مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ٢

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٥
الجزء ١ الجزء ٢

غير ؛ فإن حصلت له وإلا باع وسلم مال المضاربة أو سلم البضاعة بعينها ؛ فإن اتهمه صاحب المال وقال : هذا بدون مالي حلف العامل بالله أن هذه البضاعة شريتها بمالك من غير نقصان ، وما جنيت ولا ماليت خائنا ؛ فهذا ما يتوجب في هذه المسألة على قدر احتمال الحال.

وسألت عن رجل باع جربة واستغلها المشتري مدة طويلة ، ثم استحقت على المشتري وطالبه المستحق للعين بالغلة ودفعها وأراد المشتري الرجوع على البائع بالقيمة والغلة التي قد استغلها هل يلزم البائع شيء من الغلة وقد استوفى المشتري ما في مقابلتها أم لا يلزمه إلا الثمن ورده فقط؟ وهل إذا ضمن البائع للمشتري ما يلحقه فيها من غلة وسواها يلزمه ذلك بضمانته أم لا؟

الكلام في ذلك : أنه إن ضمن له ما لحقه بسبب عقد البيع لزمه ما لزم المشتري في الغلة من الحكم لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الزعيم غارم» (١) وإن لم يضمن له لم يكن عليه إلا رد الثمن لا غير لأنه الذي صار إليه وفي ضمانه وذمته ؛ والغلة شيء آخر فإن استحقت كان عليه رد الثمن دون ما سواه.

سأل أيده الله : عن رجلين بينهما فرس وهي يد أحدهما ، ثم باع أحدهما نصيبه من رجل بعدولها بلدا ثانية أو من رجل من الجند لا يشفع شريكه

__________________

(١) أخرجه أبو داود في البيوع ب ٩٠ ، والترمذي برقم (٢١٢٠) ، وابن ماجه برقم (٢٤٠٥) ، وأحمد بن حنبل ٥ / ٢٦٧ ، ٢٩٣ ، والبيهقي ٦ / ٧٢ ، وهو في مسند الشهاب برقم (٥٠) ، والمنتقى لابن الجارود برقم (١٠٢٣) ، وسنن سعيد بن منصور ٤٢٧ ، ومسند الشافعي ٦ / ٥٤ ، وإرواء الغليل للألباني ٥ / ٢٤٥ ، وكنز العمال بأرقام (١٤٥٧٤ ، ١٤٥٧٦ ، ١٥٠٥١ ، ٤٠٤٩٠) ، وجامع مسانيد أبي حنيفة ٢ / ٥٨ ، ٦٥ ، ٧٣ ، ٣٣٧ ، ومسند الدار قطني ٤ / ٧٠ ، وعند ابن عساكر ٣ / ٤٣. وانظر غيرها من المصادر في موسوعة أطراف الحديث النبوي ٥ / ١٧٩.

٤٦١

لحقه معه وكان البيع بغير إذن الشريك ، وسلمها المشتري من غير إذن الشريك ولا إجازته ولا قائل بين شريكه وبين من باع منه ، ثم تلفت في يد المشتري هل يكون الشريك متعديا ببيعها وتسليمها بغير إذن صاحبه وشريكه ويكون ضامنا لحق شريكه أم لا يكون ضامنا ولا متعديا؟ وهل فرق بين أن يكون الشريك غائبا عند البيع أم حاضرا ولم يستأمره أو لا فرق في ذلك؟

الكلام في ذلك : أن من باع نصيبا من فرس على الصورة التي ذكرها السائل أيده الله تعالى فإنه يكون متعديا على نصيب شريكه ويضمنه ، ويدخل ذلك تحت قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (١) ولم ينف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوعه ضرورة ، وإنما نفى أحكامه وإلا تعرى الخبر النبوي عن الفائدة وذلك لا يجوز ، فهو يكون والحال هذه كالمتلف لنصيب شريكه أو في حكم المتلف له ، وأحكام ما يجري مجرى التلف يحكم عليها بحكم التلف شرعا ذلك في الفقه الشريف ؛ فإن كان شريكه حاضرا فلا حكم عليه لأنه يتمكن من استيفاء حقه أو بالمشافعة إلا أن يبيعها ممن لا يتمكن شريكه من استيفاء الحق منه فإنه يكون والحال هذه ضامنا لأنه لا فرق بين حضور شريكه وغيبته في هذه الصورة فاعلم ذلك.

وسأل أيده الله عن رجل وقف دارا أو حانوتا على آل بشر فإذا انقرض آل بشر فهي وقف ضعيف صعده ، وأقام آل بشر يستعملونها مائة سنة أو أكثر حتى لا يبقى منهم سوى امرأة واحدة ، ثم أحضرت قوما وأشهدتهم أن جدها

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه برقم (٢٣٤٠ ، ٢٣٤١) ، وأحمد ١ / ٣١٣ ، والبيهقي ٦ / ٦٩ ، ٧٠ ، ٤٥٧ ، ١٠ / ١٣ ، والحاكم في المستدرك ٢ / ٥٨ ، والطبراني ٢ / ٨١ و ١١ / ٣٠٢ ، والدار قطني ٣ / ٧٧ ، ٤ / ٢٢٧ ، وهو في مجمع الزوائد ٤ / ١١٠ ، وكنز العمال ٩٤٩٨ ، ونصب الراية ٤ / ٣٨٤ ، ٣٨٦ ، وانظر موسوعة أطراف الحديث النبوي ٧ / ٢٦٤.

٤٦٢

الأول وقف ذلك عليهم فإذا انقرضوا كان وقفا على ضعيف صعدة ولا حق لأولادها فيها ، ثم ماتت وطلب أولاد المرأة أخذها دون الضعيف هل لهم فسخ الوقف أم لا؟ وهل لهم أن يأخذوها دون من وقفت عليهم أم لا؟

الكلام في ذلك : أن هذا الوقف صحيح وهو على آل بشر ، وأولاد المرأة يلحقون بهم في الحكم ، وقول المرأة لا يكون شهادة وإنما يكون إقرارا ، وإقرارها لا يكون إلا فيما يؤخذ (١) منها ما في يدها أو بعضه ، ولا يقبل إقرارها على أولادها فقولها لاحق لأولادها لا حكم له ، وأولادها يرثون عنها ما كان لها ؛ فإذا انقرض أولادها وأولاد أولادها رجع إلى ضعيف صعدة لأن منافع الوقف تجري مجرى الأملاك في أنها تورث ، وذوو الأرحام يرثون إذا عدم العصبات وتابعهم ، والسائل أيده الله يفهم الإشارة ولكنا فهمنا من سؤاله في هذه المسألة أنه يريد الإيضاح لوقوع النزاع واللجاج ، وقوله : إنها لآل بشر يدخل أبناء البنات معهم شرعا كما نعلمه في سائر الأحكام والأملاك ؛ فهذا ما توجه في هذه المسائل على تراكم الأشغال ، وشدة أعمال ، ومن الله نستمد التوفيق والمعونة

والسلام على كافة المسلمين ورحمة الله وبركاته

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

* * *

__________________

(١) في الأصل : يأخذ.

٤٦٣

يتلوه رسالة الإيضاح بعجمة الإفصاح

جواب مطاعن القاضي محمد بن نشوان من الأئمة عليهم الصلاة والسلام

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

الحمد لله فاطر السماوات والأرض العزيز الحكيم ، المفاضل بين عباده عدلا وتكليفا ، والمباين بينهم تسديدا وتحقيقا ، فهم بين مالك ومملوك رقا وحكما ، وفاضل ومفضول مالا وعلما ، وجعل بعضهم لبعض فتنة ، وأمر بالصبر واختار المحنة ، وصلى الله على محمد المخصوص بالحكمة ، المؤيد بالعصمة ، المنتقى من صفوة خلاصة العرب ، المحروس من كل عرق مشوب ، وعلى آل بيته مصابيح الدجى ، وأعلام الحجى ، ونهاية الرجاء ، الذين جعلهم قادة للمسلمين ، وأدلة إلى معالم الدين ، وجعل حبهم دلالة الإيمان والمؤمنين ، وبغضهم علامة الفسق والفاسقين ، وجعل لكل نبي من آبائهم صلوات الله عليه وإمام منهم عليه أفضل السلام في كل أوان عدوا من المجرمين ، هم عليه بمنزلة الرجوم على الشياطين ، يذهبون ببراهينهم شبهات المبطلين ، وينفون ببراهين علومهم تحريف الجاهلين ، وذلك ثابت فيما رويناه بالإسناد إلى الصادق الأمين ، سلام الله عليه وعلى آله الطيبين أنه قال : «إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام وليا من أهل بيتي موكلا يعلن الحق ونوره ويرد كيد الكائدين» فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على الله.

٤٦٤

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في كل خلف من أهل بيتي عدول ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» ، حرم الجنة على من أبغضهم بأمر الله ، وحكم بالكفر على من شتمهم بوجه فقال فيما رويناه عنه بالإسناد الموثوق به : «من كان في قلبه مثقال حبة من خردل عداوة لي ولأهل بيتي لم يرح رائحة الجنة» ، وقال فيما أوجب به لنا الحجة ، وأكمل علينا المنة مصرحا فينا ولنا : «قدموهم ولا تقدموهم ، وتعلموا منهم ولا تعلموهم ، ولا تخالفوهم فتضلوا ، ولا تشتموهم فتكفروا» (١) جعلنا الشهداء على عباده ، والأمناء في بلاده ، والحكام على خلقه ، (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [النساء : ٥٤].

أما بعد .. فإن المفتون المغبون من نازع في الأمر أهله ، ونافس الفضل محله ، ويرجم من قعر بئر لثلم شمارخ بثبير ، يتنكب منهاج السلامة بزعمه ليسلم ، ويقبل قول من لا يعلم فيمن يعلم ، يطلب الأمن بهتك حرمة الإيمان ، ويستفتح الربح من طريق الخسران ، فكان كمهريق الماء لضحضاح السراب والمستبدل بالصارم أخلاق القراب ، ونابح البدر تأسيا بالكلاب.

ما ضر تغلب وائل أهجوتها

أم بلت حيث تناطح البحران

__________________

(١) قدموهم ولا تقدموهم ...

أخرجه محمد بن سليمان الكوفي في كتابه مناقب أمير المؤمنين بلفظ : «أوصيكم بأهل بيتي خيرا فقدموهم ولا تقدموهم وأمروهم ولا تأمروا عليهم» وهو في شرح (الرسالة الناصحة بالأدلة الواضحة) للمؤلف وفي مقدمة كتاب (الشافي) ١ / ١٦ ، وقد نقله العلامة أحمد بن إبراهيم الشرفي في مقدمة تفسير المصابيح ص ٥٣ طبعة أولى ، وله شاهد من آخر حديث الثقلين أورده الطبراني في الكبير ٥ / ١٦٦ ، قال بعد حديث طويل: «لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض وسألت عن ذلك لهما ربي فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ولا تظلموهم فإنهم أعلم منكم ثم أخذ بيد علي فقال : من كنت مولاه ...» الخ وهو في مجمع الزوائد ٩ / ١٦٤.

٤٦٥

أنشأ بمبلغه من العلم نصحه إلى الإخوان يردها من آمن ، ويقبلها من مان فلينظر من فارق ومن وافق :

أثكلها قد ثكلته أروعا

أبيض يحمي السرب أن تفزعا

ولما وقفنا عليها وجدناها قد ملئت مينا وزورا ، جعله منشئ الرسالة في الكتاب مسطورا ، يلقى به يوم القيامة كتابا منشورا ، (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] ، فلولا أنه حقق تعديل من نقله إليه لحسنا الظن فيه ، وكنا غير عارضين له لأنه وجه الكلام إلى غيرنا ، ولكنا علمنا أن مسائل كلامه مبنية على الحكايات التي حكاها رواتها ، ومال فيها سعاتها ، أو كانت محرفة عن بابها ، منفية عن نصابها ، كما قال تعالى في إخوانهم : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [المائدة : ١٣] ، أو كان لها وجه جهله الراوي ومن روى له ، ولم يعرف واحد منهما وجوهه ولا علله ، فأردنا أن نكشف لكل مسلم متبصر وجه تلك المسائل ، ولا نيأس أن يرجع إلى الحق السائل ، إن كان بما قال من البرهان عاطل ، وقد كان أولى له إن كان يروم إيضاح منهاج الحق وسلوك سبيل السلامة ، أن يزور إمامه ، قبل رفضه للإمامة ، ويجرد للسؤال حسامه على أعيان الخاصة والعامة ، فإن جاء بشيء مبين ، وأخرج حجة بيضاء للناظرين ، كان مما ارتكب على يقين ، وسلك سبيل المتقين ، وإن رده الحق إلى الصواب ، كان قد تعلق بأقوى الأسباب ، فلو كان إمامه قبل فيه نقل الناقلين ، وصدق قيل القائلين ، من أول المدة لنزله منزلة أمثاله من الرافضين ، ولم يجعله لدين الله من الحافظين ، ولكنه اتبع ما وجب من حمل ظواهر المسلمين على السلامة ، وتلقى قول القائلين منهم للحق بالقبول والكرامة ، وإلا فعزيز عليه أن يناقض أحدا من المسلمين ، أو يخاطبه بخطاب المجرمين.

٤٦٦

وأما قبل الدعوة بالإمامة فلقد كان بلغنا من أولئك القضاة ووالدهم من قبلهم من بغضة العترة عليهم‌السلام ، وانتقاص السلف الصالح صلوات الله عليهم ما يعده أكثر المستبصرين كفرا ، وبعضهم يجعله فسقا فإن جعلناهم في جنة العلماء نفينا ذلك عنهم ، وإذا ألحقناهم بضلال أهل الأحداث حققناه فيهم ، فلما تابعوا وشايعوا هدمنا ما تقدم في أمرهم من الظن والتخمين ، وبنينا على اليقين ، ورددنا الغيبة ، ولا يزال يأتينا منهم ما يوجب الريبة ، ونحن فيه بين تصديق وتكذيب

وما ينفك من سعد إلينا

قطوع الرحم فارية الأديم

فنغفرها كأن لم يفعلوها

وبعض العفو أذرب للظلوم

ورميك من رماك أخف وقتا

عليك غدا وأمنع للحريم

فعملنا بمقتضى البيت الثاني وأهملنا مقتضى البيت الأخير وقلنا :

شماريخ بهلان لا تختفي

فلما طال الأمد برح الخفاء ، وانقطع الإخاء ، وعاد من كنا نعده لطعان الأقران الطاعنين طعّانا ، ومن نصبناه للصلاة على سلفنا الصالحين وعلينا بإيجاب الله سبحانه لنا ذلك عليه وعلى الأمة لعّانا

أعددته لخطوب الدهر يدفعها

فصار خطبا من الأحداث دفاعا

وللعدو عمادا في موافقة

فصار للضد في الحالات نفاعا

ولو جنح للسلم جنحنا ولكنه جمح فحمحمنا.

دعوت أبا أروى إلى الرأي كي يرى

برأي أصيل أو يعود إلى الحلم

أتاني يشب الحرب بيني وبينه

فقلت له : لا بل هلم إلى السلم

٤٦٧

وإياك والحرب التي لا أديمها

صحيح وقد تدني الصحاح من السقم

فإن ظفر القوم الذي أنت منهم

وآبوا بفضل من سباء ومن غنم

فلا بد من قتلى لعلك منهم

وإلا فجرح لا يبقي على العظم

فلما أبى أرسلت فاضل ثوبه

إليه فلم يرجع بحزم ولا عزم

ولما رمى شخصي رميت سواده

ولا بد أن يرمى سواد الذي يرمي

وكان صريع الخيل أول وهلة

فأهون به مختار جهل على علم

فلما وصلت رسالة (الإفصاح) ، قابلتها برسالة الإيضاح لعجمة الإفصاح ، وغش منشيها لإخوانه النصاح ، وأوردناها مفصلة ، وتقصيناها فصلا فصلا ومسألة مسألة ، ليعلم منشيها أنه بناها على وهوم ، ولتخوله أن المتظلم من المحق ظلوم ، وأن فوق كل ذي علم عليم.

قال أرشده الله : بعد الخطبة البديعة البتراء ، التي لم يصل فيها على النبي صلى الله عليه وعلى آله من عترة فاطمة الزهراء ، وما عقبه من ذكر الغيرة ، وطلبه لإعانة الحق والنصرة ، فقام عبد الله بن حمزة داعيا ، وجرى في ميدان الإمامة ساعيا ، ولباه شيخا آل الرسول ، وأعطياه من طلبه المأمول ، وبايعاه واختاراه ، وذكرا أنهما قد اختبراه ، فركن جمهور الناس إليهما ، وعولوا في الأمر عليهما ، إذ هما في الشهادة مقبولان ، وللقيام بالحق مأمولان ، وطابقهما كثير من العلماء ، نجوم في الأرض كنجوم في السماء ، قال : فاطمأنت النفوس ، وقرت القلوب ، وظننا أن الحق غالب لا مغلوب ، فبايعنا يحيى بن أحمد طول الله مدته ، وحصن عن المكاره عدته ، وسمعنا وأطعنا ، وبذلنا في النصح لله وللدين ما استطعنا.

٤٦٨

الكلام على هذي الصدر وتبيين اختلاله أن القاضي قال : قام عبد الله بن حمزة ولم يقل أمير المؤمنين وأنا عنده في تلك الحال أمير المؤمنين لأنه عقب ذلك بما دل على أنه صدق الدعوى فخالف سلفه من الخوارج في علي عليه‌السلام وعثمان فإنهم يثنون عليهما في مبتدأ أمرهما ، ويعظمون ويشدون في سبهما في آخر أيامهما ، ويلجمون ، وعقب ما جاء به شيخي آل الرسول ، وحجة ذوي العقول ، عصى موسى الثعبان المبين ، واليد البيضاء للناظرين ، مبطلي سحر السحرة ، ودامغي رءوس الفجرة ، شمس الدين وبدره ، ورأس الإسلام وصدره ، يحيى ومحمد ابني أحمد بن يحيى الهادي إلى الحق عليه‌السلام ، ونص على عدالتهما في أمر جعلهما له فيه خصما ، ورجم بالغيب رجما ، ولو أنكر عدالتهما دمغته البراهين ، وصادف أئمة عن الجرح ناهين.

ما يضر البحر أمسى زاخرا

إن رمى فيه غلام بحجر

فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله

ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

لكنه سلك في تجريده الاسم من اللقب المستحق مسلك قريش عام الحديبية فإنهم صالحوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما كتب علي عليه‌السلام الكتاب هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومشركو قريش ، قالت قريش : لو علمنا أنك رسول الله ما حاربناك ، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي : امحه يا علي. فقال يا رسول الله : ما شجعتني نفسي على ذلك. قال : فأوجدنيه. قال : فأوجدته إياه. فدعا بمقراض فقرضه وقال : اكتب محمد بن عبد الله فأنا والله رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله اسمي واسم أبي لا يبطل نبوتي ، أما إنك ستسام مثلها فتعطي. فذكرها يوم صلحه مع معاوية كتب علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، فقال معاوية : لا نسلم ذلك. فأعطى ذلك

٤٦٩

وكتب من علي بن أبي طالب ؛ وكم لأهل هذا البيت من رافض وناصب ، فأنا عبد الله بن حمزة ، وأنا أمير المؤمنين ، وإن كره الفاسقون.

وكان مما زاد الحق في أمر الإمامة وضوحا ، ورافضها فضوحا ، ما ذكر من مطابقة العلماء للسيدين الداعيين إلى الله اللذين هما في الأرض بمنزلة النجوم من السماء ، وهما الآن على اعتقاد الإمامة ثابتون ، وللطاعن على إمام الهدى ماقتون ، ولكن إذا أراد الله إعزاز دينه بالقهر في الدنيا خذل ضده ، وإذا أراد غلبة جنده مكن من الضد جنده ، فما علمت أن أحدا من العلماء الذين أخذوا هذا الأمر عن بصيرة نكص على عقبيه ، أو ناكر الإمام في نعته ولقبه ، أو أتي الدين وأهله من سببه ، ولا بد للقاضي من أحد أمرين : إما أن يكون أخذ أمره في مبتدأ الأمر عن يقين فقد رجع للشك عن يقين ، وإما أن يكون أخذه تقليدا لمن ذكر فقد خرج عن زمرة العلماء ودخل في غمار المقلدين ، فليستقم ما استقام المقلدون ، فها هم هادون إلى منهاج الإمامة مهتدون ، ولا يصح أن يدعي أنه كان مقلدا ، وقد عقب كلامه باطمئنان النفس وقرار القلب ، والنفس لا تطمئن ، والقلب لا يقر بالتقليد ؛ لأن المقلد لا يأمن خطأ من قلده ولا سيما في أصول الدين ، والإمامة من مهمات أصول الدين ، وإذا كان على يقين في صحة الإمامة أو لا كانت هذه العوارض معرضة للزوال ، مهيأة للانتقال ، لا يأخذ بخبر الآحاد ، ولا بالتواتر في الأفعال ، التي هي ميدان الاحتمال ، فتفهم ذلك موفقا فإنه محض الإنصاف.

قال أرشده الله : وابتهجنا بإجماع الكلمة ، وإرعاب الظلمة ، قال واشرأب الجميع إلى دعوة وردت منه فيها مواعيد ، إن ساعدت بالوفاء فأهلها مساعيد ، وعد فيها العفة والزهد ، وإبلاغ المناصفة للمسلمين بالجهد ، لأنه لا يتخذ

٤٧٠

دونهم بوابا ، ولا يجعل بينه وبينهم حجابا ، وأنه يعدل في الرعية ، ويقسم بالسوية ، ولا يرضى لنفسه استئثارا ، ولا يكنز من مال الله درهما ولا دينارا ، يكون للصغير أبا شفيقا ، وللكبير أخا رفيقا ، وأقسم بالله إن أطيع ، لا فقد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا وجهه.

قال مع كلام طويل فيه هذا وشبهه.

الكلام على ذلك : قال أرشده الله : وابتهجنا بإجماع الكلمة ، وقد اجتمعت فالحمد لله ، وبإرعاب الظلمة وقد أرعبت وهزمت بمنة الله ، وما ذكره من مواعيد الدعوة فقد كان واعدها أصدق من القطا ما استقر به قرار ولا ألفه وطاء دون أن أذلت شياطين النفاق ، وخضعت في جميع هذه الآفاق.

وأما ما ذكره من العفة والزهد فبرهان ذلك ظاهر ، لمن لم يكن لعقله مكابر ، وكيف لا يعف ويزهد عن الحرام من معرفته بباطن أمر الدنيا أبلغ من معرفة أكثركم بالظاهر ، لم يرتضع أباريقها في ريعان الحداثة ، فكيف وهو في أوان الاكتهال يعرفه من عاشره برفض جانبها ، وإلقاء حبلها على غاربها.

دنيا تخادعني كأني لست أعرف حالها

بسطت إليّ يمينها فرددتها وشمالها

حظر الإله حرامها وأنا اجتنبت حلالها

ورأيتها محتاجة فوهبت جملتها لها

والله ما أعلم من يوم ملكت رشدي ، وميزت هزلي عن جدي ، أني اتبعت فيها طعاما بالجور ، ولا رددت مطعوما قدم إليّ تأنفا وعفة ، ولهي عندي أحقر من القمامة والجيفة ، قد قنعت منها بوجبة العشاء وشربة السحر ، واستبدلت في أكثر لياليها لعلاج هذه الأمة السهر بالنوم ، ألبس الثوب الرفيع الذي يجوز لي لباسه لله ، وأتركه لله ، وكم موقف أحجمت فيه الشجعان بسطت فيه يدي

٤٧١

ولساني بمقال وفعال ، غضبت لله سبحانه فغضب لي ، فما نازعني منازع إلا جعل الله تعالى بلطفه كعبه الأسفل ، وخده الأرذل.

وأما ما ذكر القاضي أرشده الله من المناصفة للمسلمين بالجهد فأقرب الأدلة إلى الإنسان نفسه ، والقاضي أبقاه الله يعلم أنا قمنا هذا المقام ، والشيعة مجمعون على أنكم من الخوارج ، ويروون عليكم وعلى أبيكم الذي هو أصلكم وأنتم فرعه في انتقاص أهل بيت محمد وسبهم ، وأن أباكم هجى إمام عصره أحمد بن سليمان رضوان الله عليه بعدة أشعار منها قوله :

عجائب الدهر أشتات وأعجبه

إمامة نشأت في بيت خذروف

ما أحمد بن سليمان بمؤتمن

على البرية في خيط من الصوف

وغير ذلك مما لا يخرج ممن له في الإسلام نصيب ، فلما أظهرتم لنا التوبة والإنابة ، وصار منكم كاتب ملازم ، وداع على المتأولين ناقم ، قبلنا ما ظهر ، ولم نكشف ما استتر ، وأشركناكم في الأمر ، وميزناكم عن البدو والحضر ، وألزمناكم ضمانة ، فيما حملناكم من الأمانة ، فمنكم من أخذ ما جمع بشهادة القاضي محمد بخطه ليشتري به فرسا للجهاد ، وشن المغار لحرب الأعداء ، ومنكم من استوعب ما جمع لمواعيد وعده بها أمير المؤمنين أو عبد الله إن كانت هذه اللفظة عند القاضي مجهولة ، وعروتها محلولة ، وفي خلال ذلك الكتب متواترة ، بأن خولان قوم حمير ، وأنهم لا يسلمون من العشر عشيرا ، فصدقنا القضاة في أمر نفوسهم وخولان ، وقلنا هؤلاء قوم يعتزون إلى الإيمان ، وحملناهم على أودهم حتى نجم شقاقهم ، وبان من الطاعة إباقهم ، فهل للمسلمين مناصفة أعظم مما ذكرنا أن يرفع قدر من دنا منهم إلينا ، وأظهر التحيز على ديننا وعلينا ، ولم نكشف على نفسه سترا ستره الله سبحانه بطاعتنا ، ولم يبدلها خيرا

٤٧٢

بمعصية الله سبحانه ومعصيتنا ، ولم يدخل في أمرنا هذا ممن كان نافرا عن ودادنا ، ومخالفا لنا في اعتقادنا ، إلا آل نشوان والمطرفية ، فكلهم عند إقباله جعلنا له على أبناء جنسه مزية ، وعاودهم داؤهم القديم ، وكنا في علاجهم من شقاهم للأئمة الهادين ، كدابغة وقد حلم الأديم ، إلا من عصم وهو قليل.

وأما أتباع آل محمد صلوات الله عليه وآله المحصلون ، أهل التحقيق والتدقيق ، فرسان علم الكلام ، وشموس أهل الإسلام ، فهم على اعتقادهم ثابتون ، وللطاعنين على إمامهم ماقتون ، لأنهم أخذوا أمرهم في مبتدأ الأمر على بصيرة ، ولم يكونوا كما حكى الله سبحانه وتعالى عن إخوان الناصبين في قوله : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) (١) [آل عمران : ٧٢] ، فأولئك لا خلاق لهم في الدنيا ولا في الآخرة ، وها نحن لهم معظمون ، وعلى سنام الشرف مستنمون ، مدارستهم محسودة ، وأنديتهم مشهودة وهم لطبقات المعاندين ، كالرجوم للشياطين.

وأما ما ذكره من أنا لا نتخذ دونهم بوابا فقد جهل أو تجاهل هل أنا لا نجعل على الباب من يحفظه للإشعار بالداخلين والخارجين ، وهل هذا أفضل من هدي خاتم المرسلين ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الطيبين ، أفليس بوابه أنس ، ولعله يقول هل بوابك مثل أنس وينسى من كان يحجبه أنس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذين لا نظير لهم في عصرنا ولكل زمان رجال ، ولكل مقام مقال.

ولقد رضينا من يوسف البواب بإقامة الصلاة ، والكف عن المنكرات ، وفي حديث الطائر إن كان القاضي يصححه لأنه بلغنا أنه ينكر كثيرا من الآثار

__________________

(١) بقية الآية : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

٤٧٣

الواردة بفضل آل محمد صلوات الله عليه وعليهم رد عليا عليه‌السلام مرتين ودخل في الثالثة إنا ما أردنا بوابا يمنع عموما ، وحجابا سرمدا ، كما يفعله الفراعنة والمتجبرون من بني العباس ، ومن يدعي الخلافة ممن ليست له.

وأما العدل في الرعية فقد شملها ظهور أثره عليها ، إلا أن عين الشقاق لا ترى كما قال ابن جعفر :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدي المساويا

وفي مثله :

صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا

أفليس بلادنا التي وليناها عامرة بعد أن كانت داثرة ، غلب فيها الأملاك ، وكثر الملاك ، وزرعت القفار والأطراف ، وتكلم بذلك من أهلها الفضلاء والأشراف ، ولو سكتوا لتكلم لسان الحال :

فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله

ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

وأما ما ذكره من القسم بالسوية فقد كان ذلك والحمد لله ؛ وليت شعري من تظلم إلى القاضي من أهل الديوان ، المستحقين من الأعوان ، أو عند القاضي أن القسمة على من أطلق عليه اسم الإسلام والإيمان ، ولم يكن معينا لأولياء الرحمن ، فذلك ما لا يكون ولا قد كان ، أو التبس في الدعوة الشريفة القسمة بالسوية ، على مقتضى حكم الشريعة النبوية ، وحكم الشريعة أن لإمام المسلمين المفاضلة إن رأى ذلك صوابا لأنه مؤتمن : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [الأحزاب : ٣٦] ، وللإمام التنفل في الغنيمة وهو نفس

٤٧٤

المفاضلة ، ثم يساوي بعد ذلك فيما بقي ، وهل يجحد هذا إلا جاهل أو شقي.

وأما ما ذكره من الاستئثار ، وكنز الدرهم والدينار ، فنحن نجتنبه اليوم ويجنبناه الله سبحانه غدا كيف يستأثر بمال المسلمين من أركبهم ماله ، وسوغ لهم مناله ، وترك عياله عالة ، إلا أن ينالهم سهم ذو الجلالة ، وذلك من أقل حقوق الجبار سبحانه ، وأقل القليل من شكر أياديه التي أسداها إليه ، وما كان ليذكر هذا وأمثاله ، لو لا ما قيل في بابه من الجهالة.

وأما ما ذكره من الكنز ، فإيراد خلاف المعلوم دلالة العجز.

تمنى رجال أن يعيبوا محمدا

فقالوا كذوب وهو أصدق صادق

خذلهم الحكيم سبحانه ، حتى ذكر بما شانهم وما شانه.

وأما ما ذكره من كونه للصغير أبا شفيقا ، وللكبير أخا رفيقا ، فقد كان ذلك والحمد لله لو لا الشفقة على الصغير ، والأخوة للكبير ، ما هجرنا الأولاد ، وفارقنا الأوداد ، والإخوان منهم معترفون بالأخوة ، والصغار عند كمال العقول يعلمون نفع الأبوة ، ولقد كان إخواننا من المسلمين قبل قيامنا بمنزلتكم اليوم لا يأمنون في أهل زمانهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس ، فها هم اليوم أحكامهم ماضية ، وأقلامهم بالمراسم جارية ، إلا أن يكون توسم القاضي أنا نداجي كافة الأضداد ، ومن ركب متن العناد ، فهذا قول من عدم الفؤاد ، وسوى بين البياض والسواد.

وأما ما ذكر من قسمه أنه لو أطيع لا فقد من النبي عليه‌السلام وعلى آله الكرام إلا وجهه فهذا وهم من القاضي والقسم فو الذي يحلف به عبد الله

٤٧٥

متنكبا طريق التحريف لئن أقبلتم إلى دين الله ، وأجبتم داعي الله ، لأحملنكم على المحجة الوسطى ، ولا عدلت بكم منهاج رسول الله قيد الشعرة ، وذلك حق وهو عليه إلى الآن ، واللوم في هذا على من عصاه دونه وإنما كان يصح له أن يورد هذا بعد أن نصح من الخلق طاعته ، وهي لم تصح إلى الآن وكيف تصح وهم بين رافض ومعارض ، وناصب محارب ، وخارجي بلسانه باغض ، انتحل عقيدتهم في بغض علي عليه‌السلام وبغضة آله ، ولم يصبر على ألم القتال وزلزاله ، فهو كما قال الشاعر :

لم تطق حمل السلاح إلى الحرب

فأوصى المطيق أن لا يقيما

فهو يحرض على حرب الإمام بلسانه ، ولا يصطلي بنيرانه ، فهو كما قال تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) [الأنفال : ٤٨].

فأما الروافض فنحن اليوم في عنفوان أمرهم ، وأما النواصب والخوارج فقد كفى الله سبحانه شرهم ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين.

أفليس قد أزال الإمام معظم الفسق ، وهدم أركان الظلم على شقاق المنافقين ، فلم يبق إلا من ينبح من موضع نائي لا يضر الذي ينابحه ، أو يصيح من أمد بعيد لا يرعب المسلمين صياحه ، كما قال تعالى في أمثالهم : (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) [الأحزاب : ١٩].

٤٧٦

فأما الكلام الطويل الذي ذكره من هذا وشبهه ، فما أنفعه لمن لم يمت الخذلان قلبه ، ولم يتهم في التفضيل بين عباد ربه ، ونقيض ما أتى من القاضي أتى من الفقيه الأمين زكي الدين ، شحاك المرتدين ، سليمان بن ناصر أيده الله فإنه قال في بعض كتبه لقد وفى لنا مولانا أمير المؤمنين بما وعدنا في دعوته ، فجزاه الله عنا خيرا قال ذلك وفي ، وقال القاضي محمد لم يف فأيهما أولى أن يتبع قول الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بكفر أو الذين استوى في غارب الدين النار والظفر ، وقد قال الله تعالى في أمثالهم : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) [آل عمران : ١١١].

قال القاضي أرشده الله تعالى : فكان من شأنه أنه ولي كثيرا أو أمر أمراء ليسوا من أهل الأمانة والعفة والديانة ، قال فراجعناه في ذلك فاعتل بأنه لم يجد من أهل الدين والوفاء ، إلا مساكين ضعفاء ، ووعد بعزل ولاته بعد القوة والارتفاع والهوة فعذرناه رجاء للسداد عند الاشتداد ، قال ورفضه كثير لذلك ، واعتقدوا أن من ولاه هالك.

الكلام على ذلك : أما ما ذكره من أنا ولينا أمراء ، وأمرنا كثيرا ليسوا من أهل الأمانة والعفة والديانة ، وإشارته إلى من ولينا من آل الرسول سلام الله عليه وعليهم ، وقد ركب في ذلك ذنبا جسيما ، وعصى ربا عظيما.

فمن أهل الديانة والعفة والأمانة إن لم يكن أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ولكن يكفي في الجواب في ذلك قول الصاحب نفعه الله بصالح عمله :

أحب النبي وآل النبي

لأني ولدت على الفطرة

إذا شك في ولد والد

فآيته البغض للعترة

٤٧٧

وقد كان الصواب له لو ثبت لسانه أن يقول خالفوا منهاج آبائهم في الديانة إلا أن يكون الشك عنده معترضا في صلاح آبائهم فما هي من أبي بكر ببكر ، وليت شعري من القائل :

يا رب مفتخر ولو لا صبرنا

وقيامنا مع جده لم يفخر

لو لا صوارم يعرب ورماحها

لم تسمع الآذان صوت مكبر

ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوم حمراء الأسد : «أنا أعلم بما رامت قريش» من الكرة عليه وعلى أصحابه ، والذي نفسي بيده لقد كانت سويت لهم ولو كروا لكانوا كالأمس الغابر.

ولقد كانت الأنصار رحمهم‌الله وجزاهم عنا وعن الإسلام خيرا يعترفون بالمنة لله سبحانه ولرسوله عليه وعلى آله أفضل السلام والصلاة في إسلامهم وجهادهم ، وما يقع لهم في ذلك من الخير بسببه لما واليناهم فما ولينا إلا من ظهرت لنا توبته ورجونا كفايته.

أما الكفاية فهم أهلها لمكان الرئاسة والسياسة ، وأما التوبة فبابها مفتوح ، وأما جرمهم فإن كان لاستهلاك مال فقد تأولنا فيمن أخذ أموال الله سبحانه بالتأويل والأدهان ، وشرى بها الأطيان ، ولم نفعل إلا ما يجب بأوضح برهان ، ولم تكن توليتهم في الأصل خطأ فيفتقر إلى جواب وإنما ظهر منهم خلاف ما كان يرجى فيهم كما ظهر في السائل ووفينا بما وعدنا.

وأما ما ذكر من أهل الدين والوفاء ، وقولنا : إنهم ضعفاء فلا شك أنهم على نوعين ضعيف وقوي فقد ولينا الأقوياء ما يقدرون على ولايته ، وعذرنا في الضعفاء هدي أخذناه من أبينا خاتم المرسلين صلوات الله عليه فإنه قال

٤٧٨

لبعض أصحابه رضي الله عنهم وقد سأله الولاية فقال : «إنك ضعيف وهي أمانة» (١) ، فلم يكفه مجرد إيمانه ما لم يكن قويا.

وأما قوله رفضه كثير لذلك ، واعتقدوا أن من ولاه هالك ، فما رفض ذلك اليوم واليوم إلا من دخل في الإسلام تقية ، وأراد التقية خوفا من ظباء المشرفية ، وعجزا من المقاومة بالحجة الجلية ، فلما أحسوا بحركة كثير من العوام ظهر مكتومهم ، وانتثر منظومهم ، وتذبذبوا عند اختضاب الأعلام بدم الطغاة الأعتام بين نفاق ووفاق لقيام الحق على ساق ، وما ذلك على الله بعزيز.

قال أرشده الله : ثم صاحب قوما من الغز فتعدى عليه دليم ، وقال من لم يتهمه : فهو مخط وفوق كل ذي علم عليم.

الكلام على ذلك : أنه قد أجاب على نفسه بقوله : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف : ٧٦] ، ومن تعدى فإنما يتعدى لعلة غفلة ، وقلة خبرته بالشريعة الشريفة وجهله.

قال أرشده الله : ثم كان من نهب أهل درب ظالم بعد الأمان ما كان فاعتذر بأن الذي فعله بهم لم يصدر منه ولكنه لم يأمر لأحد برد ما أخذ منه قال : والمعهود في الشريعة أنه لا يجوز نهبهم مع الأمان ، وذكر ما يجب من الوفاء بالعهود ، وأن ذمة العبد والمرأة جائزة ، وأن عماد الدين يحيى بن حمزة أمنهم وفرع ذلك إلى نهايته.

__________________

(١) أورده بلفظ : «إنك ضعيف وإنها أمانة» في موسوعة أطراف الحديث ٣ / ٤٨٧ ، وعزاه إلى صحيح مسلم في الإمارة رقم (١٦) والمستدرك ٤ / ٩٢ ، وفتح القدير ١٣ / ١٢٦ ، وإتحاف السادة المتقين ٨ / ٣١٧ ، وطبقات ابن سعد ٤ ، ١ ، ١٧٠ ، وابن أبي شيبة في مصنفه ١٢ / ٢١٥ ، وهو في المستدرك بلفظ : أن أبا ذر رضي الله عنه قال لرسول الله : أمّرني. فقال : «إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة» وفي لفظ آخر : «الإمارة أمانة وهي يوم القيامة خزي وندامة إلا من أمر بحق وأدى بالحق عليه فيها».

٤٧٩

وذكر من الهادي عليه‌السلام ومن عبد الله بن الحسين وحربه لأبي دغيش الشهابي ما ذكر وذلك أمر نحن أعرف به من القاضي لأنه لم يكن يلتفت إلى شيء من علوم آل محمد سلام الله عليه وعليهم ، ولا يرى بذلك ؛ لأن اتباعهم وتفضيلهم على جميع الأمة خلاف مذهبه ومذهب والده ، ولا يزال يبلغ منهم انتقاص السلف الصالح سلام الله عليهم ، ويظهر على ألسنتهم كما قال تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠] ولقد بلغنا عن والده أنه سب الهادي عليه‌السلام بصنعاء قال الراوي وكنت معه لا غير فدهقته على قفاه استخفافا به في حق إمام الهدى فقام ولاطفني ولم يذكر من ذلك شيئا ، وبلغنا من بعض الثقات أنه سمعه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فعلي مولاه» وبلغنا عن القاضي محمد أنه أنكر الحديث المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أهل البيت : «قدموهم ولا تقدموهم ، وتعلموا منهم ولا تعلموهم ، ولا تخالفوهم فتضلوا ، ولا تشتموهم فتكفروا» ولا يعظم سبهم للولد مع سبهم للوالد ولا سيما إذا كان فضل الولد دون فضل الوالد ، وإن وقع في هذا غلاط فلا زال باغض أهل البيت عليهم‌السلام لا يعصمه إلا النفاق ، ولا يستره من الهتكة والفضيحة إلا الإنكار.

وأما الذي ذكره من أهل درب ظالم فإن القاضي غلط في الرواية أو غلط راويه الذي هو عنده ثقة ، ونحن نروي له ما نشهد بصحة الأخبار من الشرفاء والمسلمين ، وشيوخ خولان المستبصرين وكان من خلاف أهل درب ظالم ما علمه الناس ، فتقدم إليهم العسكر المنصور من أبطال خولان ومن ضامّهم من القبائل فلما نزلوا بساحتهم بالغوا في الإعذار إليهم والاستنابة فأبوا إلا الكراهة للحق ونفارا عن المحقين ، فحاكموهم إلى الله سبحانه بالحرب فقضى لهم عليهم فلما كان في ليلتهم طلبوا الأمان من الأمير علي بن المحسن رضي الله عنه فأمنهم وأعطاهم رايته التي ذكر أنها راية أمان من عماد الدين

٤٨٠