مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

جوابها :

وأما ما سأل عنه من قول الله عزوجل لإبليس : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ، ومن قوله : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) ، وعن قول إبليس حين قال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ، فقال : ما هذا السلطان الذي ليس للشيطان على المؤمنين؟ فتوهم لجهله وسوء نظره وعلمه أن الله تبارك وتعالى ، حال بين إبليس وبين بعض العباد حولا ، ومنعه من الوسوسة لهم منعا ، وقسرهم عنه قسرا ، وليس ذلك كما قال. ألا تسمع ما ذكر الله عن آدم وزوجه ، وكيف كانت وسوسته لهما حتى أوقعهما فيه ، وكذلك (اعترض لعيسى بن مريم حتى دحره ولم يطمعه في شيء مما ذكره ، ولغيرهما من الأنبياء) (٣٨٦) والمؤمنين. فلو منعه الله من أحد من المؤمنين منعا ، وقسره عن الوسوسة له قسرا ، لكان ذلك لأبيهم آدم صلى الله عليه ، ولكنه سبحانه منعه من ذلك بالنهي له ، والزجر عما هو عليه من إغوائه ، وعاقبه عليه ، وأعد له النار والعذاب فيه ، فقال : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١١٩].

فأما السلطان الذي ذكر الله عزوجل أنه ليس له على المؤمنين في قوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ، فهو ما علم من المؤمنين من طرده ودحره ، وترك طاعته في وسوسته وأمره ، وأنهم لا يجعلون له عليهم سلطانا بشيء من الطاعة له من العصيان لربهم ، وأنهم لا يزالون مؤثرين لطاعة الرحمن محترسين من الشيطان بتلاوة القرآن والاعتصام بذي الجلال المنان ، فهم أبدا لله مراقبون ، وفي طاعته ساعون ، وللشيطان اللعين معادون كما أمرهم ربهم حين يقول : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦] ، وفي كل ما أمرهم به مخالفون ، فأولئك هم المهتدون الذين على ربهم يتوكلون ، فليس له على هؤلاء سلطان ، وإنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به

__________________

(٣٨٦) سقط من (ب).

٤٠١

مشركون ، وكذلك سلطانه على أوليائه ، وهو دعاؤه لهم وإغوائه إياهم ، وقبولهم منه ، ومثابرتهم عليه ، فلما أن قبلوا منه ولم يعصوه كانت طاعتهم له السلطان عليهم إذ أطاعوه وفي دعائه اتبعوه.

تم جواب مسألته

المسألة الثامنة والثلاثون : في اختصاص الله رحمته لبعض خلقه ومعنى شرح الصدر

ثم أتبع ذلك المسألة ، فقال : أخبرونا هل يخص الله برحمته من يشاء من خلقه؟ أم ليست له خاصة؟ وإنما هو أمر عام ، فمن شاء ترك ومن شاء أخذ؟ فإن قالوا ذلك ؛ فقد كذبوا ، والله سبحانه يخبر بخلاف قولهم إذ يقول لنبيه عليه‌السلام : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) [الشرح : ١ ـ ٢] ، وقال أيضا لمن أراد أن يخصه بالهدى من خلقه :(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٥٢] ، وقال أيضا : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الزمر : ٢٢] ، فقال : أخبرونا عن الشرح ، ما هو؟ أهو الهدى؟ أم هو الدعاء؟ فإن قالوا : إنه الدعاء ؛ زعموا أن كل كافر مشروح الصدر بالإسلام ، وأن الخلق كلهم جميعا قد شرحت صدورهم ؛ لأنهم قد دعوا كلهم. وإن قالوا : هو الهدى الذي يمنّ الله به على من يشاء من عباده ؛ فقد أجابوا.

تمت مسألته

جوابها :

وأما ما سأل عنه ، فقال : أخبرونا هل يختص الله برحمته من يشاء من خلقه؟ أم ليست له خاصة؟ فإنا نقول كما قال الله سبحانه : (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد : ٢٩] ، ثم نقول : إن اختصاص الله برحمته من يشاء من عباده يخرج على معنيين :

٤٠٢

فأما أحدهما : فهو مشيئته أن يزيد المهتدين هدى ، ويزيد المؤمنين تقوى ، وذلك قوله سبحانه : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن : ١١] ، وقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد : ٢٨] ، فشاء سبحانه أن يزيد ويختص برحمته من ثابر على طاعته ، وسارع إلى مرضاته ، كما شاء أن يخذل من آثر هواه وأسخط بفعله مولاه.

وأما المعنى الآخر : فهو ما يختص به من يشاء من السلامة والإغناء ، وصرف المكاره والبلوى.

فتبارك الله الواحد الأعلى ، فهذا ومثله معنى اختصاص الله بالرحمة لمن يشاء ، لا ما يقول الفاسقون ، ويذهب إليه الضالون من أن الله تبارك وتعالى يخرج من المعصية عباده قسرا ، ويدخلهم في طاعته جبرا.

وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) ، فإنا نقول : إن الشرح من الله لصدره هو توفيقه وتسديده وترغيبه بالهدى وتأييده ، وتعليمه ما كان يجهله وتفهيمه. فشرح الله بالإيمان صدره ، ورفع بالوحي المنزل قدره. وأما الوزر الذي وضعه الله عن ظهره ، فهو ما يغفر له من ذنوبه ، ومن الوزر ما كان منه من الضلال عن الوحي والهدى ، فوضعه الله سبحانه عنه بهداه له ، ومما خصه الله به من النصرة والزيادة في تقواه ، فجعله من بعد أن كان جاهلا عالما ، ومن بعد أن كان متبعا متبعا ، ومن ذلك ما وضع عنه من وزر الفقر وضرائه ، وما امتن به عليه من بعد العيلة وأغناه ، كما قال تباركت أسماؤه : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) [الضحى : ٨]. وأما قوله سبحانه : (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) ، فهو أوقره وفدحه وغمه وكربه من الضلال عن العمل برضى رب الجلال ، فوضع الله عنه ثقل ذلك بما بصره ، وأوحى إليه وفضله وامتن به عليه ، وليس ذلك الوزر حملا من الأحمال على ظهر ، ولا وقرا وقر بحمله ، وإنما ذلك على المثل ، قال الشاعر :

حملت أمرا عظيما فاضطلعت به

جزاك عنا إله الخلق رضوانا

وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ

٤٠٣

وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٢٥] ، فجوابنا في ذلك : أن الشرح من الله هو التوفيق والتسديد ، والتبصير والتنبيه ، وأن معنى قوله جل جلاله : (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) ، هو بما يدارك عليه من الأمر والدعاء ، وما أمر به عبده ورسوله ونزل عليه ، فكلما زاد الله في إقامة الحجة عليهم والدعاء لهم ، وإظهار الحق لديهم ازدادوا طغيانا وإثما وتماديا وعمى ، فخذلهم الله لذلك وأرداهم وأذلهم وأشقاهم ، فعادت صدورهم لما فيها من الشك والبلاء وما يخافون من ظهور الحق عليهم والهدى ، ضيقة حرجة ، كأنما تصعد في السماء. وإنما مثل الله ضيقها بالتصعيد في السماء ؛ لأن التصعيد أشد الشدة ، وأعظم البلاء ، ولذلك ما قال الله جل ثناؤه في الوليد بن المغيرة المخزومي : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) [المدثر : ١١ ـ ١٧] ، فلما أنعم الله عليه بما ذكر ، فأبى وأعرض واستكبر ، وخالف وكفر ، وعده الله إرهاق الصعود ، وهو الأمر الصعب الشديد من العذاب في دار الآخرة بالنار والأغلال (٣٨٧) الحديد ، فلما كان الصعد الذي لا تعرّض فيه ، ولا سهولة في حيله ، وأنه مصعد فيه أبدا ، وكان أشد ما يلقى من سلك سبيلا ما شيا أو راكبا ؛ مثّل الله لهم ما أعد من العذاب والبلاء.

تم جواب مسألته

المسألة التاسعة والثلاثون : في حاجة العباد إلى تأييد الله تعالى

ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن قول الله سبحانه في التأييد ، وذلك قوله لعيسى بن مريم : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [البقرة : ٨٧] ، وقوله للمؤمنين : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) [الصف : ١٤] ، في آي

__________________

(٣٨٧) في (ب) : وأغلال.

٤٠٤

كثيرة ، فخص الله من يشاء من خلقه من الأنبياء والمؤمنين : ألا ترى أن الله عزوجل لم يكلهم إلى ما زعمتم أنه جعل فيهم من الاستطاعة؟ وهي الحجة زعمتم على جميع خلقه ، حتى جاءهم سوى ذلك من أمره ، فأيدهم به ، فظهروا بتأييده ، ورعب عدوهم ، فغلبوا برعبه ، ونصرهم فقهروا بنصره ، ثم قال فيما منّ به على المؤمنين ، ويعلمهم ما صنع بهم مما لم يصنعه بغيرهم ، فقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤] ، وقال أيضا : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) [الفتح : ٢٦] ، فلم يرض لهم ما زعمتم بما جعل من الاستطاعة حتى جاءهم من أمره وعونه سوى ذلك ، وقوله لرسوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) [الإسراء : ٧٤ ـ ٧٥] ، وقوله لأصحاب الكهف : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) [الكهف : ١٤] ، فلم يرض لهؤلاء ما جعل فيهم من الاستطاعة التي زعمتم أنها حجة على خلقه ، وأنه يحتج عليهم بما أخذوا أمره وركبوا معصيته حتى أتاهم من أمره ما بلغوا به ما يشاء من رحمته وهداه. وكذلك هو يفعل ما يشاء سبحانه وبحمده ، يضل من يشاء ، ولا يسأل عما يفعل والخلق يسألون.

المسألة الأربعون : هل خلق الله أفعال العباد؟

وإن قالوا : أخبرونا عن الأعمال ، أمخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ فأنتم تزعمون أن الله خلقها؟ فإن قالوا : كيف نسبها الله إلى خلقه ، وجعلهم الذين عملوا وتكلموا؟ فقولوا : ألا ترون أن الله عزوجل قد قال : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) ، وقال : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [النحل : ٨٠] ، وأنتم تعلمون أن الناس هم الذين غزلوا ونسجوا السرابيل ، وعملوا الدروع ، وبنوا البيوت ، واتخذوا المظال ، وقد منّ علينا به ، وأخبرنا أنه جعله ، وذلك أنه ألهمنا بمنته أن غزلنا ، وهو علمنا ذلك ، ونسجنا وعملنا ما عملنا ، وأخبرنا أنه قد جعله ؛ فكذلك خلق ما

٤٠٥

عملنا من طاعة أو معصية ، ونحن عملناها جميعا. وكذلك قال أيضا : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم : ٢٤] ، ألا ترون أن الله سبحانه خلق الثمرة في الشجرة ، وأخرجها منها ، ونسب الخروج منها إليها ، وقال : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها)؟ وكذلك أعمال العباد ، خلقها ثم نسبها إليهم ، وأخبر أنهم عملوها.

المسألة الحادية والأربعون : هل العباد مجبورون على الأعمال؟

فإن قالوا : أخبرونا عن العباد ، أمجبورون على الأعمال ، من الإيمان والكفر والمعصية؟ أم لا؟ فقل : منهم من هو مجبور على ذلك ، ومنهم من هو غير مجبور. فأما الذين جبروا على الطاعة فمنهم أهل مكة ، افتتحها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسرا ، فأسلموا كرها ، ولو لم يسلموا قتلهم ، واستحل دماءهم وأموالهم ؛ فهذا وجه القسر والجبر. وأما الوجه الآخر : فإن الله تبارك وتعالى قد قذف في قلوبهم الهدى ، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، ثم قال : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات : ٧] ، وقد قال في كتابه : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [آل عمران : ٨٣].

فإن قالوا : أخبرونا عن المشركين الذين لم يسلموا ، أجبروا على الشرك؟ فيقال لهم : إن المشركين لم يريدوا الإسلام ، فيجبروا على الشرك ؛ ذلك أنهم لو أرادوا الإيمان فأكرهوا على الشرك [لكانوا مجبورين] (٣٨٨) ؛ كما [لو] (٣٨٩) أراد المشركون الشرك ورضوا به ، وأراد الله أن يهديهم فجبرهم على الهدى وهم كارهون. فإن قالوا : فإن لم يكونوا مجبورين ولا مكرهين ، فهل يستطيعون ترك الشرك وقبول الهدى؟ فقل : لا ؛ إلا أن يشاء الله. فإن قالوا : فكيف لا يكونون مجبورين ، ولا يستطيعون أن يتركوا شركهم؟ فقل :

__________________

(٣٨٨) زيادة لتستقيم العبارة.

(٣٨٩) زيادة لتستقيم العبارة.

٤٠٦

كذلك الله يفعل ما يشاء ، يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، فلا مضل لمن هدى ، ولا هادي لمن يضل.

تمت مسائل الحسن بن محمد كلها (٣٩٠)

جواب المسألة التاسعة والثلاثين :

وأما ما سأل عنه من قول الله عزوجل : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ، وقوله للمؤمنين : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) ، وقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) ، وقوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) ، فكذلك الله أحكم الحاكمين آتى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينات كل أمر ، وأيده بروح القدس والنصر ، وكذلك أيد عباده المؤمنين على أعدائه الفاسقين ، وذلك من الله فواجب للمطيعين.

ألا تسمع كيف يقول : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج : ٤٠] ، وقوله : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد : ٧] ، وقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧] ، فكل من آمن بالله واتقى ، فقد استوجب من الله الزيادة بالنصر (٣٩١) والهدى ، وذلك من الله للمؤمنين فعطاء وجزاء ، فكل من آمن بالله وأطاعه في أمره وجاهد أعداءه ، فقد ذكر الله سبحانه أنه يجازيه على ذلك بما ذكر فيما سأل عنه في هذه الآيات من التفضيل بالمعونات.

وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) ، فإن الجواب

__________________

(٣٩٠) هكذا في الأصل.

(٣٩١) سقط من (ب).

٤٠٧

في ذلك : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يركن إليهم بترخيص لهم في دينهم ، ولا إسعاف لهم في شيء من أمرهم ، ولا بتولي أحد منهم ، ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان رحيما رفيقا حليما وصولا للأرحام كريما. كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربما رق لهم من العذاب الذي أعد لهم ربهم ، رحمة بهم ، فأنزل الله سبحانه عليه تحريم الرحمة لهم ، فأمره والمؤمنين بترك الرحمة لأهل المعاصي الفاسقين ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التوبة : ٧٣] ، وقال : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النور : ٢] ، فثبته الله بما أنزل عليه من ذلك.

فلما أن علم أن رحمتهم لله تسخط غلظ عليهم ، واشتد قلبه عن الرحمة بهم لما أمره الله سبحانه فيهم ، فكان ذلك تثبيتا منه له عن أن يركن إلى ما يدعوه إليه الكرم والصلة للرحم من الرحمة ، لا ما يقول الضالون على الله وعلى رسوله من أنه كاد أن يركن إليهم ويميل بالمحاباة في صفهم (٣٩٢) ، ثم قال سبحانه : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) ، يقول : لو رحمتهم ورفقت من بعد نهينا لك عن ذلك بهم ، لكنت لنا من العاصين ، وكنت عندنا على ذلك من المعذبين (٣٩٣)

وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً

__________________

(٣٩٢) في (ب) : صفوهم.

(٣٩٣) قال الدكتور محمد عمارة معلقا على هذا الكلام : يقول النسفي : إن هذه الآيات نزلت لما قالت قريش للرسول : (اجعل آية رحمة آية عذاب ، وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك) ، والبيضاوي يقول : إنها نزلت في ثقيف قالوا : (لن ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفخر بها على العرب) وقيل : في قريش ، قالوا : لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلم بآلهتنا وتمسها بيدك. وتفسير الإمام يحيى للآية فيه إكبار لمقام النبوة والنبي ، وملامة للوقائع التاريخية أكثر من هذه التفاسير ، تفسير البيضاوي ص ٤٠٨ طبعة القاهرة سنة ١٣٤٤ ه‍ ، وتفسير النسفي ج ٢ ص ٢٤٩ ، ٢٥٠ طبعة القاهرة سنة ١٣٤٤ ه‍.

٤٠٨

شَطَطاً) ، فآخر هذه الآية دليل على تفسير ما سأل عنه في أولها ، ألا تسمع منه كيف ذكر عنهم ما ذكر من الإيمان والإخلاص لله الواحد الرحمن ، فلما أن آمنوا زادهم إيمانا ، وكذلك يفعل الله بعباده المؤمنين ، ألا ترى كيف قال : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) ، فكذلك يفعل الله بمن آمن واتقى ، كما يخذل من عند عن أمره وعصى. ولو لا ما ركب فيهم من الاستطاعة (أولا ما نالوا زيادة الله لهم في الهدى آخرا ، ولكن بما جعل فيهم من الاستطاعة ما يقدرون) (٣٩٤) على الطاعة والعصيان ، فآثروا الطاعة ورفضوا المعصية ، فصاروا بذلك مؤمنين ، فاستأهلوا من الله الزيادة في كل خير ، والدفع منه عنهم لكل ضير. ألا ترى كيف يقول : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) ، يقول : لما أن عملوا الطاعة بما فيهم من القدرة والاستطاعة زدناهم من الخير والكرامة.

ثم قال الحسن بن محمد : وكذلك الله يفعل ما يشاء ، يضل من يشاء ، ولا يسأل عما يفعل ، والخلق يسألون ، فتوهم ـ ويحه ـ أن الله سبحانه يضل عن سبيل الرشاد قوما منعهم بالإضلال عن الرشاد ، (وكيف يكون ذلك ، وقد أمرهم بالاهتداء) (٣٩٥) ، وبعث إليهم الأنبياء يدعونهم إلى البر والتقوى ، وهم لذلك غير مستطيعين ، ولا عليه مقتدرين ، لقد إذا ظلمهم فيما إليه دعاهم ، إذ عنه قد حجرهم وأغواهم ، فتبارك الله عن مقالة الجهال من أهل الجبر والضلال.

جواب المسألة الأربعين :

وأما ما تكلم وموّه به ، فقال : إن سألونا عن أفعال العباد : مخلوقة هي؟ أم غير مخلوقة؟ ثم قال : هي مخلوقة إذ نسبها الله إليه كما نسب غيرها من أفعالنا إليه ، من ذلك قوله :

__________________

(٣٩٤) سقط من (ب).

(٣٩٥) ساقط من (ب).

٤٠٩

وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) ، وقال : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) ، والسرابيل والبيوت فالعباد يعملونها ، وقد نسبها الله جل جلاله إليه ، فكذلك أعمالنا هي منا ، وهي فعله فينا.

فجوابنا في ذلك : أنه بخلاف ما قال ، وأنه قد أخطأ في القياس إذ قاس أفعال العباد التي هم فاعلوها ، ومن بعد العدم أوجدوها إلى ما فعلوا فيه من خرز الجلود ، وعمل الحديد ونسج الثياب التي الله تبارك وتعالى خلق أصلها ، وأوجد أولها وصورها. فلما أن كان الله سبحانه الذي أوجد ذلك كله كان هو الجاعل له في أصله والممتن به على جميع خلقه. وأفعال العباد في ذلك فلم يخلقها الله سبحانه ، ولكن الله أوجد ما ذكر من أصولها ، والعباد صنعوا ما صنعوا فيها ، وعملوا ما عملوا منها ، فنسب إليه صنع ما أوجد من هذه الأصول التي قد فرغت وجعلت ونقلت. فبين هذا ، وبين أفعال العباد فرق عند من كان له عقل.

هل رأى أو سمع خلق في شيء من الكتاب المنزل ، أن الله سبحانه ذكر أنه فعل شيئا مما فعلوه من الفجور والردى ، وشرب الخمور ، وارتكاب الهوى؟ بل نسب ذلك كله إلى فاعله ، ونفاه سبحانه عن نفسه.

فإن قالوا : إن الله سبحانه خلق الأدوات التي تكون بها الأفعال في كل الحالات ؛ من الفروج والأيدي والألسن واللهوات ، كما خلق الجلود والقطن والحديد والصوف ؛ فنحن نقول : إذ قد أوجد أصل أفعال العباد ، أن منه أفعالهم ، كما نقول إن السرابيل منه إذ أوجد أصولها.

قلنا لهم في ذلك : ليس هذا كذلك ؛ لأن الله سبحانه أوجد الأصل الذي نقل وصنع وعمل من هذه التي نسبها إليه من الجلود والكرسف (٣٩٦) والصوف والحديد ، والعباد فعلوا الحدث الذي صرفوها به وأحدثوه فيها ، من عملها ونسجها وصناعتها وغزلها بالأكف والأدوات التي جعلت لهم ، والاستطاعة التي ركبت فيهم ، فالتأم في ذلك جلود وأيد وحركات. فكان الله عزوجل الخالق للأيدي والجلود ، وكان العباد الفاعلين

__________________

(٣٩٦) القطن.

٤١٠

للحركات ، الصانعين لتلك المصنوعات. كذلك الله سبحانه خلق الحجارة والطين ، والعباد بنوا الدور وشيدوا ما بنوا من القصور ، فاجتمعت في ذلك الحجارة والأكف العمالة ، والحركات التي دبرت لها الحجارات ، فكان الله جل ثناؤه خالق الأيدي والصخور ، والعباد أحدثوا الحركات وبنوا الدور. وأفعال الله سبحانه فكائنة عند ما يريدها بلا تخيّل ، ولا حركات ، ولا تأليف شيء إلى شيء بالأكف العمالات. ففي هذا أبين الفرق بين أفعال المخلوقين وبين أفعال رب العالمين ، فما كان من فعل الله فليس من أفعال العباد ، وما كان من أفعال العباد ، فليس من أفعال ذي العزة والأياد.

كذلك لو أن رجلا سرق صوفا فنسجه سربالا وثوبا ، لم يعذبه الله سبحانه على جرم الصوف ، ولا على ما قبضه به من اليد والكف ، وإنما يعذبه على أخذه وحوزه عن ربه ، واستئثاره عليه به ، وما كان من انتفاعه به ولبسه ، فعذبه سبحانه على ما كان من حركاته وفعله ، ولم يعذبه على ما خلق وصور من نفس المسروق وصورته.

وكذلك يعذب الزاني على زناه ، والزنا هو : الإيلاج والحركة ، والإخراج ، ولم يكن الزنا إلا بالفرجين والحركة ، فالفرجان فعل الله ، والحركة والزنا فعل العبد ذي الفسالة والردى. فالله عزوجل يعذبه على زناه وإدخاله وإخراجه وحركاته ، لا على ما خلقه له من الفرج. فخلق الله الآلات وما أنعم به على العبد من الأدوات لينالوا به المنافع واللذات من طريق ما أحل لهم لا من وجه ما حرم عليهم ، ثم أمرهم في ذلك باجتناب المعصية وحضهم على فعل الطاعة.

وأما ما سأل عنه وفيه قال بالمحال ، وقاس على مقاييس الضلال ، فقال : قال الله تبارك وتعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ، فقال : ألا ترون أن الله خلق الثمرة في الشجرة فأخرجها منها؟ ثم نسب الثمرة إليها فقال : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها)؟ فكذلك نقول : إن أعمال العباد الله سبحانه خلقها ، والعباد عملوها ، ثم نسبها إليهم ، وأخبر أنهم عملوها.

فقولنا في ذلك : إنه غالط في القياس ، أو أراد معنى فأخطأ في مقاله ؛ لأنه مثّل ما ليس بمأمور ولا منهي فقاس فعل العباد فيما أوجدوه بفعل الله الذي لم يفعلوه. وإنما قياس

٤١١

الشجرة وما أوجد الله سبحانه فيها من الثمرة قياس الناقة والامرأة ؛ الله سبحانه خلق الأولاد فيهما ، وهما ولدتا ، قال الله سبحانه في امرأة عمران وفيما نذرت مما في بطنها للرحمن حين يقول : (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) [آل عمران : ٣٦] ، فقال : (وَضَعَتْها) ، فنسب الولد ، وما كان من تخليصها وتسليمها في وضعها لها إليها ، والله سبحانه الذي جعلها في بطنها ، وأخرجها بقدرته منها ، ولو لا إخراجه لها وتخليصه إياها إذا لم تخلصها أبدا أمها. قال الله عزوجل في ذلك : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) [الروم : ١٩] ، فلا يشك أنه المخرج والمخلص للولد من الظلمات الثلاث من : المشيمة ، والرحم ، والبطن ، قال الله سبحانه : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [الزمر : ٦]. وقال جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) [العنكبوت : ٨] ، فنسب إليهما ولادتهما إياه ، إذ كان الخارج منهما والمصور فيهما ، والله سبحانه المصور له والمقدر تصويره وخلقه. فكذلك نسب إلى الشجرة إيتاء أكلها ، وهو الخالق لها ولثمرها.

فأما قياس أفعال العباد التي نهوا عنها ، وأمروا بها ، وعوقبوا عليها ، وأثيبوا بها ، فليس هذا قياسها ، وسنأتي به ونذكر إن شاء الله ما هو مثلها. فنقول لمن قال : إن الله سبحانه خلق أفعال العباد وركبها فيهم ، وأنطقهم وقضى بها عليهم ، ثم نسبها إليهم : ما تقول إذا قلت ذلك ، وكان الأمر عندك كذلك ، في مشرك أشرك بالله وجحده؟ وفي قتل من قتل الأنبياء بغير حق؟ الذين قال الله فيهم : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) [آل عمران : ٢١] ، آلله فعل ذلك بهم كما فعل غيره من أفعالهم؟ فإن قالوا : نعم ، الله فعله وخلقه وقضاه وركبه ، فقد زعموا أن الله عزوجل كفر بنفسه ، وأمر بالشرك به ، وقتل أنبياءه ؛ وهذا فأكفر الكفر ، وأجهل الجهل بالرحمن عزوجل ، عند كل من عرف الحق وكان ذا إيمان. وإن قال : لا ؛ رجع عن قوله ، (وتاب إلى ربه. وإن قال : فعل الطاعة

٤١٢

وخلق بعض المعصية ولم يفعل عظائم العصيان) (٣٩٧) ، ولا فوادح ما تأتي به من الكفران. قيل له : فلا نراك إلا قد أثبت للعبد فعلا لا محالة دون الرحمن ، فإن جاز أن يكون من العبد فعل لم يخلقه الله ولم يفعله جاز أن تكون له أفعال كثيرة ، وأمور جمة غير يسيرة ، والأمر في ذلك فعلى قولنا لا على قولك ، وشرحنا بحمد الله لا شرحك ، لأنك قد أجمعت معنا على قولنا إذ قد أقررت لنا ببعض فعلنا ونفيته عن خالقنا وربنا ، ونحن لا نطيعك في قليل من ذلك ولا كثير ، ولا ننسب إلى الله من أفعال عباده عظيما ولا حقيرا ، فهذا قياس ما إليه ذهب ، لا ما ارتكب فيه من المحال والعطب.

جواب المسألة الحادية والأربعين :

ثم (٣٩٨) قال : إن قال قائل : خبرونا عن العباد ، أمجبورون على الأعمال من الإيمان والكفر والطاعة والمعصية والغدر؟ أم لا؟ فقل : منهم من هو مجبور على الطاعة فهم أهل مكة ، افتتحها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسرا ، فأسلموا لذلك كرها ، ولو لم يسلموا قتلهم واستحل دماءهم وأموالهم ، فهذا وجه القسر والجبر ، وأما الوجه الآخر : فإن الله قذف في قلوبهم الهدى ، وحبب إليهم الإيمان ، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، ثم قال : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) ، ثم قال : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ).

فردنا عليه فيما يقول ، أنّا نقول : الحمد لله على ما رزقنا من العقول ، والفهم بما نقول ، فيا ويح الحسن بن محمد! الجاهل المجبر في أمره الغافل ، بينا يقول : إن الله يجبر العباد على الطاعة له والانقياد ؛ إذ رجع فصرف ذلك إلى الرسول ، فيا ويح ذي الجهل! من نازعه في

__________________

(٣٩٧) سقط من (ب).

(٣٩٨) سقط من (ب).

٤١٣

ذلك؟ (أو من ذا الذي لم يكن من أضداده قوله لذلك) (٣٩٩) ألا يسمع قول الله سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه فيمن أكرهته قريش على الكفر والعصيان ، ودعته إلى الخروج من الحق والإيمان ، وصالت عليه بصولتها ، وأذاقته ما قدرت عليه من أليم عقوبتها ، حتى أعطاهم ما أرادوا بلسانه وقوله وقلبه مخالف لما لفظ به من مقاله ، مطمئن بالإيمان ، مخالف لدين أهل العصيان ، فقال في ذلك الرحمن : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النحل : ١٠٦] ، وكان الذي أكره وقلبه مطمئن بالإيمان عمار بن ياسر (٤٠٠) (رحمة الله عليه) (٤٠١) ، ذو المعرفة بالله والإيمان. فلا يشك مميز عاقل ، ولا ينكر ما قلنا به جاهل ، من أن الخلق يكره بعضهم بعضا على القول والفعل لما لا يحب ويرضى ، وإن (٤٠٢) كان ضمير القلوب مخالفا للكلام ، وهذا فموجود في لغة جميع الأنام ، فأما علم الضمير فلا يطلع عليه إلا الواحد القدير.

ثم قال : إن معنى قوله سبحانه وجل عن كل شأن شأنه : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) ، هو جبر منه لهم على إسلامهم ، وإخراج لهم من

__________________

(٣٩٩) هكذا في الأصل.

(٤٠٠) عمار بن ياسر أبو اليقظان العنسي المذحجي ، من السابقين الأولين المعذبين في الله أشد العذاب ، شهد المشاهد كلها ، وكان مخصوصا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبشارة والترحيب ، وقال له : «مرحبا بالطيب المطيب» وقال : «عمار جلدة بين عيني وأنفي» ، وقال : «تقتلك الفئة الباغية» ، وقال : «ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار». استشهد مع أمير المؤمنين عليه‌السلام في صفين سنة ٣٧ ه‍ رضوان الله وسلامه عليه ، وكان من خلص أصحابه ومحبيه ، وللتوسع في ترجمته راجع لوامع الأنوار الجزء الثالث ص ١٤٤ لمولانا وحجة عصرنا مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى.

(٤٠١) غير موجودة في (ب).

(٤٠٢) في (ب) : فإن.

٤١٤

ضلالهم وكفرانهم بالجبر والتحويل والقسر ، واحتج في ذلك بقول الله سبحانه : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) ؛ فلا تأويل معنى الإسلام من الخلق أصاب ، ولا في معنى ما ذكر الله عزوجل من التحبيب والتكريه أجاب. وإنما معنى قول الله سبحانه : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) ، هو : المعرفة به والإقرار بربوبيته ، وأنه الخالق غير مخلوق ، والرازق غير مرزوق ، كما قال سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [العنكبوت : ٦١] ، فهذا معنى ما أراد الله (٤٠٣) ـ والله أعلم ـ بقوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) (٤٠٤) ، لأن الإسلام يخرج في اللغة على معنيين :

[فأحدهما] : الإقرار بفعل الفاعل ، والتسليم له ، وترك المكابرة له في فعله ، والمعاندة له بالإنكار لما يحدث من صنعه.

والمعنى الثاني : فهو الاستسلام لأمر الآمر ، والإنفاذ لما حكم به والانقياد لجميع ما قيد إليه ، وصرف من الأفعال فيه.

فعلى المعنى الأول يخرج تفسير الآية ، لا على المعنى الثاني ، الذي توهم الحسن بن محمد أن عليه يخرج معناها ، ولو كان ذلك كذلك ، أو قارب شيئا من ذلك لكان جميع الخلق لله مطيعين ، وفي أمره سبحانه متصرفين ، طائعين كانوا أو كارهين ، ولو كان كما يقول هو ومن معه من الجاهلين إذا لما وجد أنبياء الله لله في الأرض عاصين ، ولكان الله تبارك وتعالى بإكراهه لهم على طاعته وإدخالهم قسرا في مرضاته مجتزئا مكفيا عن نهيهم عن معصيته ، ولما احتاج الخلق إلى المرسلين ، ولما حذرهم الله ما حذر من مردة الجن والعالمين.

وأما قوله : (طَوْعاً وَكَرْهاً) ، فالمطيع منهم في ذلك هو من أطاع الحجة المركبة فيه ، والشاهدة بالحق له وعليه ، من اللب الذي ينال به التمييز بين كل شيئين ، ويثبت له به الرضى والسخط في الحالين ، فمن أنصف لبّه ، وقبل ما أدى إليه معقوله من معرفة ربه ،

__________________

(٤٠٣) سقط من (ب).

(٤٠٤) سقط من (ب).

٤١٥

كان منصفا طائعا ، متحريا للحق خاضعا. والمكره فهو من كفر وتعدى ، وكابر لبّه وأبى ، وعند عن الحق وأساء ، حتى أدركه البلاء ، واشتد عليه الشقاء ، ونزلت به النوازل ، واغتال لبه في ذلك الغوائل ، ورجع صاغرا إلى إنصاف لبه ، ولجأ فيما ناله إلى ربه ، واستسلم وأسلم له كما ذكر ذو الجلال ممن تعدى في الغي والمقال حين يقول ، ويخبر عنهم ويقص ما كان من أخبارهم ، حين يقول ويخبر عن فرعون حين يقول ، فقال : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس : ٩٠] ، ومثل قوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت : ٦٥] ، ومثل قوله : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) [الروم : ٣٣].

أما معنى تحبيب الله عزوجل إلى العباد الإيمان ، وتكريهه للكفر والفسوق والعصيان ، فهو بما جعل وحكم لمن آمن واتقى من الجنان والنعيم والجزاء والإحسان ، وبما كان يريهم ويشرعه لديهم من نصر المؤمنين ، والإظهار لحجتهم ، والإعزاز لدينهم ، والتكريه منه لما ذكر ، فهو بما أوجب على فاعل ذلك من العقوبات في الآخرة بالنيران ، وفي الدنيا بالقتل والسبي والذل والخذلان. فلما جعل ما جعل من الثواب للمؤمنين ، وما أعد وحكم بما حكم به من العقاب على الكافرين ، رغب الراغبون في الثواب ، وأوجبوا له الإيمان وآمنوا ، وهاب واتقى وخاف العقاب الخائفون ، فاتقوا وكرهوا الكفر والفسوق والعصيان لخوف العقاب فاهتدوا ، وزهد أهل الكفر في كفرهم ، لما يرون من ذلهم وصغارهم ، وظهور الحق والمحقين واعتلائهم ، فتركوا الفسوق ودخلوا في الحق ، فهذا إن شاء الله معنى ما ذكر من ذلك العلي الأعلى ، لا ما قال وذهب إليه أهل الإفك على الله ، وقالوا فيه من الجبر للمخلوقين على ما يكون من أفعالهم والإدخال لهم بالقسر في فاحش أعمالهم من (الغي) والفجور والمنكرات والشرور ، والحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، وسلام على المرسلين.

ثم قال : إن قال قائل : خبرونا عن المشركين الذين لم يسلموا ، هل جبروا على الشرك؟ قيل له : إن المشركين لم يريدوا الإسلام فيجبروا على الشرك ، وذلك لو أنهم أرادوا الإيمان وأكرهوا على الشرك ، كما أراد المشركون الشرك ورضوا به ، وأراد الله جل ثناؤه أن

٤١٦

يهديهم فجبرهم على الهدى وهم كارهون ، ثم قال : فإن قال قائل (٤٠٥) : فإن لم يكونوا مجبورين ولا مكرهين ، فهل يستطيعون ترك الشرك وقبول الهدى ، فقل : لا ، إلا إن شاء الله ؛ فزعم في آخر قوله أنهم لا يستطيعون ترك الشرك وقبول الهدى ، فأبطل حجته وقوله أولا حين يقول : إنهم إنما يكونوا مجبورين على الشرك لو أرادوا الهدى فمنعوا منه وأدخلوا في الردى ، فأثبت هذا القول لهم الفعل ، وأقر أنهم يقدرون على فعل ما لا يريد الرحمن حتى يجبرهم على غيره من الشأن ؛ لأن الإرادة والنية فعل لصاحبهما ، ولذلك ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن صاحب النية يعطي ويثاب فيها وعليها. وإذا صح أن العباد يفعلون ويريدون ما لا يشاء ربهم حتى يجبرهم على غير ذلك من فعلهم ، فقد بطل ما يخرصه الحسن بن محمد من زخرف قوله ، وثبت وصح ما يقول به أهل المعرفة بالله من العدل بإقراره.

ثم زعم أن من لم يقدر على ترك الشرك والكفر بربه غير مكره ولا مجبور على ما هو فيه من فعله ، وهذا فعين المحال ، وأفحش ما يقال به من المقال ، وإبطال المعقول ، والمكابرة لصحيح العقول ؛ لأن من حيل بينه وبين القيام لسبب من الأسباب ، فقد جبر على القعود بلا شك ولا ارتياب. وكذلك من أوقدت له نار ثم ألقي فيها ، ومنع من التحرف عنها ، وحيل بينه وبين الخروج منها ، فقد جبر وجبل على الاحتراق فيها. وكذلك الطير (٤٠٦) إذا قص جناحاه الخافقان ، فقد حيل بينه وبين ما يريد من الطيران. وكذلك من لم يجعل فيه من الخلق استطاعة فعل ، فقد حيل بينه وبينه ، لا يشك في ذلك عاقلان ، ولا يختلف فيه جاهلان.

__________________

(٤٠٥) سقط من (ب).

(٤٠٦) في (ب) : الطائر.

٤١٧

المسألة الثانية والأربعون : هل كلف الله الملائكة؟

وأما ما سأل عنه من قوله ، وكذبه على ملائكة ربه ، فقال : خبرونا عن الاستطاعة التي تزعمون أن الله جل ثناؤه جعلها في عباده حجة عليهم ، وأنها مركبة فيهم ليعملوا أو يتركوا ، هل جعلها في الملائكة المقربين؟ أم لا؟ ثم قال : فإن قالوا : نعم قد جعلها فيهم ، وامتن بها عليهم ، فقولوا لهم : فأنتم إذا لا تدرون عن الملائكة هل بلغت؟! أم لا؟ أم هل أدت ما أمرت بأدائه؟ أم هل قصرت في شيء مما أمرت به؟ إذ تزعمون أنها قادرة على ما تهوى ، تاركة لما تشاء.

جوابها :

فقولنا في ذلك : إن الله سبحانه ركب الاستطاعة في عباده وجعلها في جميع خلقه المأمورين المميزين ، ومنهم الملائكة المقربون صلوات الله عليهم. ثم أمرهم ونهاهم من بعد أن أوجد فيهم ما أوجده سبحانه في غيرهم من الاستطاعة الكاملة ، والنعمة الشاملة ، وأمرهم ونهاهم ، ولو لا ما ركب فيهم من الاستطاعة لما جرى أمره عليهم ، من ذلك قوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [البقرة : ٣٤] ، فأمرهم بالسجود من أجله ، ولما رأوا ما ابتدع من جليل صنعه ، ولعظيم ما فيه من قدرته ، إذ خلقه من طين من صلصال من حمأ مسنون. والمسنون فهو ما داخله الأجون فأسن لذلك وأجن وتغير ، فصار لما فيه من الأجون حمأ ، كما ذكر الله مسنونا ، ثم صوره رجلا ، ثم نفخ فيه الروح ، فصار جسما متكلما ، لحما وعروقا وعظاما ودما ، يقبل ويدبر ، ويورد ويصدر ، بعد أن كان طينا لازبا. فسجد الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ لله المهيمن ذي الإنعام من أجل ما أحدث في آدم صلى الله عليه من الخلق وجعله أبا لكل الخلق. فكانوا بائتمارهم في ذلك لله مطيعين ، وعليه مثابين ، ولأمر الله مؤدين. ولو لم يكن فيهم استطاعة ، ولا ما يقدرون به على السجود من الآلة ، لم يأمرهم سبحانه بما لا يستطيعون ، ولم يكلفهم العدل الجواد ما لا يطيقون ؛ لأنه أرحم الراحمين ، وأكرم الأكرمين ، وأعدل العادلين. وليس ما ذكر المبطلون ، وقال به الضالون من صفات الرحيم ، ولا من أفعال العزيز العليم ؛ لأن من أمر مأمورا بأن

٤١٨

يفعل مفعولا لا يقدر على فعله ، كان بلا شك ظالما له في أمره ، وكان قد كلفه في ذلك محالا ، وكان له بذلك غاشما ظالما ، وليس الله بظلام للعبيد ، كما قال في ذلك ذو الجلال الحميد : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] ، وقال سبحانه : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] ، فيا سبحان الله!! ما أجهل من نسب ورضي لربه ما لا يرضاه وما لا ينسبه إلى نفسه من تكليف العباد ما لا يطاق ، ثم رضي ذلك ونسبه إلى الواحد الخلاق ، فكان كما قال الله جل جلاله ، وتقدست أسماؤه : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) [الزخرف : ١٧] ، فأخبر سبحانه أنهم كانوا ينسبون إلى الله اتخاذ البنات ، ولا يرضون بهن لأنفسهم ، ولا يحبون الإناث ، بل إذا رزق أحدهم بما رضيه لربه بانت الكراهية منه في وجهه ؛ فشابهوهم في فعلهم ، واحتذوا في ذلك بقولهم ، فقالوا : إن الله يكلف عباده ما لا يطيقون فعله ، ويعاقبهم على ترك ما لم يقدرهم على صنعه ، وهم ينفونه عن أنفسهم ، ويبرءون منه أخس عبيدهم ، فسبحان من أمهلهم ، وتفضل بالإنظار لهم.

ثم قال : ما يدريكم أن الملائكة مستطيعون ، لما يشاءون من الأعمال متخيرون ، وعلى العمل والترك قادرون؟ لعلهم قد تركوا بعض ما به أمروا ، وقصروا في أداء بعض الوحي ، وفرطوا في نصر النبي والمؤمنين ، وفي غير ذلك مما أمرهم به رب العالمين.

فقولنا في ذلك له (٤٠٧) : إنا علمنا براءتهم صلوات الله عليهم وإنفاذهم لكل ما أمرهم به ربهم على ما أمرهم به ، غير مفرطين في شيء منه ؛ لقوله فيهم سبحانه ، وثنائه بما أنثى عليهم من ترك التفريط في أمره والاستقصاء في كل إرادته ، والتقديس له والتسبيح الليل والنهار ، وذلك فقول الواحد الجبار : (لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠] ، وفي ترك التفريط فيما أمرهم به رب العالمين ، ما يقول سبحانه في القرآن المبين : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام : ٦١] ، ويقول تبارك وتعالى فيهم ،

__________________

(٤٠٧) في (ب) : فقولنا له في ذلك.

٤١٩

ويثني بما يعلم من أفعالهم عليهم ، حين يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] ، وفي ذلك ما يقول سبحانه ، ويحكي عن المبطلين بما قالوا في الله رب العالمين ، حين يقول : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٦] ، فوجدناه تبارك وتعالى يذكر الاجتهاد منهم له عنهم ، فقلنا فيهم بما قاله ربنا وربهم ، فتعالى أصدق الصادقين عن مقالة الفسقة الجاهلين.

ومن الدليل على معرفة حقائقهم (٤٠٨) والوقوف على محض فعلهم واجتهادهم ، تولي الله لهم ومعاداته لمن عاداهم. ألا تسمع كيف يقول الواحد ذو الجلال والطول : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٩٨] ، فذكر سبحانه وجل عن كل شأن شأنه أنه عدو لمن عاداهم ، وإذا صحت العداوة والمقاضاة منه لمن ناضاهم فقد ثبتت منه الولاية بلا شك لمن والاهم ، ألا تسمع كيف جعل من عاداهم فاجرا؟ وسماه في واضح التنزيل كافرا؟ حين يقول في آخر الآية جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) ، ولن يوالي أبدا من كان في أمره مقصرا ، ولن يشهد بالوفاء لمن كان عنده سبحانه غادرا ، فبهذا ومثله من تنزيله مما قد ذكره وبينه في وحيه وقيله ، شهدنا للملائكة المقربين بالاجتهاد في الطاعة لرب العالمين.

المسألة الثالثة والأربعون : هل يثيب الله عباده على ما أجبروا عليه؟

ثم قال تغليظا لمن كان معه على رأيه من أهل الجهالة ، وذوي الحيرة والتكمه والضلالة : نسأل من أثبت في الخلق الاستطاعة ، فيقال لهم : هل يثيب الله خلقه على ما عملوا من الطاعة ، مما لم يجعل لهم السبيل إلى تركه؟ (ثم قال) (٤٠٩) : وهل يعاقبهم على ما عملوا به

__________________

(٤٠٨) في (ب) : إحقاقهم.

(٤٠٩) سقط من (ب).

٤٢٠