبات علم الكتاب والسنة في صدره ، اللذين عليهما يقيس القائسون ، وبهما يحتذي المحتذون ، وإليهما يرجع الحاكمون ، ومنهما يقتبس المقتبسون ، وإليهما عند فوادح النوازل يلجأ العالمون.

فإذا كملت معرفة العالم بأصول العلم المعلوم ، وصحت معرفته بفهم غامض

٤٩٠

الشرائع المفهوم ، فكان لعلمه به واستدراكه لغامضه ، وجودة دراسته وإحاطته بباطنه وظاهره ، قاهرا بحول الله وقوته لما يرد عليه من متشابهه ، عارفا بما يحتاج إليه من قياسه ، مضطلعا بتمييز فروعه ، بصيرا بتفريع أموره ، وكل ما ورد عليه من ذلك وارد أصدره باستدراكه له مصدره ، فصعب العلم على كل من كان كذلك سهل يسير ، وغامضه عنده ـ والحمد لله ـ بيّن منير ، لا يشتبه عليه فيه شبهان ، ولا يستوي في الحكم عنده منه ضدان ، يميز مميزاته بعقله ، ويفرق مفترقاته بلبه ، ويجمع متجمعاته بفهمه ، قد أحكمته في ذلك التجربة ، وأعانته على ذلك الخبرة ، فكلما ورد عليه فرع من الفروع رده إلى أصله ، وكلما ورد عليه شيء من المتشابه بينه بالرد له إلى محكمه ، لا يغيب عمن وهبه الله علم كتابه وفهمه معاني سنته موضع حاجته ، ولإمكان فاقته من حلاله وحرامه ، وما يرد عليه من مفترق القضاء عند ورود مزدحمات المسائل على قلبه ، ومتراكمات النوازل على فهمه ، فكلما ورد عليه من ذلك وارد فادح ، أو قدح في قلبه منه عظيم قادح ، اعتمد في فصله وقطع مشتبهات أمره على الأصول المحكمات في قلبه ، والفروع المتفرعات في صدره من الكتاب والسنة ، فأنار له بعون الله وفضله نور الحق وصدقه ، ووضح له برهان الحكم وحقه ، فقال في ذلك بقول أصيل ، واستدل منه على الحق بأفضل دليل ، فمثله فيما يرد عليه من الفروع والفصول ، مما يحتاج إلى قياسه على الأصول ، كمثل الرجل اتخذ أرضا ، فجعل في كل جانب منها نوعا من أنواع الأشجار ، ثم غذاها وسقاها ، وقام عليها وذراها ، حتى ثبتت أصولها ، وتفرعت فروعها ، وخرجت ثمارها ؛ فهو بأماكن كل نوع منها عارف وفهم ، عالم غير جاهل ، فكلما سئل عن شجرة ، أو طلب منه من ثمارها ثمرة ، قصد لموضع تلك الشجرة ، فأخذ ما يحتاج إليه من ثمرها ، فأسرع به إلى طالبها ، ولم يحتج لمعرفته بموضع حاجته إلى الدوران في جوانب أرضه ، والتفتيش عن حاجة سائله ، كما يعمل الجاهل بمواضع تلك الأشجار ، وأماكن تلك الثمار.

فالعالم في علمه ، وعند قياسه وحكمه ، والمعرفة بما يرد عليه من شرائع دينه ، كصاحب هذه الأرض المهتدى ، إلى ما يطلب منها ، العالم بمواضع ثمارها ، الخابر

٤٩١

بنواحي أشجارها. فحال العالم في علم ما دارس (٤٨١) من حكمه ، وحفظ وأحاط به من علمه ، كحال معرفة صاحب هذه الأرض بأرضه ، فاستدلال العالم واهتداؤه إلى قياس العلم والأحكام ، فيما يرد عليه من الحلال والحرام ، كاستدلال صاحب الأرض إلى أشجارها ، ومعرفته بما يبتغيه من ثمارها ، لا فرق بينهما ولا اختلاف عند ذي عقل فيهما ؛ بل اهتداء من هداه الله إلى علمه ، واستدلال من دله الله على غوامض حكمه ، أبين تبيانا (٤٨٢) ، وأنور في العقل برهانا من اهتداء صاحب الأرض في أرضه ومعرفته بما غرس من شجره.

والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ، وسلام على المرسلين.

ثم اعلم أيها السائل أن كل قياس جاء مخالفا للكتاب ، أو جاء الكتاب له مخالفا ، حتى يكون كل واحد منهما ضد للآخر فلا يصح (٤٨٣) هذا القياس أبدا ، ولا يثبت معه تأويل ولا هدى ؛ لأنه مخالف للأصول ، ولم يكن ـ ولله الحمد ـ ثابتا في الفصول ، وفي ذلك ومثله وما كان من شكله ، ما يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنه سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي ؛ فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته ، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله.». فجعل صلى‌الله‌عليه‌وآله الكتاب إماما لكل ما روي عنه ، أو قيل إنه منه ؛ يعرض عليه ، فإن جاء مثله ، علم أنه من قوله ، وإن جاء مضادا لشيء منه ، علم أنه ليس عنه. فهذا في الآثار المذكورة عن الرسول ، فكيف فيما سواها من القياس الذي يتعاطاه ويطلبه بعض الناس ، فلعمري لا يصح من قياسهم ، ولا يجوز من مقالهم ، إلا ما يشهد له الكتاب والسنة ، وكانت الموافقة لهما منه نيرة بينه ، فعند موافقة القياس للكتاب يصح القياس في الألباب ، وعند مخالفة القياس للكتاب يبطل ويفسد في جميع الأسباب. فليفهم

__________________

(٤٨١) في (ب) : داوس.

(٤٨٢) في (ج) : بيانا.

(٤٨٣) في (أ) و (د) : يصلح.

٤٩٢

من كان ذا فهم ما به في القياس قلنا ، وما منه أجزنا ، وما منه دفعنا وأبطلنا.

والقياس فلا يجوز أبدا ، ولا يكون أصلا بحيلة من الحيل ، ولا يمكن أن يتناوله متناول ، ولا يطول إليه متطاول ، ولا يطمع به طامع ، إلا من بعد إحكام أصول العلم بالكتاب ، والوقوف على ما فيه من جميع الأسباب ، من الحلال والحرام ، وما جعل الله فيه من الأحكام ، وبيّن تبارك وتعالى من شرائع الإسلام التي جعلها الله سبحانه للدين قواما ، وللمسلمين إماما. ومن بعد علم أصول السنة ، وفهم فروعها المتفرعة ، فإذا تمكن المتمكن في علمه ، وأحاط بجوامع ما تحتاج إليه الأمة في دينها ، ثم تفرع فيما لا غناء بالأمة (٤٨٤) عن معرفته في جميع أسبابها ، من حلالها وحرامها ، وما جعله الله دينا لها ، وافترضه سبحانه عليها ، فإذا تفرع في علوم الدين ، وأحاط بمعرفة ما افترض على المسلمين ، فكان بذلك كله عارفا ، ومن الجهل لشيء منه سالما ، ثم كان مع ذلك ذا لب رصين ، ودين ثابت متين ، جاز له القياس في الدين ، وأمكنه الحكم في ذلك وبه بين المؤمنين ، وكان حقيقا بالصواب ، حريا باتقان الجواب.

فأما إن كان في شيء مما ذكرنا ناقصا ، أو عن بلوغه مقصرا ؛ فلن يصح له أبدا قياسه ، ولن يجوز له في دين الله التماسه ؛ لأنه للأصول غير محكم ، وبالفروع غير فهم ، ولن يقيس المثال على مثاله ، أو يحذو الشكل على شكله ، إلا العارف بمحكمات أصله ، فإذا أحكم أصله قاس بذلك فرعه. ومثل ما به قلنا من تصرف الحالات في أهل القياس والمقالات ، كمثل أهل الصناعات من الأبنية والصاغات ، فإذا كان منهم صانع محكم لعمله ، محيط بأصل صناعته ، عارف بابتدائها وانتهائها وآلاتها ، عالم بتأليفها وأحكامها ، ثم ورد عليه مثال يمثله ، أو شيء يحتذيه ويصنعه ، احتذا فيما تصور من مثاله ، بما عنده من محكم أعماله ، وأتى به على قياسه ، لمعرفته بأصل قياسه ، وإحكامه لما قد أحكم من أعماله ، فعلى قدر تفرعه في البصر بأصول الصناعات ، وتمكنه في المعرفة بها في كل الحالات ، يكون إحكامه لتمثيل المثال على مثله ، وتشبيه الشكل المطلوب منه بشكله ، حتى يكون ما يأتي

__________________

(٤٨٤) في (ب) : للأمة.

٤٩٣

به مشابها لما يحتذي به ، لا يخالفه في شبهه ، ولا يفارقه في قياسه ، ولن ينال ذلك غيره ممن لم يحكم أصول عمله ، ولم يفهم متفرعات أنواع صناعته. فكذلك المتناول للقياس في الأحكام ، المتعاطي لذلك من شرائع الإسلام ، لا يجوز له قياسه ، ولا يصح له مثاله ، حتى يكون لأصول الدين محكما ، ولشرائع العلم فهما ، ولمعرفة الكتاب والسنة قائما ؛ فعند ذلك يكون في قياسه كاملا (٤٨٥) ، ولعلمه محكما ، وعلى ما يطلب من ذلك كله قادرا.

أهل البيت هم أعلم الخلق بالكتاب والسنة

ثم اعلم أيها السائل علما يقينا ، وافهم فهما ثابتا مبينا ، أن العلماء تتفاضل في علمها ، وتتفاوت في قياسها وفهمها ، وفيما قلنا به من ذلك ما يقول الله سبحانه : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف : ٧٦] ، وأنه ليس أحد من المخلوقين أولى بفهم أحكام رب العالمين ، ممن اختاره الله واصطفاه وانتجبه وارتضاه ، فجعله مؤديا لدينه ، قائما بحكمه ، داعيا لبريته ، حائطا لخليقته ، منفذا لإرادته ، داعيا إلى حجته ، مبينا لشريعته ، آمرا بأمره ، ناهيا عن نهيه ، مقدما لطاعته ، راضيا لرضاه ، ساخطا لسخطه ، إماما لخليقته ، هاديا لها إلى سبيله ، داعيا لها إلى نجاتها ، مخرجا لها من عمايتها ، مثبتا لها على رشدها ، مقيما لها على جواد سبلها ، ناصحا لله فيها ، قائما بحقه سبحانه عليها. وذلك وأولئك فهم صفوة الله من خلقه ، وخيرته من بريته ، وخلفاؤه في أرضه ، الأئمة الهادون ، والقادة المرشدون ، من أهل بيت محمد المصطفى ، وعترة المرتضى ، ونخبة العلي الأعلى ، المجاهدون للظالمين ، والمنابذون للفاسقين ، والمقربون للمؤمنين ، والمباعدون للعاصين ، ثمال كل ثمال (٤٨٦) ، وتمام كل حال ، الوسيلة إلى الجنان ، والسبب إلى الرضاء من الله والرضوان ، بذلوا أنفسهم للرحمن ، وأحيوا شرائع الدين والإيمان ، لم يهنوا ولم يفتروا ، ولم

__________________

(٤٨٥) في (ب) : في قياسه قائما كاملا.

(٤٨٦) في القاموس الثمال : الغياث الذي يقوم بأمر قومه.

٤٩٤

يقصروا في طلب ثار الإسلام ولم يغفلوا ، نصحوا (٤٨٧) المسلمين ، واحبوا المؤمنين ، وقتلوا الفاسقين ، ونابذوا العاصين ، وبينوا حجج رب العالمين على جميع المربوبين ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤٢].

عملوا فجوزوا ، ونصحوا فقبلوا ، وتقربوا من الله فقربوا ، وأخلصوا لله سبحانه الديانة فأخلص لهم المحبة ، طلبوا منه التوفيق فوفقهم ، وسألوه التسديد فسددهم ، وقاموا له بأمره فأرشدهم ، واهتدوا إلى قبول أمره فزادهم هدى ، وضاعف لهم كل خير وتقوى ، كما قال جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧].

قصدوا الحق فأرشدوا له ، وائتموا بالصدق فعملوا به ، فوجبت لهم حقائق التوفيق ، ونالتهم من الله موقظات التحقيق ، وقصدتهم منه سبحانه قواصد النعمة ، وشملتهم بفضله سبحانه شوامل الحكمة ، فنطقوا بالبيان في قولهم ، وحكموا بالحق في حكمهم ، واهتدوا بالله سبحانه في أمرهم ، وثبتوا بزيادة هدى الله على الحق الفاصل ، وتناولوا شكائم العلم الفاضل ، فنالوا بعطاء الله الأكبر ما لم ينل غيرهم ، وقدروا على ما عجز عنه سواهم ، فحكموا باختيار الله لهم وتوفيقه ، وإرشاده لهم وتسديده في كل نازلة بالصواب ، وبعد عنهم فيها كل شك وارتياب ، فكان علمهم ـ لما ذكرنا ، من اختيار الله لهم واصطفائه إياهم ، ورضاه باستخلافهم في أرضه ، واسترعائه لما استرعاهم من بريته ـ علما جليلا (٤٨٨) ، وكان قياسهم قياسا ثابتا أصيلا ، إذ هم وأبوهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصل كل دين ، وعماد كل يقين ، ومنه صلوات الله عليه تفرعت العلوم المعلومة ، وثبتت أصول الأحكام المفهومة ، ومنه ومن ذريته نيلت العلوم الفاضلة ، وبلغت الأصول الفاصلة فمن علمهم صلوات الله عليهم تفرعت الأحكام ، ومن بحر فهمهم استقى جميع الأنام. فهم أصل الدين ، وشرائع الحق المستبين ، فكل علم نيل أو كسب فمن فضل علمهم

__________________

(٤٨٧) في (ب) : ناصحوا.

(٤٨٨) في (ب) : جليا.

٤٩٥

اكتسب ، وكل حكم حق به حكم فمن حكم حقهم علم ، فهم أمناء الله على حقه ، والوسيلة بينه وبين خلقه ، المبلغون للرسالات ، الآتون من الله سبحانه بالدلالات ، المثبتون على الأمة حججه البالغة ، المسبغون بذلك على الأمة للنعم السابغة ، لا يجهل فضلهم إلا جهول معاند ، ولا ينكر حقهم إلا معطل جاحد ، ولا ينازعهم معرفة ما به أتوا عن الله إلا ظلوم ، ولا يكابرهم فيما أدوه إلى الأمة عن الله إلا غشوم ؛ لأنهم أهل الرسالة المبلغة ، والآتون من الله سبحانه بالحجة البالغة ، الذين افترض الله على الأمة تصديقهم ، وأمروا باتباعهم ، ونهوا عن مخالفتهم ، وحضوا على الاقتباس من علمهم.

ألا تسمع كيف يقول الرحمن ، فيما نزل من النور والبرهان ، حين يقول : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣] ، فأمرت الأمة بسؤالهم عند جهلها ، والاقتباس منهم لمفروض علمها. ثم قال سبحانه : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ٨٣] ، فأخبر سبحانه أنهم لو ردوا ما يجهلون علمه ، ولا ينالون فهمه إلى الله بالتسليم له في حكمه ، وإلى الرسول في معلوم علمه ، وإلى الأئمة من عترته ، فيما التبس من ملتبسه ، واشتبه على الأمة من متشابهه ، لوجدوه عند الله في كتابه مثبتا ، وفي سنة رسول الله التي جاء بها من الله مبينا ، وعند الأئمة من عترته صلى الله عليه وعلى آله وسلم نيرا بينا.

ثم أخبر سبحانه أنه لو لا فضل الله على الخلق بإظهار من أظهر لهم من خيرته ، وتولية من ولي عليهم من صفوته ، إذا لا تبعوا الشيطان في إغوائه ، ولشاركوه في غيّه وضلاله ، فامتن عليهم سبحانه بأئمة هادين مهتدين ، غير ضالين ولا مضلين ، صفوة الله من العالمين ، وخيرته من المخلوقين ، نور الأمة ، وسراج الظلم المدلهمة ، ورعاء البرية ، وضياء الحكمة ، ومعدن العصمة ، وموضع الحكمة ، وثبات الحجة ، ومختلف الملائكة ، اختارهم الله على علمه ، وقدمهم على جميع خلقه ، علما منه بفضلهم ، وتقديسا لهم على غيرهم ، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [فاطر : ٣٢] ، فأخبر بما ذكرنا من اصطفائهم على الخلق ، ثم ميّزهم فذكر منهم الظالم لنفسه باتباعه لهوى قلبه ، وميله إلى لذته ؛ وذكر منهم المقتصد في علمه ، المؤدي إلى الله لفرضه ، المقيم

٤٩٦

لشرائع دينه ، المتبع لرضاء ربه ، المؤثر لطاعته ؛ ثم ذكر السابق منهم بالخيرات ، المقيمين لدعائم البركات ، وهم الأئمة الظاهرون ، المجاهدون السابقون ، القائمون بحق الله ، المنابذون لأعداء الله ، المنفذون لأحكام الله ، الراضون لرضاه ، الساخطون لسخطه ، والحجة بينه وبين خلقه ، المستأهلون لتأييده ، المستوجبون لتوفيقه ، المخصوصون بتسديده ، في كل حكم به حكموا ، أو قياس في شيء من الأحكام به قاسوا ، حجة الله الكبرى ، ونعمته العظمى ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣]. وفي طاعتهم وفيما أمر الله به من رد الفتيا بين المفتين وما فيه يتنازع المتنازعون إليهم ما يقول الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء : ٥٩].

وما جاء من الله تبارك وتعالى لآل رسوله من الذكر الجميل ، والحض للعباد على طاعتهم ، والاقتباس من علمهم فكثير غير قليل ، يجزي قليله عن كثيره ، ويسيره عن جليله ، من كان ذا علم واهتداء ، ومعرفة بحكم الله العلي الأعلى.

وكل ذلك أمر من الله سبحانه للأمة برشدها ، ودلالة منه على أفضل أبواب نجاتها ؛ فإن اتبعت أمره رشدت ، وإن قبلت دلالته اهتدت ، وإن خالفت عن ذلك غوت ، ثم ضلت وأضلت ، وهلكت وأهلكت ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حيّ عن بينة ، وإن الله لسميع عليم.

وفي أمر الأمة باتباع ذرية المصطفى ، ما يقول النبي المرتضى : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي الثقلين ، كتاب الله وعترتي اهل بيتي ، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا ، حتى يردا علي الحوض.».

ويقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفضيلهم ، والدلالة على اتباعهم ، وما فضلهم الله به على غيرهم : «النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهبت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون ، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض ، أتى أهل الأرض ما يوعدون.».

٤٩٧

وفيما ذكرنا من أمرهم ما يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجاء ، ومن تخلف عنها غرق وهوى.».

وهذا ومثله فكثير عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم يفهمه من روى عنه عليه‌السلام ونحن نستغني بقليل ذكره عن كثيره.

ثم اعلم أيها السائل أن الحق لا يؤخذ إلا من أحد ثلاثة وجوه : كتاب ناطق ؛ أو إجماع من الأمة فيما نقلته عن النبي عليه‌السلام من السنة التي جاء بها عن الله ؛ أو أمر بينته وصححته العقول ، وميزت وأخرجت حقه وشرعت صدقه.

ثم اعلم أن القياس يخرج على معنيين : أحدهما ثابت صحيح ، والآخر باطل قبيح.

فأما المعنى الباطل منهما ؛ فهو قول القائل : قاس فلان ويقيس فلان ، يريد بذلك قياسا على غير الكتاب ، يضرب (٤٨٩) بعض القول ببعض ، ويقيس برأي نفسه على رأي غيره ، ويشبه مذهبه في القياس بمذهب غيره ، فيخرج قياسه قياسا فاسدا ، لا يجوز هذا القياس في الدين ، ولا يثبت في أحكام المسلمين ؛ بل من تعاطى قياسا على ما ذكرنا ، أو قولا فيما شرحنا ، كان محيلا مبطلا ، فاسد المذهب جاهلا.

والمعنى الذي يثبت في كل معنى ، ويكون دليلا على النور والهدى ؛ فهو أن يكون العالم المتبحر في علمه المتمكن في فهمه ، إذا ورد عليه أمر قاسه على كتاب الله ، وعلى سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ومعنى قولنا قاسه : هو دبره ونظره ، وفكر فيه وميزه ، واستعمل في استخراجه من كتاب الله سبحانه وسنة نبيه وعقله ، فغاص عند نزول النازلة في بحور الكتاب والسنة ، حتى استخرج باستدلاله علم حاجته من كتاب ربه وسنته التي أنزلها على نبيئه. فهذا المعنى هو القياس الصحيح ، ومعنى اسم القياس هاهنا من قول القائل : قاس ، فإنما هو استدل وأصاب ، وميز فاستخرج بقياسه وتمييزه الصواب من كتاب ربه ، ووقف بجودة تمييز قياسه ، وغوصان لبه على طلبه ، وجال بما ركب الله في

__________________

(٤٨٩) في (ب) : يصرف.

٤٩٨

صدره من ثابت لبه ، إذ أجاد استعماله في حاجته مما طلب من علم نوازل الأحكام ، ووقف بذلك على معرفة أصول دين الإسلام ، فكان بقياسه وتمييزه ، رادا لفروع دينه إلى أصوله ، فالتأم له بالتمييز والنظر ، وجودة انصاف العقل والفكر ما افترق ، وارتتق له بذلك في الأحكام ما انخرق. فافهم ـ هديت ـ معنى قول القائل : قاس ويقيس ، واستعمل لبك في معرفة الفرق بين المعنيين اللذين ذكرنا ، حتى يستدل (٤٩٠) فيهما على الهدى ، وتكون من ذلك في قولك كله على الاستواء.

والحمد لله العلي الأعلى ، وصلى الله على محمد المصطفى ، وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار الصادقين الأبرار.

ثم اعلم من بعد كل علم ومن قبله ، وعند استعمالك لعقلك في فهمه ، أن الذين أمرنا باتباعهم من آل رسول الله ، وحضضنا على التعلم منهم ، وذكرنا ما ذكرنا من أمر الله برد الأمور إليهم ، هم الذين احتذوا بكتاب الله من آل رسول الله ، واقتدوا بسنة رسول الله ، الذين اقتبسوا علمهم من علم آبائهم وأجدادهم ، جدا عن جد ، وأبا عن أب ، حتى انتهوا إلى مدينة العلم ، وحصن الحلم ، الصادق المصدّق ، الأمين الموفق ، الطاهر المطهر ، المطاع عند الله المقدر ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فمن كان علمه من آل رسول الله على ما ذكرنا ، منقولا إلى آبائه مقتبسا من أجداده ، لم يزغ عنهم ، ولم يقصد إلى غيرهم ، ولم يتعلم من سواهم ؛ فعلمه ثابت صحيح ، لا يدخله فساد ولا زيغ ، ولا يحول أبدا عن الهدى والرشاد ، ولا يدخله اختلاف ، ولا يفارق (٤٩١) الصحة والائتلاف.

فإن قلت : أيها السائل قد نجد (٤٩٢) علماء كثيرا منهم ممن ينسب (٤٩٣) إليه

__________________

(٤٩٠) في (ب) : تقف.

(٤٩١) في (ب) : تفارقه.

(٤٩٢) في (أ) : تجد.

(٤٩٣) في (أ) : ينتسب.

٤٩٩

علمهم ، مختلفين في بعض أقاويلهم ، مفترقين في بعض مذاهبهم ، فكيف العلم في افتراقهم ، وإلى من يلجأ منهم؟ وكيف نعمل باختلافهم وقد حضضتنا عليهم ، وأعلمتنا أن كل خير لديهم ، وإن الفرقة التي وقعت بين الأمة هي من أجل مفارقة الأئمة من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

قلنا لك : قد تقدم بعض ما ذكرنا لك في أول هذا الكلام ، ونحن نشرح لك ذلك بأتم التمام.

إن اختلاف آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أيها السائل عن أخبارهم ـ لم يقع ولا يقع أبدا (٤٩٤) إلا من وجهين :

فأما أحدهما : فمن طريق النسيان للشيء بعد الشيء ، والغلط في الرواية والنقل ، وهذا أمر يسير حقير قليل ، يرجع الناسي منهم عن نسيانه ، إلى القول (٤٩٥) الثابت المذكور له عند الملاقاة والمناظرة.

والمعنى الثاني : فهو أكبر الأمرين وأعظمهما ، وأجلهما خطرا وأصعبهما ، وهو أن يكون بعض من يؤثر عنه العلم تعلم من غير علم آبائه ، واقتبس علمه من غير أجداده ، ولم يستنر بنور الحكمة من علمهم ، ولم يستضيء عند إظلام الأقاويل بنورهم ، ولم يعتمد عند تشابه الأمور على فقههم ، بل جنب منهم (٤٩٦) إلى غيرهم ، واقتبس ما هو في يده من علمه من أضدادهم ، فصار علمه لعلم غيرهم مشابها ، وصار قوله لقولهم صلوات الله عليهم مجانبا ، إذ علمه من غيرهم اقتبسه ، وفهمه من غير زنادهم (٤٩٧) أزنده ، فاشتبه أمره وأمر غيرهم ، وكان علمه كعلم الذين تعلم من علمهم ، وقوله كقول من نظر في قوله ، وضوء نوره كضوء العلم الذي في يده ، وكان هو ومن اقتبس منه سواء في

__________________

(٤٩٤) في (ب) : الاختلاف.

(٤٩٥) من (ب) ، وفي الأصل : القول.

(٤٩٦) في (ب) : عنهم.

(٤٩٧) الزند : العود الذي يقدح به النار. تمت (قاموس).

٥٠٠