مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

فيها ، لا ما قال ابن عباس من أنها هي المنزلة على أنبيائه ، من توراته وإنجيله ، وما نزل على محمد من فرقانه ، ألا تسمع كيف يقول : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر : ٥٢ ـ ٥٣] ، وهذه الكتب المطهرة من التوراة والإنجيل والفرقان المكرمة ففيها بعض ما فعل العباد ، وكثير منها لم يقص خبره ، ولم يذكر جل جلاله أمره ، كما قال ذو العزة والأياد ، ورافع السماء وداحي الأرض ذات المهاد : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٧٨] ، وقال : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) [القصص : ٣] ، يريد نقص عليك بعض خبرهما ، وما كان من محاورتهما وأمرهما ، وقال سبحانه في أهل الكهف ، وما كان من سؤال قريش للنبي عنهم ، فقال الله في ذلك : (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) [الكهف : ٢١ ـ ٢٢] ، وقال سبحانه : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) ، وقال : (مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) ، فأخبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما كان من قول أهل بلدهم فيهم ، وقص عليه قبل ذلك ما كان من فعلهم في أنفسهم ـ رحمة الله عليهم ـ واعتزالهم إلى الكهف ، وإخلاصهم لله دينهم ، ثم أمره بأن لا يماري فيهم إلا مراء ظاهرا ، وكتمه عدتهم ، ثم قال : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) ، ففي كل ذلك يخبر أنه لم يعلمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يخبره في كتابه من أخبار من مضى وفات في قديم الدهر وانقضى (٢٥٩) إلا باليسير من القصص دون الكثير ، ويدل على أن ما لم يقص عليه من أخبار الأمم الماضية ، والحقب الخالية أكثر مما قص ، وأعظم وأطول وأطم ، وكل ذلك فدليل من الله في واضح التنزيل ، على أن ما ذكر الله من الزبر التي فيها كل ما فعله العباد مستطر غير هذه الكتب التي ذكر فيها جزءا وترك ، ولم يذكر بعضا ؛ لأن ما جمع فيه

__________________

(٢٥٩) سقطت من (ب).

٣٠١

كل شيء بخلاف ما جمع فيه بعض شيء ، إذ نصف الشيء وبعضه خلاف الشيء كله.

فأما الكتب التي ذكرها الله في كتابه ونزل فيها ما نزل من وحيه وقرآنه ، فهي ما أقسم به سبحانه حين يقسم فيقول : (وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) [الطور : ١] ، وقوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] ، وقال سبحانه فيما حكى عن مؤمني الجن إذ صرفهم إلى نبيه يستمعون من القرآن ، فقال : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأحقاف : ٢٩]. فهذا وما كان مثله في القرآن من ذكر الكتاب والكتب فهو ما أوحى الله ونزل سبحانه مما قص فيه من أخبار خلقه وما أراد ، وترك ما لم يرد من أخبار العباد.

ثم نقول من بعد شرحنا ما أراد الله في قوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) : إن هذه الزبر ، وإن الاستنساخ ، وإن الكتاب الذي يخرج لهم فيه أخبارهم وما كان من أعمالهم ، فهو كاللوح المحفوظ ، واللوح والكتاب والزبر عند رب الأرباب ، فهو العلم المعلوم ، والمحيط بالملك المفهوم ، الذي لا يزل شيء من الأشياء عنه ، ولا يخرج ولله الحمد منه ، وهو علم الله العالم بنفسه ، المتقدس عن شبه خلقه. وإنما يحتاج إلى كتاب المعلومات من يكل علمه في بعض الحالات ، فأما رب الأرباب فهو محيط بكل الأسباب. فكل ما عمل الخلق فهو في العلم المستطر ، أي فمعناه : معلوم مختبر ، يوقفهم في يوم حسابهم عليه فيعرفونه طرا لديه ، فلا يضل عن أفهامهم بقدرة الله شيء من أعمالهم ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] ، وقال : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] ، وقال لقمان لابنه وهو يعظه : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان : ١٦] ، وقال في ذلك رب العالمين : (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧] ، فأخبر أنهم يلاقون كل ما كانوا يفعلون ، وأن ذلك كله صغيره وكبيره مثبت في الزبر عنده ، وكل هذه الأسباب تدل على أن الزبر خلاف ما نزل من الكتاب.

٣٠٢

ثم قال : إن أثبتوا أن أفعال العباد شيء ، فسلهم : من خلق ذلك الشيء؟

فنحن بحمد الله نقول ، وعليه منا المعمول : إن خالق كل شيء عامله ، وعامله ففاعله ، قال سبحانه : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] ، فسمى العاملين خالقين ، وقال شاعر من فصحاء العرب :

ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثم لا يفري

يريد : أنك (٢٦٠) تتم ما دخلت فيه وصنعته ، وتكمل كل ما قمت به وعملته ، وغيرك لا يصدر إذا أورد وأنت تصدر حين تورد.

وقد يرى من يفسد ويسرق ويكذب ويفسق ، فهل يقول الحسن بن محمد في ذي الجلال خالقه إنه المتولي لذلك الفعل دون فاعله؟ فيكون قد قال بخلاف قول الله ، ورد في ذلك كله على الله حين يقول : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [الواقعة : ٦٣] ، فميز بين الحرث والزرع ، فجعل شق الأرض وحرثها وتسويتها وبذرها لهم فعلا ، وجعل إخراجه وفلق حبه وزرعه وتقويته له فعلا ، فقال سبحانه : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) [الأنعام : ٩٥] ، وكذلك تقول العرب للغلام إذا أرادت له الخير والإكرام : زرعك الله زرعا حسنا ؛ تريد : بلغك وأنبتك نباتا حسنا ، قال الله سبحانه : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) [آل عمران : ٣٧] ، يريد أنشأها وكبرها وغذاها فأحسن بأرزاقه غذاءها.

وقد يكون من هذه الأشياء ـ التي هي أفعال ـ الزنا وشرب الخمر وارتكاب الرذائل ، فما ذا يقول الجاهلون في هذه الأشياء؟ من فعلها عندهم؟ الخالق؟ أم المخلوق؟ ومن أظهرها وأوجدها الرب؟ أم المربوب؟ فتقدس وتعالى ذو الجلال عما يقول المبطلون.

بل ، ما يقول ـ ويحه وويله من الله سبحانه وعوله ـ في هؤلاء المجوس الذين أقاموا لأنفسهم نارا وبنوا لها تعظيما وإجلالا دارا ، ليلهم ونهارهم يؤججونها ويوقدونها ، وهم في

__________________

(٢٦٠) في (ب) : أنت.

٣٠٣

ذلك من دون الله يعبدونها ، أهم اجترءوا على الله فيما فعلوا؟ أم الله أدخلهم في عبادة ما عبدوا؟

فإن قال : بل فعله المجوس الأنجاس ، وتعدى به على الله العصاة الأرجاس ؛ فقد أصاب الجواب وأجاب في ذلك بالصواب. وإن قال : إن الله فعله ، وأدخلهم فيه ، وقسرهم على ذلك ، وأجبرهم عليه ؛ فقد زعم أنهم يصبحون ويمسون لله مطيعين وفي مرضاته سبحانه ساعين ، إذ هم في قضائه وإرادته متصرفون ، وفيما أدخلهم فيه داخلون ، وعما صرفهم عنه من طاعته منصرفون.

بل ، فليخبرنا أهل هذه المقالة من أهل المحاربة لله والضلالة : ما الذي يجب عليهم ويرضونه في أحبابهم وفيهم ، إذا رأوا مجوسيا يشتم الله؟ التغيير عليه؟ أم الإقساط إليه والإحسان؟ فإن قالوا : بل يجب عليه التغيير والنكير إن نحن سمعنا شاتما يشتم الرحمن اللطيف الخبير. قيل لهم : لم ذاك ، وأنتم تزعمون في أصل قولكم ، (أن الله الذي فعل أفعالكم وأفعالهم دونكم ، فيجب في قولكم) (٢٦١) ، أن الشاتم بريء من شتمه ، وأن الله سبحانه الشاتم دون المجوسي لنفسه ، إذ زعمتم أن ذلك فعل الله دون مخلوقه وعبده. فلئن كان عليه الله بذلك قضى فما قضى إلا بما أراد سبحانه وارتضى ، أفتنكرون على المجوس المؤتمرين بما أراده منهم رب العالمين؟! لقد إذا سخطتم من الله ما ارتضى ، ورضيتم له من ذلك له ما لم يرد ولم يشأ. بل الواجب في ذلك على كلكم ـ إن كان القول في الله كقولكم ـ تكرمة المجوس والإحسان إليهم ، إذ قد قاموا لله بما قضى به عليهم ، فهم لله في قولكم ومذهبكم مطيعون ، وأنتم ومن قال بقولكم لله سبحانه عاصون ، إذ أنتم لما أراد منهم ولم ينكره عليهم منكرون ، وأنتم لهم ظالمون ، وعليهم بالمنكر متحاملون.

ففي قليل مما احتججنا به من عدل الله ما كفى عن إعادة ما ذكرنا أولا وشفى ـ والحمد لله ـ عن التطويل وأغنى ، غير أنا لا نجد بدا إذا كرر وسأل من أن نشرح ونفسر كل ما يقوله من المقال ، وإذا احتج بالمحال أبطلناه ، وإذا عارض الحق بالباطل دمغناه ، كما

__________________

(٢٦١) سقط من (أ).

٣٠٤

قال مولانا لا مولاه : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء : ١٨] ، وقال في تولي المحقين وخذلان المبطلين : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١] ، يقول سبحانه : لا ولي ولا متولي ، ولا مرشد لهم ، ولا كافي.

تم جواب مسألته

المسألة التاسعة : الآجال

ثم أتبع ذلك المسألة عن الآجال ، فقال : خبرونا عن الآجال ، من وقتها؟ أموقتة هي أم غير موقتة؟ فإن قالوا : الله وقتها ؛ فقد أجابوك. فقل : هل يستطيع أحد أن يزيد فيها أو ينقص منها؟ إن شاء عجلها عن وقتها وإن شاء أخرها؟ فإن قالوا : لا ؛ فقد انتقض عليهم قولهم. وإن قالوا : نعم. فقل لهم : فقد زعمتم أن الناس يستطيعون أن يقدموا ما أخر الله ، ويؤخروا ما قدم الله ، وهذا هو التكذيب لما جاء من عند الله ، وذلك قوله : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [المنافقون : ١١].

تمت مسألته

جوابها :

وسأل عن الآجال ، فقال : هل يستطيع أحد أن ينقص منها أو يتعدى فيقطع ويتلف بعضها؟ وزعم أن ذلك لا يكون أبدا ولا يقدر عليه أحد أصلا ، ولا ينال أحد على أحد تعديا.

فقول أهل الحق أجمعين ، والله سبحانه على ذلك المعين : أن الله وقّت لعباده آجالا ، وضرب لهم في أمورهم أمثالا ، وجعل فيهم قدرة على أن يقتل بعضهم بعضا ، فمن شاء خاف ربه في كل حال واتقى ، ومن شاء كفر وظلم وأساء ، وجار في فعله وخالف واعتدى. ألا تسمع كيف يقول رب العالمين لجميع من أمره من المأمورين : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) [الأنعام : ١٥١] ، فنهاهم عن قتل النفس ، إذ علم أنهم عليه

٣٠٥

مقتدرون ، وفي ذلك ـ ولله الحمد ـ مطلقون وله مطيقون ، ولو لم يعلم أنهم كذلك ، ولا أنهم يقدرون على شيء من ذلك لما نهاهم عنه ولا حذرهم منه ؛ لأن نهي الإنسان عن الطيران مستحيل في اللغة واللسان ، وعند كل من عرف البيان.

ولقد فرق الله بين فعل عباده في ذلك وبين فعله ، وبين سبحانه لهم كل أمرهم من أمره ، فقال سبحانه : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق : ١٩] ، فأخبر أن سكرة الموت ، وورود ما ينتظر من الفوت من الله ، لا من الخلق ، فصدق الله ، إن الموت يأتي بالحق ، وينزل بما وعد من الصدق. فسمى ما كان منه حقا وحكما ، وما كان من عباده الظلمة عدوانا وظلما ، ولو كانا من الله شرعا سواء ، لذكر الله أنهما منه جميعا حقا.

وقال جل جلاله : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [آل عمران : ١٥٧] ، ففرق بين القتل والموت ، فكان القتل من عباده فعلا ، والموت منه ـ عزوجل ـ حتما.

وقال : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) [الإسراء : ٣٣] ، فقال : (قُتِلَ مَظْلُوماً) ، فأخبر بقوله مظلوما أن له قاتلا ظلوما عنيدا ، (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦]. فإن كان قتل بأجله فأين الظلم ممن قد استوفى كل أمله ، وفنيت حياته ، وجاءت وفاته ، وفنيت أرزاقه ، وانقضت أرفاقه؟ فما يرى إذا ذو عقل للقاتل في مقتول فعلا ، ولا عليه تعديا ولا قتلا ، ولا جناية ولا ظلما. ولا يرى له حاكم عليه حكما أكثر من جرح إن كان جرحه ؛ أو وكز إن كان وكزه ؛ لأن قاتله ومفني أرزاقه ومبيد أيام حياته هو رب العالمين في قول الجاهلين. ولو كان ذلك كذلك لنجا القاتل من المهالك ، ولم يكن على من جرح إنسانا متعمدا (٢٦٢) جرحا فقتله أكثر من أن يجرح جرحا مثله ويخلى ، فإن مات منه مضى ، وإن برأ منه فقد سلم ونجا.

وكذلك قال الله : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [المائدة : ٤٥] ، فما معنى قوله : (النَّفْسَ

__________________

(٢٦٢) في (ب) : متعديا.

٣٠٦

بِالنَّفْسِ) عندهم ، وما ذا يقع عليه حقا ظنهم؟ أشيء سوى إخراج نفسه من جسده كما أتلف وأخرج نفس صاحبه بجرحه؟ ولو كان كما يقولون لكان واجبا على الحكام إذ يحكمون أن يقتصوا منه لأولياء المقتول جرحا ، وخلوا عنه بعد ذلك ، ولا يطلبون لنفسه تلفا ولا قتلا ، وإن انقطع أمله وحان أجله مات ، وإن لم يحن أجله ونجا من القتل والفوات ، فيكون قد أتوا على ما قال الله في قوله : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ). لا! بل أراد سبحانه من ولي الأمر إخراج نفسه وإتلاف روحه وقطع عمره ، ليجد غب ما اكتسب من فعله.

وقال سبحانه : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) ، فما هذا السلطان الذي جعله الله لولي المقتول عند من قال بهذا البهتان والزور من القول المخبول؟! فلا يجدون بدا ولله الحمد من أن يقولوا إنه ما جعل الله له من القتل عليه وأطلقه له فيه بجناية يديه ، فله أن يقتله إن شاء ، وإن شاء أخذ الدية أو عفى. ثم يقال لهم : هل جعل الله له سلطانا على ما يقدر إذا شاء عليه أم على ما لا يصير أبدا إليه؟ فإن قالوا : على ما يقدر عليه ؛ فقد رجعوا عن مقالتهم ، وتابوا إلى الله من جهالتهم. وإن قالوا : على ما لا ينال ؛ أبطلوا كتاب الله ذي الجلال ونسبوه سبحانه إلى الاستهزاء وقول الزور في ذلك والردى. ثم يقال لهم : هل يقدر أحد من المخلوقين على قتل أحد من المربوبين ، وإن كان لم ينقطع أجله ، ولم يفن في ذلك أمله ، ولم يبلغ المدى الذي جعله الله مداه وصيره له أجلا وجعله منتهاه؟ فإن قالوا : يقدر على ذلك منه بما جعل الله من الاستطاعة فيه ؛ فقد تركوا قولهم ، وقالوا بالحق ، ورجعوا وقالوا على خالقهم سبحانه بالصدق. وإن هم قالوا بخلاف ذلك ، فقد أبطلوا ما جعل الله لولي المقتول من السلطان ، وأكذبوا الله فيما أنزل من البرهان. وإن قالوا : نحن نقول إن السلطان هو قتله بما قتل ، ولم يمكن الولي تركه أبدا ؛ لأنه إذا وجب عليه السلطان فقد انقطعت حياته ، وحلت وفاته ، فلم يقدر على تخلية سبيله ، ولا بد للولي من أن يقتله بقتيله. قيل لهم : فأين قول الله جل جلاله وتقدس عن أن يحويه قول أو يناله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة : ١٧٨] ، فما معنى (عُفِيَ)؟ وإن جحدوا القرآن وأبطلوه

٣٠٧

كفروا ، وإن سلموا للحق ، فقالوا : يمكنه العفو والصفح وأن يتصدق بذلك ويهبه ويأخذ الدية منه (٢٦٣) ويتركه. قيل لهم : يا سبحان الله! ما أشد تناقض قولكم وأفحش ما تجيبون به من مذهبكم ورأيكم!! ألستم تقولون في أصل مقالتكم إنه لا يوقف ولا يقدر عليه ، ولا ينال منه حتى ينقطع أجله فحينئذ يقتله من أطلق له قتله ، وأنه إذا سلم إلى صاحبه فقد انقطع أجله وذهبت أيامه ، فكيف إذا يقدر ولي القتيل (٢٦٤) على تركه والعفو عنه؟ وعلى تخلية سبيله يعيش ويأكل ويظل يمشي ويقعد ويورد ويصدر ، ويقبل ويدبر ، وقد انقطع أجله وذهبت أيامه ، وفنيت أرزاقه؟ أيقدر هذا على أن يعفو والعفو يكون به للقاتل الحياة ، وتزول عنه الوفاة؟ فكيف يقدر على ذلك وقد انقطع عنه بزعمكم أجله ، وذهب عمله وفني رزقه ، وكتب الله عليه موته؟ كذب العادلون بالله ، وقالوا ظلما ، واستحقوا بذلك عند الله إثما ، وجعلوا أمور الله كلها عبثا وهزؤا.

ويقال لهم : ما تقولون في قول الله سبحانه : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) [البقرة : ٦١] ، فسمى الله الجليل قتلهم لكل من قتلوا من قتيل عصيانا ، وذكره منهم جورا وعدوانا ، فما قولكم في ذلك؟ وما تدينون به وتعتقدون؟ أتقولون إن قتل الفاسقين لمن قتلوا من المؤمنين كان بأمر من رب العالمين ، وقضاء منه على الكافرين؟ ولو كان ذلك كذلك لوجب لمن أنفذ قضاء ربه أجزل الثواب على فعله وأمره ؛ وقد وعدهم الله على ذلك النيران ، وألزمهم في ذلك اسم العدوان ، وهذا فأعظم الكفر بالرحمن ، وما لم يقل به عليه الشيطان. وإن قلتم : بل كان ذلك لمن فعله فعلا ، ومنهم على المؤمنين اعتداء ؛ انتقض قولكم ، ورجعتم إلى الحق في الله والصدق.

ويقال لهم : إذا زعمتم أن الأجل انقطع بأمر الله ، وأن الله جاء به ، وأن انقطاعه من عنده ، فمن جاء بالقاتل حتى قتل المقتول ، الله جاء به وقضاه عليه وأدخله فيه؟ أم إبليس أغواه وزين له قتله لديه؟ فإن زعمتم أن الله جاء بأجله وبقاتله لينفذ ذلك من علم الله فيه ؛

__________________

(٢٦٣) سقط من (أ).

(٢٦٤) في (ب) : القتل.

٣٠٨

فقد زعمتم أن الله جاء بالظلم والعدوان ، وأدخل العبد في العصيان. فإن كان ذلك عندكم كذلك فعلام يعذب الله الإنسان (إذ كان) (٢٦٥) في قولكم الله جمعهما على العصيان (٢٦٦) والظلم والبهتان.

ويسألون فيقال : ألستم تزعمون أنه لن تخرج نفس من أحد ، من حر ولا عبد ، حتى يأتي أجله ويستوفي أمله وكل عمله؟ وذلك من الله زعمتم. فما تقولون في رجل ضرب السكين ضربة واحدة في نحر عبد مسكين ، فمات وأنتم تنظرون ، فما الذي أوجب الله عليكم من الشهادة؟ أتشهدون أنه قتله؟ أم (تقولون : بل نشهد (٢٦٧) أنه وجأه (٢٦٨) وجرحه ، ولا ندري من قتله؟ أم تقولون : إن ربه الذي أتلفه ؛ لأنه جاء بأجله ، ولو لم يأت أجله لدامت حياته ، وطال عمره ، ولم يكن الجرح ليرزأه؟ فهكذا تقولون؟ أم عليه بتا بالقتل تشهدون؟ فإن شهدتهم بالقتل أصبتم ؛ وإن قلتم غير ذلك أحلتم. وما ذا تحكمون على هذا الذي رأيتموه وجأ نحر المقتول ، وفهمتموه وقامت عليه بذلك شهود ، وكلهم عند الإمام عدل محمود ، أترون وتحكمون بقتله كما قتل؟ كما قال الله سبحانه : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] ، أم تجرحونه جرحا مثله؟ فإن مات فذاك ، وإن سلم تركتموه لعلمكم أن الذي قتل الأول هو مجيء أجله وفناء أيامه ، وانقضاء أمله (٢٦٩) ، وتحلون عن هذا لما له من تأخير الأجل وطول الرزق والأمل ؛ لقد أبطلتم إذا حكم ربكم ، وفضحتم أنفسكم لأهل ملتكم.

ويسألون ، أيضا ، عمن قتل نفسه بيده ، أقتلها وهي حية في بقية من أجلها؟ أم ميتة قد انقضى أجلها؟ فإن قالوا : قتلها وهي حية في أجلها ، فقد أقروا أنه كانت له بقية فقطعها

__________________

(٢٦٥) سقطت من (ب).

(٢٦٦) غير موجودة في (ب).

(٢٦٧) في (أ) : أم تشهدون.

(٢٦٨) وجأه باليد والسكين : ضربه ، تمت من القاموس.

(٢٦٩) سقطت من (ب).

٣٠٩

بيده ، قلّت البقية أم كثرت. وإن قالوا : قتلها بعد أن فني أجلها ، فكل ما فني أجله فهو ميت لا شك عند فناء أجله ، وقتل ميت ميتا محال. فلله الحمد على ما هدى إليه من الحجة والمقال ، وله الحول في ذلك والقوة ، وله الجبروت والقدرة.

ويقال لهم : ويحكم! قال الله سبحانه : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) [الإسراء : ٣١] ، وذلك أن المشركين كانوا يقتلون أولادهم خشية الفاقة والعالة والفقر ، فنهاهم الله عن ذلك ، وأخبرهم أنه يرزقهم وإياهم كما خلقهم ، فكيف نهاهم عن قتل من قد جاء أجله وحان موته؟ وكيف يرزقهم وقد أفنى بزعمكم أرزاقهم بما جعل من قتل آبائهم لهم من انقطاع آجالهم؟ وكيف نهاهم عن قتل من ليست (٢٧٠) له حياة ولا بد أن تحل به الوفاة؟ فلقد أمرهم إذا أن يحيوا من قد أمات وأفنى أجله ففات. فأي قول أشنع من هذا القول في الله الكريم؟! فسبحان الممهل الحكيم!

وقال سبحانه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) [النساء : ١٠٢] ، أفتقولون إن الله سبحانه أمر نبيه أن يعبئ أصحابه فرقتين (٢٧١) ، فرقة تؤدي معه صلاة الفريضة ، وفرقة تحرس النبي وأصحابه وتلقى الكريهة (٢٧٢) وليس في ذلك منفعة ولا خير ، ولا دفع ما يخاف من التلف والضير من ميل العدو على المؤمنين ميلة واحدة ، فيكون في ذلك ما يخاف من الواقعة ، وأن ما أمر الله به من الاحتذار والحذر غير نافع له ولا لأصحابه ، وأن آجالهم إن كانت قد جاءت قتلهم أعداؤهم ، احترسوا أم لا ؛ وإن لم تكن جاءت لم يقدروا عليهم ، ولو ألقوا بأيديهم إليهم. فهذا من قولكم أعظم التخطئة لربكم ، وأجهل الجهل لنبيكم ، لقد أبطلتم

__________________

(٢٧٠) في (ب) : ليس.

(٢٧١) في (ب) : فريقين.

(٢٧٢) في (ب) : الكرهة.

٣١٠

إذا كتاب الرحمن ، وقلتم شططا وبهتانا.

ويقال للجهلة الضالين من المشبهين المجبرين : ما قولكم في قولكم ربكم ، وما يخرج ذلك عندكم حين يقول سبحانه : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال : ٦٧] ، ما أراد الله بهذا من قوله؟ أليس هذا عتاب منه لرسوله يخبره أنه لم يكن ينبغي له أن يأسرهم ولا يطيع أصحابه في التشاغل بأخذهم دون الإثخان لهم بقتلهم؟ ثم قال سبحانه وجل جلاله وعز سلطانه : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) [الأنفال : ٦٧] ، يريد بذلك ما أخذوه منهم وفيهم من الفداء ، ثم قال : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال : ٦٧] ، يقول : والله يريد منكم الاجتهاد في أمر الآخرة ، وما يقربكم إليه ويزيد في كرامتكم لديه ، ثم قال : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال : ٦٨] ، يقول : لو لا حكم من الله سبق بالعفو عنكم في وقت أسركم وترككم الاستقصاء في قتل عدوكم لمسكم فيما أخذتم من غنائمهم وفدائهم عذاب عظيم ، فتبارك الله الحليم الكريم. وأخبر الله تبارك وتعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قد فعل ما كان غيره أحب إلى الله وأرضى. ولم يتعمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لله في ذلك إسخاطا بل لعله توهم أن الأسر في ذلك الوقت أنكأ للكافرين وأذل وأشقى حتى أعلمه الله أن القتل في وقت قيام الحرب كان أنفع ، وعلى الإسلام وأهله بالخير أرجع.

أفيقول الحسن بن محمد وأشياعه ، ومن كان على الجهل من أتباعه : إن آجالهم كانت قد جاءت فدفعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم ، فعاب الله عليه ما فعل من دفع وفاتهم وتأخير ما كان الله قد جاء به من حضور آجالهم؟ أم يقولون : إن آجالهم لم تأت ولم تحضر ، وقد بقي لهم من الحياة زمان وأعصر ، فإنه قد كانت لهم مدة باقية ، وأرزاق دارة غير فانية ، فلم يستطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقطع ما لم يقدر على قطعه من آجالهم ، وأن يبيد ما قد بقي من أعمارهم ، فلامه الله إذ لم يفعل ما لم يستطع ، ويبيد ويقطع من ذلك ما لم ينقطع؟ فلا بد أن يقولوا بأحد هذين المعنيين أو يتقلدوا وينتحلوا أحد هذين القولين ، فيكونوا بانتحال أحدهما كافرين ، وفي دين الله سبحانه فاجرين ؛ أو يقولوا على الله ورسوله بالحق ، فيقروا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن كان معه من الخلق كانوا يقدرون على قتلهم والإثخان لهم وترك

٣١١

أسرهم ، ولا مهم الله في ذلك إذ هفوا وولهوا ولم يفعلوا.

تم جواب مسألته

المسألة العاشرة : هل الأرزاق مقسومة من عند الله؟

ثم أتبع ذلك المسألة عن الأرزاق ، فقال : أخبرونا عن الأرزاق ، من قدرها؟ ومقدرة هي؟ أم غير مقدرة؟ ومقسومة هي؟ أم غير مقسومة؟

فإن قالوا : نعم ، هي مقدرة ومقسومة ؛ فقد انتقض قولهم. فقل لهم : فهل يستطيع أحد أن يأخذ إلا رزقه؟ أو يأخذ إلا ما قسم الله له؟ (فإن قالوا : لا ، فقد انتقض قولهم ، وإن قالوا : نعم ، فقل : فكيف ذلك) (٢٧٣) فإن قالوا : إن الله خلق الأموال والأطعمة والأشربة فذلك رزقه ، وبين لهم حلالها (٢٧٤) ومأخذها ، فإن أخذوها من باب الحلال كانت حلالا ، وإن أخذوها من باب الحرام كانت حراما. فقل لهم : أفهم يأخذون لأنفسهم ما شاءوا؟ فأيهم شاء أن يكون غنيا مكثرا كان؟ وأيهم شاء أن يكون فقيرا معدما كان؟ فإن قالوا : نعم ؛ كذبوا لأن الناس كلهم حريص أن يكون غنيا وكاره أن يكون فقيرا ، وقد قال الله سبحانه خلافا لقولهم : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف : ٣٢] ، وقال : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [النحل : ٧١] ، في آي كثيرة من كتاب الله سبحانه.

تمت مسألته

__________________

(٢٧٣) ساقط من (أ).

(٢٧٤) سقطت من (ب).

٣١٢

جوابها :

وأما ما سأل عنه الجاهلون ، وتوهم في الله المبطلون أن الله الواحد الخلاق حرم على عباده أرزاقا رزقهم إياها ، وتفضل عليهم بها ، فرزقهم رزقا وآتاهم ثم عاقبهم على ما أعطاهم ، وأنه لا يأكل أحد ولا يلبس ولا ينتفع إلا بما رزقه الله وآتاه وصيّر إليه بما قدره له وأعطاه ، فقالوا في ذلك بتجوير الرحمن ونسبوه إلى الظلم والعدوان ، فقالوا : إنه يطعم ويرزق عباده طعاما ، ثم يكتبه عليهم حراما ، فيوجب عليهم على قبول ما أعطاهم العقاب ، ويحرمهم بأخذ ما صير إليهم الثواب.

وقد وجدناه سبحانه يكذبهم في قولهم ، ويبين ذلك لنا ولهم بما قسم بين عباده من الأرزاق ، ورفق عليهم من الأرفاق (٢٧٥) ، من ذلك ما حكم به في الغنائم ، والصدقات ، وما جعل من ذلك لذوي المسكنة والفاقات ، فقال سبحانه : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ) ... الآية [التوبة : ٦٠] ، فحكم بذلك لمن سمى من أولئك ، فحرمهم ذلك الفاسقون ، وأكله دونهم الظالمون ، فشربوا به الخمور ، وركبوا به الذكور ، وأظهروا به الفجور ، وأصروا على معاصي الله إصرارا ، وجاهروا الله (٢٧٦) بالمعصية في ذلك جهارا ، فأعد الله لهم على ذلك النيران ، وحرمهم ثواب الجنان.

وكيف يقول الحسن بن محمد ذو الغفلات ، ومن تبعه من ذوي الجهالات : إن الله سبحانه رزق (٢٧٧) هؤلاء الظالمين هذا ، وقد حكم به في كتابه للفقراء والمساكين ، وقال الله سبحانه : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [الأنفال : ٤١] ، فحكم بذلك لنفسه ، ولرسوله ، وقرابة نبيه ، ومن سمى من اليتامى والمساكين وابن السبيل في تنزيله ، فاستأثر به الفاسقون عليهم ، ولم

__________________

(٢٧٥) أحد معانيها : المنافع.

(٢٧٦) غير موجودة في (ب).

(٢٧٧) في (ب) : رزقه.

٣١٣

ينفذوا ما جعل الله من ذلك لهم ، بل دحروهم دحورا ، ونصبوا لهم دونه العداوة سرا وجهرا ، وقد جعله الله لأوليائه رزقا ، وحكم لهم به حكما حقا ، فغلب عليه الفاجرون ، وظلموهم فيه ظلما.

وقال سبحانه : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [الحشر : ٧]. فكان الذي أتى به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أنزل الله في وحيه من فرائضه ، وقسمه فيه في أوليائه من خلقه ، فخالف على ذلك الفاجرون ، ورفضوا ما جاء به خاتم النبيين من الله رب السماوات والأرض (٢٧٨) ، فجعلوه دولة بين أغنيائهم ، وحرموه من جعله الله له من فقرائهم ، عماية وصمما ، ومجاهرة لله وظلما ، فأخذوا ما جعل الله لغيرهم ، وتعدوا ما حكم الله به فيهم. ولا يشك من كان لبه سالما ، وكان بأمر الله عالما أنهم على ذلك معذبون ، وأنهم على مخالفته فيه مسئولون.

فكيف يقول الحسن بن محمد : إن الله رزق هؤلاء الظالمين المعتدين الفاسقين رزقا ، ثم صيره لهم وسلمه في أيديهم ، ثم يعذبهم عليه ، ويحاسبهم فيه؟ أم كيف يجترئ ويقول : إن الله رب العالمين والسماوات والأرض ، جعله لمن حكم له به من ضعفة المسلمين ثم انتزعه منهم فجعله رزقا للأغنياء الفاسقين دونهم؟ فكيف يكون ذلك والله سبحانه يقول : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ)؟ أو لم يسمع من ضل وغوى فقال على خالقه بالقول الردي الله سبحانه كيف يقول في الوحي المذكور في كتابه المسطور : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء : ١٠] ، فعلم أن في خلقه من سيأكل أموال اليتامى عدوانا وظلما فنهاهم عن ذلك ، وحرمه عليهم ، وحكم بعذاب السعير لمن استجاز ذلك فيهم. أفيقول المبطلون إن الله سبحانه جعل أموال اليتامى لمن نهاه عن أكلها رزقا ، ثم نهاهم عن أكل ما رزقهم وآتاهم؟ لقد قالوا على الله كذبا ،

__________________

(٢٧٨) في (ب) : والأرضين.

٣١٤

وضلوا ضلالا بعيدا.

ثم قال جل جلاله ، وصدق في كل قول مقاله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] (٢٧٩) ، فحكم للأنثى بجزء وحكم (٢٨٠) للذكر بجزءين ، ثم قال : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ). فما يقول من ضل وعمي ، وحار وشقي إن وصيّ تعدى ، وفي المخالفة تردى ، فحرم بتعديه الوالد ، ومنع من ميراث أبيه الولد ، وأخذ ذلك فأكل به واكتسى وشرب ، وتزوج ولهى ، هل يكون ذلك عندهم له من الله رزقا رزقه إياه؟ وقد يسمعون حكم الله به للورثة دون من أخذه واصطفاه. فقد أبطلوا بذلك حكم الرحمن ، ونقضوا ما نزل سبحانه في الفرقان. وإن قالوا : بل أخذ ما ليس له حقا ، وأكل من ذلك ما لم يجعله الله له رزقا ؛ كانوا في ذلك بالحق قائلين ، وعن قول الباطل والمنكر راجعين.

ثم يقال لهم : ما تقولون فيمن غصب مالا فأخذه ، وتعدى فيه وسرقه ، فأكله حراما وشربه ، أتوجبون عليه الزكاة فيه؟ أم توجبون رده إلى صاحبه عليه؟ فقد يجب عليكم في قياسكم وقولكم أن تقولوا : إنه رزق له ، رزقه الله إياه وقدره له ، ولو لا ذلك لم يأخذه ولم يقدر على أكله وشربه ، ولا على الانتفاع به. فإن كان كما تقولون وإليه تذهبون أن كل ما غصب (٢٨١) غاصب أو أخذه من المال آخذ غصبا ، فهو من الله له بتقدير وعطاء ورزق ، فلن يجب عليه أبدا رده ، ولا أن ينازعه فيه ضده ، بل هو أحق به من كل مستحق ، وهو له ملك بتمليك الله له إياه وحق ، فأمروه فليؤد ما أوجب الله على أهل الأموال في الأموال من الزكاة والحج والإنفاق في سبيل الله والإفاضة على كل من سأله ورجاه. ألا تسمعون كيف يقول الله ذو الجلال وذو القوة والقدرة والمحال ، حين يقول :

__________________

(٢٧٩) وفي (ب) : يقف نص الآية عند : (مِمَّا تَرَكَ).

(٢٨٠) غير موجودة في (ب).

(٢٨١) في (ب) : غصبه.

٣١٥

(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧] (٢٨٢) ـ والسبيل فهو الجدة مع صحة الأبدان من مانعات حوادث الأزمان ـ فعند المقدرة والسلامة والأمان يجب فرض الحج على كل إنسان ، وهذا في أصل قولكم ، وما تذكرونه من رأيكم بما قد حوى وأخذ من المال الحرام مستطيع لحج بيت الله الحرام ، قادر على ذلك بما أخذ من أخيه وأخرجه بالغصب والغلبة له من يديه ، إذ تزعمون أن كل ما أخذ وأكل وشرب ولبس فهو رزق مقسوم ، ومن الله جل جلاله عطاء لعباده معلوم. وقال الله سبحانه : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣] ، فلا يشك أن الزكاة تجب فيما رزق الله العبيد من رزق إذا بلغ ما تجب فيه الزكاة وتقع ، فليتصدق وليقرض الله قرضا حسنا مما في يديه ، فإن الله يقول : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد : ١٨] ـ ولن يقبل الله إلا الحلال ، ولن يضاعف إلا لمن أنفق مما ملك من الأموال ـ فإن كان هذا له من الله عطاء فأمروه فلينفذ ما أمره الله به ، وليؤد ما عليه فيه ، وانهروا (٢٨٣) عنه المطالب له به ، الذي أخذه غصبا من يديه ، واستأثر به عليه.

وإن قلتم : لا يجب عليه فيما في يديه من هذا المال المغضوب حق ، ولا يلزمه فرض ؛ وأوجبتم على أنفسكم أخذه من يديه ورده على صاحبه ؛ وقلتم : لا يكون إلا ذلك ، والحق كذلك ؛ فقد أزلتم عنه ملك ما غصب ، وحرمتم عليه منه ما أكل ، وأقررتم أن ما أخذ من ذلك فأكله وشربه ليس له من الله رزقا ، ولا نائلا ، ولا عطاء ، وأن عليكم أن تأخذوا ما في يديه من المال فتردوه إلى من كان له من الرجال ، وتضمنوه ما أتلف منه ، وتوجبوا عليه إن كان أخذه من دار أو بيت أو حرز أو قرار ما أوجب عليه الواحد الجبار من القطع ، فإنه يقول سبحانه : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨]. فيا سبحان الله! ما أبين الحق وأنور الصدق! فلو كان الله رزقه ما أكل مما سرق وغصب لما

__________________

(٢٨٢) وفي (ب) : تقف الآية عند : (سَبِيلاً).

(٢٨٣) في (ب) : وازجروا.

٣١٦

أوجب عليه أن يقطع الحاكم يده في أن أخذ ما أعطاه ربه وآتاه ، وأكل ما به غذاه. فسبحان البعيد من ذلك ، الصادق في قوله ، العدل في جميع أموره وفعله.

فإن هم من بعد ذلك سألونا فقالوا : هل يقدر أحد أن يأكل غير ما رزقه الله؟. قيل لهم : إن مسألتكم هذه تخرج على معنيين ، وتنصرف في وجهين :

فإن أردتم أن كل شيء مما بث الله وأخرج رزق العباد ، فكذلك لعمري هو ؛ لأن الله قد سماه في الجملة بذلك ، فقال : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) [ق : ١١ ـ ١٩] ، يقول سبحانه : أخرجنا به ما لا يخرج من الحب والأكل إلا بالماء. وقال : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [الواقعة : ٦٣] ، وقال : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [عبس : ٢٥ ـ ٣٢] ، فقال : (شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) ، يريد شققناها عن النبات الذي يخرج منها من الحب والفواكه وغيره ، وفلقناها فلقا. والأب : فهو الحشيش والعشب الذي تأكله الأنعام ، وينبت في الأودية والجبال والآكام ، (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) ، يقول : بلاغا لكم ولأنعامكم إلى وقت انقضاء آجالها وآجالكم ، فرزقناكم فواكه وحبا ، ورزقنا أنعامكم عضاها (٢٨٤) وأبا. فكل ما أخرج قد سماه لأهله ، ومن يملكه رزقا. فهو رزق لمن أجاز الله له أكله وأحل له أخذه وأمره عليه بشكره ، فقال : (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة : ٦] ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة : ١٧٢] ، وقال : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [النحل : ١١٤]. فرزق ذو المن والسلطان والجبروت والبرهان كلّ عبد ما أحل له وأمره بأخذه ؛ فأما ما نهاه عن أكله وعذبه في قبضه فليس ذلك لعمرهم من رزقه ، وكيف يجوز على ذي الجلال والجبروت أن يجعل لعباده رزقا وقوتا به

__________________

(٢٨٤) العضاة : أعظم الشجر. تمت من اللسان.

٣١٧

يعيشون وفيه يتقلبون ، ثم ينهاهم عن أخذ ما أعطاهم وإليه ساقهم وهداهم.

فهذا ، والحمد لله لا يغبى على من وهبه الله علما وآتاه تمييزا ولبا ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطيبين.

تم جواب مسألته

المسألة الحادية عشرة : تقسيم العقول بين الخلق

ثم أتبع ذلك المسألة عن العقول ، فقال : خبرونا عن العقول أمخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ فإن قالوا : مخلوقة. فقل : أمقسومة هي بين العباد أم غير مقسومة؟ فإن قالوا : بل هي مقسومة. فقل : فأخبرونا من أين عرف بعض الناس الهدى فأخذ به ، وجهله بعضهم فتركه ، وكلهم حريص على الهدى كاره للضلالة ، راغب في العلم ، مبغض للجهالة ، وقد زعمتم أن الله قد جعل سبيلهم واحدا ، وعقولهم واستطاعتهم واحدة ، وهي حجة الله عليهم؟ فإن قالوا : بتوفيق من الله ؛ فقد أجابوا. وإن قالوا : أخذ هداه منهم من أحب ، وتركه منهم من اتبع هواه ، وأطاع إبليس إلى دعائه. قيل لهم : فما صيّر بعضهم تابعا لهواه ، والعقول فيهم كاملة مستوية؟ فإن قالوا : بتوفيق من الله وفّق من شاء منهم ؛ فقد أجابوا ، وإن قالوا : فضل الله بعضهم على بعض ؛ فقد صدقوا ، وإن قالوا غير ذلك فقد كذبوا ؛ لأنه لو كان الناس في العقول سواء ، ما كان من الناس جاهل وعاقل ، وأحمق وحليم ، ولسمي الجاهل عاقلا ، والعاقل جاهلا ، ولكن الأمر في هذا أبين من ذلك ، ولكنهم قوم يجهلون. وإن قالوا : ذلك من قبل الأدب والتعليم. فقل : لو كانت عقولهم مستوية ، ما احتاج بعضهم إلى بعض في أدب ولا تعليم.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما عنه سأل وقال مما ألحد فيه من المقال ، فقال : أخبرونا عن العقول أمخلوقة هي أم مقسومة ، أم غير مخلوقة ولا مقسومة؟ فنحن والحمد لله نقول : إن الله خلق العقول

٣١٨

وأوجدها فيهم ، وجعلها حجة له عليهم ، وسببها لهم سبحانه وتعالى تسبيبا ، وركبها فيهم احتجاجا عليهم تركيبا ، فهي حجة الله العظيمة ، ونعمته على خلقه الكريمة ، تدعو أبدا إلى الخير والهدى ، وتنفي عن الخلق الضلالة والردى ، تدل على الخالق ذي الجلال ، وتنفي عمن أراد الحق التكمه والضلال ، فهي أبدا لمن استعملها داعية إلى الإسلام ، مخرجة له من حنادس دياجير الظلام.

ثم قسمها سبحانه بين خلقه ليدلهم على ما أوجب عليهم من حقه ، فأعطى كل من أوجب عليه أداء فريضة منها أكثر مما يحتاج إليه في أداء ما افترض عليه ، فليس منهي يجب عليه عقاب ، ولا مأمور يجب له ثواب إلا وقد ركب الله فيه من العقل ، وقسم له وعليه أكثر من الحاجة في أداء مفترضه وما يخرجه بحمد الله إن استعمله من جهالته.

ثم أمرهم باستعمال ما أعطاهم من الحجة المركبة فيهم ، وأخبرهم أنهم إن لم يستعملوها لم يصلوا إلى علم ما لعلمه أعطوها. فأمرهم أن يستعملوها فيفكروا ، وينظروا ويميزوا ويتدبروا. فإذا فكروا وميزوا بتلك الحجة التي لن يضل معها طول الأبد إن أنصفها ـ بحمد الله ـ من أحد ، ولذلك ما قاله جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] ، يقول : انظروا بأبصاركم ثم دبروا فاعتبروا بعقولكم فيما ترون وتبصرون ، هل له من خالق غير الله فيما تعلمون؟ كما قال سبحانه : (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : ٩] ، وقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص : ٧١ ـ ٧٣]. ثم قال تنبيها لهم وحثا على استعمال العقول ، ليصح لهم الحق من القول إذا نظروا وفيما ذكر الله مما أراهم وفطر لهم تفكروا ، فقال الله سبحانه : (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية : ١ ـ ٥] ، فقال في أول السورة : (لَآياتٍ

٣١٩

لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول : يصدقون بما يرون وينصفون العقل ، فيقبلون منه ما عليه يدلهم حين يبصرون ويستبصرون في الحق ، ويستدلون على الله بما ذرأ من الخلق فيكونون بذلك مؤمنين ، ولله بالخلق والقدرة مقرين ؛ ثم قال : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ، فأخبر أنه قد ذرأ وجعل لهم من الدلالة عليه في خلق أنفسهم ما بأقل قليله على خالقهم يستدلون ، وبأنه الله الذي لا إله إلا هو يوقنون. ثم كرر الدلالة لهم والاحتجاج عليهم بذكر ما أنزل من السماء من رزق فأحيا لهم به الزروع ، وفرع به في الأصول الفروع ، ثم كرر الاحتجاج والتوقيف لهم والتعريف فذكر تصريف الرياح ، وما يكون فيها وبها من الألقاح ، فقال : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، فتتابعت الآيات متناسقات بما فيهن من العبر والدلالات حتى وصل (٢٨٥) إلى قوم (يَعْقِلُونَ) ، فأخبر بذلك أن كل ما ذكر لا يعلم ولا يخبر ولا يفهم إلا بما ركب وجعل لهم فيه من حجة العقل ، فقال سبحانه احتجاجا عليهم ، وتنبيها في ذلك كله لهم بما خلق لهم من الأبصار التي لا ينتفع بها في التذكرة إلا بالألباب ، وحثا على استعمال الألباب في كل الأسباب : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [ق : ٦ ـ ٨] ، يقول : توقيفا لهم ، وتعريفا واحتجاجا على ذوي العقول ، وقال : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] ، فحض بالأمر بالاعتبار ذوي الأبصار.

وقال سبحانه : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] ، فنظر قوم وفكروا ، وعقولهم في ذلك أنصفوا ، فأبصروا واهتدوا وعرفوا الحق فرشدوا ، وأنكر قوم وخالفوا ما تفرع لهم من المعقول فجحدوا ، فعاقبهم الله على ذلك من فعلهم ، وأضلوا أنفسهم بمكابرة عقولهم ، وأبطلوا النظر واتبعوا الجبر ، فاتبعوا الهوى ، وتركوا الهدى ، وتعلقوا بالأخبار المنقولة الكاذبة ، ورفضوا ما فيهم من حجة الله الصادقة ، فبذلك عندوا ، وأنفسهم بالتجبر منهم أهلكوا ، فليس للعباد على الخالق من حجة يحتجون بها ، ولا متعلق

__________________

(٢٨٥) في (ب) : وصلنا.

٣٢٠