مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

الخلقة ، وقومهم عليه من الفطرة من الأجسام والعروق والعصب والعظام والأسماع والأبصار ، وما عليه الجن من السرعة والذهاب في الهواء ، وما خلق عليه الآدميين من الثقل والخفاء ، فلا يقدر جني يزيح ما فيه من الخفة فيثقل ، ولا آدمي عن الثقل إلى الخفة يرحل ، وكذلك لا يقدرون على الخروج من سواد إلى بياض ، ولا من بياض إلى سواد ، ولا من قصر إلى طول ، ولا من طول إلى قصر. فهذا ما لا يقدر عليه الخلق ولا ينالونه ، وذلك أن الله خلقهم وجبلهم عليه ، فلم يزدادوا من محبوبه ، ولم ينقصوا من مكروهه.

تم جواب مسألته

المسألة السادسة عشرة : معنى قول الله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ)

ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن قوله الله سبحانه : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) [الأنفال : ٧] ، أليس إنما يريد العير والغنيمة أو المشركين ، وغلبتهم النصر؟ فإن قالوا : نعم. فقل : هل كانوا يقدرون على أن لا يقاتلوا ولا يخرجوا إلى القتال؟ فإن قالوا : نعم ؛ فقد زعموا أنهم كانوا يقدرون على أن يخلف الله وعده الذي وعده رسوله ، وهذا قول عظيم يدخلهم في أعظم مما كرهوا. (وإن زعموا أنهم لم يكونوا يقدرون على أن يخرجوا للقتال ، لا المؤمنون ولا الكافرون ؛ أقروا بما كرهوا) (٣١٣) ، فإن الله قد أراد أن يقاتل المؤمنون الكافرين ، وأن يقاتل الكافرون المؤمنين ، وأن الفريقين لم يكونوا يستطيعون التخلف ولا الترك للقتال حتى ينجز الله وعده ، ويعز المؤمنين ، ويذل الكافرين ، ويوهن كيدهم ، وكذلك أراد بالفريقين جميعا ، وقد كان فيما صنع الله بالفريقين يوم بدر بينة لنبيه وبرهان ، وذلك أن الله سبحانه لم يكل المؤمنين إلى ما زعم الجهال المكذبون أن الله جعل في العباد استطاعة ثم وكلهم إليها ، فلم يرض حتى أيّدهم بنصره وأمدهم بملائكته ثم آجرهم على صبرهم على البأس ، وهو صبّرهم ؛ وآجرهم على الثبات ، وهو ثبتهم ؛

__________________

(٣١٣) ساقط من (ب).

٣٤١

وآجرهم على ائتلافهم ، وهو ألّف بينهم ؛ وآجرهم على صرامتهم وهو ربط على قلوبهم ؛ وآجرهم على ظفرهم ، وهو ألقى الرعب في قلوب عدوهم ؛ وهذا كله خلاف لقولهم ، ورد عليهم. فجعل غلبة المؤمنين الكافرين نصرا وعزا وتأييدا ، وجعل غلبة الكافرين دولة بلاء وإملاء ، فأنزل في قتال المؤمنين الكافرين بأحد : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) ، أما الغم الأول : فالهزيمة والقتل ؛ وأما الغم الآخر : (فإشراف خيل الكفار على الجبل حتى أشرفوا عليهم فظنوا أنها الهلكة) (٣١٤) ؛ قال الله تعالى : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) ، من الغنيمة (وَلا ما أَصابَكُمْ) يعني من قتل من إخوانكم ، قال : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [آل عمران : ١٥٣]. فإن قالوا : إن الله إنما فعل بذنوبهم ومعصيتهم. قيل : فإنه إنما عصى منهم نفر يسير وهم الرماة ، نحو من خمسين رجلا ، فقد عم ذلك البلاء جميع المؤمنين حتى وصل إلى نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشج في (٣١٥) وجهه ، وكسرت رباعيته ، وقد كان المسلمون يوم أحد سبعمائة أو يزيدون. فأخبر الله أنه صنع ذلك بهم فأثابهم غما بغم ، أفليس الله قد أراد أن يصيبهم ذلك بأيدي الكافرين ، ولأن ينهزموا ، وأن يقتل من قتل منهم ، ثم أخبر أيضا بما صنع بهم بعد الذي كان منه إليهم من الغم ، فقال : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) [آل عمران : ١٥٤] ، قال الله لنبيه : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران : ١٥٤] ، ثم قال : (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) ، فأخبر عما أخفوا في أنفسهم ، فقال : (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) ، يقولون : لو كنا في بيوتنا ما أصابنا القتل ، قال الله تكذيبا لهم : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) ، فأخبر أنه قد كتب القتل على قوم قبل أن يقتلوا ، وجعل لهم مضاجع إليها يصيرون ، ثم نهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم ، وأن يظنوا بالله كظنهم ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا

__________________

(٣١٤) ساقط من (أ ، ج).

(٣١٥) سقطت من (ب).

٣٤٢

لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [آل عمران : ١٥٥] ، وقال في غلبة الكافرين المؤمنين وهزيمة المؤمنين ، فقال : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران : ١٤٠] ، وقال : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) [آل عمران : ١٦٦] ، في آي كثيرة يخبر أن الأمر كله منه ، وهو يدبر أمر خلقه ، ويصرفهم كيف يشاء ، وأخبر أن الذي أصاب المؤمنين يوم أحد إنما كان بإذن الله من قتل الكافرين إياهم وهزيمتهم لهم ، حتى قتل منهم سبعون رجلا ، وأنتم تزعمون أنه لم يأذن في المعاصي ، وأنها لا تكون بإذنه ، ولكن الإذن قد يكون على معنيين : أما أحدهما : فيكون أمرا منه يأمر به ، والآخر : يكون إذنا على وجه الإرادة ، أنه أراد أن يكون ؛ لأنه فعال لما يريد. ثم قد عير الذين قالوا لإخوانهم : (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) ، وكذبهم وأخبر بما قد سبق منه لهم وما قد كتب عليهم ، وعير الذين قالوا : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) (فكذبهم الله لما قالوا من ذلك) (٣١٦)

فلو تدبرتم كتاب الله وآمنتم بما فيه ما عارضتم أمور الله تعالى ولا عبتم ، ولفهمتم قضاءه ، تردون عليهم برأيكم أمره ، وتعقبون حكمه ، وتظلمون عدله ، وتقولون إنه (٣١٧) فعل بخلقه شيئا ، ثم عذبهم عليه بما صنع بهم ، فقد ظلمهم ، فسبحان الله ما أعظم قولكم وأضعف رأيكم.

تمت مسألته

__________________

(٣١٦) ساقط من (ب).

(٣١٧) سقطت من (ب).

٣٤٣

جوابها :

وأما ما سأل عنه من القتال ، فقال : هل أراد الله من المؤمنين أن يقاتلوا الكافرين؟ ومن الكافرين أن يقاتلوا المؤمنين؟ أم أراده من المؤمنين دون الكافرين؟ فبذلك ولله الشكر نقول ، وإليه أمورنا تؤول فنقول :

إن الله شرع حقا ، (وأوجب صدقا ، فدعا إليه الناس ، وكشف عنهم به الالتباس ، ثم أوجب) (٣١٨) على الخلق كلهم الدخول فيه والمقاتلة عليه ، فكل من كان على ما شرعه الله تعالى (٣١٩) من الحق ، فقد أراد الله منه مقاتلة من خالف عنه من الخلق. وإنما أراد سبحانه من عباده أن يقاتلوا على ما رضيه من دينه ، فأما ما لم يرده من أفعال الكافرين ، ولم يشرعه ولم يرضه من عبادة أصنام المشركين فكيف يريد من أصحابه القتال عليه؟ وقد كرهه منهم ، وذمهم على المقام فيه ، ودعاهم إلى الخروج منه. وقد علم كل من كان له علم ، وآتاه الله شيئا من فهم الحكمة ، أن المشركين عن آلهتهم كانوا يدافعون ، وعن دينهم يقاتلون ، وعلى ما كان آباؤهم من القتال يثابرون ، فإن كان الله أراد منهم ذلك وجعلهم فيه كذلك ، فقد ارتضاه ، وعلى الأديان كلها اصطفاه ، كما ارتضى الذي بعث به خاتم النبيين وأراده ، وأمر بالقتال عليه المؤمنين. فإن قالوا : ارتضاه وأراده وأمر بالقتال عليه عباده ؛ كفروا بالرحمن وتابعوا قول الشيطان. وإن قالوا : بل سخطه وشنيئه (٣٢٠) ، وأمرهم لإشقائهم بالمقاتلة عليه ؛ فقد سووا عنده بين ما ارتضاه وبين ما سخطه وأباه. وهل يأمر بحياطة ما لا يريد إلا الجاهل غير الرشيد؟ فإن كان حكم عليهم بعمل الردى لما أراد بهم بزعمهم من الشقاء ، فعلى ما ذا يعذبهم ويشقيهم وفي الحميم يصليهم ، وهم له طائعون ، وفي إرادته منهم متصرفون؟ أهذا عندهم من صواب الحكيم ، العدل في فعله الرحيم؟ بل

__________________

(٣١٨) ساقط من (ب).

(٣١٩) سقطت من (ب).

(٣٢٠) في (أ ، ج) : وسبه.

٣٤٤

هذا من فعال الجائرين ، وأعظم ما عاب سبحانه من اعتداء الظالمين. فلا يجدون بدا من أن ينسبوا إلى الله التجهيل ، والظلم والتعدي ، والجور الجليل ، أو يدخلوا في الحق ويرجعوا إلى الصدق ، فيقولوا : إن الله أمر وأراد حياطة ما ارتضى ، وكره ونهى عن حياطة ما لم يشأ.

وأما ما ذكر من قول الله عزوجل : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٣] ، فقال وتوهم أن هذا الأمر المفعول الذي يقضيه الله هو قضاؤه على الفريقين بالقتال والمزاحفة والاقتتال. وليس ذلك ـ ولله الحمد ـ على ما قال ، ولا على ما توهم من المحال ، أن الله يقضي على الكافرين بقتال المؤمنين ، ولا أنه يقلل المؤمنين في أعين الكافرين تشجيعا منه لهم على قتال المؤمنين وتأييدا بذلك لهم على المهتدين ، ولكن قللهم في أعينهم لكيلا يروهم بحالة الكثرة مع ما في قلوبهم من هيبة الروعة فيهزموا ويذهبوا ويرجعوا ولا يقاتلوا ، فكان ذلك خذلانا لهم وحربا عليهم ، وقللهم في أعين المؤمنين لكيلا يروهم على الكثرة التي كانوا عليها فيهابوا ويخافوا ، فقللهم في أعينهم تأييدا منه لهم ، ومعونة وإحسانا إليهم.

فأما قوله : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) فمعناه : ليقضي الله وعدا كان منجزا ، وهو ما وعد رسوله والمؤمنين من النصر إذا نصروه ، والتسديد لهم إذا قصدوه. ألا تسمع كيف يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد : ٧] ، ويقول : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج : ٤٠] ، فقضى تبارك وتعالى لرسوله وللمؤمنين عند الالتقاء بما وعدهم من النصر ، وفعل لهم بما ضمن فعله من الأمر ، وتغنيمهم ما وعدهم من إحدى الطائفتين : طائفة الجيش ، وطائفة العير ؛ فغنمهم الله طائفة الجيش كما وعدهم من الأمر ، واتخاذ ما وعد المؤمنين من النصر على الكافرين ، فهو الأمر الذي ذكر الله أنه كان مفعولا ، لا ما يتوهم أهل هذا القول الفاسد المخذول.

وأما قوله : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال : ٦٢] ، فنصر الله رسوله كما قال سبحانه : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ

٣٤٥

بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [الفتح : ٢٦] ، فألف الله على ذلك بين المؤمنين ، لا كما ظن الحسن بن محمد وأصحابه أهل العمى والقول بالرديء : أن التأليف من الله كان بين الكافرين والمؤمنين في القتال ، وأنه ساق بعضهم إلى بعض جبرا حتى ألف بينهم للقتال ، وهذا فأحول المحال ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ألا ترون كيف قال : (أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) ، و (أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) ، فرد اسم المضمر في الهاء والميم من (قلوبهم) على الاسم الظاهر من (المؤمنين)؟ فسبحان أرحم الراحمين ، وأكرم الأكرمين.

وأما ما سأل عنه من قول الله تبارك وتعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) [الأنفال : ٧] ، وقال : لو لم يخرج المشركون ، أليس كان يبطل وعد الله لنبيه وللمؤمنين؟

فقولنا في ذلك : أن الله سبحانه وعد نبيه كما قال إحدى الطائفتين : طائفة العير وطائفة الجيش المستعير ؛ وأن الله لم يجبر الفاسقين على الخروج إلى قتال المؤمنين ، بل عن ذلك نهاهم ، وإلى طاعته وطاعة رسوله دعاهم ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [الأنفال : ٢٠] ، ويقول : لو أطاعوا الله فيما أمرهم لم يخرجوا لمحاربة الحق ولم ينصبوا.

فأما ما قال من أن ذلك لو كان لبطل (٣٢١) وعد الله أهل الإيمان ، الذي وعدهم من الغنيمة والإحسان ، فليس ذلك كما قال أهل الجهالة والعمى والضلال ، ولكن الله سبحانه علم أنهم سيخرجون ، وعلى الحق والمحقين سيبغون ، فلما أن علم ما يكون من اختيارهم ، حكم بما علم منهم عليهم ، وبشّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما سيسوق من الغنيمة والنصر إليه. ولو علم منهم اختيار المقام لما وعد غنائمهم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما أن خرجوا وعلى الله ورسوله أجلبوا خذلهم سبحانه وأخزاهم وأذلهم وأرداهم ، وألقى الرعب في قلوبهم كما قال سبحانه : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) [آل عمران : ١٥١] ، فأرادهم ونصر المؤمنين ،

__________________

(٣٢١) في (ب) : يبطل.

٣٤٦

وأعز بتأييده الدين ، وكبت الكافرين ، فأبادهم بالسيف قتلا ، وشتت أمرهم وجمعهم هزيمة وأسرا ، وأنزل الملائكة المقربين مددا للمؤمنين ، وإعزازا للحق والمحقين ، فزادهم قوة إلى قوتهم المركبة الثابتة فيهم.

وأما ما سأل عنه وقال وتوهم من المحال في قول الله تبارك وتعالى : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) ، وذلك الغم هو غمهم (يوم حنين) (٣٢٢) حين أدال المشركين على النبي والمؤمنين ؛ فغلط وأخطأ في ذلك ، ولم يكن ولله الحمد كذلك ، ولم يدل الله الكافرين على المؤمنين ؛ لأن الإدالة هي معونة وتأييد ونصر وتسديد ، ولم يقل مؤمن بالله : إن الله نصر في ذلك اليوم أعداءه على أوليائه ، ولا نصر جيش أبي سفيان اللعين (٣٢٣) على جيش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولكن الله أراد بالمؤمنين المحنة والبلاء حتى يعلم الله أهل الصبر والاحتساب والتقى ، ألا تسمع كيف قال الله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد : ٣١]. فنصرهم في أول الأمر وأراهم ما يحبون ، فخالفوا نبيه وعصوه في تنحيهم عن باب الشعب الذي أوقفهم عليه ، وأمرهم أن يرموا من صار من المشركين إليه ، فلما رأوا الهزيمة على المشركين قد أقبلت ، وتيقنوا أنها بهم قد حلت ، طمعوا فيما يطمع فيه مثلهم من الغنائم ، ورجوا أن يكون شدهم على الكفار مع أصحابهم أصلح ، وفي الأمر الذي يراودون أنجح ؛ فزلّوا وعصوا الرسول فيما أمرهم من الثبوت على باب الشعب ، وكان ثباتهم عليه على المشركين أصعب. فلما أن تنحوا أمكن للكافرين ما أرادوا ، فظفروا من المسلمين ببعض ما أحبوا ، ثم لاقوا من بعد ذلك من نصر الله للحق ما كرهوا ، فثبت الله من بعد ذلك المؤمنين ، وغفر لأهل الخطيئة المذنبين ، وأنزل عليهم السكينة ، وغشاهم النعاس أمنة منه ، كما قال الله سبحانه : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) ، قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله

__________________

(٣٢٢) سقطت من (ب).

(٣٢٣) سقطت من (ب).

٣٤٧

وسلم : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ، ثم قال سبحانه لنبيه (٣٢٤) : (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) ، ثم أخبر عما أخفوا ، وما من المنكر أجنوا ، فقال : (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا).

وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أتته قريش ، ونزلوا بأحد شاور أصحابه فأشاروا عليه بأن يثبت في المدينة ، فإن أقاموا أضر بهم المقام حتى ينصرفوا ، وإن صاروا إلى المدينة فدخلوا ، قاتلهم بها الصغير والكبير والنساء من فوق البيوت. فأراد ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم أشاروا عليه من بعد بالخروج إليهم ، فنهض فلبس لامته (٣٢٥) ، ثم خرج عليهم ، فقالوا : يا رسول الله ، قد رأينا رأيا ، إنا لم نقاتل ببلدنا وبين دورنا أحدا إلا أظهرنا الله عليه وبلغنا فيه ما نريد ، فأقم بنا مكاننا على رأينا الأول. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كان هذا أولا ، إنه ليس لنبي إذا لبس لامته أن ينزعها حتى يقاتل عدوه.». فخرج وخرج معه ألف من الناس ، فلما فصل من المدينة رجع عنه عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين ، في ثلاثمائة من الفاسقين ، ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى لقي القوم ، فكان من أمرهم ما ذكرنا ، ومن حالهم ما شرحنا ، فذلك قولهم : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) ، يقولون : لو أطاعنا أو كان الرأي إلينا لكنا قد ثبتنا في بلدنا حتى يدخلوا علينا فنقاتلهم أو يرجعوا عنا فنتبعهم ، فقال سبحانه : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ، أي الأمر أمر نبيه الذي افترض عليكم طاعته ، فليس لأحد منكم سبيل إلى مخالفته إلا بالكفر والعصيان للواحد العزيز الرحمن ، ثم أعلاهم من بعد تلك السقطة ، وأنزل عليهم الأمنة ، ورد إليهم النصر ، وشد لهم ما أضعفوه من الأمر ، وصرف عنهم أعداءهم لأن يدركوا كل ما طلبوا أو طمعوا به فيهم من القوة والظهور عليهم.

وأما ما ضل فيه من قوله : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى

__________________

(٣٢٤) سقطت من (ب).

(٣٢٥) درعه ، وجمعها : لام ولؤم بفتح الهمزة.

٣٤٨

مَضاجِعِهِمْ) ، فقال : إن الله كتب على الكافرين قتل المؤمنين ، وكتب على المؤمنين ظهور الكافرين ، وقتلهم إياهم ؛ فتوهم أن الكتاب من الله هو حتم ، وفعل فيهم وقضاء كائن قضى به عليهم. ولو كان ذلك كما ظن الحسن بن محمد لكان المشركون لله مطيعين ، ولأمره وقضائه منفذين ، ولم يكن عليهم في ذلك إثم ، ولا عند الله جرم ، بل كانوا في ذلك مثابين وعليه غير معاقبين ، ولم يكن المؤمنون بمثابين إذ الله فعل بهم ذلك من القتل وقضاه عليهم ، وكل في الطاعة له سواء ، تبارك عن ذلك العلي الأعلى.

فأما وجه الحق في ذلك ، ومعنى قول الله سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْهِمُ) ، هو علم منهم لا أنه أكرههم ولا قضى عليهم ، ولكن علم من يختار الخروج ولقاء الأعداء ، ومن يقتل عند التنازل واللقاء ، فعلمه وقع على اختيارهم ، فخروجهم فعلهم لا فعله ، وقتلهم فعل الكفار لا قضاؤه ، فهم على خروجهم وقتالهم واجتهادهم مأجورون ، وعند الله مستشهدون ، والفسقة المشركون على قتلهم معاقبون ، وعند الله في الآخرة معذبون ، فكل نال بفعله من الله ما أوجبه عليه من الثواب والعقاب ، والحمد لله رب الأرباب ، والمجازي للخلق يوم الحساب.

وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) ، فقال بزعمه ، وتوهم بجهله : أن الله يديل أهل الكفر والعصيان على أهل الطاعة والإيمان ، وأنه أدال يوم أحد المشركين على النبي ومن كان معه من المؤمنين ؛ فليس ذلك كما ذهب إليه ، وسنشرح ذلك إن شاء الله تعالى ، ونرد بالحق قوله عليه.

فنقول : إن الله جل جلاله يديل المؤمنين على الكافرين ، ولا يديل الكافرين على المهتدين ، كذلك قال في يوم حنين : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) [الإسراء : ٦] ، فكان برده الكرة للموحدين هو المديل لهم على الكافرين ، ولم يقل في شيء من كتابه وما نزله من آياته إنه أدال أهل الشرك والنفاق على أهل الدين والإحقاق.

فأما ما ذكر الله من المداولة بالأيام بين جميع الأنام ، فإن مداولته للأيام هو إتيانه بالليل تارة وتارة بالنهار ، وأما ما يأتي ويداول بين عباده وأرضه فيهما من الأمطار التي يحيي بها الأرضين ويعيش بها جميع العالمين ، قال سبحانه : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً

٣٤٩

كَذلِكَ الْخُرُوجُ) [ق : ٩ ـ ١١] ، فسقى اليوم قوما هم إلى السقي محتاجون (٣٢٦) ، وسقى غدا آخرين ، وما يحدث في الأيام من الأرزاق للعباد وإحياء ما شاء من البلاد ، وبالمداولة بالأيام بين الأنام ما نزل بهم من المصائب الهائلات ، وما يمن به عليهم من الآلاء والنعم السابغات ، من ذلك ما يأخذ من الأقارب والآباء والإخوة والأبناء وجماعة القربى ، وما يهب عزوجل لمن يشاء من الأولاد الذكور ، وما يصرف ويدفع من الشرور ، فهذه الأشياء كلها التي تكون في لياليه سبحانه وأيامه مداولة منه لا شك بين عباده. فأما ما يظن الجهال ، وأهل التكمه في الضلال من أن معنى هذه الآية هو إدالة الفاسقين على الحق والمحقين ، وأنه يمكن في الأرض للفاجرين ، ويمهد للفسقة العاصين بما قد حرم عليهم ، ولم يجعله ـ بحمد الله ـ لهم ، بل شدده عليهم غاية التشديد في ترك مشاقة أهل الحق والتسديد ، وأمر في ذلك بالاتباع لهم ، وترك الخلاف في جميع الأسباب عليهم ، (فهذا كذب منهم على رب العالمين ، وكيف يجوز أن يديل ويمهد للعاصين) (٣٢٧) ، بل كيف يتوهم على الرحمن الكريم الواحد ذي الجلال العظيم أن يكون أدالهم وأعطاهم ما عنه زجرهم ونهاهم؟ فتبارك ذو السلطان المبين عن مقالة أهل الضلال الجاهلين. (والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم) (٣٢٨)

تم جواب مسألته

المسألة السابعة عشرة : معنى قول الله : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) ، ومعنى الإذن فيها

ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن قول الله عزوجل : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى

__________________

(٣٢٦) في (أ ، ج) : يحتاجون.

(٣٢٧) ساقط من (ب).

(٣٢٨) غير موجودة في (ب).

٣٥٠

الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٦٦] ، فقال : خبرونا عن الإذن وإنكاركم أن يكون الله أذن في المعاصي. فقل : الإذن من الله على وجهين : فإذن أذن فيه أمر يأمر به ؛ وإذن أذن فيه إرادة منه أن يكون لما يشاء من أمره. وما كان من معصية فلا تكون إلا بإذنه ـ وكذلك أظنه (٣٢٩) ـ وذلك إرادة منه. فإن قالوا : نعم ؛ فقد أقروا بنفاذ أمره وإرادته ، وإن جحدوا وأنكروا ، فإن الله قد أكذبهم في كتابه ، فقال للمؤمنين : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) ، يعني بذلك ما أصابهم من القتل والهزيمة. وإنما كان ذلك تأييدا للكافرين ، فقد أذن الله للكافرين أن ينالوهم بما أصابوهم من القتل والجراح والهزيمة. فإن زعموا أن إذن الله أمره ، فقد زعموا أن الله أمر بالمعاصي ، وأمر المشركين أن يقتلوا المؤمنين ، وكل مأمور إذا فعل ما أمر به فهو مطيع وله عليه أجر ، والكتاب يكذبهم ، وإن زعموا أن إرادته على وجهين : على وجه الأمر ، والآخر على وجه الإرادة ، فقد أقروا بالحق ، وفي ذلك نقض لقولهم ورد عليهم ، فقد زعموا أن الله يريد أن يكون ما لا يأمر به ولا يرضاه.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما قال ، وعنه بجهالته سأل ، من قول الله تبارك وتعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) ، فقال : إن ذلك عنده من الله إذن للكافرين فيما نالوه من الرسول والمؤمنين في يوم أحد من القتل ، وما نالوا به حمزة رحمه‌الله من المثل (٣٣٠) ، وما نالوا به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الجراح ، وما اجترءوا على الله فيه وعليه من هشم

__________________

(٣٢٩) انظر كيف اتبع الظن.

(٣٣٠) قال في اللسان : مثلت بالقتيل ، إذا جدعت أنفه وأذنه أو مذاكيره أو شيئا من أطرافه ، والاسم : المثلة.

٣٥١

وجنته وكسر رباعيته ؛ فكيف يتوهم من كان له عقل وفهم يبين به عن الجهل أن الله أذن لأعدائه في فعل ذلك بأوليائه؟ كذب من ظن ذلك وقال على الله بهتانا وزورا ، وكانوا عنده سبحانه قوما بورا ، وكيف يأذن للفاسقين في القتل والسواية إلى المؤمنين وهم الخيرة عنده من عباده أجمعين ، بل الإذن منه للمؤمنين في قتل المشركين وقتالهم حتى يسلموا أو يفيئوا عن جهلهم وضلالهم ، ألا تسمع كيف يقول سبحانه للمؤمنين : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) [محمد : ٤] ، ويقول : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة : ١٢٣] ، ويقول سبحانه : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] ، ففي كل ذلك يأمر المهتدين بقتال الضالين المضلين وبقتل المحادين المشركين. فهل سمع الحسن بن محمد بشيء من كتاب الله سبحانه وأمره وإذنه للمؤمنين؟ وزجره أمرا منه للكافرين بقتال المؤمنين أو حضا لهم على المسلمين؟ بل في كل كتابه يأمر بقتال الكافرين ويحض على محاربة الفاسقين ، ومن ذلك قوله : (قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ، وقال ترغيبا في قتال الناكثين ، (وتفضيلا للمؤمنين المجاهدين على جميع العالمين) (٣٣١) : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة : ١١١] ، فدل بما جعل لهم من الجزاء ، وأعد لهم على ذلك من كريم العطاء أن ذلك من فعلهم له رضى.

ثم قال فيمن تعدى على المؤمنين ، وخالف فيهم حكم رب العالمين : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) [البروج : ١٠] ، فأخبر أنهم على ذلك عنده معذبون ، فدل ذلك من فعل العدل الرحيم على أنهم كانوا له مخالفين ، وفي تعديهم وقتلهم له عاصين ، وعلى فعلهم لا فعله أوجب عليهم العذاب ، ولو كان أذن لهم في ذلك لأجزل لهم عليه الثواب ، فسبحان الرءوف الجواد ، البريء من أفعال

__________________

(٣٣١) سقط من (ب).

٣٥٢

العباد ، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد ، المتقدس عن الإذن بالفساد.

فليعلم من سمع قولنا من العالم أن الإذن من الله على معنيين :

فأما أحدهما : فإذن أمر وإرادة وحكم ومشيئة ، وذلك قوله سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم : ٧] ، فهذا معناه معنى حكم بالزيادة للشاكرين ، وبالعذاب للكافرين ، وكذلك قوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج : ٣٩].

وأما المعنى الآخر : فإذن تخلية وإمهال للعصاة فيما يكون منهم من العصيان ، فعلى ذلك يخرج معنى قول الله سبحانه : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) يعني تعالى بتخلية الله لهم ، وكذلك قال سبحانه في هاروت وماروت ، ومن يتعلم منهما : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ١٠٢] ، يريد سبحانه بتخلية الله لهم لإثبات الحجة عليهم ، إذ قد مكنهم من العمل والفعل ، ثم أمرهم بتقواهم وبصرهم عنهم وهداهم ، وعن تعليم السحر وتعلمه نهاهم ، فإن ائتمروا ، وتعليم السحر وتعلمه تركوا ، أنيلوا الثواب ، وإن أبوا ، وما نهوا عنه تخيروا ، أوجب عليهم بفعلهم العقاب ، وحرموا بذلك من الله الثواب.

تم جواب مسألته

المسألة الثامنة عشرة : تزيين الله لعباده

ثم أتبع ذلك المسألة عن التزيين ، فقال : خبرونا عن التزيين بالإرادة دون الأمر ، فإن أنكروا أن الله يزين لعباده دون أن يكون أمرا منه ، فقد رد الله عليهم قولهم ، فقال في الأنعام : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) [الأنعام : ١٠٨] ، وقال في آخر السجدة : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) [فصلت : ٢٥] ، وقال في النمل : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) [النمل : ٤] ، هذا كله تزيين إرادة؟ أو ليس إرادة؟

تمت مسألته

٣٥٣

جوابها :

وأما ما سأل عنه وقال ، وتوهم من زور المحال ، من أن الله تباركت أسماؤه ، وعزت بكريم ولايته أولياؤه ، زين للكافرين أعمالهم تزيينا ، وحسنها في قلوبهم تحسينا ، وأنه أراد بذلك منهم إقامتهم فيها ، ومثابرتهم عليها ، جل الله عن ذلك وتقدس عن أن يكون كذلك ، واحتج في مقاله ، وفيما ارتكب من ضلاله بقول الله سبحانه : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) ، فصدق الله تبارك وتعالى فيما قال ، وتقدس ذو الجبروت والجلال.

فأما قوله تبارك وتعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، فإن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام المخزومي لعنه الله ؛ وذلك أنه لقي أبا طالب عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا أبا طالب إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ، ويقع في أدياننا. واللات والعزى لئن لم يكف عن شتمه آلهتنا لنشتمن إلهه. فأنزل الله في ذلك ما ذكر في أول هذه الآية ، تأديبا للمؤمنين ، فأمرهم بالكف عن شتم أصنام المشركين لكيلا يجترئوا بغير علم على شتم رب العالمين.

وأما ما احتج به الحسن بن محمد في الآيات المنزلات آية النمل ، وآية الأنعام ، وآية حم السجدة ، وما ذكر فيهن ذو الجلال والإكرام من قوله : (زَيَّنَّا) ، و (قَيَّضْنا) ، فإن ذلك من الله هو الإمهال ، وترك المغافصة لهم بقطع الآجال ، وما كان في ذلك منه لأهل الجهل من التبري منهم والخذل منه سبحانه لمن عشا عن ذكر ربه منهم. فلما أن أمهلوا ، وعلى ما هم عليه من الشرك والكفر تركوا ، وبالعقوبات لم يعاجلوا ، وأملى لهم ليرجعوا ، فتمادوا ، ولم ينيبوا ، ورأوا من إمهال الله وتأخيره لهم ، وصرف ما عاجل به غيرهم من القرون الماضية والأمم الخالية من ثمود وعاد وفرعون ذي الأوتاد ، وقوم نوح ، وقوم لوط ، وأصحاب الرس ، والأيكة ، وقوم تبع ، والمؤتفكة ، وغير ذلك من القرون المهلكة ؛ فزادهم تأخير ذلك عنهم ـ اجتراء وتكذيبا ، ومجانة وافتراء وترتيبا بصرف ذلك عنهم ـ ما هم عليه من أعمالهم وفاحش قولهم وأفعالهم. فكان إملاء الله لهم ، وتركهم ليرجعوا أو لتثبت الحجة عليهم ، وتنقطع المعذرة إليهم ، هو الذي أطعمهم وزين عملهم

٣٥٤

لهم فجاز أن يقول : (زَيَّنَّا لَهُمْ) ، إذ قد تفضلنا وأمهلنا وأحسنا في التأني بكم ورحمنا ، وكذلك تقول العرب لعبيدها ، يقول الرجل لمملوكه إذا تركه من العقوبة على ذنب من بعد ذنب ، وتأنى به وعفا عنه وصفح ليرجع ويصلح فتمادى في العصيان ، ولم يشكر من سيده الإحسان ، فيقول له سيده : أنا زينت لك وأطمعتك فيما أنت فيه إذ تركتك وتأنيت بك ، ولم آخذك ولم أعاجلك. فهذا على مجاز الكلام المعروف عند أهل الفصاحة والتمام.

وأما الآية التي في حم السجدة [(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) [فصلت : ٢٥]] ، فكذلك ، الله أوجد القرناء وخلقهم ، ولم يجمع بينهم وبين من أطاعهم ، ولم يأمرهم بطاعتهم ، ولا اتباعهم ، بل حضهم (٣٣٢) على مخالفتهم ، وأخبر بعداوتهم ، ونهاهم عن اتباع الهوى ، فقال : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) [الكهف : ٢٨] ، (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) [القلم : ١٠] ، وقال فيمن يأمر ويوسوس بالسوء من الشياطين : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦] ، فبين كل ما افترض وأمر به ، فلم يترك لذي علة قبله متعلقا ، فكان تقييضه لهم ما ذكر من القرناء هو تخليته لهم وتبرئه منهم ، وترك الدفع لنوازل الأسواء عنهم ، وذلك فيما تقدم عنهم من الكفر بربهم والشرك بخالقهم.

تم جواب مسألته

وبتمامها (٣٣٣) تم الجزء الأول ؛ والحمد لله كثيرا ، وصلواته على خير خلقه محمد النبي وآله الطيبين وسلامه ، (وحسبنا الله وحده وكفى) (٣٣٤) ويتلوه الجزء الثاني من مسائل الحسن بن محمد بن الحنفية ، في تثبيت الجبر والتشبيه ، ورد الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين

__________________

(٣٣٢) في (ب) : حظهم.

(٣٣٣) سقطت من (أ).

(٣٣٤) سقطت من (ب).

٣٥٥

بن القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام في نفي ذلك عن الله سبحانه ، وإثبات العدل والتوحيد ، وتصديق الوعد والوعيد.

٣٥٦

بسم الله الرحمن الرحيم

(وبه نستعين) (٣٣٥)

المسألة التاسعة عشرة : الفرق بين الجعل التشريعي والجعل التكويني

ثم أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) ... إلى آخر الآية ، فقال : أخبرونا عن الجعل بالإرادة دون الأمر ؛ فإن أنكروا ، فأخبرهم أن الله يقول : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) [الكهف : ٥٧] ، وقال سبحانه : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الممتحنة] ، وفي آيات كثيرة من الكتاب ، فيقال لهم : ما ذلك الذي جعل الله ، وهو كائن كما جعل؟ فإن قالوا : إنما ذلك الدعاء. فقلنا : إن الدعاء قبل ذلك ، فقد دعا العباد جميعا ، وهذا شيء قد خص به من يشاء من خلقه ، ولم يعمهم ؛ لأنه إنما يهتدي من جعل الله في قلبه الهدى ولم يعمهم بالهدى. فإن قالوا : قد نعلم أن الله قد جعل الناس كلهم مهتدين ، ولا نقول إن الله قد جعلهم كفارا. فقل : إن الله يرد عليكم قولكم في كتابه ، فإنه قد قال : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٦٠] ، ألا ترى أن الله قد جعل منهم القردة والخنازير؟ فإن زعموا أن الله إنما سماهم بذلك ونسبهم إليه ، وإن أقروا أن الله جعلهم عبدة الطاغوت ؛ فذلك نقض قولهم. وإن قالوا : إن الله لم يجعلهم عبدة الطاغوت ؛

__________________

(٣٣٥) سقط من (ب).

٣٥٧

كان ذلك تكذيبا منهم ، فقل : فإن الله قد قال أيضا : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) [الأنعام : ١٢٣] ، ألا يرون أن الله يخبر أنه قد جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها؟ فإن قالوا : إنه لم يجعلهم فيها ليمكروا فيها ؛ كان ذلك تكذيبا منهم ، وإن أقروا كان ذلك نقضا لقولهم.

وقد قال الله لقوم فرعون : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) [القصص : ٤١] ، فإن قالوا : نعم ؛ كان ذلك نقضا لقولهم ، وإن قالوا : لا ؛ فقد كذبوا ، والله يقول : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [النحل : ٨٠ ـ ٨١] ، ألا ترى أن الناس هم غزلوا ونسجوا ، وعملوا الدروع واتخذوا المساكن والبيوت ، ثم نسب ذلك منه وإليه ، وأخبر أنه خلقه ، فمنّ به عليهم ، وذلك أنه أراده ، فكان ما أراده ولم يأمر به.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه من قول الله عزوجل : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) ، فتوهم وظن ، فقال : إن الله جعل على قلوبهم أكنة حتى لا يفقهوه ، وفي آذانهم وقرا ، وأن ذلك من الله فعل بهم ليشقيهم ؛ وليس ذلك ـ لعمره ـ كذلك ، ولو كان الله عزوجل الذي حجب قلوبهم وآذانهم عن ذلك لم يبعث الرسل إليهم ، ولم يحتج ببرهانه عليهم ، وكانوا عنده في تركهم لذلك معذورين ، وكانوا على ذلك مثابين ، إذ هم لما أرسل إليهم به غير مستطيعين ، وقد قال الله سبحانه : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٣٣] ، وقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) [الطلاق : ٧] ، فكيف يكلفهم الائتمار وقد حجب قلوبهم عن الاعتبار؟ فتبارك الله العزيز الجبار.

٣٥٨

بل معنى قوله جل جلاله ذلك : هو إنكار لقولهم الذي قالوا حين دعاهم الرسول إلى الحق وبين ما هم عليه من الباطل والفسق ، فقالوا له استهزاء وعبثا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) [فصلت : ٥] ، فقال الله سبحانه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحكي قولهم ، ويرد كذبهم عليهم ، فقال : (إِنَّا جَعَلْنَا) ، يريد سبحانه : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة كما قالوا ، وفي آذانهم وقرا كما ذكروا ، بل الزور في ذلك قالوا ، وبالباطل تكلموا ؛ فأراد بذلك معنى الإنكار عليهم والتكذيب لهم والتقريع بكذبهم ، وتوقيف نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على باطل قولهم ، وجليل ما أتوا به من محالهم ، فقال : (إِنَّا) ، وهو يريد : أإنا ؛ فطرح الألف استخفافا لها. والقرآن فعربي ـ إلى النور والحق يهدي ـ والعرب تطرح الألف من كلامها وهي تريدها ، فيخرج لفظ الكلام إخبار ونفي ، وهو تقريع وإيجاب واستفهام ؛ وتثبتها وهي لا تريدها ، فيخرج لفظ الكلام لفظ شك ، ومعناه معنى خبر وإيجاب في كل ما جاءت به من الأسباب. من ذلك قول الله سبحانه : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : ١ ـ ٢] ، فقال : (لا أُقْسِمُ) ، وإنما أراد : ألا أقسم ؛ فطرح الألف منها ، فخرج لفظها لفظ نفي ، وهي قسم وإيجاب. وقال في عبده ونبيه يونس صلى الله عليه : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] ، فقال : أو يزيدون ؛ فأثبت الألف وهو لا يريدها ، فخرج لفظ الكلام لفظ شك ، ومعناه معنى إيجاب وخبر ، أراد سبحانه : وأرسلناه إلى مائة ألف ، ويزيدون على مائة ألف.

فأراد بقوله : (إِنَّا جَعَلْنَا) التقريع لهم ، والتوقيف لنبيه على كذبهم ، لا ما يقول الجاهلون إنه أخبر عن فعله بهم. ألا ترى كيف يدل آخر الآية على أولها ، من قوله : (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) ، يقول : فإن كان الأمر على ما يقولون وكنا قد فعلنا بهم ما قد يذكرون فلم أرسلناك تدعوهم إلى الهدى (وتزحزحهم عن الردى ، وهم لو كانوا كذلك ، وكنا فعلنا بهم شيئا من ذلك ، ثم دعوتهم إلى الهداية) (٣٣٦)

__________________

(٣٣٦) سقط من (ب).

٣٥٩

لم يطيقوا أن يهتدوا إذا أبدا. ألا تسمع قوله : (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) فقال : (إِذاً) (٣٣٧) يريد : إن كان ما يقولون علينا مما ذكروا أنه على أبصارهم وأسماعهم وقلوبهم فعلا منا بهم ، فلن يهتدوا إذا أبدا إن كنا منعناهم بذلك عن الاهتداء ، فكيف نرسلك إلى من لا يستطيع أن يهتدي ، ولا يفلح ولا يقتدي؟ فهذا ما لا نفعله بك ولا بهم ، ولا نجيزه فيك ولا فيهم ، ولا نراه حسنا من فاعل لو فعله من البشر.

وقد يمكن أن يكون الجعل من الله عزوجل للأكنة والوقر الذي ذكر هو الخذلان لهم وتركهم من التوفيق والتسديد ، فلما تركوا من عون الله وتسديده تكمهوا وغووا وهلكوا ، ومالت قلوبهم في أكنة الهوى ، فأعقبهم ذلك شقاء ووقرا ، فالوقر هاهنا هو ترك الاستماع للحق وما يركبون من الفسق.

وأما ما قال وعنه سأل من قول الله عزوجل : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، فتوهم أن الله جعل فيهم مودة قسرهم عليها ، وأدخلهم جبرا فيها ، وليس ذلك بحمد الله كذلك. وتفسير هذه الآية فهو يخرج على معنيين ، وكلاهما شاف ، ومن التطويل كاف :

فأولهما : ما جعل الله للمؤمنين من الإذن وأطلق لهم من البر والإقساط والإحسان إلى من كان على غير الإيمان من المشركين ، الذين لم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من ديارهم ولم يظاهروا على إخراجهم ، فقال : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) ، ثم قال : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة : ٨] ، فكان ما أطلق لهم من البر والإقساط أول الرحمة منه لهم ، وجعل المودة بينهم ؛ إذ قد أطلق لهم من الفعل ما يجلب المودة ويزرع المحبة ، من اللطف والبر ، في العلانية والسر. فلما أن تباروا وتنافعوا ، جرت المحبة والمودة للمؤمنين في قلوب الكافرين لما ينفعونهم به ويحسنون إليهم فيه ، فكان الإذن من الله عزوجل للمؤمنين بما يجتلب المودة في الإقساط إلى الكافرين أفضل المنة منه على

__________________

(٣٣٧) سقطت من (ب).

٣٦٠