مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، وصلاته على محمد نبيه وسلامه ، الحمد لله ربّ العالمين حمدا لا ينقضي أمده ، ولا ينحصر عدده ، وصلى الله على نبي المرحمة والملحمة ، وأب العترة الطاهرة ، وسلّم عليه وعليهم أجمعين (١).

أما بعد :

فإن العلم ميزان الدين ، والبراهين أوزانه ، والذرية الطاهرة وزّانه ، فهم نقدته وجهابذته ، وأساقفته ومؤابذته ، ولا يمرّ عصر من الأعصار إلا ولهم فيه منازع ، ومنهم سلام الله عليهم عنه مقارع ، ومنهم شارد ، وإليهم نازع ، (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) [هود : ١١٨ ، ١١٩] ، فنسأل الله الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وللسائل حقّ المسألة وهو ردّ الجواب ، وعلى السائل الإنصاف في تأمل الشروط والعلل والأسباب ، استوى المكلّفون في العلم بالمعجزات لأنها من المشاهدات ، واختلفوا في العلم بمدلولها ، وتأمل فصولها ، وليس على العالم أن يعلّم المتعلّم ، وإنما عليه إيضاح البرهان ، وتعيين البيان ، وقد كثر الترداد في السؤال والجواب ، ولم نترك ما يمكنا إيراده مع تضايق الحال ، وكثرة الأشغال.

__________________

(١) هذه الرسالة وما بعدها انتزعتها من آخر كتاب الدر المنثور من فتاوي الإمام المنصور الذي حققناه واكتفينا بنشر المهذب بدلا عنه على أن ينشر قريبا إنشاء الله ضمن مشروع موسوعة الكتب الزيدية المطبوعة على الكمبيوتر التي أنجزت طباعتها في المؤسسة وغيرها.

٥٠١

سأل أيده الله : عن قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال : ١] ، الأنفال ما هي؟

[الجواب :] الأنفال في أصل اللغة : هي الزيادة من المحبوب ، قال لبيد :

إن تقوى من خير نفل

وبإذن الله ريثي وعجل

ثم صارت في العرف : تنفيل الغنائم فكأنها زيادة في الخير ، وسبب السؤال أن المسلمين تنازعوا في الغنيمة يوم بدر ، وكانت المشيخة والجلّة ردءا للمسلمين مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان الشبّان والفرهان أوغلوا في اتباع القوم ، فقال الشبان والفرهان : الغنيمة لنا لأنا فضضنا القوم وتبعناهم ، فبنا حيزت الغنائم. وقالت (١) الجلة : نحن ردؤكم ، وحفظنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلولا نحن لم تغنموا ، فلما ساءت ظنونهم ، وعظم تشاجرهم نزلت في ذلك سورة الأنفال من أولها إلى آخرها ، وهي تسمّى : سورة القتال ، وسورة الأنفال ، وفي ذلك ما رويناه بالأسانيد إلى زياد بن عبد الله البكائي ، عن محمد بن إسحاق المطلبي ، يرفعه قال : نزلت سورة الأنفال في أهل بدر في اختلافهم في النفل حين اختلفوا ، فقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ١] ، فكان عبادة بن الصامت رحمه‌الله إذا سئل عن الأنفال قال : فينا معشر أهل بدر نزلت حين اختلفنا في النفل يوم بدر ، فانتزعه الله تعالى من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقنا ، فردّه الله تعالى على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقسمه بيننا على بواء ، معناه : على السواء ، فكان في ذلك تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله ، وصلاح ذات البين.

__________________

(١) في (ب) : وقال الجلة.

٥٠٢

قال أيده الله : وهل إضافتها إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إضافة تمليك أو إضافة تولية؟ وإذا كان إضافة تمليك فهل حكم هذه الآية باق إلى الآن ، أم هو منسوخ بآية الغنيمة؟

الجواب : إنّ إضافتها إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إضافة تمليك لا تولية ، والدليل على ذلك أنه يفعل فيها ما شاء وكيف شاء وذلك حقيقة الملك ؛ لأنه لو كان تولية كان حكمه حكم ولي اليتامى ، له التصرف بحكم الولاية ، ولا يجوز له المفاضلة ، ولا قائل بذلك من الأمة فيما نعلمه.

وسألت عن حكم هذه الآية هل هو باق أو (١) منسوخ بآية الغنيمة؟ وهو باق إلى الآن ؛ لأن للإمام أن يفعل في الغنيمة ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعله ، فلو كانت منسوخة لاختلف الحكم ، ولا اختلاف في ذلك بين أهل العلم.

قال أيده الله : وإذا كان هذا الحكم باقيا فهل علم من حاله أنه استأثر بالغنيمة دون المهاجرين والأنصار أم لا؟

والجواب عن هذه المسألة : أن الاستئثار ليس من طرائق الأحرار ، فكيف يضاف إلى المصطفين الأخيار ، وقال عنترة في جاهليته :

هلّا سألت الخيل يا بنت مالك

إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

ينبيك من شهد الوقيعة أنني

أغشى الوغى وأعف عند المغنم

فإذا كانت جفاة الجاهلية يمتدح بترك الاستئثار فكيف يكون في أهل الإسلام ، فكيف يكون في أصل الإسلام وأساسه من صفوة الله من خلقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستئثار يبطل حكم المروءة ، فكيف يجوز على من خصّه الله بالنبوة ، هذا ما عنه سائل ، ولا به في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائل.

__________________

(١) في (ب) : أم منسوخ.

٥٠٣

فإن كان السائل أورد ذلك مقدّمة لإنهاء العلم إلينا ، وأنا نستأثر بالغنيمة فلا طريق له إلى العلم بذلك لمغيبه عنا وعلم من حضرنا بخلاف ذلك ، فإن نقله (١) إليه ذلك ناقل فلا يبلغه من صادق إلا أن يكون نزوله عن غير صادق ، ولو أراد مريد تتبع الغنائم مجموعها وأخماسها لعلم الحقيقة.

أما أخماس تهامة فهي لا تجاوز البطنة مجموعة ، وهي الآن محفوظة الأصول مع القاضي إسماعيل ، فلو فتشت لم يوجد الصائر إلينا منها نصف عشر ، ومن صارت إليهم (٢) محفوظون معروفون بأعيانهم ، والأمناء يحققون ذلك لو سئلوا عنه ، وذات خولان هي أعيان معلومة ينظر ما صار إلينا وما صار إلى المسلمين.

ولنا أن نعطي من رأينا إعطاءه وإن كان في المعلوم أن الصواب في إعطاء غيره على رأي أهل الأشبه ، وصارت إلينا أغنام رأينا تركها لنا في الظاهر ، ونفعها عام للمسلمين يعرف ذلك الخابر ، وأخرجنا أضعاف قيمتها من خالص مالنا لأهل البيت وغيرهم ، ولو نابت نائبة توجب خروجها لم نضن ، والماضي منها في اللطية خمسمائة رأس ، وبيت المال جهات معلومة ، وكل جهة فيها متصرف قبض بيت المال إليه وإخراجه على يديه ولم يبق تصرفنا إلا فيما يخصّنا من بر أو مال ، والعالم بحالنا يعلم ما يخرج في كل يوم إلى أهل البيت خاصّة وإلى سائر المسلمين عامة ، ولا يوجد له وجه في الظاهر إلا ما ذكرنا ، وما وراء الظاهر ظنون لا تثبت بها الأحكام في الدين.

والحديث في الإمام هل هو ورع أم لا؟ فإن كان غير ورع فالورع من خصاله لم تصحّ الإمامة في الأصل ، وإن كان ورعا حملت الأمور على السلامة.

__________________

(١) في (ب) : فإن نقل إليه.

(٢) في (ب) : ومن صارت إليه.

٥٠٤

وللإمام أن ينظر في مصالح المسلمين ، فلو رأينا قسمة الأعيان بينهم جاز ، وإن رأينا قسمة الأثمان فكذلك ، ولم نذكر هذه الجملة إلا أنا استبعدنا أن يقع السؤال ولا يجيبه الجواب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل كان يستأثر بالغنائم أم لا ، فظننا أن المسألة ربما ترجع إلى قول منظور بن سيار حيث قال :

 ...................................

إياك أعني واسمعي يا جارة

وأما المهاجرون والأنصار الذين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يكن لهم في أيامه أرزاق في بيت المال معينة فكان بلا بد غنائمهم بيت مالهم ، فلم يكن بدّ من قسمته ، ومهاجرونا وأنصارنا لكل إنسان قسط يرجع إليه ، فلو زدنا أضفنا إليهم الأخماس ، وقعت هنالك الأثرة فيما بينهم ، والإجحاف بغيرهم ، وتركنا الأخماس لغيرهم ، كما قدّمنا من لا قسط له معين ، أو لنائبة تنوب ، أو لسدّ خلة بعض أهل الأرزاق ، أو لدفع ضرر الحاجة ، أو إخلاله إن لم يعط ، وما لا ينحصر لنا في الحال ذكره من الوجوه ، وهذا الذي ذكرناه مسطور يتكرر على أسماع المختصين بنا ، فإن علموا خلافه كانوا على يقين من الأمر ، فأما المبتعد فربما يصله الشر ولا يصله الخير ، قال الشاعر :

صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بشر عندهم أذن

وربما أن يتكلّم الغاضب بما لا يتكلّم به الراضي ، ولعظم المحنة في هذا الباب أسقط بعض أهل العلم أحكام فعل الغاضب بالأيمان والنذور والطلاق ، قال الشاعر :

نظروا إليك بأعين لو أنها

عين الرضى لاستحسنوا ما استقبحوا

٥٠٥

وقد قال ابن جعفر :

وعين الرضى عن كل عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدي المساويا

وقد كان أقرب إلى رضى الله تعالى وطاعته أن لا يجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسبارا لقعر غيره ، فنفوسنا ، وأعراضنا ، ولحومنا ، ودماؤنا ، وآباؤنا ، وأمهاتنا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفداء ، وقد كان الصواب أن تجعل المسألة في الإمام نفسه إما مجملا إن احترس من التفصيل ، وهل يجوز للإمام أن يستأثر؟ فكان إن عثر الإمام فعثرته مستقالة ، وعندنا أن الكبائر تجوز عليه خلافا للإمامية ومن حذا حذوها.

قال أيده الله تعالى : وكيف الجمع بينها وبين آية الغنيمة ؛ لأن في آية الغنيمة ما جعل لله وللرسول وللأصناف المذكورين سوى الخمس ، وجعل الأربعة الأخماس للغانمين بالإجماع ، قال : ذكره الحاكم ، وفي آية الأنفال جعل الكل لله وللرسول ، فكيف الجمع بينهما إذا كان المراد بأحدهما هو المراد بالآخر؟

والكلام فيه : أن الآيتين كل آية قائمة بنفسها ، فالأولى منهما متى أراد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام صرف الغنيمة إلى وجه من الوجوه كان له ذلك ، وإن أراد قسمتها كانت على السهام المذكورة في آية الغنيمة ، والخمس أيضا يقسم متى أريدت القسمة على السهام المعلومة في الخمس ، وإن أراد الإمام صرفه إلى وجه واحد فله ذلك كما فعل علي عليه‌السلام في الأخماس ، وكان يقبضها مدة حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأيام أبي بكر ، وبرهة من أيام عمر ، فلما أتى خمس جند نيسابور وكان مالا ، فقال عمر : هذا ما لك يا علي ، أو هذا مالكم فخذوه ، فقال علي عليه‌السلام : (إن بنا عنه غنى وبالمسلمين إليه حاجة ، فقال

٥٠٦

العباس رضي الله عنه : شيء في يدك ، أو قال : في أيدينا نعطيه القوم ، فأمضى ذلك علي عليه‌السلام فقال : والله ما دعيت إليه حتى قمت مقامي هذا ، فللإمام أن يتصرف في جملة الغنيمة كما ذكرنا أولا ، وفي خمسها كما ذكرنا ثانيا عن علي عليه‌السلام تصرف المالك في ملكه ؛ لأن عليا عليه‌السلام لم يشاور الهاشميين في الخمس رجالهم ولا نساءهم ولا استطاب نفوسهم (١) ، وكيف وأكبرهم سنا وأوجبهم بعد الحسن والحسين عليهما‌السلام حقا العباس رضي الله عنه ابن عبد المطلب لذلك كاره ، فلم ينظر علي عليه‌السلام إلى كراهته.

وما يحكى من استطابة النفوس كما فعله (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سبايا حنين فإنما هو سياسة وحسن معاشرة ، وقد جعل الله الغنائم لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقسمها على بواء ، كما ذكره عبادة وذلك له ، فالآية في الأنفال لها وجه ، والآية في الغنيمة لها وجه آخر ، ولا يقع النسخ إلا فيما يتنافى ولا يتنافى (٣) إلا ما كان على وجه واحد ؛ لأنه عند أهل اللغة : إزالة ذلك ، وعند أهل الفقه : إزالة مثل ذلك ، وهذه إشارة ليس هذا موضع استيفائها ، فالله تعالى جعل الغنائم (الأنفال) للإمام يفعل فيها ما شاء ، وجعل الغنيمة إليه يقسّمها متى أراد قسمتها على الوجوه المذكورة ، وفي آية القسمة ذلك إنما يكون بعد أن ينفل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رأى تنفيله ويعطي من أراد إعطاءه ، وإنما إذا قسم كيف يقسم؟

__________________

(١) في (ب) : أنفسهم.

(٢) في (ب) : كما فعل.

(٣) في (ب) : إلا فيما يتنافى ولا يتنافى.

٥٠٧

قلنا : للفارس سهمان وللراجل سهم ، وكان مع المسلمين يوم بدر ثلاثة أفراس : فرس مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يقال له : السيل ، وفرس المقداد بن عمرو النهراني كان يقال لها : بغرجة ، وفرس الزبير بن العوام يقال له : اليعسوب ، فنحن نروي في الخيل التثنية ، وأهل الثلاثة يروون الثلاثة ، والأصل هذه الأفراس.

ووجه الجمع بين الروايتين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفل الفارس سهما فكانت ثلاثة أسهم فلا يمكنهم التأوّل فيما ذكرنا من السهمين ، والجمع بين الأخبار واجب ، ما أمكن فقد أمكن ، ولا يمكنهم في خبرنا إلا نفيه ، وقد صحّ فبطل ما قالوه.

وأما الإجماع الذي ذكره الحاكم فهو حقّ أن الإجماع في القسمة هو هذا فيما يقسم ، وأما فيما لا يقسم فكيف يصحّ دعواهم فيه ، وكذلك في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) [الأنفال : ٤١].

قال أيده الله : وتقديره : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن هذا حكمه في الغنيمة وشرعه فلا يحلّ لأحد مخالفة هذه الآية مع هذا الشرط ، والكلام في هذا مستقيم كما قدمنا ، وأن ذلك حكم الله في الغنائم إن لم تقسم ، وذلك حكمه فيها إن قسمت ، والكل حقّ وشرع ومنزّل ، ولا يردّه من آمن بالله ، وما أنزل على عبده يوم الفرقان ، يريد : يوم فرّق الله بين الحق والباطل بنصر أوليائه وخذلان أعدائه ، وكان ذلك يوم بدر ، القوم يقربون من ألف فيهم مائة فارس وهم صميم قريش ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ثلاثمائة وبضعة عشر ، فكان هذا نهاية الفرقان.

قال أيده الله : وهذه الآية في سورة الحشر ، فقال تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ

٥٠٨

مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ...) إلى آخر الآية [الحشر : ٧] ، أللفيء حكم آخر ، فما ذلك الحكم؟ وإذا كان حكمهما واحد فهل يجب الاستئثار أم لا؟ فيأخذها الأغنياء دون الفقراء مع قوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) [الحشر : ٧].

قال : وبهذه الآية احتجّ عمر لما طلب منه قسمة أرض الخراج فامتنع ، وتركها للمسلمين على سواء ، وكان بمحضر من الصحابة فلم ينكر عليه أحد في ذلك وهذا السؤال فرع على أن حكمهما واحد ، أعني آية الفيء وآية الغنيمة.

قال : وإن كان الفيء الذي نهى الله عزوجل أن يكون دولة بين الأغنياء هو غير الغنيمة ، أنعم ببيانه؟

قال : وقد صرّح عزوجل ببيان حكمه بعد ذكر آية الفيء ، فقال عزوجل : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) [الحشر : ٨] ، وثنّى عزوجل بالأنصار ، وثلّث بالذين جاءوا من بعدهم ، فهذه ثلاثة أصناف من الأموال :

أحدها : الأنفال التي جعلها الله لله وللرسول.

الصنف الثاني : الغنيمة التي لم يجعل الله فيها لله وللرسول ولسائر الأصناف سوى الخمس.

الصنف الثالث : الفيء الذي جعله الله عزوجل للفقراء ، ونهى أن يكون دولة بين الأغنياء.

قال أيده الله : ينعم ببيان حكم كل واحد من هذه الأصناف المذكورة؟

الجواب عن ذلك : اعلم أيدك الله أنه لا فرق في الشرع الشريف بين الفيء والغنيمة إلا في اللفظ دون المعنى ، الفيء إن همز فأصله فاء إذا رجع ،

٥٠٩

فكأن هذا المال كان غائبا عن المسلمين فرجع إليهم ، والغنيمة هو المال المستفاء ، غنم نقيض غرم ، قالت عذر في بعض أيامها في الجاهلية ، قالوا : ولم نغنم غيره ، وقال الشاعر :

وقد طوفت بالآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب

وإن لم يهمز الفيء فأصله الظل ، فكأن الذي يأخذ المال في ظل لبرد لذة المال ، وآية الفيء في سورة الأنفال فقد ذكرنا أن الله تعالى لما ملّكها نبيه قسمها على بواء (معناه على سواء) فهي غنيمة ، وجعل أيده الله ذلك أصنافا ، وكرّر الفيء في صنفين ، وليس ذلك من القسمة في شيء وإنما هو الفيء ، وإنما اختلفت الأحكام باختلافه (أي الحكم).

وأما سورة الحشر فاعلم أيدك الله أن سورة الحشر كلها نزلت في بني النضير بأسرها ، يذكر فيها تعالى ما أصابهم من نقمة ، وما سلّط عليهم رسوله ، وما عمله فيهم فقال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ ...) إلى آخر السورة [الحشر : ٢].

ولا بدّ لنا أن نذكر طرفا من القصة لنعرف معاني الحكمة ، لما كان من عامر بن الطفيل لعنه الله في أهل بئر معونة ما كان ، ولم يسلم منهم إلا عمرو بن أميّة الضمري ، ورجل آخر أعتقه عامر عن نذر أمه في عتق نسمة ، ولما رجع عمرو بن أميّة لأنه كان في الركاب يرعاها فنجا لما رأى أصحابه قد أحيط بهم ، فلقيه رجلان من بني عامر في ذمة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقتلهما ، فوادهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخرج إلى بني النضير ليستعينهم في الدية ، قالوا : نعم ، يا أبا القاسم نعينك ، وهموا بإلقاء صخرة عليه ، فجاءه العلم من السماء ، فأعلم أصحابه

٥١٠

ورجع المدينة فآذنهم بالحرب ، واستعمل على المدينة وسار إليهم حتى نزل بهم في شهر ربيع الأول ، فسألوه أن يخليهم ويكفّ عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة فهي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحملوا ما أقلّت الإبل وساروا إلى خيبر ، يقدمهم أشرافهم: سلام بن أبي الحقيق ، وكنانة بن الربيع ، وحيي بن أخطب ، فكانت أموالا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجعلها حيث شاء ، وهذا يؤيد ما قلنا ، فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المهاجرين دون الأنصار إلا أن سهل بن حنيف ، وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سهامهما ، وقد ذكر الله تعالى الجلاء (بغير إيجاف من خيل) (١) ولا ركاب ، فلعل المراد بذلك بعض حصونهم المتأخرة عن موضع الإباحة لئلا تتناقض الأحكام ولا سيما في القرآن ، فالذي أباح عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمسلمين هو فيء وغنيمة للمسلمين ، وما أجلا عنه القوم فلرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة وكل ذلك في بني النضير ، وقد تضمنته سورة الحشر ، فحكم الجلاء يرجع الأموال إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعل فيها ما شاء كما كان في فدك والعوالي ، وحكم ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ما ذكره من القسمة بين المهاجرين الأولين دون الأنصار ، على أن أيديهم كانت على القوم واحدة ، وظاهر الحكم يقضي بالمساواة ، وهو قول الأمة أنه لا يعطي الفقير لأجل فقره ، ويمنع الغني لأجل غناه ، بل يستوي الغني والفقير متى أراد ولي الأمر القسمة ، وقد يجوز أن يعطي ولي الأمر الغني ويدع الفقير كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم المؤلفة تألفهم بالغنيمة ، فلو لا أن المال له لم يجز ذلك إلا بالرضى ، وقد ظهرت الكراهة في ذلك من الأكثر كما كان من استطابة

__________________

(١) في (ب) : من غير إيجاف بخيل.

٥١١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنفوسهم من الكلام بما هو مشهور ، فقال : «أما ترضون أن يروح الناس بالشاء والنعم وتروحوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وحتى قال حرقوص اللعين : ما عدلت منذ اليوم ، فالأحكام تؤيد بعضها بعضا ، ولا يلتبس على أهل المعرفة.

والمعلوم أن قسمة بلاد بني النضير كما ذكرنا ، وفيها ما أخذ بالحرب ومنها (١) ما أجلا عنه القوم ، وكانت قسمتها على بعض المسلمين دون البعض.

فأما قول عمر في أمر السواد واحتجاجه بالآية ولم ينكر عليه أحد ، فالإنكار في أفعال الإمامة فرع على صحة الإمامة أو إنكارها ، وقد كان الحال أوجب السكوت عن إنكار الإمامة وهي الأصل فكيف ينكر فروعها ، وفروعها التصرف.

فأما إقراره لأرض الخراج من القسمة فذلك جائز للإمام وهو يؤيد ما قلنا ، فلو قسم لجاز ، فلا تعلق للآية بذلك ، ولو أراد الإمام المنّ بالبلاد على أربابها لجاز ذلك كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أهل مكة ، فإنه منّ عليهم بنفوسهم وأولادهم ودورهم وأموالهم ، وإن تركها في أيديهم على الخراج جاز كما فعل لأهل ناعم ، والسلالم ، والقموص ، وإن قسم على الغانمين جاز كما فعل في الشق ، والبطاقة ، وهذا كله إذا تأمله أهل العلم يشهد لما قلناه بالصحة إن شاء الله تعالى ولكل شرع متّبع.

__________________

(١) في (ب) : وفيها.

٥١٢

وسأل أيده الله : هل يجوز للمسلم السكنى في دار الحرب ، أم لا يجوز ، سواء كان يخاف على نفسه الفتنة أم لا يخاف؟

الجواب : أنّه لا يجوز للمسلم السكنى مع الكافرين ، وفيه آثار جمة يكفي فيها ما روينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أنا بريء من مؤمن سكن مع كافر» ، ومن تبرأ منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليس بمسلم اتفاقا ، وكذلك قوله في المسلم والكافر : «لا تراءى نارهما» ، ووجوب الهجرة معلوم من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أيامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذهب علماء آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتصريح القاسم وأولاده أكبر أن ما كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو للإمام من بعده ، وأكثر المعتزلة يرى بذلك ، وقد ذكر الحاكم في (تحكيم العقول) أنه إذا غلب في ظنّه أنه إذا انتقل كان أقرب إلى فعل الطاعة وترك المعصية وجب عليه الانتقال ، وذكر القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام في كتاب (التحرير) في أصول الدين أنها تجب الهجرة من دار الفاسقين ، وأنه لا يصلّي على الميت فيها من يدّعي الإسلام شرعا ، ومتى ساكن الفاسقين مختارا كان فاسقا ، وإن ساكن الكافرين مختارا كان كافرا ، فالكافر يجوز سبيه ، وليس حكم الكفر يسقطه كون الشخص المعين زيديا.

وأما الدليل عليه من آيات الكتاب فكثير ، وإنما يستدل بالقليل ففيه كفاية ، قال تعالى : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) [إبراهيم : ٣٦] ، والمعلوم أن الواحد بل المائة والألف في بعض الأحوال لا بدّ أن يكون تابعا للكافرين ، وقال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة : ٥١] ، ولا بدّ من توليه لهم وذلك يعلم بالاضطرار ؛ لأنه لا يتمكّن من التبري منهم بل هو نازل على حكمهم.

ويجوز للإمام والعالم سكنى دار الكفر متى كان متمكّنا من الدعاء إلى الله

٥١٣

تعالى ، وإلزامهم الحجة سرا وجهرا ، ولا يجوز ذلك لغيرهم ولا لأعراض الدنيا.

وأما أهل صنعاء فنحن مننا عليهم باسم الزيدية وذلك جائز لنا. أعني المن.

وأما سؤاله أيده الله تعالى : عن دليل لا يلحقه التأويل فذلك لا يدخل تحت إمكاننا في هذه المسألة ، ولا فيما هو أقوى منها من العقليات ، بل كل دليل يلحقه التأويل ويمكن فيه الاعتراض حتى دليل الممانعة اعترض وهو من رب العالمين ، فأما الأدلة الشرعية فلا بدّ من إيرادها ، وقد كانت.

وأما (السنة المقطوعة) (١) فإنما يجب اعتبارها في الأصول الخمسة ، والمنزلة بين المنزلتين على عظم الأمر فيها وكونها من الأصول لم يوجد فيها ذلك ، وهذا الشرط في باب الأئمة مثل التحكّم في باب الأنبياء والمعجزات ، وإن كانت مصالح فلا بدّ من ظهور الدليل ، وقد ظهر بغير ما عيّن في السؤال فكذلك يكفي في الاستدلال ما يكون دليلا شرعيا ، وإن لم يكن مما سأله السائل بعينه ، وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [التوبة : ٢٣] ، وهذه الولاية ليست الحب بالقلب فهو فعل الله تعالى ، وإنما الاتباع والمعاشرة ، الذي ينبي ظاهرها عن المساعدة ، وقد قال العباس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر : إنما خرجت كارها أنا وبنو هاشم ، وكان صادقا ، وقد علم ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل قول العباس ، وقال لأصحابه : «من لقيتم من بني هاشم فلا تقتلوه فإنما أخرجوا كارهين» ، والقصة فيها طول ذكره ابن هشام ، والواحدي ، ونحن نرويه مسندا ،

__________________

(١) في (ب) : السنة المقطوع بها.

٥١٤

فلما حاول العباس رحمه‌الله إسقاط الفداء بذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أما ظاهر أمركم فكان علينا» ، فأثبت حكم الظاهر وإن كان المعلوم خلافه ، وعمله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرع يجب اتباعه ، ومن يكون في دار الحرب فهو تابع لهم بالضرورة لتعذر امتناعه عنهم لعدم الشوكة.

وأما ما ذكر أيده الله تعالى : هل يؤخذ في هذه المسألة بأخبار الآحاد وبالقياس والاجتهاد أم لا؟

والجواب : أن العمل في ذلك بأخبار الآحاد وبالقياس ثابت لا شكّ فيه ، والقياس أصل قوي من أصول الشرع ، واستعمل في أصول كثيرة من مسائل الربا ، وبه ثبت حدّ الشارب للخمر قياسا على القذف.

وأما أخبار الآحاد فهل قتل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قتل وأخذ من أخذ إلا بأخبار الآحاد ، وحتى بانت خيانة بعضهم وهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزو القوم الذي حكى الوليد بن عقبة كفرهم حتى أخبر الله تعالى بكذبه وفسقه ، ولو لا كذبه لنفذ الأمر فيهم ، وجاز القتل لهم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يهمّ إلا بالجائز.

وأما الاجتهاد فليس له مجال في هذا الباب ؛ لأنه لا يرجع إلى أصل معين ، ولهذه الجملة موضع غير هذا.

قال أيده الله تعالى : وإذا كان الكافر كافرا بمجرد سكناه ، فهل بهذه المسألة قائل من الأمة أم لا؟ فإن كان بها قائل فلا غنى عن ذكره؟

الجواب : أني أقول بهذه المسألة ، والقاسم بن إبراهيم عليه‌السلام يقول

٥١٥

بها قولا صريحا ، وجعل حكم المساكن للفاسقين حكمهم في الفسق ، ومنع من الصلاة عليه شرعا وإن كان مسلما قبل ذلك ، صرّح بذلك في (تحرير الأصول) وهو عندنا موجود ، وقد عاينه كثير من الإخوان ومن لا يحصر من علماء الزيدية.

أما جدودنا وسلفنا عليهم‌السلام فذلك ظاهر من قولهم : وجوب الاعتزال من الفاسقين ، وأقرب أهل الوقت إلينا ممن هو قدوة للمسلمين شيخا آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدس الله روح ميتهما ، وطول عمر باقيهما في طاعته فاسألوهما : ما موجب خروجهما من أحبّ الأرض إليهما ، وسكناهما في أكره الأرض إلى الناس [إلا] (١) فرارا من النار ، ولم نعلم قبل تعلق جوابنا بأكثر مذهب الاعتزال أحدا من الزيدية ينازع في ذلك.

ولما ظهرت مسألة القاضي عماد الدين أبي مضر المؤيدي نفعنا (٢) الله بصالح عمله في أنه يجوز مهادنة الباطنية ولقاهم صلحا والسكون معهم بحيث لهم أمر نافذ ، فذكر يوسف بن أبي الحسن الجيلاني رحمه‌الله وكان علّامة العصابة الزيدية في جميع الأقطار الخراسانية والديلمية والجيلانية ، والحافظ لعلوم آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجمعين ، فقال ما مثاله :

اعلم : أن الذي ذكر هذا القاضي من ذكر جواز الصلح مع الملاحدة هو غلط عظيم ، وتوهين لأمر الدين ؛ لأنهم دمّرهم الله تعالى يحرصون على ذلك لما فيه من الظفر ببغيتهم من المسلمين ، ولما هيئوا من الإلزامات والشبهات والإشكالات والإيهامات التي إذا أوردوها على المسلمين لم يكد يفكّها إلا

__________________

(١) زيادة في (ب).

(٢) في (ب) : نفعه.

٥١٦

المتبحّر في أصول الدين ، فقد حسم داءهم علماء أهل الشرع المبين ، وأوهنوا أمرهم بتحريم المصالحة لهم ، فذبل عود حيلهم في صدورهم وخابت آمالهم ، وكذبت ظنونهم أتعسهم الله تعالى وشدّد (١) في ذلك علماء أهل البيت عليهم‌السلام السابقون منهم ، والمقتصدون أفتوا بتحريم مصالحتهم ، والرؤية لهم مواجهة على طريق الهدنة ، والدخول في ديارهم ، وغلّظوا القول في ذلك وشددوا ، شدد الله وطأتهم ، وأنار برهانهم.

فمن السابقين : السيد الإمام أبو الرضى المدفون بأسفجين من ناحية ديلمان ، وكان قيامه قبل المؤيد بالله عليه‌السلام وقرأ السيد أبو طالب عليه‌السلام كتاب (الأحكام) للهادي عليه‌السلام وكان محيي علوم القاسمية قدّس الله أرواحهم وذلك الفتوى كان مشهورا بناحية ديلمان على عهد خروج (م) بالله قدس الله روحه.

ومنهم : الحسين بن محمد بن أحمد بن الناصر للحق عليه‌السلام الخارج بهوسم ، محيي دين أبيه الناصر للحقّ ، وناعش دين الإسلام في أيامه.

ومنهم : السيد الشهيد : الهادي إلى الحق ابن أبي الحسن الحقيني عليه‌السلام وبلغ تشدده في ذلك إلى أن قال : لما أخبرنا القاضي مروان الديلمي كاتب الملاحدة وراسلهم برقعة اتهموه بها ، فغضب قدّس الله روحه غضبا حمله على أن قال : اللهم ، إنك تعلم أن يدي لا تبلغ إلى القاضي مروان ، فإن كان هذا الذي رووه صدقا فأحضره مجلسي هذا لأصلبه فيك ولك. فلم تمض أيام إلا قدر المسافة التي كانت بينه وبين القاضي مروان حتى حضر القاضي

__________________

(١) في (ب) : وتشدد.

٥١٧

في مجلسه ، فأعجل في صلبه وأعدمه الدنيا من ساعته ، وكان عليه‌السلام محييا لمذاهب القاسمية رضي الله عنهم.

ومنهم : السيد الإمام أبو الرضى عليه‌السلام كان بناحية جيلان في بلدة كيسم ، وكان محييا لعلوم الناصرية عمّر الله آثارهم مجاهدا للبغاة والظلمة في إحياء دين الله ، وكان فقيها بارعا ، مصنّفا في فقه أهل البيت عليهم‌السلام وسيره وطرائقه مستحسنة مشهورة ، فجمع عليها في عصره كل أهل المعرفة.

ومنهم : السيد أبو طالب الأخير عليه‌السلام الذي كان المحسن بن حسن رحمه‌الله داعيا له ، وهو من أولاد المؤيد بالله عليه‌السلام وأطبق العلماء كافة على إمامته بعد أن اجتمع إليه خلق منهم وناظروه شهرا فبهرهم علمه وغطاهم فهمه ، وكان قدّس الله روحه محييا لدين آبائه قدس الله أرواحهم وبلغ تشدده في هذا الشأن إلى أن أمر بقتل سبعة نفر كان أحدهم رأى ملحدا صلحا ، فلم يمكن تميزه في ما بين السبعة لا يشتبه وردّ عليهم ، فسئل عن ذلك ، فقال القائل : والستة المقتولون في الجنة والواحد في النار.

ومنهم : السيد الإمام أشرف بن زيد الحسني ، القائم بجيلان ، المدفون بتجن من ناحية جيلان نوّر الله ضريحه أمر بقتل من رئي ملحدا اختيارا وهدنة ، وتنهب أمواله وإحراق دوره.

فهؤلاء الذين سميناهم الأئمة السابقون الذين لم يختلف أحد من الزيدية في أيامهم في صحة إمامتهم عليهم‌السلام فهذه فتواهم وهم قاسمية ، وناصرية ، ويحيوية على ما قدمنا من إجراء حكم الكفار على من هادن الكفار وأنس بهم حتى يراهم هدنة وسلما ، والمساكن لهم والنازل في دارهم أشد تمكنا من

٥١٨

هذا ، وهؤلاء عيون مرضيون ، ولم يطالب أحد من أهل العلم القاسم بن إبراهيم بأن يخبره من قال بمثل قوله في الفساق ، وكذلك واصل بن عطاء في المنزلة بين المنزلتين ، ولا قيل لهم : هاتوا نصّا يحتمل (١) التأويل من الكتاب أو السنة المعلومة ، وإنما يقال في المسائل : ما الوجه في هذا؟ ما الدليل عليه؟ ولم نتمكن من الاستقصاء ، وإن كان السائل قد عوّل في التوسيع ، ولكن الجواب ما قال الهادي عليه‌السلام : ويح الشجي من الخلي. علم الله وكفى به عليما ، لقد تركنا في حال الاشتغال شطر هذه المسألة من الإجابة شيئا نخشى الله في تركها.

فأما الأئمة المقتصدون والعلماء المحصّلون فهم الأتباع جملة ، وإنما نذكر منهم عيونهم ، ومن ذكره يوسف بن أبي الحسن الجيلاني رحمه‌الله في جوابه للقاضي أبي مضر ، تأكيدا في مقابله ، هل بهذا القول قائل؟ وإن كان به قائل فليذكر.

فمنهم : السيد الإمام الداعي الأعرج الجيلاني رحمه‌الله وكان قد بلغ في العلم والاستقامة في الدين مبلغا فائقا لا ينضبط حصره.

ومنهم : السيد الإمام الناصر الرضي ، وكان من أولاد الناصر عليه‌السلام وله تصانيف في إحياء مذاهب أهل البيت عليهم‌السلام وكان زاهدا خشنا ، بلغ مبلغا في الورع والكمال ما لا يقادر قدره ، وكان مستوطنا في جيلان ، وأمره هناك مشهور.

__________________

(١) في (ب) : لا يحتمل.

٥١٩

ومنهم : السيد الإمام أبو هاشم الديلمي التنهجاني رحمه‌الله استشهد بأيدي الملاحدة لعنهم الله وقاتلهم.

ومنهم : أبو حرب الجيلاني ، والسيد الهادي الناصر رحمهم‌الله ، الهادي اسمه والناصر لقبه ، قال يوسف الجيلاني رحمه‌الله : ولو حصرت أسماء جميعهم لبلغت عددا جما.

فأما العلماء الرساتقة قدّس الله أرواحهم في جيلان ، وديلمان ، فمنهم : الفقيه الإمام أحمد بن داعي الديلمي التنهجاني رحمه‌الله وهو المعروف بدانشي وله تصنيف في ذلك سماه [كتاب] (١) (الحجج والبرهان) ، والفقيه الإمام شهردار التنهجي ، والفقيه الإمام أبو الرضى الجيلاني رحمه‌الله ، والفقيه أبو منصور العالم الشيخ الفاضل ، والفقيه زعيم الناصرية أبو يوسف بن علي جمال الدين الجيلاني ، ووالد الفقيه أبي منصور علي بن أصفهان الديلمي الجيلاني ، المهاجر لسبب العمل بهذه المسألة من الديلم إلى جيلان ، ولما كانت المطرفيّة المرتدّة الشقيّة ، الضالة الغويّة ، تعصد كما قالت العوام على ريح السمن ، وعلموا أن من مذهب الزيدية والبناء على أصول أئمتها وجوب الهجرة زادوا في ذلك ، وشدّدوا ، وسوّدوا ، ورمدوا ، وأوجبوا الهجرة من دار الهجرة إليهم لا لغرض سوى درس علومهم الردية ، من فكرهم الفاسدة الدوية ، وليسوا بعمدة ، وإنما ذكرنا هذا [تنبيها] (٢) على ظاهر مقالة أهل النحلة وجرثومتهم وأسّهم ، وإن كان الحجاز واليمن ، فقد صار الحجاز

__________________

(١) زيادة في (ب).

(٢) زيادة في (ب).

٥٢٠